مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة على اعدائهم اجميعن.

تذكرة في شأن الكتاب

واما بعد فيقول العبد المحتاج الى عفو ربه الغفور محمد على الاسماعيل پور الشهرضائي القمي ان المباحث الاصولية مما لابد منها للفقيه الذي يريد استنباط الاحكام الشرعية من الادلة الفرعية ولا يستغنى عنه ولابد من البحث فيها بحيث يستقر المبنى ليستقيم البناء عليه وهذا لا يحصل الا بجد واجتهاد مع التوفيق بحول الله وقوته مع التوسل الى ذيل عناية الائمة المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين ومع حسن القريحة وانى قد نقّحت المباحث وحررّته في هذا الكتاب.

ولم اكن منفرداً في التفكر بل بعد البحث مع اخواني في عموم المطالب والحضورعند شيخنا مدظله في خصوصها في مجلس خصوصي للبحث عن المعضلات بعد الحضور عنده في درسه ومع ضم مباحث الدورة الاولى الى مباحث الدورة الثانية في بعض الموارد.

هذا كله مع عدم اكتفائي بالترتيب الذي قد اورده مد ظله في الدرس بل ربما كان التنقيح والتأليف محتاجاً الى حذف المكرر وتقديم المؤخر مع مراعاة الايجاز

٣

والاختصار فان مقام التدريس والتدرس غيرمقام التأليف بوجه.

ثم انه حيث ان المراد هو ان يكون هذا الكتاب في ظل الكتب المعمولة الدارجة في هذا العصر من الكتب الدرسية كفرائد الشيخ الاعظم (قد) وكفاية المحقق الخراساني (قد) ومن التقارير والحواشي المعروفة الدقيقة كتقريرات بحث العلامة النائيني والمتفكر العميق العراقي (قدهما) وحاشية المحقق الخراساني (قده) على الفرائد وغير ذلك.

فقد اشرت الى موضع البحث فيها في التذييلات في مورد كان ترتيب البحث على خلاف ترتيب تلك الكتب وان كان اساس البحث ايضاً على كلمات هؤلاء الاعلام قدس الله اسرارهم وشكرالله مساعيهم.

فصار بحمد الله تعالى وبعونه كتابا اعتمد عليه في مباحثي وغير خال عن الفائدة لامثالي وأرجوا من الأعلام العفو والاغماض في مورد طغى القلم او زال القدم على ما هو كالطبيعة الثانية للانسان غير المعصوم او من بتلو تلوه وان لا ينسوني من خير دعائهم لئلا اكون في هذا الطريق من الخاسرين ومطرودا عن نظر الائمة المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين سيما صاحب العصر والزمان الامام المهدي روحي لتراب مقدمة الفداء وعليه السلام واهدى اليه (ع) هذه البضاعة المزجاة رجاء لقبولة (ع) والسلام على اخواني المحصلين وعلى الاعلام من الاساتيد والمحققين ورحمة بركاته.

آبان ١٣٦٠ ـ محرم الحرام ١٣٠٢

المؤلف

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين الّذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا معلم البشر محمد وآله الطاهرين من الآن إلى قيام يوم الدين.

اما بعد فهذا هو المجلد الثالث من كتاب مجمع الأفكار من تقريرات بحث شيخنا العلامة الفهامة آية الله العظمى الحاج ميرزا هاشم الآملي أطال الله بقاء وجوده الشريف مدارا للعلم ولأهل التحقيق والتدقيق بيد العبد محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي القمي عفي عنه مع تذييلات من المقرر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

الكلام في مقدمات القطع

اعلم ان المكلف الملتفت إلى حكم شرعي اما ان يحصل له القطع أو الظن أو الشك ويبحث في هذا المقام بعون الله تعالى في ثلاث مقاصد وخاتمة :

المقصد الأول : في القطع والثاني في الظن والثالث في الشك والخاتمة في التعادل والتراجيح وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم مقدمات.

المقدمة الأولى : ان التقسيم إلى الثلاثة يكون باعتبار أحكام يترتب عليها

٥

وهذه الأحكام هل تختص بالمجتهدين أو تعمهم والمقلدين خلاف بين الاعلام وبعبارة واضحة ان الأحكام على قسمين الفرعية : مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها والطرقية : أعني ما يستكشف منه حكم في موارد الظن والشك مثل حجية الخبر الواحد بتصديق العادل لإثبات وجوب صلاة الجمعة مثلا أو لا تنقض اليقين بالشك في الاستصحاب خطابا إلى المكلفين أو رفع ما لا يعلمون للبراءة أو ما في الحديث للتخيير من قوله عليه‌السلام اذن فتخير أو قوله أخوك دينك فاحتط لدينك للاشتغال.

