مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

المسلك الثالث

للميرزا النائيني (قده) وحاصل كلامه هو ان العقل مستقل بأن المتجري صدر منه فعل قبيح فخرج به عن رسوم العبودية ويكون طاغيا ولكن لا يكون القبح للفعل بل للفاعل وما هو المناط هو اعتقاد المتجري فان الجاهل لا يعاقب ولو كان الواقع قبيحا فالواقع لا دخل له في الحسن والقبح بل الاعتقاد ومدار الطغيان يكون التصور فحاصل الكلام انه (قده) قال : للفعل حيثيتان حيثية الصدور عن الفاعل وحيثية نفسه فبالأولى قبيح وبالثانية لا قبح فيه.

وبعبارة أخرى ان الفعل له جهتان الإيجادية والوجودية والإصدارية والصدورية فمن جهة الإيجاد والإصدار قبيح ومن جهة الوجود والصدور ليس بقبيح فالفعل صار ذا وجهين فالجهة الفاعلية قبيحة والفعلية حسنة.

ويرد عليه ان الإيجاد والوجود لا ينفكان ولا تفكيك من حيث الإيجاد والوجود وهذا الكلام منه بعيد لأنه من أهل فن الفلسفة هذا أولا وثانيا على فرض عدم الإضافة الإشراقية يكون الانتساب اعتباريا فالفعل الخارجي مع ذلك كله الحيث الاعتباري القبيح فيه وهو عنوان الهتك جاء قبحه من قبل الفعل أو من الإضافة فان كان عنوان الهتك من جهة الإضافة فقبيح ومن قبل الفعل أيضا قبيح والإضافة بين الفعل والفاعل يصيّر الفعل قبيحا فلم ينفك أحدهما عن الآخر.

ولكن التحقيق ان الشيخ والميرزا وقعا في الإشكال من جهة اجتماع الضدين وقد مرّ في المسلك المختار ان الكلام لا يكون في الحسن والقبح ويكون في المصلحة والقبح فرمي الجمرة يكون ذا مصلحة ولا يكون في نظر العقلاء حسنا والمصلحة الكامنة صارت سببا للأمر ولا ربط له بالحسن والقبح العقلائي والتجري والطغيان لا يصيران منشأين للحكم فذات صلاة الجمعة تكون ذات مصلحة لا تسرى إلى الوجدان والوجدان يكون فيه القبح ولا يسرى إلى الخارج فعنوان الهتك لا يسرى إلى الخارج ومصلحة الذات لا تسرى إلى الوجدان.

٤١

نعم الذات التي هي ذات مصلحة تكون قبل الأمر وما يكون قبيحا يكون في رتبة بعد الأمر ولا ربط له بالمصلحة.

كلام الخراسانيّ (قده) في قبح الفاعلي لا الفعلي

ومحصل مرامه في الباب هو ان عنوان الهتك قائم على العزم والإرادة ففي مورد التجري والعصيان يكون على منوال واحد فإذا عزمت على المعصية أو التجري يكون طغيانا وهو قبيح عقلا بدون سراية القبح والمفسدة إلى الخارج في ما كان تجريا فنفس الفعل ان كانت قبيحة تكون ذات مفسدة وإلّا فالعزم لا يولّد المفسدة ولذا قال ان ما هو القبيح يكون هو الطغيان والفعل باق على ما هو عليه ويستدل في الكفاية بأمرين :

الأول : هو ان التجري هو القطع بحرام مع عدم مصادفته لنهي المولى والواقع والمعصية هي القطع بالحرام مع مصادفته لنهيه ولا يمكن أن يكون المصالح والمفاسد النّفس الأمرية سببا لانقلاب الواقعيات عما هي عليها فالواقع ان كان شرب خمر فذا مفسدة وان كان شرب ماء فيكون ذا مصلحة وعنوان الهتك فيهما موجود.

والحاصل انه لا ينكران العناوين الثانوية تكون سببا للقبح تارة ولكن يقول ان مركز القبح يكون هو العزم وليس القطع الا طريقا إلى الواقع.

الثاني : على فرض إيجاد القطع شيئا أيضا فالحسن والقبح يكونان من الأفعال الاختيارية ولو كان عنوان القطع مولدا لا التفات للفاعل به ولا يكون اختياريا للفاعل فلا يصدق الحسن والقبح للفعل الغير الاختياري لكون القطع مغفولا وفانيا في المقطوع فالتجري له قبح فاعلي دون الفعلي فان قلت ان مقطوع الخمرية ان لم يكن الملتفت إليه فالعزم أيضا غير اختياري لخروج الواقع عن اختيارنا لنعزم عليه فنقول ان مبادئ الإرادة بعضها يكون تحت الاختيار فمن التفت إلى المضار والمنافع مكنه المنع من الإرادة وله (قده) كلام آخر لا فائدة في ذكره.

وفي كلامه موارد من النّظر :

٤٢

الأول : انه قال العزم على العصيان يكون في المعصية والتجري كليهما وما صار معضلا للميرزا والشيخ (قدهما) ألجأه إلى هذا القول فنقول العرف الحاكم بعقله هل يحكم ان القبيح هو العزم أم العزم مع الإظهار والحق ان ما يكون هتكا يكون هو الثاني والعزم مع الفعل يكون طغيانا والعزم بلا إظهار لا يكون قبيحا فالفعل يكون قبيحا والانقياد إلى امر يكون ذا مقدمة أيضا يكون كذلك فالشروع في المقدمة يكون شروعا في الانقياد والشروع في العزم يكون شروعا في الفعل القبيح وهذا مطابق للعرف وأيضا نقول ان القطع لا ينقلب عما هو عليه وهذا صحيح ولكن ما هو من العناوين المولدة يكون هو الطغيان والهتك ونحن قلنا ان الهتك يكون في سلسلة المعلولات ولا يكون مولدا للمفسدة فالعنوان يكون مملوا من القبح ولكن لا يسرى إلى الخارج.

والاستدلال الثاني له (قده) وهو فرض المولدية يكون في صورة الالتفات ولا يكون الصدور اختياريا فنقول قد مر ان الفعل صدر عن اختيار وعنوان القطع لو كان غير اختياري لا إشكال فيه مع انه عين الالتفات وهو بما انه ظلم يكون محل الالتفات.

