مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

ان لا يمنع نفسه عنه وإلّا فنقض غرضه وهو إبقاء الحياة مثلا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان القطع له ثلاثة آثار ذاتي وعقلي وفطري فالكشف ذاتي والحسن والقبح عقلي وانقداح الداعي فطري.

ثم هل يكون حكم العقل من آثار المنكشف بالقطع أو من آثار القطع مثلا هل يكون حكم العقل من أثر السم المنكشف بالقطع أو من أثر القطع ولو لم يكن في الواقع سم فيه خلاف : قال النائيني (قده) تبعا لبعض عبارات الشيخ (قده) انه يكون من آثار المنكشف بالقطع فان من علم ان هذا خمر يحكم عقله بالاجتناب وقبح الارتكاب من باب ان المصلحة تكون في الواقع لا في القطع فينزجر.

ولكن هذا خلاف التحقيق كما عن العراقي تبعا لبعض عبارات الشيخ أيضا لأن حكم العقل يكون من آثار نفس القطع الطريقي وهو الصفة الحاصلة عند الوجدان فمن قطع بأن في الدار أسدا يفر ولو لم يكن فيه إلّا هرّة أو لم يكن فيه شيء أصلا وهذه الآثار من حكم العقل وانقداح الداعي يكون من أثر القطع الوجداني ومربوط بتصوراته فالكشف وحكم العقل بالحسن والقبح وانقداح الداعي يحصل بواسطة الوجدان كما انه يحصل القطع مثلا بحرمة العصير العنبي ويجب الاجتناب عنه ثم يظهر انه في الواقع حلال فالواقع لا يكون مؤثرا تاما ولا جزء مؤثر نعم الآثار التي تكون للواقع الواقعي غير مربوطة بالقطع.

الجهة الثانية

من أحكام القطع هو انه هل يطلق الحجة على القطع بأقسامه المنطقي واللغوي والأصولي أم لا.

اشتهر بين الاعلام عدم إطلاق الحجة المنطقية على القطع وإطلاقها على الظن صحيح ولتوضيح المقام نقدم مقدمة وهي ان القطع والظن كما سيجيء تارة يكونان طريقيين وتارة موضوعيين أعنى تارة يصير القطع والظن طريقا محضا وأخرى تكون نفسها موضوعا لحكم مثل ان يقال إذا قطعت بشرب الخمر يجب

٢١

عليك الشهادة أو يقال إذا ظننت بالخمر يجب الشهادة بنحو يكون الموضوع المقطوع الخمرية والمظنون الخمرية والحجة أيضا كما أشير إليها على ثلاثة أقسام منطقية وأصولية ولغوية واللغوية معناها ما يحتج بها العبد أو غيره لغيره فهو الحجة والحجة في المنطق تطلق على ما يكون سببا لإثبات الأكبر للأصغر ويجب ان يكون للوسط ربطا بالعلية أو المعلولية كما حرر في محله في اصطلاحهم والحجة في الأصول تطلق على ما يصير سببا لإثبات الحكم المتعلق سواء كانت علة له أم لا مثل قيام الأمارة على ان هذا خمر وحرام فيثبت الخمرية والحرمة بمجرد قول الشارع بتصديق العادل في ذلك سواء كان في الواقع أيضا كذلك أم لا ولا فرق بين أن يكون المتعلق حكما أو موضوعا ذا حكم.

فإذا علمت ذلك فنقول إطلاق الحجة اللغوية على القطع لا شبهة فيه بل يقول النائيني (قده) يكون هو أظهر افراد حجج اللغوي بل سائر الحجج يكون بالنسبة إليها مثل نسبة ما بالعرض إلى ما بالذات وكل ما يكون حجة بين الموالي والعبيد يكون هو القطع الطريقي كما انه لا شبهة في ان إطلاق الحجة المنطقية عليه غير صحيح ولا يمكن تشكيل القياس بواسطته لأن الطريقي منه لا يكون مولّد مصلحة أصلا فإذا قطع بالحرمة مثلا في الخمر لا يكون للقطع دخالة فيها فان الحرمة تكون للخمر لا لمقطوع الخمرية فلا يمكن تشكيل القياس بأن هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام فهذا حرام لأن القطع على هذا الفرض يكون جزء الموضوع لا طريقا ولا شبهة في ان الوسط في القياس المنطقي يجب ان يكون له دخل في الأثر ومؤثرا في المصلحة وهنا لا يكون كذلك فالقطع إذا صار وسطا في ما نحن فيه لا يؤثر في الحرمة فان الحرمة تكون على الخمر لا على مقطوع الخمرية بحيث يصير القطع جزء الموضوع ومن هنا يظهر ان إطلاق الحجة الأصولية على القطع أيضا لا وجه له ولا يصير وسطا في الثبوت.

وبعبارة واضحة إذا قطعنا ان هذا خمر لا يكون القطع سببا للخمرية ولا لثبوت الحرمة وعلى التحقيق لا يكون قابلا للجعل ويكون عين الواقع والكشف ذاتي له

٢٢

فلا يثبت الواقع ولا الجعل ولا أثر له واقعا ولا جعلا.

ثم انه قد قيل ان المنجزية فيه يكون لبناء العقلاء والمسلك ولو كان فاسدا من رأس ولكن على فرض صحته يصير القطع مؤثرا في الحكم وهو بناء العقلاء فيقال هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام ببناء العقلاء فهذا حرام لبناء العقلاء.

وبيانه كما (١) عن بعض الأعيان من أهل الفلسفة هو ان حجية القطع تكون معناها هو ترتب الثواب والعقاب على موافقته ومخالفته واستحقاقهما لا ربط له بالواقع فانه ربما يتخلف الواقع عنه بل يكون بناء العقلاء بعد قطعهم بشيء هو ذم من لا يتبعه وهذا يكون من القضايا المشهورة فلو لا بناء المشهور عليه ما كان حجة على ترتب الثواب والعقاب فتكون حجية جعلية ويمكن ان يصير وسطا لإثبات الحكم مثل ان يقال هذا مما هو مقطوع وكل مقطوع يكون بناء العقلاء على حجيته وذم مخالفته فهذا مذموم مخالفته وممدوح متابعته فإذا قطع بحرمة شرب الخمر صار القطع وسطا لإثبات حكم العقلاء بوجوب الاجتناب عنه هذا كلامه رفع مقامه.

