مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

الثواب أحدهما ثواب العقل والثاني ثواب الترك فإذا فرض المعارضة فأدلة العلاج تصل النوبة إليه.

هذا كله إذا كان المعارض الخبر الضعيف واما إذا كان المعارض هو القوى فهل التقدم مع القوى أو مع الضعيف أو التخيير بمقتضى الأصل الثانوي والتساقط بمقتضى الأصل الأولى وجوه وأقوال فقيل بأن المقدم هو القوى لأن مفاده عدم البلوغ فانه إذا دل دليل قوى على عدم شيء ونفيه فيكون مقتضى التعبد به هو القول بعدم البلوغ فكأنه ما بلغ شيء.

وقيل ان هنا عنوانين عنوان الذات وعنوان البلوغ فيمكن أن يكون الشيء بعنوان الذات غير مستحب وبعنوان البلوغ مستحبا فلا معارضة بين الخبرين وهذا صحيح على فرض القول بأن المستفاد من الأدلة هو المسألة الفقهية واما على فرض كونه مسألة أصولية فحيث يوجب الاخبار وثاقة سند الضعيف فيوجب وقوع المعارضة بينهما فيجب الرجوع إلى أدلة العلاج.

واما إذا كان مفاد الخبرين إثبات الثواب ولكن نعلم إجمالا بأن أحدهما غير مطلوب في الواقع مثل الدليل إذا دل على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ودليل آخر دل على وجوب الظهر فيه وعلمنا إجمالا بأن الواجب علينا ليس إلّا صلاة واحدة فيكون من اشتباه الحجة باللاحجة والكلام فيه الكلام في ذلك المورد ونحن قد طوينا البحث عن اخبار من بلغ وفي رسالة الشيخ قده في التسامح في أدلة السنن مزيد بيان فليرجع إليه من شاء والحمد لله أولا وآخرا.

فصل في البراءة عن الوجوب التعييني عند الشك فيه

وقد تصدى الشيخ الأنصاري قده في الرسائل لهذا البحث في التنبيه الثالث من تنبيهات البحث عن الشبهات الوجوبية من جهة فقدان النص وحاصل المدعى هنا هو البحث في أنه هل يكون أدلة البراءة من الأحاديث بقوله عليه‌السلام رفع ما لا يعلمون وغيره بصورة كون الواجب تعيينيا أو يشمل صورة كون الشك في التعيين والتخيير وجهان.

٣٨١

والبحث تارة يكون في الشك في أصل الوجوب كما إذا شك في أن هذا معينا واجب أم مخيرا أو لا يكون واجبا أصلا لا مخيرا ولا معينا ففي الواقع يكون الشك في أصل الوجوب وطوره من التعيين والتخيير.

والظاهر من كلام الشيخ قده هو كون البحث في غير هذه الصورة ولا إشكال في كون هذا الفرض مجرى البراءة لأنه من الشك بدوا في أصل الوجوب ولا شبهة في جريان البراءة بالنسبة إلى ما كان الشك في أصل وجوبه مثل الشك في أن الارتماس في رمضان هل يوجب الكفارة صوما أو إطعاما أم لا وأخرى يكون البحث في التعيين والتخيير من جهة طور الوجوب بعد العلم إجمالا بالتكليف في البين والظاهر من كلام الشيخ قده هو البحث في هذه الصورة فما عن بعض المحشين للرسائل من أن كلام الشيخ يكون في الأول غير ظاهر من كلامه خصوصا بالنسبة إلى ذيله.

واما القسم الثاني وهو (١) صورة وجود العلم الإجمالي بالتكليف فائضا يتصور على وجوه الأول ان يكون عالما بوجوب هذا الشيء بخصوصه ولكن لا

__________________

(١) أقول هنا صورة أخرى لم يتعرض لها مد ظله ولا النائيني ولا غيره في هذا المقام على ما تفحصت وكثيرا ما نبتلى به في الفقه وهو أن نعلم أن ذلك الشيء عدل لهذا ولكن لا نعلم أن عدليته مختصة بصورة عدم إمكان هذا أو يكون كلاهما متساويين فلا نعلم أن هذا معينا هو المأمور به أو في ظرف عدم التمكن منه يكون الغير عدلا له أو يكون الغير عدلا له مطلقا وهذا نظير هذه الصورة الثانية والفرق بينهما ان الثانية يمكن أن يقال بالاشتغال فيها لا من جهة ما ذكروه بل من جهة عدم إثبات الأمر للعدل والمطلوبية ويكون أسوأ حالا من الصورة الرابعة لأن الأمر المستحب ولو كان مفوت الملاك ولكن يكون مسقطا مثلا ولكن في صورة عدم الجعل لا يكون وجها لكون إتيان غير المجعول مسقطا واما في هذه الصورة التي ذكرناها فاصل الجعل بالنسبة إلى العدل مسلم ولكن لا نعلم انه في ظرف عدم إمكان الغير عدل أو مطلقا والقول بالبراءة عن الكلفة الزائدة له وجه كما في الصورة الثالثة على مسلك الأستاذ مد ظله ولا مجال لنا هنا للشرح أزيد مما ذكرناه والله الموفق.

٣٨٢

يعلم انه جعل ذاك الشيء عدلا له أو لا فقيل في هذه الصورة بالبراءة أيضا مستدلا بأن الالتزام بالخصوصية كلفة زائدة والتكليف الزائد يكون مرفوعا بمقتضى حديث الرفع بقوله عليه‌السلام الناس في سعة ما لا يعلمون ضرورة أن الالتزام بخصوص الصوم مثلا كفارة لشيء يكون من التكليف الزائد بخلاف صورة التخيير بينه وبين الإطعام مثلا ولكن قد أشكل على هذا التقريب كما عن شيخنا النائيني قده (١) بأن صفة التعيينية وان كانت كلفة زائدة ولكن مجرد ذلك لا يكفى في جريان البراءة بل يلزم أن يكون التكليف مما يكون امر وضعه ورفعه بيد الشرع وهو يتصور في صورة كون المجعول امرا وجوديا واما في صورة كونه امرا عدميا فلا مجال للقول بأن هذا مرفوع والمقام يكون كذلك لأن الصفة التي تكون هي التعيين ليست امرا وجوديا بل يكون الأمر بالشيء مع وجود فرد آخر مسقطا لهذا التكليف ينتزع منه التخييرية ومع عدم العدل ينتزع منه التعيينية.