وما قاله من الشبهة في اختيارية العزم أيضا وان بعض المبادي يكون اختياريا فنقول بيانا له في الجواب ان الإنسان يكون فيه الطبيعة فمن رأي الكمثرى يعشقها ويريدها فالرؤية لوازمها تكون غير اختيارية ولكن جعل الشارع فيكم سلطان الاختيار فإذا جاء الشوق بلا اختيار يمنع الغير الاختياري من التأثير فإذا جاء العزم القطعي أيضا يمكنه المنع فنقول ان الوجدان حاكم بأن الاختيار والإرادة يمكن منعه بسلطان الاختيار ولا نقول ان الإرادة تكون بالإرادة حتى يتسلسل وما في ذهنكم ان الإرادة هي ما يكون بعده العمل يكون في صورة عدم سلطان الاختيار.

واما الجواب الثاني في الكفاية من إرجاعه إلى الذاتيات فذره في سنبله. إلى هنا قد تم الجهة الكلامية في التجري.

٤٣

الجهة الثانية في البحث الأصولي

وهو انه هل يكون عنوان التجري بعد اختيار القبح موجبا لتحقق الحرمة وانه كان سببا للمفسدة فكان حراما شرعا أو لم يكن سببا لها فلم يكن كذلك وبتقرير آخر هل عنوان التجري بواسطة تطبيق عنوان الهتك يكون منشأ لحكم تكليفي مستقل أم لا فان قلنا بإيجاد المفسدة في التعلق فيكون قبيحا عقلا وحرام شرعا وإلّا فلا. وجهان عند الاعلام.

والتحقيق ان التجري لا يوجد المفسدة حتى يصير سببا للحرمة لأمور :

الأول : انه لا ينكر ان العناوين الثانوية تارة توافق العنوان الأولى فيؤكده وتارة تكون مخالفة فينقلب الواقع فالخمر بالعنوان الثانوي لأجل المعالجة ينقلب حرمته ومثل السلام على المؤمن وان كان مستحبا بالعنوان الأولى ولكن بالعنوان الثانوي وهو لزوم هتك العالم المجتهد من تركه يصير واجبا فمناط العنوان الأولى آكد بالثانوي إلّا ان عنوان التجري لا يكون مولّد مصلحة ومفسدة في المتعلق والسر فيه ان العنوان الأولى والثانوي تارة يكون من الطبائع الكامنة وأخرى من العوارض فمثل شرب الخمر يكون ذا مفسدة بالعنوان الأولى فإذا انحصر معالجة المريض به يكون فيه المصلحة وهي أيضا كامنة فيه وانه بالأثر الذاتي يكون موجدا لهذه المصلحة ففي هذه الموارد لا نتحاشى عن الانقلاب والتأكيد وتارة يكون العنوان عنوانا عارضيا لا ربط له بواقع الشيء مثل ان القيام في مورد خاص يكون تعظيما والجلوس عند مورد يكون توهينا والتوهين والتعظيم لا يكونان في جرم القيام والقعود وهما من العناوين القصدية فلاحظ العناوين الثانوية التي تكون في الأدوية التي تكون في ذاتها.

والحاصل ان العناوين تارة تكون من العوارض لأمر خارجي وتارة تكون قائمة باعتبار المعتبر فبعد تصديق هذه الضابطة ففي باب التجري والانقياد لا يولّد هذه العناوين شيئا من المصلحة والمفسدة في المتعلق فعنوان مقطوعية الحرمة في

٤٤

الخمر لا يوجب انقلابه عن واقعه والمقطوعية تكون من العوارض في أفق الذهن والقطع لما يحتاج إلى متعلق يتعلق بهذا ولا يكون من قبيل ماء العنب الموجب للنشاط في ذاته وعنوان الجرأة والهتك والظلم يكون في رتبة متأخرة عن الذات فعلى المختار من أن التجري هتك فالهتك لا يكون مولّد مفسدة في ذات الماء المقطوع خمريته والتوهين في الجلوس عند لزوم القيام لعالم لا يؤثر شيئا فيه ولذا ترى عدم خارج لبعض متعلقات القطع مثل ما إذا تعلق بوجود أسد في الدار فظهر خلافه.

فنقول مع القول بأن العناوين الثانوية توجد مصلحة لا في كل حال فلا يصير بعض العناوين موجبا لمفسدة في المتعلق حتى يكون حراما. فالحاصل انه لا يوجد مفسدة فلا يستتبع حكما شرعيا هذا أولا.

وثانيا : لو كان العنوان مولدا لمفسدة فلا يوجب كل عنوان النهي الشرعي لأن النهي يجب أن يكون متعلقه خارجا وملتفتا إليه وعنوان القطع يكون مغفولا عنه والقاطع يرى الواقع ولا يرى قطعه والتجري يجب أن يكون في كل الموارد سببا للحرمة بكل الخطابات بأن يقال أيها القاطع أو المهتك أو الظالم لا تفعل كذا.

وبعبارة واضحة لو سلم إيجاد المفسدة فمن الشائع بينهم ان الخطابات الشرعية تتعلق بما يكون ملتفتا إليه فلا يجب الصوم المغفول عنه مثلا. نعم يمكن الخطاب بعنوان الهتك لأنه لا يكون مغفولا عنه.

قال النائيني (قده) ان القطع يمكن أن يكون متعلق الخطاب ولذا يصير تارة تمام الموضوع وأخرى جزئه وهو حاضر عند القاطع قبل الخطاب فيتوجه إليه فالخمر بعنوان القطع به يمكن النهي عنه فيه ان حضور القطع عند القاطع لا شبهة فيه ففي القطع الجزء الموضوعي يكون عنوان المقطوع مولّد المصلحة فحضوره عند القاطع لا يكفى والقطع الطريقي الجزء الموضوعي مثل ما إذا قيل إذا قطعت بغصبية شيء فهو حرام يكون الحكم على عنوان الغصب لا القطع.