وفيه أولا انه مع الفحص عن عدم كون المقام من القضايا المشهورة حيث انها تكون مما عليه ارتكاز العقلاء مثل ركوب القاضي على حمار بلا ذنب الّذي يكون الارتكاز على قبحه لو لم يكن حجية القطع برهانية لم يبق لنا في العالم قضية

__________________

(١) أقول : كلام هذا البعض كما في شرحه للكفاية (نهاية الدراية) يتوهم منه انه يقبل ان طريقية القطع ذاتية وهو عين الكشف والانكشاف وفي مقام ترتب الثواب والعقاب يقول بما قاله الأستاذ مد ظله ومن هنا وقعنا في التعب في مقام تشخيص مراده فان من كلامه في هذا المقام يستفاد ان الثواب والعقاب جعليان كما سيجيء نسبته إلى الشيخ الرئيس ولا ينكر طريقية القطع ذاتا ومع ذلك لا نفهم وجه الجمع بين الكلامين وبعد يحتاج إلى تدبر وفقنا الله له ولا نفهم بعض إشكالات الأستاذ مد ظله مثل تساوى الواجد والفاقد مع ان القطع ولو لم يصل إلى الواقع فهو أيضا حجة ومع عدم العمل بما هو موجب لرقاء النّفس كيف يحصل الرقاء.

٢٣

برهانية لأن كل البراهين منشأها القطع فان المقدمات إذا كانت قطعية تسمى القضية برهانية وإلّا فتدخل تحت الخطابة أو الجدل وغيره.

وثانيا يلزم من قوله (قده) تساوى الواجد والفاقد لأن العمل إذا كان في نفسه لا يكون له أثر ويكون بجعل العقلاء يلزم ان يكون الفاعل للخير الّذي صار سببا لرقاء النّفس كالفاعل للشر الّذي صار سببا لانحطاطها وكيف يكون الواجد للسبب لرفعه النّفس بواسطة العمل الصالح كالفاقد فانه يكون مثل تساوى الوجود والعدم وكون الوجود هو العدم فان الأعمال الصالحة والطالحة يكون لها تأثير في النّفس على التحقيق ويوجب استحقاق العبد واستعداده للثواب والعقاب ولا يكون ترتبهما جزافيا.

وثالثا يلزم التسلسل لأن قولكم حجية القطع يكون ببناء العقلاء يأتي فيه سؤال وهو ان بنائهم من أين وجد. فان قيل بالقطع مثلا فننقل الكلام في ذلك وهكذا يتسلسل أو يرجع إلى أن يقال حجيته بذاته.

ورابعا ان وجوب المتابعة إذا كان بحكم الشرع فالحاكم بوجوب الإطاعة هو العقل ولا يكون من جانب الشرع حكم كذلك كما مر ولو كان فيكون من باب الإرشاد فلا محالة بسبب القطع بوجوب المتابعة يقال يجب متابعة هذا القطع فاما ان يتسلسل أو يقال بأن حجيته ذاتية لا بجعل الجاعل : وبعبارة أخرى معنى حجية القطع هو ترتيب الأثر فن قطع بأن الصلاة واجبة يكون من آثار قطعه وجوب الإتيان وهذا الوجوب لا بد أن يكون ملزمه العقل بالاستقلال وإلّا فأي دليل لوجوب متابعة هذا القطع وإتيان الصلاة كما ان الظن أيضا يكون وجوب متابعته بمعنى ترتيب الأثر عليه بالقطع فالقول بأن القطع حجة منطقية بمعنى تأثيره في إثبات الحكم للمتعلق لا وجه له فانه لا واسطة بينه وبين الواقع.

والحاصل ان القطع الطريقي يطلق عليه الحجة اللغوية دون المنطقية والأصولية. واما القطع الموضوعي فيكون ذا أثر وعلة لثبوت حكم المتعلق مثل ما إذا قيل إذا قطعت بالزنا مثلا يجوز لك الشهادة أو إذا قطعت بعدالة زيد يجوز الاقتداء به فالقطع

٢٤

يكون جزء للموضوع ومؤثرا لإثبات جواز الشهادة والاقتداء فله ارتباط تشريعي لإثبات الحكم فإطلاق الحجة اللغوية والمنطقية عليه صحيح واما الأصولية فلا فانها هي كل ما يكون مثبتا للمتعلق فان القطع بالعدالة لا يثبتها : هذا حكم القطع واما الظن فإطلاق الحجة عليه صحيح ويصير وسطا في الإثبات فيقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية حرام فهذا حرام فان الظن يكون له كشف ناقص وجعله يكون من قبل الشرع أو العقلاء فان الظن الطريقي بالحكم يكون مقدمة لإثبات الحكم الظاهري التعبدي لا الحكم الواقعي والحاصل إطلاق الحجة على القطع قد مر ذكره وعلى الظن أيضا قد مر صحته.

وقد أشكل على الظن بأنه لا يثبت حكم المتعلق بل يثبت مماثله فعالم الثبوت من الحرمة الواقعية أو الحلية محفوظ لا ربط له نفيا وإثباتا بالظن وفي مقام الإثبات أيضا لا يثبت حكما واقعا بل يكون هو الحكم الظاهري فإطلاق الحجة المنطقية والأصولية عليه غير صحيح فهو يصير مثل القطع في عدم إطلاق الحجة عليه نعم الفرق بينهما انكشاف الواقع فيه دونه بل هو يثبت المماثل.

وللجواب عن هذا الإشكال ينبغي إيراد كلام في الأمارات وان لم يكن مقام تفصيله هنا ولكن لا بد لتوضيح المقام منه فنقول ان في جعل الأمارات مسالك مختلفة منها ما هو التحقيق من ان كل آمر إذا رأى مصلحة في شيء يعشق إتيانها اما بالمباشرة أو بالتسبيب وبعد العشق يجيء الإرادة بالمباشرة أو بالتسبيب أيضا كمن عشق الصلاة وأرادها فانه اما ان يصلى نفسه أو يأمر الغير بإتيان ما أراد وموضوع الامتثال يكون هذه الإرادة وموضوع حكم العقل أيضا هو الإرادة فإذا أبرزها يكون هذا الإبراز امرا (وبالفارسية يسمى فرمان) والموضوع يصير هو الإرادة المبرزة وسيأتي ذلك كله في باب الأمارات ولكن إذا لم يبرزها لا يصدق عليها الحكم.