والأول حكم فرعي واقعي والثاني سنخه يكون غير سنخ الأول فانها طريق للإيصال إلى الواقع في مورد الشك والظن.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لا إشكال في شمول الحكم لكل عاقل بالغ من المكلفين إذا كان من قبيل الأحكام الفرعية الواقعية وهذا مما لا شبهة فيه انما الإشكال في الأحكام في ان الطريقية منها هل تختص بالمجتهد أو الأعم منه ومن المقلد وسمى الأول بالواقعي لأن نفس الصلاة مثلا تكون ذات مصلحة فأرادها المولى بخلاف القسم الثاني فان الحكم بتصديق العادل والاستصحاب والبراءة وغيرها لا يكون من حيث ان نفس هذه الأمور تكون ذات مصلحة بل لكونها مرآتا إلى الواقع وطريقا إليه والمولى يشتاق إلى إحراز المصلحة الواقعية فيجعل الطريق إليه عند عدم إمكان العلم به وينحفظ به مصلحة الواقع ولهذا فان أصاب فهو وإلّا فيقع فاسدا فتارة تكون المصلحة بحيث لا يرضى تركها بنحو من الأنحاء فيجعل الاحتياط في مورده وتارة لا يكون بهذه المثابة فالبراءة مجعولة مثلا وفي هذا القسم الطريقي المتنازع في شموله للمقلدين والمجتهدين أو المجتهدين فقط قولان :

الأول ما قال الشيخ الحائري قده في أول كتابه المسمى بالدرر وهو انه يختص بالمجتهدين لوجهين الأول هو ان في موضوع الخطاب لهذه الأحكام أخذ الشك والظن وهما يحتاجان إلى التفات تفصيلي والعوام لا يكون لهم ذلك.

والثاني ان جريان الأصول يحتاج إلى مقدمة وهو الفحص عن المعارض في المتعارضين من الأدلة وملاحظة الأقوى والأضعف ثم بعد ذلك الإسقاط إذا لم يبلغ

٦

أحدهما إلى حد الترجيح والرجوع إلى الأصول لأن الأصل أصيل حيث لا دليل ولما لم يكن للعوام الفحص فلا يكون الخطاب متوجها إليهم مثل لا تنقض اليقين بالشك أو رفع ما لا يعلمون أو أخوك دينك فاحتط لدينك وهذه تتوجه إلى من فحص ولم يجد دليلا.

نعم نتيجة الاستصحاب وغيره تفيد العامي كمن شك في عدالة زيد العادل من قبل فيرجع إلى مجتهده ويفهم ان حكمه استصحاب ما ثبت سابقا.

ويجاب عن هذا الدليل كما عن العراقي بان نفس الخطاب عام ويكون مثل يجب الصلاة واما عدم إمكان تفحص الغافل فنفرض غير المجتهد كالطلاب البالغين إلى رتبة التفحص والعوام الصرف يكون المجتهد نائبا من قبلهم في التفحص كما يجتهد لهم في مسائل الخمس والزكاة ولو كان ممن كان فقيرا لا يحتاج إلى إثبات الحكم في حق نفسه وأيضا الشك للعوام ممكن كما انه يفهم حكم من الأحكام في مورد ثم يشك لتبدل بعض حالات المورد فيسأل عن حكمه بعده.

والحاصل : ان التكليف عام وكل الناس فيه شركاء ومن ثمرات كون المجتهد نائبا عن العوام ولا يكون مخصوصا بالحكم هو الرجوع إلى الأعلم في الكبرى والصغرى فرب مجتهد هو أعلم في تنقيح القواعد ورب طلبة هو أعلم في التطبيق فإذا علم شخص طريقة التطبيق لا يجوز له تقليد المجتهد في ذلك المورد بخلاف صورة كون الخطاب مختصا به فإن شئونه أيضا فيهم من قبله لا من قبل المقلد : لا يقال ان روايات رفع القلم عن الصبي يعلم منها ان الخطابات لا تكون لجميع البشر : لأنا نقول ان المميزين لا شبهة في شمول الخطاب لهم والمجتهد نائب عن المقلد في استنباط الحكم فانه ينزل نفسه لعلوه منزلة نفس جميع المقلدين وبعد التنزيل فكأن المخاطب يكون هو المقلد وأدلة رجوع الجاهل إلى العالم التي تكون سند التقليد يكون مقتضاها هذا النحو من النيابة ولو سلم اختصاص الخطابات الطرقية بالمجتهد فلا شبهة ان الجري العملي يكون في المقلدين فان أحكام الحيض من الاستصحاب وغيره لا يكون له ثمرة للمجتهد الّذي لا يكون من النساء فإذا قيل

٧

لا تنقض اليقين لا يكون معناه الاعتقاد بذلك ولا ثمرة له بل يكون معناه الجري العملي وهو في بعض الأحكام مختص بالمقلد وفي بعضها يشترك مع المجتهد ولهذا قال بعض الظرفاء في المقام ان المجتهد يكون دخيلا في الحكم عنوانا والمقلد عملا وهذا كلام خفي معناه علينا.

فتحصل ان الأحكام تشمل المجتهد والمقلد سواء كانت طريقية أو فرعية والمجتهد نائب عن المقلد في كل ما لا يفهمه والثمرة (١) ما ذكرناه.

__________________

(١) : أقول لا فرق بين الأحكام الطرقية والفرعية في عدم قدرة المكلف على استنباطه كما أشار إليه مد ظله وعلى فرض شمول الحكم والخطاب للمقلد أيضا ترتب الثمرة من كون نظر المقلد دخيلا في التطبيق محل النّظر لأن الفقهاء من البدو إلى الختم لم يبينوا الأحكام لمقلديهم كذلك مع كون الخطاب لجميع المكلفين.