٤٥

وثالثا : لو سلم كون عنوان التجري مولد مفسدة والالتفات إليه ممكن ولكن هذه العناوين المتأخرة عن النهي الشرعي ولا تكون سببا له كما ان الإطاعة والعصيان أيضا بعد رتبة الأمر أو النهي وفي رتبة الامتثال فان النهي عن شرب الخمر يكون قبل شربه فإذا شربه بعده يكون عاصيا وهكذا إتيان الصلاة مثلا بعد الأمر بها فلو لا الأمر لا معنى للإطاعة ولو لا النهي لا معنى للعصيان.

وبعبارة واضحة بعد الاعتقاد بأن ماء الرمان وصيرورته سببا للمفسدة لا يمكن للشرع ان يقول لا تشرب هذا المائع الّذي صار ذا مفسدة لأنه يلزم التسلسل أو اللغوية لأن التجري ان كان أثره إتيان خطاب لا تشرب فانه اما أن يشرب أولا فان عصى فيكون نهى آخر وهكذا وان أطاع ولم يشرب فيكون واجبا.

وبعبارة أوضح لو كان عنوان التجري منشأ للتكليف لا اختصاص بالتجري الأول فكلما عصى النهي يجيء نهى آخر وهكذا يتسلسل.

وبعبارة ثالثة بعد القطع بالخمرية واليقين بالنهي فاما أن يؤثر الأول أولا فان أثر فهو وإلّا فيصير الثاني أيضا لغوا لأن الآمر إذا رأى العصيان لا يمكنه النهي على من لا يسمع نهيه.

فتحصل ان التجري لا يكون قابلا لجعل الحكم عليه ومن هنا ظهر انه لا وجه بعد حسن الإطاعة وقبح التجري لما يقال من انه لا حاجة لنا لتوليد المصلحة والمفسدة فبعض الأحكام يكون على المستقلات العقلية وبالملازمة بين حكم الشرع والعقل يحكم الشرع بها فالعقل يستقل بقبح التجري فتكون الحرمة ثابتة بالملازمة ولا وجه لإتعاب النّفس لإيجاد المفسدة.

ومما قلنا ظهر ان هذا لا يصح اما للتسلسل أو للغوية فان استقل العقل بوجوب إطاعة أمر الصلاة فإذا جاء حكم آخر بإطاعة الأمر ثانيا فالامر الثاني أيضا يكون العقل مستقلا بإطاعته وهكذا فيتسلسل وان لم يكف الأول للبعث لا وجه للأمر ثانيا ولذا قيل لو كان أمر مثل أطيعوا الله في مورد حكم العقل فيكون إرشاديا محضا ولا يمكن ان يكون تعبديا.

٤٦

ثم لا يخفى ان ما ذكر من البحث الأصولي لا اختصاص له بما اخترناه بل يجيء على مسلك الخراسانيّ والميرزا (قدهما) دون الشيخ لأن القبح عندنا فعلى وعندهما فاعلي وعند الشيخ (قده) ليس لنا قبح عقلي أصلا.

الجهة الثانية في البحث الفقهي وهو ان التجري هل يكون حراما أم لا ومما ذكرنا في البحث الأصولي ظهر ان التجري لا يكون قابلا لجعل حكم تكليفي في مورده لأن الملازمة لا تكون قابلة للإثبات لأنه يكون في سلسلة المعلول وعلى فرضها لا تكون قابلة لاستتباع الحكم فلا يبقى مقام للبحث عن الحكم الفقهي.

وينبغي التنبيه على أمور

الأول : لا فرق في التجري بين الحكم المقطوع في الإسلام وبين ما يكون ثابتا بالأصول والأمارات فالمتخلف عن الأصول والأمارات أيضا يصير متجريا سواء كانت الأصول من الأصول المحرزة مثل الاستصحاب أو غيرها مثل البراءة أو الأصول العدمية أو غيرها والسر في جميع ذلك هو ان المناط في التجري يكون الخروج من رسوم العبودية.

وبتقرير آخر ان التجري يتحقق ان قامت أمارة معتبرة على موضوع ذي أثر شرعي مثل شهادة العدلين كما يتحقق بالقطع وان لم يكن مثل القطع لأن الشارع جعل الأمارة حجة ودليل اعتبارها يكون قطعيا لأنه لا يمكن أن يكون ظنيا لأنه يتسلسل وأيضا يكون مثل الأمارة والقطع الأصول المحرزة فمثل الخمر المتيقن الخمرية في السابق يستصحب خمريته ويجب الاجتناب عنه وكذا الأصول الغير المحرزة مثل قاعدة الطهارة عند عدم العلم بالحالة السابقة لأن دليلها يكون قطعيا والسر في الجميع واحد فكما ان مخالفة القطع يوجب الطغيان كذلك الأمارات والأصول تكون طرقا مجعولة ووظائف مقررة للشاك توجب مخالفتها على المولى والأصول تكون حجة عند رجاء الواقع ومع عدمه.

ومع الاحتمال فمخالفة السنة على ثلاثة أنحاء : الأول : إتيان العمل ولو كان

٤٧

الواقع كذلك. والثاني : عدم الاعتناء بالمصادفة وعدمها. والثالث : ان يشرب الخمر مثلا ولو برجاء عدم كون المائع خمرا وهذا أيضا طغيان غاية الأمر يكون أخف محذورا من الصورتين الأوليين وتكون هذه الصورة بعقيدتنا تجريا لأن التجري يصدق على ما قام عليه الحجة في ظرف الشك فبعد عدم الاعتناء بدليل المولى يكون طغيانا.

وبعبارة واضحة : الأمارة مفادها إلقاء الظان احتمال الخلاف وكذلك الأصول فالشارع قال لنا مثلا ألق احتمال الخلاف واجعلها كالقطع.

ثم انه ربما يشكل كما عن النائيني بأن الصورة الثالثة لا تكون تجريا في الأمارات والأصول لأن التجري هو عدم المصادفة مع الواقع فإذا احتمل ان لا يكون خمرا فما شرب الخمر والأمارات تكون حجة من باب الطريقية على ما هو التحقيق فوجهها عامل معاملة اليقين مع الظن ولا مصلحة في اخبار العادل بل المصلحة تكون في الواقع فان كان له واقع فهو وإلّا يكون لغوا.