واما جعل الحكم الظاهري فلا أصل له كما سيجيء وهو التحقيق والموافق لمذهبنا. فان المولى تارة يقول يجب الصلاة فيحتمل عدم وصوله إلى المكلفين أو لا يعتمد على قول مبلغه فيجعل ما ينحفظ به الواقع وهذا الواقع تارة يكون بنحو

٢٥

لا يرضى المولى ان يترك بحال من الأحوال فيجعل الاحتياط فيما يمكن فيه ذلك مثل باب الفروج والدماء فإذا لم يكن الاحتياط ممكنا أو يكون عسريا فيجعل طريقا إلى الواقع بنحو يكون في الغالب موصلا إليه مثل جعل تصديق العادل.

وفي الصورتين فكل ما يكون المولى بصدد انحفاظه فهو الواقع ولا يريد غيره فان بلغ بهذا الطريق إليه فهو وإلّا يكون لغوا ولا يكون في مورده حكم ظاهري جعلي وبهذا الطريق يجوز إلقاء احتمال الخلاف ويقول للمكلف عامل معاملة اليقين فاليقين بالواقع وجعل الظن مقام العلم كلاهما يكونان طريقين إلى مصلحة الواقع ومن أسباب إبراز الإرادة لا غير.

ومنها ان الأمارات تنزل الظاهر منزلة الواقع فمعنى صدق العادل يصير نزل مؤدى قوله منزلة الواقع مثل ما إذا كان واجبا في الواقع فقال العادل انه واجب فيصير في ما أخبر به العادل مصلحة ويكون حكما مماثلا للواقع النّفس الأمري وهذا مشهور كما سيجيء ولو لم يكن في الواقع كذلك يكون لغوا كما عليه الشيخ (قده) ومنها ما عن المحقق الخراسانيّ وهو ان الحجية والحجة في الأمارات يصلح الجعل فيها أي يكون قول العادل حجة وسيجيء ان ذلك أيضا فاسد والفرق بين الحجة والحجية : ان الحجة تكون في ذات الأمارة والحجية مجعولة وكلتاهما تستفاد ان من كلامه (قده) ومشارب أخر فيها لا يكون المقام مقام بحثه وفحصه بل سيجيء الكلام في مواضعه إن شاء الله.

فإذا عرفت ذلك فاعلم ان الحجة المنطقية يجب ان يكون للوسط فيها دخل في ثبوت الحكم للموضوع والحجة الأصولية يثبت حكم متعلقه مثل البينة القائمة على موضوع ذي أثر فالقطع يثبت الحكم ولكن يكون فيه أعلى درجة الإثبات بل هو نفسه.

والظن على مذهب من يقول بجعل المماثل والأحكام الظاهرية فالحجة المنطقية تطلق عليه لأنه يثبت الحكم للموضوع ويكون علة لإثباته خلاف ما قال الشيخ (قده) نظير القطع إذا كان جزء الموضوع فإذا فرض ان مظنون الحرمة بالظن يجعل مماثله

٢٦

فيثبت ان الظن كان دخيلا في إثبات الحرمة في مرتبة الظاهر وليس القياس المنطقي الا ذلك فيقال هذا مظنون الحرمة الواقعية وكل مظنون الحرمة الواقعية فهو مجعول في مورده حكم مماثل للواقع فهذا في مورده حكم مماثل للواقع.

واما على ما ذهبنا إليه فإذا ظن بحرمة شيء وقال المولى ألق احتمال الخلاف فالعلم له فردان تنزيلي وواقعي والظن يصير كالقطع فيقال ان مظنون الحرمة يكون كمقطوع الحرمة فهذا كمقطوع الحرمة فيكون كالقطع ولا يصدق عليه الحجة المنطقية إذا كان طريقا فالظن اما ان يكون مبرزا للواقع أو منزلا غيره منزلته وبكلا معنييه لا يثبت المتعلق بمعنى انه يقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية خمر لا انه حرام ولكن حيث انه لا يكون خمرا واقعا يكون هذا بلحاظ حكمه ويكون التعبد به من باب الحكم إلّا ان يقال بالنظر الدّقيق ان الظن يصير من جهة حجة أصولية ومن جهة أخرى منطقية فانه قد مر ان وجه انحفاظ الحكم حفظ الواقع وروح الحكم هو الإرادة وجسمه الإبراز والإبراز تارة يحصل بقوله صلّ وتارة بقوله صدّق العادل وألق احتمال الخلاف فهذا الظن من جهة انه محقق مبرز يكون قياسا منطقيا لأن كل ظن يكون فردا للقطع التنزيلي والظن دخيل في تحقق جعل الله تعالى إياه فردا من العلم وفي الوجود التشريعي يكون واسطة في ثبوته فيقال هذا مظنون الحرمة وكل مظنون الحرمة علم ومبرز للواقع فهذا علم ومبرز له.

والحجة الأصولية أيضا تطلق عليه بان يقال معناها هو إثبات الحكم للمتعلق فيثبت الظن للواقع إثباتا تعبديا فيحرز به أحكام الدين ويحرز متعلقه بوجود تعبدي فكأنه تعالى جعل لكم علما وجدانيا وظنا بمنزلة العلم فكما انه بالعلم يثبت الحكم فكذا بالبينة التي هي موجبة للظن.

الجهة الثالثة من جهات القطع في التجري

هل التجري قبيح عقلا أم لا. وعلى الأول هل يحرم شرعا أم لا وجوه وأقوال : ومعنى التجري هو القطع بحكم لم يكن في الواقع كذلك مثل من قطع بان هذا

٢٧

المائع خمر وحرام ويشرب باعتقاد انه خمر فتبين كونه الخل أو الماء ويكون في مقابله الانقياد إذا اعتقد مثلا بوجوب شيء فأتى به باعتقاد الوجوب فتبين عدمه والمعصية تطلق على ما إذا كان الواقع أيضا مطابقا للاعتقاد كمن شرب الخمر الواقعي باعتقاد انه خمر والإطاعة تكون موافقة الواقع مع اعتقاد انه كذلك وقبل الورود في البحث يجب رسم مقدمة.

وهي : ان في الفلسفة العليا نزاع في ان الشارع مضافا إلى جعل الأحكام هل جعل قانونا للمجازات مثل ان يحكم بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر وجعل قانونا بان من أطاعه يستحق الثواب ومن عصاه يستحق العقاب كما عليه الشيخ الرئيس علي بن سينا أو لا يكون كذلك بل يكون الحكم بالثواب والعقاب من العقل بعد إبلاغ الأمر أو النهي إلى المكلف وان كان من جهة امر فيكون إرشاديا فاستقلال الحكم كاف للحكم بهما بواسطة الموافقة والمخالفة.