وما ذكر من ان المقلد ربما يكون له نظر في تطبيق الكبرى على الصغرى مثل ما مثل بأنه ربما يفهم ان الاستصحاب يكون تنزيل الشك منزلة اليقين في مقابل من يقول بأنه يكون تنزيل المشكوك منزلة المتيقن فلا وجه له بالنسبة إلى المقلد الغير المتجزي في الاجتهاد وان استدل على ذلك فهو مجتهد متجزّي والبحث في غير المجتهد لأن الاجتهاد ليس إلّا فهم الكبريات وتطبيقها على صغرياتها سواء كان الكبرى فقهية أو أصولية ولا نقول ان المجتهد نائب عن المقلد حتى نحتاج إلى تنزيل بدني أو نفسي منه لمقلده ليكون التكليف متوجها إليه.

بل نقول كما ان الله تعالى جعل وسائط لا لإيصال التكليف إلى المكلفين مثل إرسال الرسل أو إنزال الكتب كذلك جعل المفسرين لتكاليف حتى يفهم المقلد ما هو تكليفه فكما ان الأئمة عليهم‌السلام ليسوا نائبين عنا ويفسرون القرآن فكذلك المجتهدون اللذين هم مقامهم يفسرون كلامهم للعوام ولذا يكون الاجتهاد من الواجبات الكفائية وانه لا يكون نيابة بالمعنى الاصطلاحي عن المقلدين فالتكليف متوجه إلى جميع الناس ولكن يجب إفهامهم إياه ومن الوسائل لإفهامهم وجود المجتهد كما ان من الوسائل للوصول إليه إرسال الرسل والأوصياء وهذا المعنى أوفق بالذهن والخارج أيضا كذلك.

٨

المقدمة الثانية

في طريق جعل الأحكام وكيفيتها والأقوال الواردة فيها فنقول ان الأقوال والمسالك هنا أربعة : الأول : ان يكون في موارد الأصول والأمارات أحكام ظاهرية مجعولة والثاني : ان لا يكون حكم ظاهري أصلا بل الأحكام كلها واقعية ومفاد الأصول والأمارات هو انحفاظ الواقع كما هو التحقيق والثالث : ان يكون الأحكام الظاهرية في موارد الأصول مجعولة في طول الواقعية وهو مذهب الخراسانيّ (قده) دون الأمارات والرابع : عكس الثالث وهو ان تكون في مورد الأمارات مجعولة دون الأصول.

ثم ان عرفت ذلك فقد ورد في تثليث الشيخ الأقسام إلى القطع والظن والشك إشكالات : الأول : هو ان المراد بالحكم ان كان الواقعي منه لا خصيصة للقطع لأنه على مسلكه (قده) لنا أحكام ظاهرية ولا يمكن ان يكون مراده القطع فقط وان كان أعم من الظاهري والواقعي فلا وجه للتثليث لأن الأمارات والأصول إذا كان في موردها حكم ظاهري ففي جميع الموارد يحصل القطع بالحكم الكذائي ولا ظن ولا شك وان كان المسلك مسلك من قال في الأمارات بالحكم الظاهري في موردها فيصير قسمين القطع والشك لأن الظن داخل تحت القطع وان كان المسلك مسلك من قال بالحكم الظاهري في الأصول فأيضا يصير قسمين لأن الشك داخل في القطع فيبقى قسمان القطع والظن :

والحاصل على أي تقدير يصير الحكم الظاهري داخلا في الحكم الواقعي ولا وجه للتثليث :

والتحقيق. ان انقسامه إلى الثلاثة صحيح على ما ذهب إليه من انه لا حكم ظاهري لنا أصلا بل كلها واقعية ولا أثر في الاخبار من هذا المقال وعلى هذا فتقسيم الشيخ في غاية المتانة لأن المكلف بحسب الوجدان يحصل له هذه الأقسام والعدول عنه على جميع التقادير يصير بلا وجه وغير تام لأن النّفس لا محالة يحصل له

٩

القطع أو الظن أو الشك ولو صارت بعد التأمل قاطعة بالحكم ولكن في الموارد التي لنا أصول عقلية مثل الانسداد على الحكومة والأصول العقلية الغير المجعولة شرعا لا تكون حكما واقعيا ولا حكم واقعي في مورده ولا ظاهري بل مجرد حكم العقل قاض هنا ومعنى الانسداد على الحكومة هو كون العقل حاكما بالعمل بالظن واما على الكشف فمعناه استكشاف حكم الشرع ظاهرا فمفاده من الأحكام الظاهرية على هذا الفرض لا العقلية : وما قال الخراسانيّ لا يصح لا على مسلك القدماء ولا الشيخ.

الثاني : هو ان جرم هذا التقسيم يكون هادما للشركة لأن الظن إذا كان غير معتبر يكون من أقسام الشك والشك إذا صار معتبرا عند الشارع يصير من أقسام الظن مثل موارد الظن القياسي في الأول وقاعدة الفراغ في الثاني فالواجب في التعبير ان يقال ان المكلف الملتفت إلى حكم شرعي اما ان يحصل له القطع أولا وعلى الثاني اما ان يكون له طريق معتبر أو لا كالأصول العقلية للشاك فلا تثليث وهذا ما أورده المحقق الخراسانيّ (قده) عليه.