ولا يكون امرا وراء أصل التكليف بالشيء فحينئذ حيث لا يكون هذه كلفة من ناحية الشرع لا يمكن إجراء الأصل بالنسبة إليها ولو كان كذلك فكل ما كان الشك في الفراغ ولو من ناحية الامتثال يلزم أن يقال بجريان الأصل بالنسبة إليه وهو كما نرى فحيث أن التكليف معلوم ومع عدم الإتيان بالمعنى يكون الشك في الفراغ لا بد من القول بوجوب التعيين ولا يجري أصالة عدم التعيين.

ولشيخنا العراقي قده بيان آخر في مقام اختيار الاشتغال في الفرض وعدم جريان الأصل وحاصل تقريبه قده هو أن لنا العلم الإجمالي بالتكليف بين المعين وعدله ولا بد من إتيان التكليف بحيث يسدّ جميع أنحاء عدمه فإذا أتى المكلف بالمعين يكون له العلم بالبراءة ويكون فارغا واما إذا أتى بالفرد الآخر لا يكون له العلم بالبراءة لاحتماله عدم امتثال التكليف من جهة دخالة الفرد الخاصّ في المصلحة فلا بد من إتيان المعين بعد العلم الإجمالي بالتكليف.

__________________

(١) في ص ١٥٥ من فوائد الأصول.

٣٨٣

فان قلت كل موارد الشك في الفراغ إذا جرى الأصل في ناحية الجعل يكون المكلف في وسع في ناحية الفراغ وفي المقام أيضا إذا جرى الأصل بالنسبة إلى قيد التعيين لا تصل النوبة إلى الشك في حصول الامتثال بالنسبة إلى الفرد المخير قلت البراءة في مقام الجعل يكون في صورة مجهولية حدّ التكليف كالشك في الجزء أو الشرط واما إذا كان الحد معينا ويكون الشك في شيء خارج عن دائرة المكلف به فلا يكون الأصل جاريا وفي المقام حد التكليف من الجزء والشرط معلوم غاية الأمر لا ندري أن هذا المعين لازم أو يكفى الغير وحيث لا يكون لنا العلم بجعل الغير بدلا له فالأصل الاشتغال.

وهذا البيان أمتن مما قاله شيخنا النائيني لأنه يرد عليه قده ان المرفوع بحديث الرفع لا يلزم أن يكون أمرا وجوديا في جميع الموارد بل إذا كان التسهيل في عدم الجعل يكفى لشمول أدلة البراءة والحق هو القول بالاشتغال لأنه موافق للاحتياط.

الصورة الثالثة هي أن يكون للمكلف العلم بوجوب شيء معين والعلم أيضا بوجوب شيء آخر مثل أن يعلم وجوب الإطعام ويعلم وجوب الصيام أيضا ولكن يكون شكه من جهة ان وجوب هذا هل يكون بنحو التخيير بمعنى انه عدل للآخر أو يكون له وجوب بنفسه كما ان الآخر أيضا له وجوب نفسي فيكون الشك في ان أحد هذين هل يكون عدلا للآخر أو كلاهما واجبان عينيان.

وقد جعل الشيخ الأنصاري قده (١) البحث عن هذه الصورة في باب الأقل والأكثر وقال الشيخ النائيني قده في المقام أيضا بالاشتغال كما قال في الصورة السابقة وسنده مثل السند الّذي ذكرناه سابقا ونشير إليه أيضا لمزيد توضيح لأصل الدليل وزيادة بيان للمقام فقال بما حاصله ان الواجب التخييري معناه هو جعل العدل له فيكون الأمر بالشيء مع ذكر العدل له هو الوجوب التخييري والأمر به مع عدم ذكر العدل يكون هو الوجوب التعييني والإثبات يوافق الثبوت فإذا لم يذكر العدل إثباتا يكشف

__________________

(١) في الرسائل ص ٢١٧ و ٢١٨.

٣٨٤

عن عدم وجود العدل ثبوتا ففي هذه الصورة حيث ذكر وجوب كل واحد منهما ولم يذكر أحدهما عدلا للآخر يستفاد التعيينية من الخطاب.

والفرق بين هذه والصورة السابقة هو وجوب الجمع هنا لتعلق التكليف بكل واحد منهما وفي السابقة كان الواجب هو أحدهما المعين لعدم تعلق التكليف بالآخر وإشكال عدم كون التعيين مما تناله يد الجعل حتى يرفع بالبراءة أيضا مشترك في الصورتين وكذلك احتمال العقاب (١) لا يكون حتى يجري البراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان ولا يصح القول بالتعيين بواسطة أصالة عدم جعل العدل لأنه خلاف الامتنان ولا التخيير لأنه غير مجعول كما مر.

وفيه أولا ان معنى التخيير لا يكون ما ذكره قده فانه ليس من باب الإطلاق والتقييد بأن يقال إذا لم يذكر العدل يكون معينا وإذا ذكر يكون مخيرا بل معنى التعيين هو البعث بالشيء بجميع أنحاء وجوده وهو يشمل حتى صورة الإتيان بشيء آخر ومعنى التخيير هو البعث إلى الشيء ببعض أنحاء وجوده وهو فرض عدم الإتيان بالعدل فإذا أتى به لا يكون البعث محققا وما ذكره قده من ذكر العدل وعدمه يكون من لوازم هذا المعنى لا نفسه وحينئذ لا يكون لنا أصل محرز للتعيين أو التخيير عند الشك فيهما لعدم الحالة السابقة للتعيين والتخيير.

ومقتضى الاحتياط عملا هو الجمع بينهما لعدم العلم بهما فعدم ذكر العدل في مقام الإثبات لا يكون كافيا للقول بعدمه في مقام الثبوت.