وبعبارة أخرى ان الله تعالى يوصل الأحكام بطريقين : الأول : الإسماع والخطاب وبعد احتمال عدم الوصول يجعل الأمارة فلهذا يقول المستشكل ان الشارب برجاء عدم الخمرية لا مخالفة له لأن الواقع لا يكون في التجري واما من باب جعل الأمارة حجة فلا إشكال لأن الأمر الواقعي لا يكون ولا تكون الأمارة مصادفة للواقع وفرض انها تكون حجة لكشفها عن الواقع هذا في الأمارات.

اما الأصول المحرزة فهي مثل الأمارات في الحجية وإلقاء احتمال الخلاف ودليل اعتباره يكون أيضا طريقيا فما قلنا في الأمارات نقول هنا أيضا والأضعف منهما الأصول الغير المحرزة وهذا الإشكال يكون منشأ أصل جعل الأمارات والأصول ويكون من باب الشبهة المصداقية للحجة لأن الأمارة والأصل المحرز وغيره إذا شك كذلك فيها فلعلها لا تكون حجة لأن كل مورد تكون الشبهة في المصادفة فتكون الشبهة في الحجية.

والجواب عنه في محله بوجوه : الأول ان الفرق بين احتمال التكليف المنجز

٤٨

وغيره موجود ففي الأول يحكم العقل بالاشتغال وفي الثاني بالبراءة والفرق واضح وما نحن فيه قامت الأمارة على الواقع فان كان واقع في البين يكون الأمارات والأصول بيانا فما هو وظيفة المولى ان صادف الواقع يكون بيانا وبعد المصادفة وتمامية البيان يعاقب العبد عند المحاجة والمؤمن لا يكون هنا لا من جهة العقل ولا الشرع والنكتة في ذلك ان جميع الطرق ان خالف الواقع يكون طغيانا عند عدم الانزجار فمهما لا تكون البراءة الشرعية ولا العقلية يستحق العقاب فلا فرق بين القطع وسائر الطرق نعم ان كانت حجية الأمارات من باب السببية فيحصل التجري بنفس مخالفته.

والحاصل ان الحكم التكليفي الّذي يتجري العبد بالنسبة إليه اما ان يكون من ما ثبت بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال اما الّذي ثبت بالقطع فلا شبهة في صدق التجري بالنسبة إليه إذا لم يصادف الواقع واما الّذي ثبت بالظن فهو أيضا يكون مثل الّذي ثبت بالقطع في إثبات التكليف سواء في ذلك الأصول والأمارات فان مخالفته يكون مخالفة للحكم الشرعي وانه على تقدير المصادفة مع الواقع حجة ولو كان طريقا إلى الواقع.

وقد زعم شيخنا الأستاذ العراقي (قده) في هذا المقام عدم صدق التجري إذا أتى بنية عدم الإصابة إلى الواقع مستدلا بان الأمارات حجة من باب انها طريق إلى الواقع وكذلك الأصول ولو لا الواقع فيكون العمل على طبقها لغوا فإذا لم يصب الواقع واقعا وقد تبين ان ما قامت البينة على انه خمر ما كان بخمر وشربه بنية كونه غيره فلم يفعل قبيحا فلا يصدق التجري على المولى.

وفيه ان الأمارات في كل الموارد يحتمل ان يكون غير مصادفة للواقع وكل مورد يكون من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى الإصابة وعدمها ولكن يكون بيانيتها على فرض الإصابة إلى الواقع تماما فكل مورد قامت الأمارة على حكم أو موضوع لا يجوز مخالفتها فمن خالفها ولو بنية عدم الإصابة إلى الواقع يكون متجريا كمن شرب مقطوع الخمرية بنية عدم الإصابة وهذا القدر لا يكفى في رفع التجري.

٤٩

واما ما لم تقم الأمارة على إثباته ولا يكون مقطوعا بل يكون صرف احتمال الحكم مثل احتمال الحرمة الذاتيّة لصلاة الحائض فهل يكون إتيانه برجاء عدم الحرمة كافيا في عدم كونه تجريا أم لا فيه خلاف : فعن الشيخ العراقي (قده) هنا أيضا عدم صدق التجري لعدم وجود تكليف منجز في البين حتى يكون مخالفته مخالفة المولى والتجري عليه ولكن يمكن ان يقال ان الواقعة ربما يكون من موارد الشبهة التي لا يشمله البراءة (١) النقليّة لانصراف دليله عنه ولا العقلية وهو قبح العقاب بلا بيان من باب الانصراف أيضا كما في الموارد التي يكون الفحص مما يستقر به الشك مثل من كان نائما فشك في دخول الصبح بحيث لو فتح عينيه زال شكه فانه يجب عليه فتح العين لا استصحاب بقاء الليل ومثل من كان في بيته يعمل خمرا فشك في مائع انه خمر أم لا فانه يجب عليه الفحص ولا يكون في حقه البراءة عن كونه خمرا لكونه شبهة بدوية وبالفحص يزول شكه وربما لا يكون المورد مورد الاحتياط أيضا مثل احتمال كون الصلاة لمن اشتبه عليه الأمر ولا يدرى ان الدم حيض أم لا حراما ذاتيا من باب انه يكون كذلك بالنسبة إلى الحائض فانه مع احتمال كون الحرمة ذاتية لا يكون وظيفتها الاحتياط لأنه يكون امره دائرا بين كون الصلاة حراما ذاتيا أو كونه واجبا من باب عدم كونها حائضا ولا يكون لها إجراء البراءة عن الحرمة الذاتيّة للعلم الإجمالي بأنه اما يكون كذلك أو يكون واجبا فعلى هذا اقدامه على العمل بدون الفحص يكون تجريا على المولى لعدم وجود المؤمن لإقدامه على العمل.

ثم انه في الصورتين من الثلاثة وهما صورة كون الحكم مظنونا أو محتملا اما أن يأتي برجاء عدم الإصابة إلى الواقع أو برجاء اصابته أو لا يكون بصدد أحدهما

__________________

(١) أقول لا يمكن ان تكون الواقعة بدون حكم من الأحكام فانه في مورد انصراف الدليل يكون حكمه وجوب الفحص إذا احتمل الحرمة وفي مثل احتمال الحرمة الذاتيّة في الحائض للصلاة إذا كانت المرأة اشتباهها في كون الدم حيضا أو استحاضة فحيث يكون امرها دائرا بين المحذورين فلها التخيير بين الفعل والترك.