ثم على مسلك من قال بقانون مجعول من الشرع فبحث التجري يكون خارجا عن محل النزاع لأنه لا شك في ان التجري لا يكون موجبا للعقاب لأن جعل قانون المجازاة يكون للإطاعة والعصيان والمتجري ليس بعاص ولا مطيع فانهم يقولون يجب على الله تعالى من باب اللطف جعل قانون المجازاة ليفهم الناس ويشوقهم بواسطة إلى العمل الّذي فيه الفائدة ويزجرهم عما فيه المفسدة وهذا الملاك يكون في المحرمات الواقعية والمحللات الواقعية واعتقاد ان هذا حرام لا يوجد مصلحة ولا مفسدة حتى يشمله القانون.

انما الكلام فيما إذا لم يكن مجعولا شرعيا وكان بحكم العقل والبحث في التجري على هذا الفرض يكون بمكان من الإمكان وموضوع حكم العقل إذا وجد فيحكم بلا احتياج إلى شيء آخر والبحث فيه تارة يكون من مسائل علم الكلام وتارة من مسائل علم الأصول وأخرى من مسائل علم الفقه. فان عنوان البحث بان التجري يكون موجبا لحسن العقاب اما لا يصير البحث كلاميا لأنه يبحث عن الحسن والقبح في الأشياء وان عنوان بأنه هل يوجب التجري في المتجري به عنوانا مخالفا

٢٨

لعنوان الواقع أعني هل يكون الواقع الحلال بواسطة التجري حراما أم لا فتصير المسألة من مسائل علم الأصول لأن المسألة الأصولية هي ما يكون كبرى كلية في الفقه وان عنوان البحث بأنه بعد استقلال العقل بالقبح وإثباته في علم الكلام هل يكون القبح العقلي مستتبعا للحكم الشرعي بالحرمة أم لا أعني يستكشف من القبح الحرمة أم لا تصير المسألة فقهية فينبغي ان يبحث في مقامات ثلاثة.

الأول البحث في التجري من جهة انه مسألة من مسائل علم الكلام وهنا أقول ثلاثة والزائد على ذلك يكون للخلط بين المباحث الأول القبح الفعلي والفاعلي في فعل المتجري به وهو المختار. الثاني : القبح الفاعلي دون الفعلي أعني لا قبح للفعل بل القبح يكون من جهة الفاعل المعتقد بقبح العمل الّذي عمله. الثالث : ما قال الأنصاري (قده) وهو انه لا قبح للفعل ولا للفاعل والمتجري لا يستحق العقاب ولا يكون عمله قبيحا بل يكون مجرد سوء السريرة وله نظائر من الحسد والبخل ولا يخفى عدم العقاب على أمثال هذه بمجرد سوء السريرة (١).

اما الدليل على المسلك المختار وهو ان المتجري شريك مع العاصي في عنوانين : الأول عنوان القطع وهو لا يفيدنا شيئا فيما نحن بصدده ولا يكون المتجري كالعاصي من هذه الجهة الاشتراكية. والثاني : الاشتراك في عنوان الطغيان على المولى وعدم العمل برسوم العبودية وهتك نواميس الدين وبتقرير آخر وعبارة واضحة ان شرب الخمر مثلا يوجب فساد الكلية ونقصان قوة الجماع وهذه المفسدة لا يترتب على الماء بمجرد اعتقاد انه خمر واما من جهة عدم العمل برسوم العبودية وهتك نواميس الدين فشرب الماء متجريا ومعتقدا بأنه خمر وشرب الخمر الواقعي معصية سواء وهو بهذه ، الجهة يكون عين العاصي وهذا لا ربط له بالواقع وهذا الفساد

__________________

(١) أقول : ان عدم العقاب على نظائره يتصور عند عدم إظهاره اما عند الإظهار فلا وفيما نحن فيه أظهر ما في الباطن وعنون بعنوان قبيح يستحق العقاب عليه وهو الخروج عن قانون العبودية كما عليه الأستاذ مد ظله.

٢٩

المترتب على التجري يصير عنوانا للعمل فيصير العمل قبيحا من هذه الناحية وان لم يكن في الواقع ذا أثر وضعي فنحن ندعي ان الفعل بئس الفعل والفاعل بئس العبد وهذا الفعل يكون عنوان هتك المولى.

والحسن والقبح تارة يكونان بعنوان أولى وتارة بعنوان ثانوي وهذا يكون قبحه بعنوان ثانوي عارضي واما عنوان الاشتراك في القطع فلا ثمرة تحته لأن القطع يكون طريقا محضا ولا يؤثر في المصلحة فان القطع بالحموضة لا يصيّر الحلو حامضا فلا يتوهم تأثيره بل المؤثر هو عنوان الطغيان على المولى فتدبر جيّدا. وبتقرير آخر ان الفعل المتجري به على ما قلنا قبيح عقلا بواسطة تطبيق عنوان الهتك عليه.

ودليلنا الوجدان والخروج عن رسوم العبودية بواسطته ويكون تحت عنوان الظلم فيكون قبيحا فإذا أبرز المتجري ما يكون في سريرته يكون مصداقا لعنوان ثانوي وهو هتك المولى والمؤيد التسالم بينهم على حسن الاحتياط عقلا أعني في محتمل الوجوب قالوا بحسن الاحتياط بواسطة الإتيان به رجاء صادف الواقع أو لم يصادف فإذا عمل يكون له حسن عقلي وحسنه يكون لتطبيق عنوان الانقياد عليه المقابل للتجري كالإطاعة والمعصية وهما مرتضعان من لبن واحد ومن العجب ان الشيخ الأنصاري (قده) قال بحسن الاحتياط بدون الشبهة واما فيما نحن فيه فقال بان التجري يكون من سوء السريرة فقط لا غير ولا يكون قبيحا في الخارج ومن قال بحسن الاحتياط يلزمه القول بالقبح هنا لأنه لا فرق بينهما وربما يشكل بأمور عديدة. الأول : ان القول بالقبح الفعلي والفاعلي يستلزم أحد المحالين وهو اما انقلاب الواقع عما هو عليه أو اجتماع الضدين وهذا صار سببا لذهاب كل من الفقهاء إلى مذهب : من القول بالقبح الفاعلي دون الفعلي والقول بعدم القبح أصلا.

وبيان اجتماع الضدين هو ان الفعل الواحد كيف يمكن ان يكون حسنا وقبيحا في مرتبة واحدة والعناوين تكون تعليلية وتوجب المصلحة على الواقع أي العمل الخارجي بعنوان انه صلاة يصير ذا مصلحة في الواقع ولا يمكن ان يكون بعنوان

٣٠

التجري ذا مفسدة في الواقع فالقول بالجمع يكون من اجتماع الضدين.