وثانيا لا يكون العدل مذكورا لكل واحد منهما في هذه الصورة بل ذكر كل واحد منهما وعدم ذكر العدل والأمر بالشيء فقط يكون في الصورة الثانية

__________________

(١) هذا الإشكال لا يكون من المقرر في الفوائد بل نقله الأستاذ مد ظله بعد الدرس عن مقرره الآخر العلامة الخوئي في أجود التقريرات ولا نفهم وجهه لأن النائيني قده أجل شأنا من ان لا يلتفت إلى أن ترك أحدهما وإتيان الآخر مما فيه احتمال العقاب في المقام وان إتيان غير المعيّن وتركه في الصورة الثانية أيضا موجب لاحتمال العقاب.

٣٨٥

لا هذه الصورة.

وثالثا احتمال العقاب على فرض ترك بعض الأطراف موجود فلا بد من وجود المؤمّن لرفعه وما هو المرفوع هو التعيين لأنه بذاته كلفة لا زيادة تكليف ليقال انه ليس التكليف الا الأمر مع عدم ذكر العدل.

ويمكن أن يقرب المقام بحيث يكون النتيجة عدم الجمع بل الإتيان بأحدهما تخييرا في الفرض وبيانه أن يقال انا إذا وجدنا الأمر بكل واحد منهما وشككنا في أنه هل يكون أحدهما بدلا عن الآخر أو واجب بنفسه يحصل لنا علم تفصيلي وشك بدوي.

اما العلم التفصيلي فهو أنا نعلم ان ترك هذا في ظرف ترك ذاك يكون حراما ومعاقبا عليه واما تركه في ظرف الإتيان بالآخر لا يكون العلم به فوجوبه يكون مشكوكا على هذا الفرض فتجري البراءة عنه وحيث ان هذا البيان يأتي بالنسبة إلى كليهما نقول مقتضى العلم بكون أحدهما واجبا لا محالة بمقتضى العلم التفصيلي هو الإتيان بأحدهما مخيرا فإذا فرض الأمر بالعتق وبالصيام فعلى المكلف أن يصوم وأن يعتق رقبة.

فان قلت فأي فرق بين هذه الصورة والصورة السابقة فانه يمكن ان يقال المتيقن هو العقاب على ترك هذا المعين في ظرف ترك الآخر واما العقاب والتكليف في ظرف فعل الآخر فهما مشكوكان فيجري البراءة العقلية والشرعية بالنسبة إليه وينتج عدم التعيين.

قلت الفرق بينهما هو وجود العلم الإجمالي بالتكليف هنا بتوجه التكليف بكليهما هنا ويكون مفروض المطلوبية غاية الأمر يكون الشك في التعيين والتخيير واما هناك فيكون المفروض التكليف بأحدهما محرزا ويكون بدلية الآخر عنه مشكوكة مع الشك في كون الآخر مسقطا أم لا وفي المقام نعلم بان كل واحد منهما يكون مسقطا للتكليف المتوجه إليه ولكن يكون الشك في الزائد هذا أولا.

وثانيا ان استصحاب بقاء التكليف في تلك الصورة لا إشكال فيه فانه بعد الإتيان

٣٨٦

بالفرد المشكوك يكون الشك في سقوط الوجوب عن المعين فاستصحاب التكليف يحكم بوجوب الإتيان بخلاف المقام فان استصحاب التكليف فيه يرجع إلى الفرد المردد لأن استصحاب الوجوب يكون جاريا إذا لم يكن الشك في أصل الجعل ففي المقام ان كان وجوب كل واحد منهما تعيينا يكون وجوب الآخر بعد إتيان أحدهما مقطوعا وان كان تخييريا يكون وجوبه مقطوع العدم وهذا يكون بعينه من استصحاب وجود الحيوان في الدار مع كون الشك في انه كان بقّا أو فيلا ومن المعلوم والمقرر في محله عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد فبهذا البيان يمكن مخالفة شيخنا الأستاذ والقول بالتخيير بين الفردين.

الصورة الرابعة (١) من صور الدوران بين التعيين والتخيير هي ان يعلم الشخص بأن الشيء الفلاني يكون مسقطا للتكليف المتوجه إلى شيء ولكن يكون الشك في أنه هل يكون فردا واجبا تخييريا أو يكون مستحبا أو مباحا يوجب تفويت الملاك وهذا تارة يكون في صورة تعذر الإتيان بالواجب للاضطرار أو صورة الاختيار اما في صورة الاختيار فلا يترتب عليه ثمرة فقهية واما في صورة الاضطرار فيكون الثمرة وجوب الإتيان به على فرض تعذر الآخر إذا كان واجبا لأنه أحد افراد الواجب التخييري واما إذا كان مستحبا أو مباحا فلا يجب الإتيان به أصلا ولأن ما هو الواجب متعذر وهذا ليس فردا له فلا يجب إتيانه وأيضا على فرض كونه واجبا لا يكون مفوتا للملاك ولا يكون عليه العقاب وعلى فرض كونه مستحبا أو مباحا يكون معاقبا على ترك الواجب بتفويت ملاكه وهذا يكون في صورة التمكن من إتيان الواجب.

ومن الثمرات التي نقل عن فخر المحققين قده وذكره الشيخ قده في الرسائل وشيخنا النائيني أيضا هو إتيان الصلاة جماعة لمن لا يكون قراءته صحيحة لعدم إمكان تصحيحها أو لعدم تعلمها فعلى فرض كون الصلاة جماعة إحدى افراد الصلاة

__________________

(١) هذه آخر صور التعيين والتخيير وقد ذكر قسما خامسا كما مر في أوائل البحث وهو التعيين والتخيير بين الطوليين مثل الوضوء والتيمم فارجع إليه.