٥٠

فالأوّل مثل من يكون من رفقائه وله عرق ديني يشرب الخمر ولكن يرجو عدم كونه خمرا والثاني كمن يكون خمارا ويريد ان يشرب الخمر واقعا لترتب آثاره واما صورة كون الحكم والموضوع مقطوعا بهما فلا يتصور رجاء عدم الإصابة (١) لعدم احتمال ذلك مع الكشف القطعي وعلى أي تقدير يكون التجري صادقا إلّا ان من يأتي برجاء عدم الإصابة يكون أقل محذورا من غيره واقرب إلى المولى.

في ثمرة بحث التجري

ثم ان ثمرة البحث عن التجري تظهر في العبادات ولكن تختلف حسب اختلاف المباني فان كان المبنى مبنى الشيخ الأنصاري (قده) القائل بعدم قبح فعلى ولا فاعلي للعمل بل هو يكون سوء السريرة فقط مع انه قائل بان الانقياد حسن وهو تفصيل بلا وجه فانه لو كان هذا حسنا يكون ذاك قبيحا فلا يضر بالعبادة كما في الصلاة في الدار المغصوبة إذا ظهر انها كان ملكه فالفاعل فاعل قبيح النّفس ولا ربط لسوء السريرة مع حسن الفعل بالعمل فانه يكون في نفسه مباحا.

واما ان كان المبنى ما هو المختار من ان الفعل المتجري به يكون قبيحا والفاعل يكون قبيحا لقبح فعله فلا شبهة في أنه على فرض عدم جواز اجتماع الأمر والنهي كما هو التحقيق لا تصح العبادة لأن قصد القربة لا يتمشى ممن يرى نفسه عاصيا وطاغيا على المولى.

نعم على مسلك القائل بجواز الاجتماع لا ثمرة للقول بقبح التجري وحرمته كما نسب إلى الميرزا القمي (قده) فان صفحة الصلاة غير صفحة الغصب بنظر هذا القائل فالغصب ظهر عدمه والصلاة كانت صحيحة.

واما على مسلك الخراسانيّ (قده) القائل بان الفعل المتجري به لا يكون قبيحا بل هو حسن وانما القبيح هو الفاعل لذلك الفعل ولازم هذا القول أيضا هو القول

__________________

(١) هنا أيضا يمكن ان يحتمل عدم الإصابة من باب احتمال كون علمه جهلا مركبا.

٥١

ببطلان العبادة لأنه يرى نفسه عاصيا والعاصي لا يمكن ان يرى نفسه مطيعا فلو فرض تمشي (١) قصد القربة من المتجري من باب جواز اجتماع الأمر والنهي لا يكون لهذا العمل صلاحية المقربية لأنه يكون بهذا العمل بعيدا عن المولى لا قريبا إليه.

فتحصل ان التجري إذا كان قبيحا فعلا وفاعلا أو فاعلا فقط يمنع عن صحة العبادة المتجري بها.

الأمر الثاني في أقسام القطع

فانه على خمسة (٢) أقسام الطريقي المحض والطريقي الجزء الموضوعي والوصفي الجزء الموضوعي والوصفي التمام الموضوعي والطريقي التمام الموضوعي كما حرر في كتب الأصول فانه إذا لم يكن المصلحة الا في متعلق القطع فلا يكون العناية إليه أصلا واما إذا كان موضوعا أو جزئه فيكون إليه النّظر الاستقلالي كما أن جميع الموضوعات كذلك ولا إشكال في سائر الأقسام تصويرا.

وانما الإشكال عن شيخنا النائيني (قده) في الأخير وهو الطريقي الّذي يكون تمام الموضوع مثل ما يقال إذا قطعت بحرمة شيء يجب عليك التصدق بدرهم ومعناه ان القطع هو تمام المؤثر لكن إذا كان طريقا إلى حرمة الخمر لا ما إذا كان طريقا إلى حرمة الزنا مثلا واشكاله (قده) اما ان يكون من جهة انه لا يمكن اجتماع اللحاظين أي الآلية والاستقلالية ضرورة ان الطريقية لازمها كون القطع مما يرى به

__________________

(١) أقول لو كان هذا هو الحق فيلزم ان يكون على مسلكه مد ظله أيضا كذلك بالأولوية ولا وجه لاستثنائه مسلك القائل بالجواز فانه على الجواز أيضا يلزم ان يقول انه لا صلاحية لكونه مقربا.

(٢) : أقول لم يكن في كلماتهم شرح هذه الأقسام وامتياز بعضها عن بعض في ترتيب الآثار واكتفوا بالتقسيم ولا يكون الفارق في الوضوح بحيث لا يحتاج إلى الشرح والشيخ (قده) مثل لبعض الأقسام إجمالا نعم يظهر من مطاوي البحث بعض ما هو فارق ولكن لا يكفى.

٥٢

الغير والاستقلالية لازمها رؤية القطع نفسها واما ان يكون من جهة ان المصلحة لا يمكن ان يكون في القطع فقط على هذا الفرض فانه يكون لذي الطريق أيضا دخلا ما.

اما ان كان اشكاله من ناحية عدم جمع اللحاظين فمندفع لأن النّفس لا يقهر بعد رؤيتها القطع طريقا حتى لا يكون لها في لحاظ آخر ان تراه موضوعا فان موطن اللحاظين في النّفس متغاير ضرورة.

واما (١) ان كان من جهة المصلحة وانه لا يمكن ان يكون العلم الطريقي هو تمام الدخيل في الحكم وحيث ان متعلق العلم أيضا يكون له نحو دخل لا يمكن تمامية الموضوع فهو أيضا مندفع بأن العلم طريق بالنسبة إلى المعلوم وموضوع بالنسبة إلى الحكم الثاني والمتعلق يكون طرف إضافة فقط مثلا ان العلم بحرمة خمر يكون هو الدخيل في وجوب الصدقة وليس حرمة الخمر الا طرفا للإضافة وهذا الجواب حلّي.

