مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

أن يقال بأن الإطلاق كاشف عن الواقع فانه إذا فرض إطلاق العلة وشمولها للشبهات البدوية فلا بد ان يكون كاشفا عن جعل الاحتياط في موردها لئلا يصير الإطلاق لغوا فيكشف عن الإطلاق في مقام الإثبات ان الثبوت مطابق له بالكشف الإنّي.

وبعبارة أخرى للإشكال ان التهلكة تكون موضوع الحكم بالوقوف في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي فصدقها متوقف على الحكم مطلقا بالوقوف حتى في الشبهات البدوية وإطلاق الحكم متوقف على صدقها وهذا دور لأن الحكم لا يكون مقوما لموضوعه فانه بعد الفراغ عنه.

والجواب عنه انا بالإطلاق نكشف (١) عن صدق التهلكة في الواقع وان الشبهات البدوية في موردها العقاب فدلالة الروايات على الاحتياط تامة ويجب العلاج عند المعارضة مع اخبار البراءة.

الطائفة الثانية من الاخبار

ما ورد في خصوص وجوب الاحتياط مثل ما نقل (١) في الرسائل عن أمالي المفيد الثاني ولد الشيخ قده بسند كالصحيح عن مولانا الرضا عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين لكميل بن زياد أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت وفي حديث عنوان البصري عن

__________________

(١) وأقول لو كان التقريب هو التقريب الأول من دوران الأمر بين الإثبات والثبوت وأن الإثبات كاشف عن الثبوت يكون الجواب واردا عليه كما انه في كل مقام يكون هذا اشكاله يكون هذا جوابه واما الإشكال بالتقريب الثاني كما هو في تقريرات العراقي قده وهو أليق بشأنه أيضا فلا نفهم الجواب عنه لأن الحكم لا يمكنه إثبات موضوعه ويكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ضرورة أن الموضوع يجب ان يكون قبل الحكم ليمكن القول بسريان الحكم إلى أنحائه فإذا لم يكن الموضوع لا يكون وجه للسريان ففي المقام التهلكة في الشبهات البدوية غير مسلم حتى يكون التوقف عندها لأنها تهلكة فهذا الإشكال وارد على هذه الروايات.

(٢) في الوسائل ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤١.

٣٢١

خط الشهيد قده في حديث طويل (١) يقول فيه سل العلماء ما جهلت وإياك ان تسألهم تعنتا وتجربة وإياك ان تعمل برأيك شيئا وخذ الاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك عتبة للناس.

وهذه الروايات غير معللة بشيء ولا يكون في موضوعها أخذ الهلكة حتى يجيء فيه الدور الّذي مرّ جوابه.

والأمر بالاحتياط لا يخلو اما أن يكون نفسيا بأن يكون في نفس الاحتياط مع قطع النّظر عن الواقع مصلحة توجب الحكم بوجوبه أو يكون غيريا مولويا أو إرشادا إلى حفظ الواقع أو طريقا مجعولا لحفظ الواقع كالأمارات.

لا سبيل إلى الأول لأن الظاهر في كل مورد يكون الاحتياط معنونا يكون لحفظ الواقع به ولا مصلحة في نفسه فانه أي مصلحة في الجمع بين المحتملات واما كونه غيريا مولويا مثل الأمر بالمقدمة أيضا فلا يصح لأنه لا يكون له مقدمة بالنسبة إلى الواقع أي لا يكون فعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة مقدمة لوجود الواجب في الواقع أو الحرام بل يكون مقدمة لإحرازه كما في موارد العلم الإجمالي فان الاحتياط يكون لحفظ الواقع بعد وجوده في البين.

واما الثالث وهو كونه إرشادا لما حكم به العقل وهو يحتاج إلى إحراز المرشد إليه قبل هذا فيكون مختصا بموارد العلم الإجمالي وهذا أيضا خلاف الظاهر لأن الشارع في مقام التشريع يجب ان يبيّن الحكم الشرعي لا ما يكون العقل حاكما به.

فيتعين القول بالوجوب الطريقي فكأن الشارع في مقام حفظ الواقع قال مثلا صلّ ثم انه قد يصل هذا الأمر إلى العبد بالوجدان وقد لا يصل فيقول صدّق العادل إذا لم يكن قادرا للعلم الوجداني لأنه طريق غالبي لحفظ الواقع ثم إذا لم يصل بهذا النحو أيضا يقول فاحتط ليتحفظ الواقع على أي حال فيكون الاحتياط واجبا في كل مورد شبهة ولو كانت بدوية.

__________________

(١) في الباب المتقدم ح ٥٤.