٣٨٧

الواجبة فالمكلف اختيار الفرد الصحيح من الصلاة واما إذا كان من الافراد المستحبة فلا يكون من الافراد ولا يجب على المكلف اختيارها في صورة عدم التمكن من الصلاة فرادى مع قراءة صحيحة واستظهر شيخنا النائيني قده (١) من الأدلة ان الصلاة جماعة أيضا تكون إحدى افراد الصلاة الواجبة بتنزيل قراءة الإمام منزلة قراءة المأموم فالمأموم قادر على القراءة بهذا الفرد التنزيلي مع كونه أفضل الافراد ومع ذلك كله لا يجب على المكلف اختيار الصلاة جماعة مع عدم صحة قراءته لأن صلاة الجماعة فرد تخييري لو اختاره المكلف واما إذا لم يختره فلا ولا يكون لنا دليل على وجوب اختياره وصرف كونه أحد افراد الواجب لا يوجب القول بوجوب اختياره فعليه الصلاة بدون القراءة أو بما يحسن. وأقول على فرض قبول وجوب (١) اختياره وكون الجماعة بدلا تنزيليا كما قال شيخنا الأستاذ قده لا يكون بدلا عن المرتبة العليا بل بدلا مطلقا فمثل البلال الّذي يكون سينه بمنزلة الشين كما هو المروي يكون قادرا على فرد من القراءة ومن يمكنه التكلم بالسين أيضا يكون قادرا على فرد آخر منها فان شاء الجماعة فقد اختار بدل قراءته فكل يكون له بدل تنزيلي بحسب قراءته لا أن يكون قراءة الإمام بدلا لقراءة الأقرأ فقط فلا ينتج هذا المثال للكبرى في المقام.

ثم انه تعرض شيخنا الأستاذ النائيني قده لسائر أقسام التخيير هنا فنشير إليه أيضا احتراما بشأنه (قده) مع كونه مفيدا فان التخيير على ثلاثة أقسام الأول ما مرّ وهو التخيير في مقام الجعل وهو الّذي يكون في لسان الشرع مثل خصال الكفارات والبحث الماضي كان في صورة الشك في هذا النحو من التخيير والتعيين الّذي يكون مقابلا له في عالم الجعل.

القسم الثاني من التخيير هو الّذي يحصل من التزاحم بين الخطابين التعينيّين

__________________

(١) أقول ما ذكره يكون تقريبا آخر لكلام النائيني قده ولا يكون على فرض وجوب اختياره بل يكون بيانا لعدم وجوب الاختيار كما هو واضح.

(٢) في الفوائد ص ١٥٧.

٣٨٨

والفرق بينهما ان هذا التخيير يكون في بعض الموارد على حسب الاتفاق وذاك يكون دائميا.

والمثال المعروف لهذا القسم هو صورة وجوب إنقاذ الغريقين الذين لا يمكن إلّا إنقاذ أحدهما ففي هذه الصورة اما ان يكون الخطاب التعييني بالنسبة إلى كل منهما معارضا بما للآخر ويتساقطان والعقل يحكم بالتخيير في مقام العمل إذا كانا متساويين بحسب الملاك كما عن الرشتي قده من أن الإشكال في مقام الجعل حيث ما كان مصلحة في جعلهما أو يكون التصادم بين إطلاق الخطابين وتقييد أحدهما بالآخر في ظرف المزاحمة كما عن النائيني ولكن حيث يلزم من هذا الدور (١) المحال فعبر بالقضية الحينية بمعنى ان إطلاق هذا يكون حين عدم المزاحمة مع الغير وهكذا بالعكس ويكون نتيجته التقييد فعلى أيّ مسلك لو كان في البين ما هو أهم يجب اختياره لحكم العقل بالتعيين وهكذا مع احتمال الأهمية لأن الفراغ اليقينيّ لا يحصل إلّا بهذا النحو وعلى فرض التساوي يحكم بالتخيير لعدم إمكان الجمع.

فان قلت بعد عدم إمكان الجمع والقول بتقييد الإطلاقين يرجع إلى التخيير شرعا لأن الإطلاق إذا لم يكن ممكنا فنكشف حكم الشرع بالتخيير كما إذا كان التخيير في لسان الدليل كخصال الكفارات فكلما قيل في الخصال إذا شك في التعيين والتخيير كذلك في المقام من جهة البراءة عن التعيين أو الاشتغال.

قلت ان التخيير هنا لا يكون ناشئا عن حكم الشرع به من جهة كون المصلحة اقتضته بل يكون من جهة ضيق الخناق وعدم إمكان الجمع بين كون المصلحة تامة في كليهما بخلاف صورة كون المصلحة في كل واحد على البدل من دون أن يكون

__________________

(١) تقريب الدور هنا مشكل لأن وجوب أحدهما وان كان متوقفا على عدم إتيان الآخر ولكن عدم إتيان الآخر لا يكون متوقفا على وجوب هذا بل يكون متوقفا على عدم أسبابه وإلّا فلو كان التوقف في الواقع كذلك ما كان اختلاف التعبير بالحينية منتج نتيجة لأن التوقف الواقعي لا يختلف باعتبار تغيير الألفاظ.

٣٨٩

المصلحة في الجمع وفرق واضح بين كون المصلحة قاصرة الشمول للطرفين أو تامة الشمول ويكون المنع هو عدم القدرة على الجمع هذا على المختار من أن التزاحم يكون بين الإطلاقين واما على فرض كون التزاحم في ذات الخطابين في المورد فقد توهم أن القول بالتعيين يكون خلاف الأصل لأنه كلفة زائدة ومقتضى الأصل البراءة عنها فلا بد من القول بالتخيير مطلقا سواء كانا متساويين أو كان أحدهما محتمل الأهمية.

ولكن هذا التوهم مندفع لأنه على فرض قبول المبنى أيضا تكون المصلحة معينة لا مخيرة كما مر فان المانع من الجمع هو عدم القدرة على الامتثال والعقل حاكم بأن ما هو الأهم يكون معينا في الامتثال لأقوائية المصلحة فالحاصل اللازم في القسم الثاني من أقسام التخيير وهو الّذي يكون ناشئا عن تزاحم الخطابين من جهة عدم القدرة على الامتثال يجب القول بالتخيير في صورة تساوى الملاكين واما صورة أهمية أحدهما أو احتمالها فالمقدم هو الأعم.