وفيه انه لا وجه لإشكاله (قده) لأن مراد الشيخ (ره) لا يكون بيان الحجج من حيث هي حجة بقوله اما ان يحصل له القطع أو الظن أو الشك حتى يشكل عليه وانما مراده ان يبين ان للحجة أحوالات مختلفة فبعضها لا يقبل الجعل لا نفيا ولا ثباتا مثل القطع وبعضها يقبل مثل الظن وبعضها لا جعل في مورده وهو الشك.

وما مر من ان غير القاطع اما ان يحصل له طريق معتبر أو لا : يكون نتيجة فهم الحجة ونحن كنا بصدد فهم نفس الحجة والاعتبار وعدمه يكون بعد حصول الصفات النفسانيّة والتفحص في طلب الحكم (١).

__________________

(١) وأضف إليه ان الخراسانيّ قده على فرضه أيضا يمكن ان لا يكون التقسيم ثنائيا بل يكون من الدوران بين الوجود والعدم لأن المكلف اما ان يحصل له القطع بالوظيفة ولو من باب الأصول الشرعية والعقلية أو لا يحصل فالمتين هو رأى الشيخ قده على حسب اقسامه وأغراضه المترتبة عليها.

١٠

والثالث : وهو إشكال دقيق يجب دقة النّظر فيه وهو ان ما قيل من ان المكلف الملتفت إلى الحكم إلخ. ما المراد من الحكم فيه فان كان المراد الحكم الفعلي فلا يمكن لأنه محال فالشاك في الحكم الفعلي لا يمكن ان يكون موضوعا لحكم فعلى لأن إحراز الموضوع قبل الحكم لازم والشاك في حال شكه لا يغفل ان يكون موضوعا للحكم الفعلي والفعلية تكون في رتبة متأخرة فلا يمكن أخذها في الموضوع وبعبارة واضحة الفعلية تأتى من قبل الجعل ووظيفة الأمارات والأصول هي صيرورة الواقع فعليا فإذا نظرت بدليل اعتبار الشك أو الظن يحصل لك حكم فعلى بجميع الجهات وان كان المراد الحكم الشأني فبعد العلم به والكشف عنه لا يحصل لنا تكليف فالعالم بوجوب الصلاة مثلا شأنيا لا يجب عليه الصلاة فلا فائدة لإثباته.

ثم هنا شبهة أخرى عويصة وهي ان المولى ان كان مراده بالاحكام الأحكام الواقعية مثل وجوب الصلاة فلأي وجه جعل الأمارة حتى يفوت الواقع.

وحل الإشكال هو ان المصلحة تارة تقتضي ان يجعل الواقع وان يبين بعده ما يكون بمنزلة الأسطوانة له لئلا يفوت على أي نحو كان فيجعل الاحتياط في مورده لشدة علاقته بالواقع مثل الفروج والدماء : وتارة تكون المصلحة في التقنين بما إذا لم يبلغ به أيادي الفاسدة ولم يمنع من إيصاله إلى الناس فهو وإلّا فيجعل الأمارة ولا مصلحة أكثر من ذلك ولو كان الاحتياط حسن في كل حال وهذا يقال له الفعلية من قبل الأمر ولا يكون فعليا حتى في ظرف الشك.

فإذا عرفت ذلك فيظهر لك الجواب عن الإشكال الثالث وهو ان يقال ان المراد بالحكم هو الفعلي لكن الفعلي من قبل الأمر وبالقطع يصبر فعليا من جميع الجهات للعبد وكذا دليل الأمارة والأصل كالقطع يتم الفعلية فلها رتبتان رتبة من قبل الأمر ورتبة من قبل المأمور والقول بان متعلق الشك يكون شأنيا لا وجه له أصلا كما مر الأعلى مسلك من قال بان العلم يكون متمما للفعلية والتنجيز فكلام الشيخ صحيح لأن المتعلق هو الحكم الفعلي والإنشاء لا فائدة تحته.

١١

المقدمة الثالثة

قد مر تنويع الأبواب والمقاصد إلى ثلاثة والثالث منها هو المقصد الذي يكون في الشك وهنا تقسيم آخر عقلي في مجاري الشك فان الشاك في الحكم الواقعي لا يخرج عن أربعة أحوال بحصر عقلي لأن الجاعل للوظيفة اما ان يلاحظ الحالة السابقة كما هو التحقيق في جعله ولا فرق في الشاك في الحكم مثل من شك في وجوب صلاة الجمعة بعد ما كان واجبا لاحتماله إقامتها في أقل من فرسخ أو موضوع ذي حكم مثل من شك في الوضوء الكائن قبل الشك ويقال للحكم الملاحظ فيه الحالة السابقة الاستصحاب ولا يخفى انه يعتبر فيه شيئان الحالة السابقة ولحاظها في مقام الجعل بقوله لا تنقض اليقين بالشك واما لا يعلم الحالة السابقة ولا يعلم جنس التكليف أيضا فيصير ذا شبهة بدوية مثل الشك في نجاسة عرق الجنب من الحرام ومع عدم علم إجمالي في البين فيكون مجرى البراءة بقوله رفع ما لا يعلمون وقبح العقاب بلا بيان وغيرهما.