ونجيب عن هذا الإشكال العويص بوجوه : الأول : ان مركز الحسن والقبح اثنان ويكونان في رتبتين فذات صلاة الجمعة رآها الله تعالى ذات مصلحة فأمر بها وهذه الصلاة في رتبة قبل الأمر كانت موضوعا نحويا وصارت متعلقة للحكم الفقهي والإطاعة والعصيان والتجري والانقياد متأخرة عن الذات برتبتين فان الصلاة بعد الأمر بها بعد الإتيان بها يصدق عليها عنوان المعصية أو الإطاعة أو الانقياد أو التجري وهذا واضح وعلى هذا فاللاحظ يرى الذات قبل الأمر ذات مصلحة فيأمر بها وبعد الأمر فالذات المأمور بها يصير بعنوان التجري ذات مفسدة فنرى الصلاة مثلا في رتبتين. قبل الأمر وبعده فقبله حسنة وبعده قبيحة ومعنونة بعنوان القبيح.

فإذا عرفت ذلك فالجواب عن الشبهة هو ان العمل تارة يلاحظ باعتبار المصلحة والمفسدة وتارة يلاحظ باعتبار الحسن والقبح والأوليان أعني المصلحة والمفسدة في الشيء تكونان من آثاره الوضعيّة وتكونان في الخارج ولو لم يكن في العالم لاحظ أصلا لأنهما تكونان من الواقعيات والشيء لا يتغير عن واقعه والطبيعي في الشيء لا يكون مربوطا بلحاظ اللاحظ فان الإنسان إنسان لا يغيره اللحاظ عما هو عليه واما الحسن والقبح فيكونان من الأمور الوجدانية ولو لم يكن في الخارج حسن وقبح فمثل من ظن أو قطع بان في الدار أسدا أو حية يفر ولو كان فيها صديقه أو لم يكن فيها شيء أصلا وهكذا عنوان التجري الحاكي عن الخارج يكون قبيحا ويكون عن الوجدانيات بخلاف المصلحة والمفسدة فانهما توجدان في الخارج ولو لم يكن للوجدان أثر فلم يفر المعتقد بان الأسد في الدار مع عدم وجوده فيها فان كان مراد الاعلام ان الخارج لا يمكن ان يكون ذا مصلحة ومفسدة فهو ممنوع لأن الشيء الواحد يمكن ان يكون بجهات عديدة حاويا لهما وهذا مما لا شبهة فيه فان الصلاة مثلا في باب اجتماع الأمر والنهي يكون فيها مصلحة من جهة انها صلاة ومفسدة من جهة انها غصب وهذا مسلم عندهم وإلّا فالبحث عن الاجتماع وعدمه في بابه يصير لغوا وان كان المراد الوجدان فلا يمكن ان يكون فيه مصلحة ومفسدة

٣١

واما ان يقال بالكسر والانكسار كما قال صاحب الفصول رحمه‌الله أو القول بما هو مسلك المختار بان المصلحة تكون في رتبة لذات قبل الأمر وهي قبله صار سببا للحكم والمفسدة تكون بعد الأمر ان كان.

والحاصل ان الحسن يكون قبل الأمر في مرتبة الذات والقبح بعده مع إتيان العمل بنحو التجري فلا غرو في كون شيء واحد حسنا وقبيحا بلحاظين والمصلحة والمفسدة في الخارج أيضا يمكن اجتماعهما بلحاظين وحيثيتين.

فان قلت لا نحتاج إلى هذه التفاصيل بل يقال ان الصلاة موضوع حسن والتجري موضوع آخر قبيح ، قلت السرّ في التفصيل هو ان العنوان لا يكون مطلوبا بل بما هو حاك عن الخارج لا يمكن ان يلاحظ حسنها وقبحها والكلام في رفع إشكال التهافت في اللحاظ فعلى هذا قد ظهر ان الإشكال لا يبقى وارتفع بحذافيره من جهة الاجتماع في الوجدان أو الخارج.

الوجه الثاني : هو ان نقول ان الصلاة كانت فيها مصلحة موجبة للأمر والتجري وان كان قبيحا ولكن لا يوجد مصلحة ولا يصير منشأ للحكم والمصلحة والمفسدة الواقعيتان ربما لا تعلمهما مثل رمي الجمرة فلا نعلم ما هو المصلحة فيه ولا يلزم ان يكون كل ما يعقل انه قبيح ذا حكم فيمكن ان لا يكون التجري مصب النهي الشرعي.

ولتوضيح المقام وكشف السر عن المرام يجب زيادة تقرير وهو ان نقول مقدمة ان الحسن والقبح اللذين يصيران منشأين للحكم هما اللذان يكونان في سلسلة العلل لا المعلولات مثلا إكرام اليتيم وتقبيل يد المجتهد امران لهما مصلحتان وقابلان ان يصيرا منشأين المحكم وعلة له وضرب اليتيم وإهانة العالم امران قبيحان قابلان لأن يصيرا منشأين للنهي مثلا فرتبة المصلحة والمفسدة تكون قبل الحكم وعلة له.

واما ما كان معلولا مثل قبح التجري والمعصية فانهما يكونان بعد الحكم ومتأخران عنه فما لم يكن أمر ولا نهى لا يصدق المعصية أو التجري والإطاعة أو الانقياد ولذا نقول ان التجري قبيح عقلا ولا يستتبع الحكم شرعا فكل حسن وقبح لا يصير منشأ للحكم بل ما في سلسلة العلل يكون منشأ له دون المعلولات وإلّا يستلزم الدور.

٣٢

فإذا عرفت ذلك فصلاة الجمعة الواجبة في الواقع المأتية بها بعنوان الحرام لا تكون المصلحة والمفسدة فيها متزاحمتين ومتصادمتين فالوجوب فيها يكون لمصلحة كامنة في نفس الصلاة ولا ربط لها بالقبح العقلي من جهة التجري وغير مربوط أيضا بعالم اللحاظ فبعض ما لم يحكم العقل بحسنه حكم الشارع بوجوبه مثل رمي الجمرة التي يقصر عقولنا عن درك مصلحته وبعض ما يستقل العقل بقبحه لا يلزم ان يحكم الشارع بحرمته مثل التجري.

وبعبارة واضحة هنا ثلاث احتمالات يحتمل التصادم في اثنين منها دون الآخر اجتماع الوجوب والحرمة والحسن والقبح وكلاهما فاسدان لأن الهتك في التجري لا يولد مفسدة حتى يصير سببا للحكم بالحرمة بل هو قبيح لا غير وقبحه لا يسرى إلى الخارج ومورد القبح العنوان الحاكي فلا يجتمع الواجب والحرام.