القسم الثالث من أقسام التخيير ما يكون في الطرق مثل الخبرين المتعارضين أو فتوى المجتهدين المتعارضين فهل المعنى هو الأخذ بما احتمل كونه هو الطريق مثل فتوى الأعلم أو يكون التخيير في الأخذ بأيهما شاء فنقول على فرض كون الأخذ بالطريق من باب الموضوعية وان كان من باب المصلحة السلوكية فلا بد من الأخذ بالمعنى وهكذا على الطريقية لأنه مع الأخذ بغيره يكون الشك في الامتثال بعد إحراز التكليف وعلى الطريقية يكون القطع بعدم الحجية لأنها لا يكون مثل احتمال التكليف حتى يرفع بالبراءة لأن الحجة ما به يحتج على المولى ولا شبهة في أن مشكوك الحجية لا يمكن الاحتجاج به فيكون القطع بعدم كونه حجة لنا فلا بد من الأخذ بما هو متيقن الحجية وهو الأخذ بفتوى الأعلم والأمارة التي يحتمل تعيين الأخذ بها ولا يمكن إجراء الأصل بالنسبة إلى المعين لأنه ليس من باب التكليف :

٣٩٠

فصل في الشك في الواجب العيني والكفائي والبراءة من العيني

وهو يكون في صورة عدم استفادة أحدهما من الدليل والكلام يكون ابتداء في معنى الكفائي والعيني ليتضح أقوى اتضاح في صورة الشك في أن الأصل هل يقتضى (١) البراءة أو الاحتياط والإشكال يكون في تصوير الكفائي من جهتين الأولى من جهة كيفية المصلحة والثانية من جهة كيفية الإرادة.

ثم ان القوم ومنهم شيخنا النائيني قده جعلوا للواجب الكفائي معنيين : الأول أن يكون كل واحد من افراد المكلفين مكلفا بالتكليف ولكن يكون تكليف كل واحد منهم منوطا بعدم إتيان المكلف به بالمأمور به مثل دفن الميت فانه إذا لم يسبق أحد بالدفن يجب على جميع المسلمين واما إذا سبق أحد فلا يجب على البقية فيكون وزان ذلك وزان الواجب التخييري لكن هذا من جهة المكلف وذاك من جهة المكلف به فهنا يجب اما على هذا أو ذاك وهناك يجب اما هذا أو ذاك.

والثاني أن يكون المكلف هو الإنسان ولكن تكليف كل فرد يكون من جهة انطباق الطبيعي على الفرد وحيث صار صفحة الوجود مشغولة بالمكلف به فصار الميت مدفونا أو مغسولا أو مكفونا يسقط التكليف عن الجميع لأنه لا يكون للطبيعي مصداقان على الفرض بل يكون له مصداق واحد هذا.

ولكن لا يكون كلامهم مشروحا في رفع إشكال المصلحة والإرادة مضافا بأن المعنى الأخير غير محصل لأن التكليف يجب أن يكون بالنسبة إلى الأشخاص ويلاحظ شرائط تنجيزه بالنسبة إلى الفرد لا بالنسبة إلى النوع فربما لا يكون لأحد القدرة فلا يتوجه إليه الخطاب أصلا وهكذا يرد الإشكال على المعنى الأول أيضا من جهة أن الاشتراط بعدم السبق مخصوص بصورة كونه مما لا يمكن الجمع بحيث يكون بين

__________________

(١) والحق هو القول بالبراءة في جميع الصور لرجوع الشك إلى أصل التكليف على فرض عدم سبق الغير.

٣٩١

التكليفين المضادة أو المماثلة بحيث يدخل في باب اجتماع المثلين أو الضدين واما صورة إمكان الاشتراك في العمل فلا يكون التكليف مشروطا بسبق العمل ففي مثل دفن الميت وساير ما يجب إذا كان جمع من المؤمنين مشغولا به يكون الوجوب بالنسبة إلى عمل الجميع متحققا.

فيكون المختار عندنا معنى ثالثا وهو أن يكون الواجب الكفائي هو الّذي يكون كل واحد من المكلفين مكلفا بالتكليف ولكن حين عدم إتيان الغير به فيكون من القضية الحينية وهذا المعنى يناسب مع صورة كون المكلف به شيئا لا يكون المطلوب منه الا فردا بحيث يكون الفرد الآخر ضدا للمطلوب.

أو مثل دفن الميت مثلا حيث لا وجه لتكرار الدفن ولا يبقى الموضوع بعده ويشمل صورة كون جمع من المؤمنين مشغولا بواجب كفائي فحين عدم إتيان الغير يكون واجبا سواء يكون السبق بالوجود أو يكون حين عدم الإتيان وعليه فيكون الإشكال في كيفية الإرادة والمصلحة أيضا مندفعا لأنهما أيضا تكونان حينيتين فلا يكون التكليف في كل من الموارد مشروطا بعدم السبق بل في مورد المضادة أو المماثلة وكل من التعريفين الذين يكون في أحدهما الاشتراط بعدم السبق وفي الآخر يكون التكليف على الطبيعي يكونان متعرضين لبعض الجهات فالأوّل لجهة ما يكون بينه المضادة والمماثلة والآخر لجهة ما يمكن معه المقارنة مثل الدفن.

ثم انه إذا شك في الكفائي والعيني فقال شيخنا النائيني قده ان مقتضى الأصل على المعنى الأول هو القول بأنه عيني كما إذا شك في مكان موقوف بشيء في انه هل يكون الواجب على كل أحد قراءة الفاتحة عند دخوله أو يكفي قراءة واحدة من الجمع كمقابر الأكابر مثلا وحاصل دليله قده انه بعد توجه التكليف واشتغال الذّمّة يقينا يكون الشك في الفراغ ولا يحصل العلم به الا بعد إتيان جميع الافراد بالتكليف المتوجه إليه.

وفيه ان المقام أيضا يكون مثل الصورة الثالثة من دوران الأمر بين التعيين والتخيير حيث كان العلم بمطلوبية شيئين ولكن لا نعلم أن كل واحد منهما يكون بدلا

٣٩٢

عن الآخر أو يكون واجبا تعيينيا ونحن قد اخترنا البراءة عن التكليف الزائد لأنه ما كان العلم بالتكليف في ظرف إتيان بعض الافراد ففي المقام أيضا ان الشك يكون في طور التكليف لأنا علمنا بوجوب شيء علينا عند عدم إتيان الغير واما مع إتيانه فيكون الشك في توجه هذا التكليف فلا يكون العلم به في بعض الفروض ويكون هذا الشك من جهة الشك في أصل الجعل والأصل فيه البراءة ولا يكون من الشك في الفراغ في شيء.