واما لا يعلم الحالة السابقة ولكن يعلم جنس التكليف إجمالا ففي هذه الصورة اما ان يمكن الاحتياط أو لا مثل العلم بنجاسة أحد الإناءين اما الأحمر أو الأبيض فيكون مجرى الاحتياط لإمكانه واما ان لا يمكن الاحتياط مع العلم بجنس التكليف مثل الشك في حرمة صلاة الجمعة ووجوبها فيدور الأمر بين المحذورين فيكون مورد التخيير ويكون موضوعا لأصله وأطوار وجود الشاك لا يكون خارجا مما ذكر وقد أورد هنا أيضا إشكالات وهي ان هذه التعاريف يتداخل بعضها في بعض فالأوّل مثل مجرى الاستصحاب كان موضوعه العلم بالحالة السابقة ففي الشك في المقتضى مثل ما إذا كان الحيوان موجودا في الدار ولا يدرى انه فيل حتى يبقى أو بق حتى لا يكون بعد ثلاثة أيام باقيا يجري البراءة مع وجود الحالة السابقة.

والجواب عن هذا واضح لأنا اعتبرنا في موضوع الاستصحاب امرين الأول الحالة السابقة والثاني لحاظها وهنا وان كانت الحالة السابقة موجودة ولكن لا تلاحظ

١٢

فلا يجري الاستصحاب لذلك وعبارات الشيخ مختلفة ففي بعضها ذكر الحالة السابقة وفي بعضها لم يذكر.

الثاني. قلتم ان من موارد الاحتياط ما إذا كان علم إجمالي ويمكن الاحتياط ففي ما إذا وجد أمارة لتعيين أحد طرفي علم الإجمالي كيف تحكمون بعدم الاحتياط وجوابه أيضا واضح لأن الأمارة ترفع موضوع الأصل والأصل أصل حيث لا دليل الثالث : وهو ان أحد الأصول هو أصالة التخيير التي كانت في الصورة الرابعة من الحصر ومرجعها إلى البراءة لأن المخير اما ان يفعل واما ان لا يفعل فلا حكم له فهو مثل من يجري البراءة والعلم الإجمالي يسقط عن درجة الاعتبار وقبح العقاب بلا بيان يجري في كلا طرفيه مثل من شك في حرمة صلاة الجمعة فان قبح العقاب بلا بيان جار في الطرفين.

والجواب عنه ان البراءة العقلية في هذه الصورة غير معقولة لأن البيان في الرتبة المتقدمة موجود والعلم الإجمالي في المورد لما كان ترجيح أحد طرفيه بلا مرجح وان الاحتياط غير ممكن فالعقل يحكم بالتخيير والحاصل ان العقل يسقط العلم الإجمالي عن درجة الاعتبار ويكون بيانا.

ثم اعلم ان الأقوال قد اختلف في انه هل يكون للعقل حكم وراء الدرك أم لا فان الشيخ والخراسانيّ (قدهما) على الأول وهو التحقيق وجماعة من الفلاسفة وبعض الأصوليين تبعا لهم على الثاني وحاصل البيان للأول هو ان العقل في المرتبة الأولى يتصور الحكم أي امر المولى ويتصور ثانيا مملوية المصلحة في الإتيان فيحكم بوجوبه وكذا إذا كان الحكم نهيا مولويا يتصور كذلك فيحكم بالزجر عنه ثم في مقام الامتثال اما ان يمتثل أو لا كما ان الموالي أيضا يفعلون كذلك أي يتصورون المصلحة التامة أو المفسدة التامة في العمل ثم يأمرون أو ينهون والمكلف في مقام العمل اما ان يتمثل أو لا ولذا نقول الحكم بوجوب إطاعة المولى لا يكون إلّا من العقل فإن المولى ان امر أو نهى لا دليل على وجوب متابعته الا حكم العقل وما ورد من قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول : ليس إلّا إرشاديا محضا ولو فرضنا

١٣

وجوبه من قبل الأمر المولوي يصير دورا لأن وجوب الإطاعة متوقف على الأمر فلو كان نفس هذا الأمر سببا لوجوبه يلزم تقدم الشيء على علته فلا شبهة في ان العقل يكون له حكم وانه رسول باطني كما ان الشرع عقل من الخارج واما القائلون (١) بأنه ليس للعقل حكم فيقولون بأنه ليس شأن العقل الا الدرك ولا يكون له امر ولا نهى فليس لنا أحكام عقلية.

المقدمة الرابعة

في ان البحث عن القطع هل هو بحث أصولي أو كلامي مع الإذعان بان البحث عن غيره يكون أصوليا وينتج البحث عنه أحكاما كبروية تنطبق على الصغريات في الفقه وحيث ان القطع لا يكون وسطا في إثبات الحكم للأصغر حتى يكون نتيجة ترتيب المقدمات ولا يطلق عليه الحجة اصطلاحا لأنها هي ما يوجب القطع وهو نفسه طريق وكشف للواقع أشكل في المقام من حيث كونه بحثا أصوليا.

ولكن التحقيق كونه بحثا أصوليا لأن البحث الأصولي هو الّذي ينتج في الفقه ويكون نتيجته كبرى للصغريات والبحث عن شئون القطع ينتج في الفقه من

__________________

(١) : أقول كما اعترف الأستاذ مد ظله انهم قائلون بأن العقل يدرك المصطلحة والمفسدة أي لزوم الإتيان وعدمه ولكن بظني ان هذا نزاع لفظي لأن معنى درك لزوم الإتيان ودرك ان التارك مذموم يكفى في ان لا يكون للمكلف عذر في مقابل العقل.