فنقول ان الهتك قبحه عقلي ومن الصفات الوجدانية ويكون بلحاظ اللاحظ والواقع غير مقلوب عن واقعه فما هو مركز الحسن هو الفعل الخارجي وما هو مركز القبح الوجدان الحاكي عن الخارج ولكن هذا عند شيخنا العراقي واما عندنا فالخارج في كليهما ظرف السقوط وما هو مركز الحسن أيضا يكون بعنوانه الحاكي عن الخارج واما صورة التصادم وهي التهافت في اللحاظ فقد قلنا ان الحسن والقبح الحاكيين عن الخارج وان لم يمكن إلّا انه يكون في رتبتين ولا يكون من باب الاجتماع ومبنى صاحب الفصول (قده) بالكسر والانكسار فاسد فقبح التجري لا يصير منشأ حكم ومصلحة الخارج لا تسرى إلى العقل.

الوجه الثالث : للجواب عن إشكال اجتماع الحكمين الضدين وتعرضنا لهذا الوجه يكون من باب التأسي بالأعلام وإلّا فلا جدوى له فان صاحب الفصول (قده) قال بتراكم المصلحة والمفسدة وهذا لا يصلحه تعدد الرتبة ولذا ذهب إلى حكم شأني بين الواقعي والفعلي وحاصله ان التجري يصير ذا أحكام خمسة فتارة يرجح مصلحة الواقع فتقدم وربما يرجح مصلحة التجري فتقدم والرجحان تارة يكون بنحو يوجب الحكم بالوجوب وأخرى بالاستحباب والقبح أيضا تارة يكون بحيث يوجب الحرمة

٣٣

وتارة الكراهة وتارة تتساويان فيصير التجري عملا مباحا واعتقد ان هذا طريق حسن لرفع المحذور.

وأشكل عليه الشيخ الأنصاري (قده) ومن تبعه أولا بأن عنوان التجري لا يخلو اما ان يكون بنحو اللااقتضاء أو بنحو الاقتضاء أو بنحو العلية وبعبارة أخرى الأشياء القابلة للحكم تكون على ثلاثة أنحاء. الأول ما يكون بنحو اللااقتضاء وبأدنى مقتض يتأثر مثل المباحات فإذا رجح أحد طرفيه بالحسن والقبح يقبل حكم الوجوب أو الحرمة أو الكراهة أو الاستحباب. الثاني ما يكون مقتضيا للحسن والقبح بعنوانه الأولى ولكن لما يكون معنى الاقتضاء هو الوجود لو لا المانع فبعنوان ثانوي يتغير حكمه مثل الكذب في صورة المصلحة يصير ذا حسن والصدق في مورد الفساد يصير ذا قبح. الثالث ما يكون بنحو العلية مثل الحسن في الإحسان والقبح في الظلم فانه مع انحفاظ عنوانه لا يمكن أن يصير متقلبا عن واقعه بحال من الأحوال.

ومختاره (قده) هو النحو الثالث أعني التجري يكون تمام العلة للقبح ولا يتغير عن واقعه بحال فلا وجه على ما قاله (قده) لقول صاحب الفصول بالاحكام الخمسة ولا يزال يجب ان يقول (قده) بالحرمة في التجري هذا.

ولكن فيه إشكال وهو ان الحسن والقبح تارة يلاحظ بالنسبة إلى اللاحظ فمن رأي شيئا إذا كان علة تامة للقبح لا يمكن أن يكون غيره مقدما عليه وفيما نحن فيه لا يكون الخروج من رسوم العبودية من العنوانات المتغيرة بل يبقى في كل حال ولكن لا يكون كلام صاحب الفصول في هذا انما الكلام في انه هل يمكن ان يكون مصلحة الواقع في نظر الآمر في أحدهما مقدمة على الآخر مثل ما إذا اعتقد باجتهاد شخص وفقاهته ومع ذلك قتله تجريا فبان انه سارق أو بالعكس فهل يمكن تقديم مصلحة الواقع أم لا ونظر الآمر لا ربط له باللاحظ فان كانت المصلحة في أحدهما أقوى يقدمها لا محالة ولكن اللاحظ يرى الفعل قبيحا ولا يتغير عن القبح أبدا.

والحاصل الفرق بين نظر الأمر بالشيء ونظر الفاعل واللاحظ واضح ولا نقول ان الفعل الخارجي بالنسبة إلى الفاعل ليس بقبيح بل يلاحظ بالنسبة إلى الأمر وما

٣٤

قاله الفصول قده أيضا يمكن ان يكون مراده ذلك نعم عبارة غير واضحة في هذا المعنى.

وقد أشكل قده ثانيا بان ما قلتم من الأحكام الخمسة في مقام انكشاف الواقع وانه ربما يكون حسنا في الواقع مثل عدم قتل ابن المولى تجريا من باب اعتقاد كونه عدوه لا يتم لأن الحسن والقبح والثواب والعقاب يتصور إذا كان الفعل باختيار المكلف وهنا لا يمكن مدح العبد لعدم قتله ابن المولى لأنه ما قصده ولم يكن باختياره بل اعتقد انه عدو ولم يقتله ولم يكن له التفات إلى ان هذا ابن المولى وهذا واضح فساده.

وفيه ان الإشكال من جهة عدم كون العمل باختيار المكلف متين ولكن ما قاله صاحب الفصول هو ان انحفاظ ابن المولى في نظره أولى وأهم من عقاب العبد على تركه وكان في الواقع هذا العمل ذا مصلحة وجوبية بحيث لو سئل المولى في حين التجري عن ان هذا العمل حرام أم لا ينادى بعدم الحرمة ويحكم بالوجوب وكان هو قده بصدد بيان رفع التصادم هذا. اما على ما قلناه من تعدد الرتبتين فلا نحتاج إلى تفصيله ثم قال بأنه ان صادف التجري مع الواقع يتداخل العقابان للتجري والمعصية فهذا الكلام منه لما كان ظاهر المناقضة لأن التجري يصدق إذا لم يكن العمل مصادفا مع الواقع فإذا كان كذلك لا يكون تجريا والمعصية تكون في صورة مصادفة الواقع وهما ضدان ولا يجتمعان حتى يقال بالتداخل.