واما الجواب النقضي فهو ان اشكاله (قده) حيث يكون عمدة توجهه إلى اجتماع اللحاظين الآلية والاستقلالية فهو يكون في صورة كون العلم الطريقي جزء الموضوع فانه أيضا لا بد ان يكون بنظر الجزئية للموضوع مستقلا وبالنظر إلى ذي الطريق آليا وحيث لم يشكل في هذا الّذي يكون الإشكال مشترك الورود بالنسبة إليه أيضا يجب ان لا يشكل في صورة كون العلم الطريقي تمام الموضوع.

فتحصل ان تصوير الأقسام بأجمعه لا إشكال فيه نعم أكثر ما في الأدلة الشرعية يكون العلم الطريقي اما المحض أو بنحو جزء الموضوع أو تمام الموضوع واما الوصفي بلحاظ انه صفة بين صفات النّفس فلا يكون منشأ أثر في الشرع أعني في لسان الأدلة.

الأمر الثالث : في قيام الأمارات والأصول مقام القطع

والأقوال هنا أربعة : الأول : قيام الأمارات والأصول مطلقا محرزة أو غيرها

__________________

(١) على ما فرض من المثال من ان القطع بحرمة خمر يكون موضوعا لوجوب التصديق لا القطع بحرمة الزنا مثلا فيكون لحرمة الخمر دخلا ما في الموضوع.

٥٣

مقام القطع سواء كان طريقيا أو موضوعيا والثاني : قيام الأمارات والأصول مطلقا مقام القطع الطريقي فقط لا الوصفي والثالث : قيام الأمارات مقام القطع مطلقا موضوعيا أو طريقيا دون الأصول محرزة كانت أو غيرها والرابع : قيام الأمارات والأصول المحرزة مقام القطع الطريقي دون الأصول الغير المحرزة.

فمثل الاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحة يقوم مقامه دون البراءة والتخيير واختلاف الأقوال كذلك يكون لاختلاف المباني في باب جعل الأمارات والأصول فيجب بيان مقدمات لتوضيح المقام.

الأولى في وجه منجزية الأمارات فنقول هنا مسالك أربعة : الأول : مسلك شيخنا النائيني (قده) وهو ان لسان أدلة حجية الظن مثل الخبر الواحد يكون لتتميم الكشف وجعل الظن منزلة العلم ولكن يكون التنزيل بالنسبة إلى آثار المقطوع كما يميل إليه بعض الميل فإذا قامت الأمارة على حرمة شيء تكون مثل القطع بحرمته لكن بالنسبة إلى آثار الحرام الكذائي لا بالنسبة إلى أنه قطع ليترتب عليه آثار القطع وصيرورته مقام القطع الجزء الموضوعي.

ويرده ان التكوين لا ينقلب عما هو عليه بواسطة الدليل فلا يصير الظن علما بل يكون التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية وهو أعم من كونه للقطع أو للمقطوع.

والثاني : مسلك الأنصاري (قده) وهو تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيكون مرامه ان ما قامت الأمارة عليه يترتب عليه آثاره كما لو كان مقطوعا به لا انه مقطوع به وعليه أيضا وان كان المبنى فاسدا لا يمكن ان تصير الأمارة مقام القطع لأنها لا يكون النّظر إليها من هذه الجهة أصلا.

والثالث : مسلك المحقق الخراسانيّ (قده) وهو ان مفاد الأمارات هو جعل الحجة أو الحجية أو جعل المماثل كما في الاستصحاب وعليه أيضا لا يكون النّظر إلى القطع بل يكون حجة فقط لترتيب آثار الواقع فلا يمكن ان يصير مقام جزء الموضوع أو تمام الموضوع من القطع ولكن المبنى فاسد.

والرابع : وهو التحقيق هو ان لسان أدلة الأمارات هو إلقاء احتمال الخلاف

٥٤

وترتيب الآثار مطلقا أعم من آثار القطع أو المقطوع به وعليه يمكن ان يجعل مقام القطع والفارق بين مسلكنا ومسلك شيخنا النائيني هو انه (قده) ينزل الظن منزلة العلم ولكن بلحاظ أثر المقطوع ونحن ننزله منزلة القطع بالنسبة إلى أثره وأثر المقطوع فلا يخفى عليك.

المقدمة الثانية : في وجه منجزية الأصول المحرزة وفيها أيضا يكون المسالك مختلفة. فمسلك الشيخ الأنصاري (قده) هو ان مفاد لا تنقض اليقين في الاستصحاب هو تنزيل المشكوك منزلة المتيقن في ترتيب آثاره لا تنزيل الشك منزلة اليقين فكل أثر يترتب على المتيقن يترتب على المشكوك واما آثار اليقين فلا يترتب عليه واما على مسلك المحقق الخراسانيّ (قده) يكون مفاد الدليل جعل المماثل أي يكون في مورد الاستصحاب حكم مماثل للواقع فكما ان القاطع بوجوب عمل يجب عليه الإتيان بذاك العمل كذلك يكون عليه حكم الوجوب مثل صورة القطع في صورة الشك أيضا واما على التحقيق من ان مفاد الدليل تنزيل الشك منزلة اليقين فيترتب عليه آثار اليقين والمتيقن كليهما ويختلف قيام الأصل كذلك منزلة القطع كما سيأتي وهكذا كل أصل محرز مثل قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة.

المقدمة الثالثة : في وجه الأصول الغير المحرزة في المنجزية فاما الأصول المثبتة منها بمعنى ما يثبت التكليف مثل قاعدة الطهارة وقاعدة الحلية فلا يكون لها جهة كشف أصلا ولا يكون النّظر إليها من هذه الجهة وانها وظيفة قررت للشاك واما غير المثبتة منها أي النافية للتكليف مثل أصالة البراءة فلا يكون إطلاق الحكم على مفادها صحيحا وبقول سيدنا الأستاذ الأصفهاني (قده) لا يكون للفقيه الفتوى عليها لأنه يكون جاهلا ودليل التقليد يكون من باب رجوع الجاهل إلى العالم لا الجاهل إلى الجاهل.