فان شئت سمه حكم العقل وقل انه حاكم لأن معنى الحكم في العقل المنفصل وهو الشرع هو جعل المكلف بحيث لا يكون له عذر عند نفسه ولو فرض ان الشرع ألقى ما في نفسه من المصلحة الملزمة ودركه للزوم الإتيان بدون الأبزار المعمولة من الأمر والنهي المعمول لكان هذا الشخص معاقبا لتركه المأمور به أو المنهي عنه ولكن ليس هذا هو المعمول فحكم العقل هو دركه لزوم الإتيان ودركه كذلك هو حكمه فيصير النزاع في تسمية هذا الواقع حكما أو دركا كما انه مد ظله في الدورة السابقة مال إلى هذا المعنى.

١٤

حيث انه لا تناله يد الجعل إثباتا ونفيا إذا كان طريقيا أو جزء الموضوع وغيره فإذا كان لشيء دخلا ما في الفقه يكفى لكون البحث عنه أصوليا ولو كان الإشكال فيه عدم صيرورته وسطا في الإثبات بأن يقال هذا مقطوع الحرمة وكل مقطوع الحرمة فهو حرام فهذا حرام في صورة كونه طريقيا فيجيء في الظن أيضا فانه لا يقال هذا مظنون الحرمة وكل مظنون الحرمة حرام فهذا حرام حيث كان الحكم على الواقع فانه ما وقع الظن وسطا في الإثبات في القطع الطريقي فأمر البحث في كونه بحثا أصوليا سهل لإمكان الاستنتاج منه في الفقه بأدنى مناسبة.

إذا عرفت تلك المقدمات فلنشرع في المقصود بعون الله تعالى.

المقصد الاول في القطع

أو أربعة فكلما تحقق القطع بحكم تكليفي ينشأ هذه الجهات : الأولى في ان القطع يكشف عن الواقع أو لا : وهذه الكاشفية اما أن تكون نفسه أو من لوازمه وعلى تقدير كونه نورا يكشف به الواقع فان أصاب فهو وإلّا فيقال له الكشف الزعمي فان من قطع بأن في الدار أسدا فان كان الأسد واقعا في الدار فهو وإلّا يكون هذا القطع بزعمه قطعا ولا واقع له والكاشفية تكون من آثاره الذاتيّة التكوينية ولوازمه أيضا تكوينية.

وثانيا بعد القطع وانكشاف الواقع بالوجدان يوجد شيء وهو حكم العقل بأن من علم بأن الصلاة مثلا تكون واجبة بأن الإطاعة حسنة والمخالفة قبيحة.

وثالثا ان المؤاخذة من قبل المولى حسن على من ترك المأمور به ولم ينته عن المنهي عنه لعدم حصول غرضه فبعد درك العقل ذلك أو حكمه بقبح المخالفة وحسن الموافقة والمؤاخذة فمن الآمر يوجد شيء آخر وهو ان من رتب المقدمات العقلية بعد القطع ينقدح الداعي في نفسه وجرى على نحو مطلوب المولى لأن كل عاقل إذا علم ان التكليف موجود ويعلم الثواب والعقاب يعمل ما هو المأمور به مثل من كان عطشان ويعلم الهلاكة بترك شرب الماء الموجود فانه يشرب الماء قهرا

١٥

لحفظ نفسه والمرتبة الثانية يقال لها باب التحسين والتقبيح.

فالحاصل ، قد علمت ان من لوازم القطع الانكشاف وحكم العقل بالثواب والعقاب والجري العملي القهري لمن حصل له ذلك والأول ذاتي القطع والثاني حكم العقل والثالث قهري وهذا الترتيب لازم ولو على مذهب الأشعري المنكر للحسن والقبح العقلي فان دفع الضرر يكون فطري الحيوانات فضلا عن الإنسان العاقل.

وبعبارة واضحة لا شبهة ولا ريب انه إذا قطعنا بحكم من الأحكام أو موضوع من الموضوعات يكون الانكشاف ضروريا حتى في الأمور المعمولة العرفية بنحو لا يرى القطع أصلا ولا يتوجه إليه وحكم العقل أيضا من أثر القطع ومركزه هو التحسين والتقبيح فإذا تحقق المرتبتان يكون بعدهما جرى عملي وانقداح الداعي عمل فطري لا حكم العقل.

ثم ان هذه الآثار لا تنالها يد الجعل تكوينا إثباتا ونفيا لأن الجعل التكويني يكون بجعل الماهية فانه ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها كما قال الشيخ الرئيس فإذا جعل المشمشة ينجعل المشمشية ولا يمكن جعل الشيء ثم جعل لوازمه والجعل التركيبي بين الشيء وذاتياته لغو فالناطقية جعلها وجودها والآثار في القطع كذلك فإذا وجد القطع يوجد لوازمه من حكم العقل والجري العملي الذي هو لازم اللازم وأثر الأثر فهو أثر أو لازم أيضا ولكن مع واسطة حكم العقل.

وهذا يكون مراد من كان أهلا لفن الفلسفة من استحالة جعل اللوازم ولا تناله يد الجعل تشريعا فانه وان كان من مسلك الشارع تشريع بعض الأحكام وجعله مثل الزوجية والملكية وغيرهما بالصيغة المخصوصة أو جعل الأمارات والأصول طريقا للواقع إلّا انه يكون لفقد الأصول والأمارات الكاشفية وما يكون بنفسه كاشفا لا معنى لجعل الكاشفية له مثل القطع وكلما لا تناله يد الجعل تكوينا لا تناله تشريعا.