فقال الاعلام لا نفهم كلامه ولكن ربما يمكن توجيه كلامه بأن نقول إذا كان العلم الإجمالي بجنس التكليف كافيا للفرد والشخص وقبلنا ذلك فنقول إذا شرب متجر مائعا بعنوان انه خمر فبدا انه غصب فانه بالنسبة إلى الخمر متجر وبالنسبة إلى الغصب عاص فان قلنا جنس المبغوضية يكفى فهذا مثال للتداخل ولكن لا نقول به هنا لأنه لا يكون لنا علم إجمالي في المقام لأنه يتصور في صورة كونه قابلا للتطبيق على أحدهما وهنا العلم بالخمر يكون تفصيليا والعلم بالغصب لا يكون أبدا فتبين ان البيان لا يكون للغصب لا بالخصوصية ولا بالاشتراك.

٣٥

فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الفعل بعنوانه الواقعي يكون مصب الأمر أو النهي لا غير وان التجري قبيح لا حكم له شرعا.

الإشكال الثاني على المسلك المختار (وهو القبح الفعلي والفاعلي في التجري) هو ان الفعل المتجري به خارج عن تحت الالتفات لأن الخارج على الفرض لا يكون مصادفته مع القطع باختيار الفاعل بل المصادفة وعدمها في من شرب المائع يكون بدون اختياره فكيف يعاقب على ما لا اختيار له فيه ولا يمكن الثواب والعقاب على ما لا التفات به والمتجري ان خوطب بأنه يا أيها المتجري لا تفعل كذا يعلم انه متجر ويترك العمل وهذا نظير الإشكال في باب الصلاة عند التمسك بحديث لا تعاد للناسي لجزء من الاجزاء فانه ان خوطب بأنه يا أيها الناسي لا يجب عليك هذا الجزء مثلا يعلم انه ناس ويتذكره فكيف المحيص عنه وهو حاصل إشكال المحقق الخراسانيّ (قده) في الكفاية.

واما في حاشيته على رسائل الشيخ فكلامه ذا وجهين :

الأول : ان جرم شرب المائع يكون خارجا عن الاختيار وما صدر عن الالتفات لا يقصد وهو شرب الماء مثلا وما قصد من شرب الخمر لم يقع فانه تصور انه خمر فاشتاق إلى شربه فمال إليه ولم يصل إلى ما تصوره أولا وعشقه وبلغ إلى ما لا عشق له به أصلا فالفعل الصادر عن المتجري خارج عن الاختيار جدا.

والثاني : لو فرض انه بما هو شرب مائع لا يكون قبيحا وبعنوان التجري يصير قبيحا فهذا العنوان لا يكون قابلا للتصور واعتقاد ما هو المبغوض لا يصادف الواقع ولا يكون بالاختيار وكان عنوان المبغوض صدر ممن هو كالمغمى عليه.

والجواب اما عن الوجه الأول من اشكاله قده فربما يجاب كما عن العراقي قده بان الفعل الصادر الجامع بين الفردين يكون تحت الاختيار والإرادة وهذا يكفى فشارب المائع الذي يكون جامعا بين الخمر والماء أوجد شرب المائع الذي قصده ولكن اشتبه في تطبيقه على الخمر كما يقول به الفقهاء في موارد من انه يكون من الاشتباه في التطبيق كما في باب نية صلاة الظهر مقام العصر مثلا اشتباها

٣٦

غاية الأمر أراد شرب الخمر من الأول والتفت في ضمنه بشرب المائع ومن المعلوم ان الجامع يتحقق في ضمن الفرد فقصد شرب مائع مطلق وكان في ضمن شرب الخمر والحاصل ان الطبيعي كان مورد الإرادة وهو يوجد في كل الوجودات مع الافراد.

وهذا الجواب لا وجه له لأن الفرد حصة من الطبيعي موجود والحصة التي عشقها هي الحصة في ضمن الخمر لا مطلق الحصة ولا عشق له بما وجد أصلا والطبيعي يكون مثل الآباء مع الأبناء لا مثل أب واحد مع الأولاد فلا يشتبه عليك ان الفاعل اما ان يكون فاعلا بالإرادة أو بالقصر أو بالطبع والأول مثل من يريد شيئا فيفعله بالاختيار. والثاني مثل تحريك الحجر إلى الهواء بحركة قسرية. والثالث مثل البرودة للماء والنور للشمس وميل الأجسام إلى المركز. والمتجري لا يكون فاعلا بالطبع ولا بالقسر فلا محالة يكون فاعلا بالإرادة فما صدر الفعل عن غير التفات غاية الأمر اشتبه في تطبيق المورد على المقصود كما عن بعض الأعيان.

واما عن الوجه الثاني (١) من كلامه وهو ما عليه غيره أيضا هو ان يقال العقوبة والمثوبة وان كانت على فعل اختياري والعنوان المشترك هذا وهو الطغيان على المولى يكون بالاختيار معصية كان أو تجريا وبالعمل صار طاغيا إلّا انه اشتبه في التطبيق وتخيل انه يكون من جهة المعصية فبان له التجري والظلم والهتك قابلان للتصور بالوجدان والخطاء في التطبيق لا إشكال فيه ولا يقال ان الهتك يدور مدار امر لا يكون في التجري وهو العلم بالموضوع فان الجاهل لا يكون مهتكا والمتجري والجاهل سواء ولا يمكن ان يكون شبيه العلم علما ولذا من لا يعلم بالخمرية لا يهتك بشربه.

وبعبارة واضحة الوجود الواقعي في الخمر يكون جزء الموضوع أي الخمر المعلوم حرام شربه وإذا شربه كان مهتكا وبعبارة ثالثة الخمر الواقعي اما لا دخل

__________________

(١) أقول فرق مد ظله بين التقريبين للجواب تارة ببيان العنوان الاشتراكي وتارة ببيان الاشتباه في التطبيق في الدورة الثانية من بحثه ولكن هما واحد بتقريبين.

٣٧

له في الحكم أصلا واما ان يكون تمام الموضوع أو جزئه والقول بعدم الدخل وكونه تمام الموضوع فاسدان فتعين كونه جزء الموضوع.

وهذا الإشكال والتوهم لا وجه له بل فاسد لأن الوجود الواقعي لا يكون جزء الموضوع ولا تمامه وعدم الاعتناء بالمولى تجريا أو معصية لا دخل له بالعلم والجهل ولا يكون مربوطا بالأثر الواقعي وأيضا لا يكون باعتبار المفسدة والمصلحة فعدم الاعتناء باب والمبغوضية باب آخر فتحصل ان التجري يكون قابلا للالتفات والفعل صدر عنه وعن إرادة ففعل المتجري قبيح وإشكال التضاد وعدم الالتفات غير وجيه. والحاصل ان الطغيان على المولى صادق في التجري وفي صورة المصادفة والعبد على أي تقدير يكون طاغيا والتطبيق لا أثر له في هذا العنوان حتى يكون الاشتباه فيه مؤثرا.