هذا على المعنى الأول وعلى المعنى الثاني وهو كون الطبيعي هو المكلف فقال النائيني قده بالاشتغال لعين ما ذكرنا في الصورة الأولى والجواب عنه الجواب والشك في ناحية الفراغ انما يكون فيما بين المتزاحمين فانه يكون بعد إحراز المصلحة وهكذا كل مورد يكون التكليف مسلما فانا في الطبيعي أيضا لا نعلم أن كل من يصدق عليه الإنسان على أي تقدير يكون مكلفا أو يكون مكلفا على تقدير دون آخر فعلى تقدير إتيان الغير نشك في أصل توجه التكليف.

واما لو قلنا بأن (١) الواجبات الكفائية واجبات عينية فيكون الشك في العينية نظير الصورة الثانية من التخيير وهي صورة الشك في جعل شيء عدلا أم لا والمقام يكون كذلك لأنه يكون الشك في جعل عمل الغير مسقطا للتكليف عني أم لا فحيث يكون الشك في الفراغ يجب الاحتياط ولا مجال لجريان البراءة كما عن بعض المعاصرين أعلى الله مقامه.

ثم نرجع إلى ما كنا فيه على ترتيب الكفاية فان ما تقدم لم يكن فيها

__________________

(١) هذه الصورة أيضا يرجع لبّا إلى الصورة الأولى والأصل في جميع الصور يقتضى البراءة فان العيني المشروط بعدم الوجود يكون هو معنى الكفائي الّذي يقال انه يكون مشروطا بعدم السبق.

٣٩٣

فصل في حكم دوران الأمر بين المحذورين (١)

فنقول إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ففيه وجوه : الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ووجوب الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا والتخيير بين الفعل والترك عقلا مع التوقف عن الحكم به رأسا أو مع الحكم بالإباحة شرعا أوجهها الأخير لعدم الترجيح بين الفعل والترك.

أقول من دأب القوم هو البحث عن أصالة التخيير في ذيل أصل البراءة باسم الخاتمة وعدم انعقاد فصل على حدة في ذلك وهذا يكون لقلة مباحثه فان أصالة البراءة وأصالة الاشتغال والاستصحاب يكون لكلها فصل على حدة من جهة كثرة المباحث ثم البحث في المقام يكون من دوران الأمر بين المحذورين مثل العلم بان هذا اما واجب أو حرام وهو اما أن يكون في التوصليات أو التعبديات مع تعدد الواقعة ووحدتها مثل العلم بان هذا المعين اما واجب أو حرام والبحث يكون فيما يكون توصليا والكلام كله هنا في أنه هل يمكن تصوير التخيير تعبدا أم لا فانه لا إشكال في صحة التخيير في صورة كون الواقعة مرددة بين امرين وجوديين مثل وجوب صلاة الظهر أو الجمعة انما الإشكال في الأمرين الذين أحدهما وجودي والآخر عدمي فتصور الخراسانيّ قده التخيير في هذا المقام أيضا بقوله أوجهها الآخر لعدم الترجيح بين الفعل والترك وشمول مثل كل شيء لك حلال إلى آخر كلامه.

ولكن (١) لا وجه لما اختاره كما هو مختار شيخنا النائيني قده (٢) وحاصل الاستدلال

__________________

(١) والبحث في الرسائل في المطلب الثالث ص ٢٢٢.

(٢) أقول ما اختاره قده لا يكون هو التخيير الفقهي أيضا بل هو التخيير الأصولي الّذي يقول به العراقي (قده) والأستاذ مد ظله وكذلك الإباحة الشرعية والتخيير الفقهي يكون بعد إثبات الحكم فقها مثل خصال الكفارات وهو في المقام يكون الكلام فيه.

(٣) في الفوائد ص ١٦١

٣٩٤

هو أن الأمر المجعول الشرعي يجب ان يكون بحيث لو لا حكم الشرع لم يكن الواقع موجودا في عالم التكوين ففي صورة دوران الأمر بين المحذورين يكون الشخص اما فاعلا أو تاركا سواء كان عليه الأمر بالتخيير أو لم يكن بل لا يمكن وجود الأمر وإعمال التعبد لأنه يكون من تحصيل الحاصل.

واما العلم الإجمالي بأحدهما أعني الوجوب والحرمة فلا أثر له أيضا لما ذكر أيضا لأنه يكون في صورة إمكان حفظ الواقع الّذي لم يكن منحفظا لو لا متابعة العلم فان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الكأسين يوجب التنجز بالنسبة إلى الواقع الّذي في البين ولو لا تنجيزه لم يكن منحفظا لأن المكلف يتركه لولاه.

واما في دوران الأمر بين المحذورين فالواقع لا يمكن حفظه لأنه لا يعلم انه هو الفعل أو الترك ولا سبيل إلى إحرازه بخلاف الصورة السابقة فانه بالجمع بين المحتملات يمكن حفظ الواقع فلا أثر للعلم الإجمالي ولا لتعبد آخر فلا يكون وجه للتعبدي الظاهري ولا الواقعي.

اما أصل التخيير فلا يجري لأن الترك لا يكون فيه المصلحة ويكون تصوير التخيير في دوران الأمر بين المصلحتين واما إذا لم يكن أحدهما الا الترك فلا مجال للقول به.

ويمكن الإشكال عليه بأنه يمكن ان يكون الترك محدث عنوان من العناوين فيكون ذاك العنوان ذا مصلحة كما في المكروهات ولكن الإشكال ما ذكره من عدم إمكان التخيير واقعا لأنه حاصل هذا بالنسبة إلى التخيير الواقعي.

واما التخيير الظاهري فقال شيخنا العراقي قده يمكن تصويره أصوليا لأنه على ما حرر في محله يكون التخيير على قسمين :

الأول هو الفقهي وهو الّذي يكون بالنظر إلى الواقع كخصال الكفارات ففي المقام حيث يكون التخيير بين الفعل والترك بالنظر إلى الواقع حاصلا (١) لا يتصور

__________________

(١) أقول مضافا إلى انه يكون بعد ثبوت الحكم على الشخص وفي المقام يكون الكلام في تشخيص الحكم.

٣٩٥

الأمر والتعبد به.