والحاصل انه إذا تحقق القطع في الخارج يتحقق ثلاث آثار انكشاف الواقع وحكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية ودركه وانقداح الداعي بعد الحكم ولا يقبل

١٦

ردع الشارع بنحو من الأنحاء لأن النهي عن المنجزية وعن ما يكون ذاته النور محال اما المرتبة الأولى : وهي الانكشاف فلا تقبل المنع لأن مقتضاه وذاتيه الكشف فان مثله مثل من له العين ولا يكون له مانع عن الرؤية من الظلمة وعدم إرادة النّظر (١) وعدم الحائل بينه وبين المرئي فانه يرى لا محالة ويستحيل ان يقال أيها الناظر لا تر لأن الرؤية لا محالة يترتب عليه.

ومثل الماء فان من ذاتياته البرودة ولا يمكن نفى البرودة عنه لأن عدمها يكون عند عدمه وإلّا فما دام الماء موجودا فيلازم مع البرودة والقطع أيضا كذلك فما دام كونه موجودا لا يمكن رفع الكاشفية عنه نعم يمكن التشكيك في مقدماته ليصير القطع معدوما وبالنتيجة يرتفع اثره بارتفاعه أو بجعله ناسيا.

ثم للقطع بعد الكاشفية أثران وهو حسن المؤاخذة من جهة المولى عند المخالفة وحسن الموافقة وقبح المعصية من طرف العبد فالعقل إذا أدرك ذلك يحكم لا محالة بحسن العقاب والثواب ولا يمكن ردع الشارع إيانا عن هذا الأثر أيضا بقوله ان الموافقة قبيحة والعصيان حسن والفطرة تقضى بذلك وعلته هي ان العلماء قالوا ان العقل يكون منجزا وعباراتهم هنا مختلفة فبعضهم يعبر بالمنجزية وبعضهم بدرك العقل الحسن والقبح أو بحكمه بهما ولكن عباراتهم شتى والمعنى واحد فان مرجع الجميع إلى حسن الموافقة وقبح المؤاخذة ولا معنى لقول الشارع اجتنب عن الخمر إذا قال بعده ان المعصية لا منع منها فان معنى الردع هو الترخيص في الفعل وعلة الترخيص هي ان حكم العقل منجز وليس له حالة منتظرة وبعد المنجزية فالترخيص في الفعل لا يكون من دأب الشارع وبعبارة واضحة : الحكم العقلي على قسمين الأول ان يكون معلقا على امر من الأمور مثل العلم الإجمالي عند من يراه مقتضيا لا علة تامة لكشف الواقع فانه

__________________

(١) أقول هذا إشارة إلى ما هو التحقيق في باب الرؤية من انها تحصل بتوجه النّفس ولا يكفى عدم المانع ومقابلة المرئي كما نرى عدم حصول الرؤية بمجرد حصول سائر الشرائط وهو صدر الآراء الّذي هو رأى الملا صدرا الشيرازي قده.

١٧

حكم عقلي معلق على عدم ترخيص الشارع على خلاف ما يقتضيه نعم المخالفة القطعية قبيحة فان من يعلم نجاسة أحد الإناءين قطعا لا يمكن الترخيص في ارتكابها واما ترخيص أحد طرفي العلم الإجمالي لا منع منه لأن المقتضى لعدم ارتكابه كان هو عدم البيان والترخيص بيان.

الثاني ان لا يكون معلقا على امر بل يكون منجزا من الأول بدون حالة منتظرة مثل العلم التفصيلي بحرمة شرب الخمر وهذا القسم لا يمكن الترخيص فيه لأن حكم العقل بحسن المؤاخذة وقبح المخالفة وحسن الإطاعة لا ينوط بشيء ولا يكون معلقا على شيء.

فتحصل ان الحكم العقلي التنجيزي لا يقبل الردع : وبعبارة أخرى ان حكم العقل لا يمكن الردع عنه لأنه بعد امر المولى وحكم العقل بوجوب الإطاعة يكون المنع عن المتابعة ترخيصا في المعصية وهو قبيح حتى من الأشعري القائل بعدم الحسن والقبح في صورة كون العقل له حكم تنجيزي واما إذا كان تعليقيا فلا إشكال في الردع عنه لأنه من الأول كان منوطا بعدم البيان والردع بيان : هذا على مسلك التحقيق من ان للعقل حكما وهكذا على مسلك القائلين بأنه ليس للعقل الا الدرك فان درك لزوم المتابعة وقبح تركها يلازم عدم إمكان المنع عنه في التنجيزي دون التعليقي.

وقد يستدل لبطلان الترخيص بتقرير آخر وهو ان الردع عن القطع يستلزم اما اجتماع الضدين أو النقيضين أو التسلسل بيان ذلك هو انه لو علم ان الخمر حرام يفهم ان الشارع زجر عنه والترخيص في الموضوع الكذائي يستلزم ان يكون هنا حكمان متضادان في موضوع واحد والضدان امران وجوديان لا يجتمعان فان معنى الردع هو الترخيص في المعصية فيصير شرب الخمر مثلا مباحا وحراما وهو كما ترى.