الإشكال الثالث على المسلك المختار وهو ان التجري إذا كان قبيحا عقلا ومستلزما للعقاب فيجب ان يكون في المعصية عقابان فلما لم يكن تعدد العقاب في البين فنعلم عدمه على التجري وعدم قبحه. بيان ذلك ان الواقع في عمل يكون مبغوضا للمولى فمن شرع في مقدمات الحرام شرع فيما هو المبغوض ولكن إذا لم يأت بالحرام أعني ذا المقدمة فلا يقال بحرمة المقدمات وعلى فرض الإيصال إلى ذي المقدمة فلا يقال بعقابين عقاب عليها وعقاب على ذيها مع انه أقبح من التجري والطغيان فيه يكون أشد من الطغيان في المقدمات.

وفيه ان المقدمة وذاها يكونان مستمرين وبمنزلة الفعل الواحد فلا تعدد في الفعل ولا تعدد في المعصية فلا يكون لهما عقابان والمعصية أيضا إذا كان التجري فيها ونفس الواقع مستمرين ويكون الواقع في الخارج فعل واحد فلا نقول بتعدد العقاب واما إذا فصل بين الواقع والطغيان فالعقاب على الطغيان لا ربط له به.

المسلك الثاني

من البحث الكلامي يكون للشيخ مرتضى الأنصاري (قده) فانه يقول ان فعل

٣٨

المتجري لا قبح له فعلا ولا فاعلا والعقل يحكم بان المتجري يكون خبيث السريرة واما حكمه باستحقاق العقوبة له فلا وهذا يكون مقابلا لما ذهبنا إليه من قبح الفعل والفاعل كليهما.

ومحصل ما ذكره في الفرائد ان الأدلة التي يمكن ان يستدل بها لإثبات قبح فعل المتجري أمور كلها ناقصة. الأول دعوى الاتفاق والإجماع في كثير من فتاوى الفقهاء على ان الظان بضيق الوقت إذا تأخر الصلاة فانكشف عدم الضيق عصى سيده ولا يكون العصيان الا للتجري لأنه ما فعل قبيحا الا من جهته وأيضا يدعون الإجماع على ان سلوك طريق خطري ولو لم يكن كذلك بظن الخطر حرام ولا يكون الحرمة الا من جهة التجري.

فأجاب (قده) عن هذا الأمر بان الإجماع الّذي ادعيتم لا يكون محصلا والمنقول منه غير سديد والمسألة أيضا اختلافية على ان الكلام في المسألة الكلامية والإجماع لا يكون كاشفا من حكم العقل وفتوى الفقهاء والإجماع يثبت المسألة الفقهية على فرض التمامية فان العمل يمكن ان يكون قبيحا ولا يكون للشارع حكم على طبقه والوجوب والحرمة الشرعيتين لا يلازم القبح العقلي انتهى.

وهذا الكلام منه (قده) متين وان كان مخالفا لما ذهبنا إليه.

الثاني : بناء العقلاء على تقبيح المتجري وأجاب (قده) عنه بان التقبيح لا يعلم انه يكون من جهة سوء السريرة أو للفعل والظاهر كونه للأول.

الثالث : استقلال العقل بان التجري قبيح وفعل المتجري به أيضا قبيح والفاعل قبيح لأنه فعل فعلا قبيحا وردّه بأنه لو سلم حكم العقل لا نسلم كونه لنفس الفعل بل لأنه يكون كاشفا عن سوء السريرة.

الرابع : وهو الاستدلال الفني بان الشخصين إذا اعتقدا ان المائعين خمران فصادف اعتقاد أحدهما للواقع ولم يصادف الآخر فأحدهما شرب الخمر والآخر شرب الماء في الواقع فعلى هذا الفرض لا يكون التصورات العقلية خارجة عن أربعة عقابهما أو عدم عقابهما أو عقاب من صادف قطعه الواقع أو بالعكس والقول بعقابهما

٣٩

معا هو المطلوب وعدم عقابهما كان باطلا بالذات لأنه يلزم منه عدم العقاب على المعاصي وعقاب المتجري دون العاصي أيضا باطل وعقاب العاصي دون المتجري يكون خلاف ما حكم به العقل فلا فرق بينهما لأن من صادف قطعه الواقع يكون هو العاصي ومن لم يصادف يكون هو المتجري والمصادفة وعدمها لا تكون بأيديهما وما يكون خارجا عن الاختيار كيف يكون سببا للعقاب وعدمه.

فأجاب (قده) عنه بأنه نختار عقاب العاصي دون المتجري من الاحتمالات الأربعة وما قلت من مصادفة الواقع وعدمه لا وجه له بل منشأ العقاب في العاصي يكون هو التفاته بالعنوان وعدم عقاب المتجري يكون لأجل عدم التفاته إلى عنوان التجري فحيث لا يكون بالاختيار لا يعاقب عليه هذا كلامه رفع مقامه.

وفيه انه ما قال من سوء السريرة فقط من الدليل العقلي لا وجه له فان المتجري لا يعاقب بسوء السريرة فقط بل لأنه جزم وعزم وأظهر العمل على وفقه ولعل مراده قده ان القبح العقلي المستتبع لحكم شرعي لا يكون في البين وهو موافق لما قلناه ولكن عبارته مشوشة وظاهرة بأنه يكون سوء السريرة فقط ولا قبح فيه هذا ما في جوابه عن الاستدلال العقلي.

واما جوابه (قده) عن البرهان الفني فلا يكون تاما وان كان البرهان غير صحيح لأنه أجاب من جهة الاختيار في العاصي وعدمه في المتجري ولقد أجبنا عن ذلك بأن الفعل الصادر عن المتجري يكون فعلا اختيارا لا قسريا ولا طبعيا ولكن الخطاء يكون في التطبيق فجوابه ليس بصحيح.

ثم لنا إيراد على الشيخ (قده) وهو انه قال بحسن الاحتياط والانقياد ولو لم يكن العمل مطابقا للواقع فهذا العمل الّذي صار بالاحتياط حسنا مع عدم الحسن الواقعي له فكيف لا يصير التجري سببا لقبح العمل ولو لم يكن في الواقع قبيحا ولا تتوهم ان حسن الاحتياط يكون من باب التفضل لأنه (قده) صرح بأنه يكون للانقياد.

٤٠