والثاني التخيير الأصولي وهو الّذي يكون الأخذ دخيلا في الحجية وبعبارة أخرى بالاخذ يصير حجة مثل التخيير في الخبرين المتعارضين ففي المقام يمكن أن يحكم الشرع بأنه يجب اختيار أحد الطرفين والعمل به إلى الأبد فإذا أخذ بالحرمة يصير حراما إلى الأبد وان أخذ بالوجوب يكون واجبا كذلك والأمارات أيضا كذلك فانه بعد التعارض يرجع إلى التخيير وبالاخذ يصير إحدى الأمارتين المتعارضتين حجة والخراسانيّ وشيخنا النائيني (قدهما) وان قالا بعدم جواز التعبد بالتخيير هنا ولكن لم يذكرا وجهه وبما ذكرنا عن شيخنا العراقي عرفت بأن التخيير هنا أقوى من التخيير في باب الأمارات لأنه إذا كان الأخذ بإحدى الأمارتين اللتين هما حجتان ظنيتان واجبا ففي صورة العلم الإجمالي بحجية أحد أطراف العلم يكون أولى لأن العلم أقدم شأنا من الظن فبالملاك في الأمارتين يقال بان التخيير في المقام أيضا جار.

اللهم إلّا ان يقال ان العمل بالأمارات يكون لحفظ النظام في النوع وعيشة بني آدم ولهذا الملاك قد جعل التخيير في صورة التعارض أيضا لذلك بخلاف المقام فانه لا يكون كذلك فلا يجب الأخذ بأحد الأطراف.

لا يقال التخيير كذلك يكون من شئون الأحكام فان الالتزام به لازم فكذلك الالتزام بما هو من شئونه وهو التخيير.

لأنا نقول مع عدم الدليل على وجوب الالتزام يكون الواجب الالتزام بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الواقع على فرض الوجوب لا الالتزام بخصوصية الأحكام.

هذا كلّه في التخيير الشرعي واما التخيير العقلي فانه أيضا لا يجري لأنه يكون في صورة العلم بالملاك كما في باب التزاحم واما في صورة عدم العلم به بل العلم بملاك أحدهما فقط فلا يكون العقل حاكما بالتخيير وهذا بخلاف إنقاذ أحد الغريقين الذين لا يمكن إنقاذهما نعم على فرض القول بأن الترك أيضا له مصلحة يكون من باب العلم بالمصلحتين ولكن الإشكال في انه لا يكون للعقل حكم تعبدا بالتخيير بل الإنسان اما تارك أو فاعل فطرة.

٣٩٦

فتحصل من جميع ما تقدم ان أصالة التخيير لا تجري في دوران الأمر بين المحذورين.

واما ساير الأصول فقال شيخنا النائيني قده تبعا للشيخ الأنصاري قده انه لا يجري اما أصالة الإباحة فلا تجري لوجوه ثلاثة (كما في الفوائد ص ١٦٢).

الأول ان أصالة الإباحة تكون في الشبهات الموضوعية لا الحكمية فان قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه يكون بالنسبة إلى الموضوع الّذي أحرز حكم بعضه انه الحرمة وحكم بعضه انه الوجوب لا بالنسبة إلى الشبهات الحكمية التي لا يكون فيها حلال وحرام بل يكون حكم الحرمة والحلية مشكوكا من الأول فعلى هذا لا يمكن جريان أصالة الإباحة في دوران الأمر بين المحذورين لأنه يكون من الشبهات الحكمية.

الثاني ان أصالة الإباحة تكون جارية في صورة عدم العلم بمخالفتها للواقع واما صورة العلم بذلك فلا يكاد تجري وفي المقام حيث ان جنس الإلزام معلوم تفصيلا والشك يكون في الخصوصية وانها هل هي الحرمة أو الوجوب لا يمكن القول بالإباحة ظاهرا مع العلم بالتكليف الإلزامي فان هذا الحكم يضاد مع العلم الوجداني.

الوجه الثالث ان هذا الأصل يكون مورد جريانه صورة كون أحد أطراف الشبهة الحل والإباحة مثل ان لا يعلم ان هذا حرام أو مباح أو واجب أو مباح واما في صورة دوران الأمر بين المحذورين التي نعلم بأنه اما واجب أو حرام فلا ولا يقاس المقام بصورة جريان البراءة في كلا صورتي الاحتمال.

فانه إذا شك في وجوب شيء وحرمته يمكن جريان أصالة البراءة عن الوجوب وكذلك عن الحرمة ولا يكفى جريان الأصل في بعض الأطراف من جريانه في ساير الأطراف فان أصالة عدم الوجوب لا يلازمها أصالة عدم الحرمة بل تجب جريانها أيضا للأمن من عقاب الحرمة.

واما أصالة الإباحة في أحد الأطراف فيلازمها أصالة الإباحة في الطرف الآخر أيضا يعنى أصالة الإباحة في الترك تلازم الإباحة في الفعل وبالعكس ففرق بينهما من

٣٩٧

هذه الجهة فان أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي ينافى العلم الإجمالي بخلاف أصالة البراءة في كل طرف وهكذا جريان الاستصحابين العدميين مثل استصحاب عدم الحرمة واستصحاب عدم الوجوب فان المخالفة لا تكون بالمدلول المطابقي والمدلول الالتزامي وان كان مناف لذلك ولكن حيث انه من الآثار العقلية للأصل وقد حرر في محله عدم جريان الأصول بالنسبة إلى الآثار المثبتة فلا إشكال فيه.

نعم جريان الاستصحاب في الطرفين أيضا لا يمكن لأن مفاده حيث يكون الكشف عن الواقع والحكم بان الواقع يكون كذلك ينافى العلم الإجمالي في البين بخلاف البراءتين فان مفادهما الحكم في مرتبة الظاهر لا الواقع هذا كلامه قده (١) وقد أخذ بعضه عن الشيخ الأنصاري قده.

وفيه مواقع من النّظر الأول ان قوله يختص جريان أصالة الإباحة بالشبهات الموضوعية قد تحرر في محله انه ما تعم الشبهات الموضوعية والحكمية وكل شيء فيه حلال وحرام قد مرّ منا ان معناه كل شيء يكون في نوعه الحلال والحرام مثل اللحم الّذي يكون بعض اقسامه محكوما بالحلية مثل لحم الغنم وبعض اقسامه محكوم بالحرمة مثل لحم الخنزير يكون حكم المشتبه منه مثل لحم الأرنب مثلا حلال ولا إشكال في أن يكون الخطاب بلحاظ النوع.