ولكن يمكن ان يقال ان الفقيه له ان يقول بأن الوظيفة في مورد البراءة هو دالا الحكم واما الاحتياط وان كان طريقا إلى الواقع أي إلى تحصيله ولكن لا يكون نفسه كاشفا عنه بل بعد الإتيان بأطراف المحتمل يحصل العلم بحصول الواقع

٥٥

ولا يطلق عليه الكاشفية عن الواقع بلحاظ أثر شرعي حتى يبحث عن انه هل يقوم مقام القطع أم لا ومعناه هو عدم جعل احتياط شرعي بل في موارد العلم الإجمالي يكون الحاكم به العقل وفي الشبهات البدوية لا يكون مجعولا.

وكذلك أصالة التخيير فانه في الخبرين المتعارضين سواء نقول بأن التخيير يكون في الواقع والأخذ بإحدى الروايات أو يكون التخيير بمعنى ان للمجتهد أن يختار إحداها ويحكم على مقتضاها تعيينا فلا يكون له جهة كشف أيضا حتى يبحث عن قيامه مقام القطع (١).

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول تارة نبحث عن قيام الأمارات والأصول مقام القطع الطريقي المحض وأخرى عن قيامها مقام ساير أقسام القطع فيكون البحث هنا عن جهات :

الأولى في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض فنقول قد مر المسالك في باب وجه منجزية الأمارات فان كان المسلك مسلك الشيخ الأنصاري (قده) وهو تنزيل مؤداه منزلة الواقع فلا تقوم مقام القطع لأن معنى تنزيل المؤدى هو ترتيب آثار ما ادى إليه الأمارة وحيث ان حجية القطع ذاتية تكوينية والتنزيل يحتاج إلى أثر شرعي لا يمكن (٢) تنزيل الأمارة منزلته لأن القطع بنفسه نور ولا يمكن ان

__________________

(١) أقول : هذا بيان إجمالي لا يكون المراد منه محرزا ولكن ما يأتي في النّظر هو انه ليس التخيير الا الأخذ بإحدى الحجج والطرق إلى الواقع ولا يكون له شأن سواه فيكون الأخذ في الواقع بالأمارة لا بالأصل ولكن هذا قانون للأخذ ٠ بما هو حجة من الأمارات عند التعارض.

(٢) : أقول التنزيل اما ان يكون في موضوع ذي حكم أو في ما يكون مفاده نفس الحكم فإذا كان القطع بوجوب صلاة الجمعة يمكن تنزيل الظن أو الشك منزلته بالنسبة إلى ما هو حكم شرعي وهو الوجوب فلا يكون الإشكال فيه من هذه الجهة.

على ان الشيخ والآخوند (قدهما) ظاهر كلامهما ترتيب آثار المتيقن أو جعل الحجية لا اليقين ولا محالة يرجع كلامهما إلى امر عامل معاملة اليقين الّذي يكون ـ

٥٦

يقال ان الظن أيضا نور إلّا على وجه انقلاب الواقع عما هو عليه وهو محال ولا أثر شرعي له فان التنزيل في قوله الطواف في البيت كالصلاة يكون صحيحا حيث ان أثره هو الحكم بشرطية الطهارة له كما ان الصلاة شرطها الشرعي هو الطهارة ولا أثر شرعي للقطع حتى ينزل الظن منزلته.

وهكذا على مسلك الخراسانيّ (قده) حيث ان حجية القطع ذاتية له ولا يكون معنى جعل الحجية للظن هو تنزيله منزلة القطع لأن التنزيل يجب ان يكون بلحاظ أثر شرعي وهنا لا أثر شرعي للقطع حتى ينزل الظن منزلته واما على ما هو المختار من تتميم الكشف فيمكن التنزيل بان يقال يرجع التنزيل كذلك إلى امر عامل معاملة اليقين لترتيب الآثار أي كما كان أثر القطع الجري العملي على طبقه كذلك يكون التعبد من الشارع بأمر عامل معاملة اليقين فان كان مراد العلمين قدهما من تنزيل المؤدى وجعل الحجية هذا المعنى فلا نزاع معهما ولكن لا يكون موافقا لكلماتهما فتقوم الأمارة مقام القطع في ترتيب هذا الأثر.

واما قيام الأصول المحرزة مقام القطع فهو أيضا يختلف حسب اختلاف المباني في باب الاستصحاب فان كان المبنى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن كما هو مسلك الأنصاري (قده) وبعض من تبعه فقيامه مقام القطع لا يصح لأن معنى هذا هو ترتيب آثار المتيقن على المشكوك لا ترتيب آثار اليقين حتى يقوم مقامه.

وكذلك إذا كان المسلك مسلك الخراسانيّ (قده) القائل بجعل المماثل في الباب فان جعل المماثل مضافا إلى فساده في ذاته حيث انه لو كان كذلك ما كان له ظهور خلاف لأن الحكم الّذي يكون مماثلا للواقع حكم آخر وكان مجعولا في هذا الظرف واقعا لا يصح البناء عليه أيضا لأن جعل المماثل معناه عدم النّظر إلى

__________________

ـ رأى الأستاذ مد ظله.

على انه لو كان الإشكال ما ذكر فيرد عليه أيضا حيث يقول بصحة تنزيل الشك منزلة اليقين مع ان رأيه في الأمارات هو ان الحجية تكون من الآثار العقلية بالنسبة إلى اليقين فهذا الإشكال مشترك الورود والجواب ما ذكرناه.

٥٧

طريقية الاستصحاب وكشفه عن الواقع بل ترتيب الآثار فقط فلا يقوم مقام القطع لأنه يكون في صورة كون الجعل بالنسبة إليه.

واما على ما هو التحقيق من ان الاستصحاب يكون مفاده هو جعل الشك وتنزيله منزلة اليقين فلا شبهة في قيامه مقام القطع الطريقي المحض كما هو مفروض البحث فان قوله لا تنقض اليقين بالشك يكون النّظر إليه وصرف النّظر إلى المتيقن يحتاج إلى مئونة زائدة هذا حال الأصول المحرزة.

واما الأصول الغير المحرزة فمنها قاعدة الطهارة وقاعدة الحلية كما قيل فانه على ما قيل لا يمكن قيامها مقام القطع حيث لا كاشفية لها ولكن التحقيق عدم صحة قولهم بالنسبة إلى كونها من الأصول الغير المحرزة فان القاعدتين تكونان من الأصول المحرزة.