والثاني وهو التناقض فيكون في حكم العقل لأن حسن موافقة المولى لا يجتمع مع حسن مخالفته وعصيانه فان الاجتناب عن الخمر إذا صار حراما يحكم العقل بحسن

١٨

الانزجار والمؤاخذة على الارتكاب والترخيص يقتضى انقلاب حكم العقل في آن واحد فان ما حكم به العقل اما ان يكون حسنا أو قبيحا وليس بينهما شيء.

والحاصل لا يمكن ان يكون للعقل في آن واحد حكمان منجزان.

واما ما ذهب إليه بعض الاعلام من ان الموضوع للحكمين متعدد لأن موضوع اجتنب يكون هو الخمر وموضوع الترخيص يكون هو مقطوع الخمرية.

فيكون القطع فيه جزء الموضوع فلا يستلزم اجتماع النقيضين فإذا صار القطع جزء الموضوع فلا إشكال والاعلام بعباراتهم المختلفة يريدون معنى واحد نعم ان كان حكم العقل غير منجز مثل الظن القياسي أو يكون من الأول معلقا فيجوز الترخيص من الشارع مثل من قال لولده أعط إجارة المنزل إذا بلغ رأس الشهر إن لم أرسل إليك كتابا اذكر فيه المنع عنه والترخيص في تركه فكان الأمر في ذلك من الأول معلقا على عدم الترخيص وحكم العقل يكون هو الاجتناب ان لم يكن الترخيص من المولى.

واما بيان التسلسل فهو انه إذا قطعنا بان الخمر حرام قطعا شخصيا فينتج وجوب العمل فان لم يكن الوجوب ثابتا وقطع بان هذا القطع مردوع عنه فننقل الكلام في القطع بالردع فنحتمل ان يكون هو أيضا مردوعا عنه فننقل الكلام إلى ما يئول إليه هذا القطع أيضا فيتسلسل وهو كما ترى فإذا قطعنا بان الخمر مثلا حرام ثم قطعنا بالردع عن هذا القطع فالقطع بالردع أيضا يكون فردا من القطع فيحتمل ان لا يكون حجة.

ثم انه ينقض الأثر الثاني من القطع بالظن القياسي وهو الحكم لا محالة بعد القطع بحسن الموافقة وقبح المخالفة. بيان ذلك انه إذا تم دليل الانسداد على الحكومة التي تكون من الأحكام العقلية بخلاف كونه كاشفا فانه يكون من الأدلة الظاهرية الشرعية على الحكم من عدم العلم وعسر الاحتياط وغيرهما وكان هنا ظن حاصل من القياس مثل قياس ماء الشعير قبل النش بالنبيذ فنتيجة الانسداد هنا هي اتباع هذا الظن القياسي وهذا يكون حكما مستقلا من العقل والشرع منع عن اتباع هذا الظن

١٩

فحكم العقل يمكن ردع الشارع عنه كما رأيت ولا فرق بين القطع والظن في ذلك بنظر المستشكل والناقض.

وبعبارة أخرى القطع مشترك مع الظن في انه المنجز ان أصاب الواقع والمعذر ان لم يصبه والظن في باب الانسداد على الحكومة حيث يكون مما يستفاد من حكم العقل حجيته لا يمكن الردع عنه فكيف لا يكون الظن الحاصل من القياس حجة وردع الشارع عنه.

والجواب ان حكم العقل بوجود متابعة القطع تنجيزي ولا يمكن ان يردع عنه الشارع ما دام القطع موجودا إلّا ان يصيّر القاطع مشكوكا وكلام المقنن يمكن ان يكون سببا لأخذ أصل القطع من القاطع وإلّا فلا يمكن التشكيك في منجزية قطعه ، هذا في القطع :

اما الظن فلا يكون انكشافه عن الواقع واستقلال العقل بالحسن والقبح بموافقته ومخالفته تنجيزيا بل يكون معلقا ومنوطا بان لا يكون من الشارع حكم على خلافه والظن لا يغنى من الحق شيئا واما علة جعله حجة فلان باب العلم منسد ولا طريق إلى العلمي أيضا فإذا ردع الشارع عن القياس علمنا بان هذا الظن غير منجز والعمل على طبقه باطل فنحكم بجواز شرب ماء الشعير قبل النش مثلا.

والحاصل ان القطع لا تناله يد الجعل إثباتا ونفيا تشريعا وتكوينا نعم يمكن النفي تكوينا بجعل القاطع غير قاطع ولا فرق فيما ذكرنا بين قولنا بان للعقل حكما وقول من يقول ليس شأن العقل الا الدرك لأن الواقع إذا كان مستورا ويكون الظن طريقا ناقصا إليه يمكن ان يجعل الحكم على خلافه مثل ان يقال مظنون الحرمة بالظن القياسي حلال وهذا بخلاف القطع فانه لا يمكن ان يقال ان مقطوع الحرمة حلال وإلّا يلزم الترخيص في المعصية.

واما المرحلة الثالثة : وهي انقداح الداعي بعد حكم العقل بالحسن والقبح فلا يكون مقام التفوه للإشكال عليه لأنه يقتضى نقض الغرض وهذا فطري لكل أحد حتى الحيوانات لأن من علم ان هذا سم وان السم قاتل ويحب حياته لا يمكن

٢٠