واما قوله من منافاة أصالة الإباحة للعلم الإجمالي فهو أيضا فيه النّظر من جهة ان موطن العلم يكون صقع النّفس وما في الخارج يكون مشكوكا ولا يسرى العلم إلى الخارج فالعلم في صقعه محفوظ وجريان الأصل بالنسبة إلى الخارج لا ينافيه ولا يكون للعلم أثر بالنسبة إلى الخارج لأنه لا يمكنه الإلزام بالفعل أو الترك لكونه من دوران الأمر بين المحذورين والموافقة الالتزامية تكون بالنسبة إلى ما في الواقع

__________________

(١) هذا غير موجود في الفوائد بهذا النحو بل بنحو آخر كما في ص ١٦٢ ـ ١٦٣ في مقام بيان عدم جريان أصالة الإباحة نعم يكون هذا الكلام منه في مقام بيان عدم جريان الاستصحاب في ص ١٦٤ وفي المقام قال وكذلك الاستصحاب بعد بيان جريان البراءة فارجع إليه.

٣٩٨

ونحن نلتزم بالإلزام الّذي يكون في البين مع جريان الأصل أيضا.

واما قوله بالفرق بين الاستصحابين والبراءتين من جريان الثاني دون الأول أيضا فممنوع لأن الاستصحاب وان كان له نحو كشف عن الواقع ولكن يكون مفاد الدليل فرض المشكوك كأنه الواقع لا بنحو انه الواقع وفرق واضح بين انه الواقع وكأنه الواقع فلو جرى الاستصحاب أيضا لا يكون فيه الإشكال لأنه أيضا حكم في مرتبة الظاهر فجريان أصالة الإباحة في دوران الأمر بين المحذورين لا إشكال فيه.

ومن هنا ظهر ان وجوب الالتزام بالاحكام لا ينافيه جريان أصالة الإباحة لأن جريانها في الظاهر لا ينافى الالتزام بالإلزام الّذي يكون في الواقع من الوجوب والحرمة بعنوانه الإجمالي فيعتقد الإلزام في الواقع والإباحة بمعنى تساوى الفعل والترك في الظاهر هذا كله بالنسبة إلى أصالة الإباحة.

واما عدم جريان أصالة البراءة فقيل بأنه وان كان لا مانع من جريانها لعدم المضادة مع العلم الإجمالي لانحفاظ رتبة الظاهر والواقع كما مر في ضمن البيان السابق من انها لا تنافي بمدلولها المطابقي العلم الإجمالي ولكن يكون المنع من جريانها عقليا وشرعيا بشيء آخر وهو ان البراءة الشرعية تكون في مورد يمكن الجعل لأن الرفع فرع الوضع وحيث لا يمكن جعل التكليف ووضعه بالنسبة إلى من هو فاعل في الواقع أو تارك كذلك لا معنى للقول برفع ما لا يعلم من الخصوصية الوجوبية والتحريمية فلا تشمل أدلتها للمقام فلا مانع من جريانها الا لغوية الجعل.

واما البراءة العقلية فلان مدركها قبح العقاب بلا بيان وهو في صورة احتمال العقاب واما في صورة القطع بعدم العقاب كما في المقام لحصول المؤمّن بدون جريان الأصل فلا يكون وجه لجريانها فهي أيضا لا مانع من جريانها الا اللغوية وهكذا الاستصحاب فانه لا موقع لجريانه وان كان من جهة عدم مخالفة مؤداه مع الواقع لأنه يجري في خصوص رفع خصوصية الوجوب والحرمة لا في رفع الواقع واستصحاب عدمه.

ولكن حيث يكون من الأصول التنزيلية للواقع بمعنى انه يكون معناه ابن

٣٩٩

على انه الواقع يضاد مفاده مع الواقع لأن الواقع يكون في ظرفه هو الإلزام ولا يمكن ان يقال لا وجوب ولا حرمة بمقتضى الأصل لأنه إذا لم يكن في الواقع وجوب ولا حرمة ولو بناء لم يكن إلزام أيضا في الواقع فمن هذه الجهة يفارق مع البراءة.

أقول في هذا الكلام الصادر عن شيخنا النائيني قده أيضا نظر كما في السابق اما أولا فلما مر من ان الفرق بين أصالة الإباحة وأصالة البراءة بالقول بمضادة الأولى مع العلم الإجمالي في البين دون الثانية غير وجيه لانحفاظ رتبة الظاهر والواقع فان أصالة الإباحة في الظاهر تكون مثل أصالة البراءة في عدم المنافاة مع الواقع.

وثانيا ان العقاب المحتمل الّذي يكون من جعله البراءة العقلية جارية بالنسبة إليه يكون في المقام متصورا لأن التكليف لا مانع من جعله (١) ذاتا فانه فرق بين التكليف المحال والتكليف بالمحال والمقام من قبيل الثاني لأن الإشكال يكون من ناحية الامتثال لا من ناحية الجعل.

وثالثا لا فرق كما مرّ بين الاستصحاب وأصالة البراءة في الجريان لأن الاستصحاب أيضا يكون البناء على ان المشكوك كالواقع لا انه الواقع والمضادة تكون بين نفى الواقع والواقع لا بين نفى ما فرض انه الواقع والواقع.

ورابعا ان الأصل في أطراف العلم الإجمالي على حسب بعض المسالك جار فانه على فرض كون العلم الإجمالي مقتضيا يجري الأصل في أطرافه.

ثم لا يخفى ان الإشكال المشترك بين جميع الأصول هو لغوية جعله كما في البراءة الشرعية والاستصحاب وأصالة الإباحة وكل ما ذكرناه من الإيراد يكون بالنسبة إلى الإشكال الّذي يكون في خصوص كل أصل فلا تغفل.

__________________

(١) أقول الّذي نتصوره هنا هو ان للشارع أن يجعل حكما تعيينيا في دوران الأمر بين المحذورين كما جعل التخيير في تعارض الروايتين وحيث أمكن جعل التعيين يكون الأمن من العقاب من ناحية هذا النحو من التكليف بقبح العقاب بلا بيان عقلا ورفع ما لا يعلمون شرعا.

٤٠٠