والشاهد على ما ذكرنا هو انهم يحكمون ببطلان صلاة من توضأ بما جرى فيه قاعدة الطهارة ثم ظهر نجاسته فلو لم يكن النّظر إلى الواقع كيف لا يحكمون بصحة الصلاة فان لازمه الاجزاء وكذا في المال إذا ظهر انه مال الغير بعد جريان قاعدة الحلية فيه.

فما هو حقيق بأن يقال ان الشارع يكون في مقام إيصال الواقع إلينا وترتيب آثاره ولكن حيث يرى انه لا يصل إلينا بعض المطالب بدس الدساسين يجعل لنا طرقا يوصلنا إلى الواقع غالبا فإذا ظهر خلافها يكون المدار عليه لا على الطريق فهما أيضا من الأصول المحرزة ويقوم مقام القطع.

واما الاحتياط فهو وان كان مما ينحفظ به الواقع ولكن حيث يكون في موارد العلم الإجمالي فيكون وجوبه بحكم العقل لا بحكم الشرع ولا يصح التنزيل فيه واما في الشبهات البدوية فلا يجب الاحتياط أصلا واما الاحتياط الشرعي فلا يكون لنا أصلا وكل ما ورد من الاخبار فيه يكون إرشادا إلى حكم العقل وكل ما كان كذلك لا يكون الأمر به مولويا وموجبا لحكم شرعي فالبحث لا يجيء فيه من باب قيامه مقام القطع هذا كله في قيام الأصول والأمارات مقام القطع الطريقي المحض

٥٨

والحق من جميع ما ذكرناه هو قيامهما مقام القطع سوى مثل أصل البراءة والاحتياط (١).

واما قيام الأمارات والأصول مقام القطع الجزء الموضوعي أو تمامه سواء كان طريقيا أو وصفيا فيكون البحث عنه في مقامات أيضا.

المقام الأول : في قيام الأمارات والأصول مقام القطع الجزء الموضوعي أو تمام الموضوعي بنحو الصفتية والحق عدم قيامها مقامه لأن المراد بقيامها مقامه لا يكون إلّا ما يكون عند العقلاء من البناء على رؤيتهم غير القطع مقامه في ترتيب أثر الواقع من حيث كونه طريقا لا من جهة انه يكون صفة من صفات النّفس فانه يكون بنائهم على إقامة غير العلم مقامه في الطريقية وإلّا فأي فائدة في القطع من حيث انه صفة من صفات النّفس مثل الخوف والجبن فانه لا يكون لهم النّظر إليه أصلا من هذه الجهة ولا يخفى عليكم ان القطع كذلك وان مثل له الشيخ الأنصاري (قده) بأمثلة ولكن لا يكون لنا في الشرع أثر منه واما أمثلته قده ففي الركعتين الأوليتين قال بأن القطع على نحو الصفتية شرط لا على نحو الطريقية.

ولكن عند التحقيق ليس هذا القطع الا ما هو الطريق إلى الواقع بنحو الجزء الموضوعي ولذا ورد في الرواية بالنسبة إليهما قوله عليه‌السلام إلّا ان يثبتهما أو يحرزهما فجعل الإحراز في مقابل الإثبات يكون معناه ان النّظر يكون إلى الطريقية وما هو المحرز إلى كونه من صفات النّفس فانه يكون كدخل الحجر والشجر بالنسبة إلى الموضوع.

واما مثاله بان الشهادة أيضا يكون المدار فيها على القطع الوصفي بحيث انه لو لم يكن تلك الصفة في النّفس بالمشاهدة العيانية لا يمكن الشهادة.

ففيه ان الإجماع قام على انه يمكن الشهادة بالمال بصرف كون اليد دليلا عليه مع ان اليد لا تكون مما يوجب العلم في النّفس والعجب منه قده مع انه يقول

__________________

(١) : ولم يذكر حال أصالة التخيير وقدم منا انه لا يكون له طريقية بل هي قانون مجعول من الشرع للأخذ ٠ بإحدى الحجج فيكون مفادها هو الأخذ بالأمارة وهي تقوم مقام القطع.

٥٩

بصحة الشهادة على هذا الفرض أيضا يقول في المقام بأنه يكون الصفة من صفات مع انه يكون من الطرق إلى الواقع كما في ساير الموارد.

والحاصل مع انه لم يرد في الشرع هذا النحو من القطع لا يكون بناء العقلاء على قيام شيء مقامه فما هو طريق إلى الواقع فان ما يلاحظ فيه الطريقية بنظرهم لا يلاحظ قيامه مقام ما لا يكون النّظر إلى طريقيته أصلا ومن هنا ظهر انه لا يقوم الأصول مطلقا مقامه بالأولوية.

لا يقال إنكم مع اعترافكم بقيام الأمارات مقام القطع الطريقي الجزء الموضوعي أو تمام الموضوعي كيف لا تقولون به في المقام فانه لو كان النّظر إلى نفس القطع مما لا يكون عليه بناء العقلاء في الوصفي كذلك في المقام يجب ان يقال بعدم قيام الأمارات مقام القطع الذي هو طريق ولكن مع كونه طريقا يكون إليه النّظر الاستقلالي لأنا نقول ان القطع هنا بلحاظ طريقيته إلى الواقع يكون حجة من الحجج ويوجب انكشاف الواقع وصيرورته بهذا النّظر من مقومات الموضوع لحكم آخر ومن شئون الحجة والعقلاء كما انهم يأخذون بالحجة يأخذون بما هو من شئون الحجة من باب التوسعة في الحجج.

اما المقام الثاني

ففي قيام الأمارات والأصول مقام القطع الطريقي

سواء كان جزء الموضوع أو تمام الموضوع والحق هو قيام الأمارات مقام هذا القسم من القطع والسر فيه على المختار هو ان هذه المسألة مسألة عقلائية وهم بعد عدم وصولهم إلى الواقعيات بواسطة القطع يعملون بالظن أيضا من باب انه لو كان المدار في جميع الأمور عليه لضاع امر معاش بنى آدم فمن باب التوسعة في الحجج يحكمون بذلك والقطع إذا كان طريقيا يكون بالنسبة إلى آثار نفسه أيضا ذا أثر ويترتب عليه ما يكون العقلاء بصدده فإذا كان جزء الموضوع أيضا يرون ان الظن يقوم مقامه.

٦٠