٣٢٢

والإشكال بما مرّ من أن الاحتياط لا يكون إلّا الجمع بين المحتملات ولا يكون له طريقية إلى الواقع كما عن الشيخ قده قد مرّ جوابه وان لم يتعرض له هنا وقلنا ان الحق انه يكون محرزا للواقع كما ان الطريقية في الاحتياط اللازم في الفروج والدماء تكون متصورة فدلالة هذه الاخبار على العمل بالاحتياط تامة أيضا ولا بد من ملاحظة المعارضة بين اخبار البراءة وترجيحها ببيان يأتي.

وفي المقام إشكالات أخر ومنها انه يمكن حمل الروايات على الاستحباب للقرائن عليه في بعضها وحملها على التقية لوجود القرائن لها في البعض الآخر وهو مندفع لأن كلها ليس كذلك فنحن مبتلى بالجمع بين الطائفتين تبعا للخراساني قده بين الروايات الدالة على الاحتياط والدالة على البراءة والشيخ ومن تبعه في غنى عن ذلك لعدم تمامية دلالتها عنده أصلا.

واما الإشكال في كل واحد منها فنتعرض له فاما رواية أخوك دينك إلخ فقالوا بأنها تكون في مقام بيان ان التقوي والورع يقتضى ذلك لا انه واجب فان ملاحظة الأخوة بالنسبة إلى الدين أيضا لازم لأن الأخلاق الديني يقتضى ذلك والشاهد عليه التعليق على المشية في الذيل فان الواجب لا يكون معلقا على المشية أصلا واما قوله واهرب من الفتيا هربك من الأسد يكون في مقام بيان ان الإفتاء يجب التحرز عنه الا في الموارد اللازمة التي يكون الوظيفة على ذلك والفتوى بالاحتياط أيضا يكون داخلا تحت هذه الكبرى فانه ممنوع أيضا فلا ربط لهذه الرواية بالاحتياط بل في وجوب الكف عن الفتوى ما أمكن.

ثم انه قد أشكل في روايات وجوب الاحتياط بإشكال آخر وهو أن الاحتياطي يقول بأن اللازم هو الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية واما الشبهات الموضوعية والشبهات الوجوبية الحكمية فلا يكون ذلك فيه لازم كما اعترف به الاخباري فيلزم من هذا تخصيص الأكثر في عمومات فاحتط واختصاصها بموارد قليلة وهو كما حرّر في محله مستهجن فالحمل على الاستحباب أولى من الحمل على اللزوم لأن الاحتياط

٣٢٣

في جميع الشبهات الحكمية وجوبية أو تحريمية وفي الموضوعية مستحب باتفاق الكل فلا يجب الاحتياط في مورد من الموارد.

والجواب عنه ان الخروج العنواني لا يكون فيه إشكال تخصيص الأكثر فإذا كان لنا عام وقد خرج منه عنوان الشبهات الوجوبية الحكمية والموضوعية لا يصدق تخصيص الأكثر المستهجن لأن بقاء ساير الافراد تحت الحكم يكفي لعدم الاستهجان هذا أولا.

وثانيا أن الشبهات الوجوبية المقرونة بالعلم الإجمالي وهي كثيرة يكون الاحتياط فيها لازما وكذلك موارد الفروج والدماء والأموال من الشبهات الموضوعية والبدوية قبل الفحص فبواسطة خروج العنوان مع عدم الخروج عن حكم الاحتياط في موارد كثيرة منه الاستهجان ولا يكون من تخصيص الأكثر.

وثالثا ان قال القائل بأن الأمر بالاحتياط إرشاد إلى ما حكم به العقل فنقول له مع انه خلاف الظاهر لأن الأوامر الصادرة عن الشارع ينعكس إشكال تخصيص الأكثر عليه لأنه يلزم خروج موارد الفروج والدماء والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والبدوية قبل الفحص وفي الأموال فان الاحتياط في جميع ذلك يكون واجبا فيكون من حمل الأمر على الفرد النادر وهو الإرشاد إلى غير هذا من الموارد والحق عدم ورود هذا الإشكال على الروايات فان تخصيص الأكثر غير لازم أصلا.

ومن الروايات ما في الرسائل وهو المرسل قوله عليه‌السلام ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط والكلام فيه استدلالا وإشكالا وجوابا كالكلام فيما مر فلا نعيد. ومنها (١) الصحيح الّذي ورد السؤال فيه عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء قال عليه‌السلام بل عليهما أن تجزى كل واحد منهما الصيد قلت ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه قال عليه‌السلام إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا عنه وتعلموا.

__________________

(١) في الوسائل ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ١

٣٢٤

وتقريب الاستدلال لوجوب الاحتياط واضح إلّا ان أصل الرواية يكون في الشبهات الوجوبية والعمومية تستفاد من قوله عليه‌السلام إذا أصبتم بمثل هذا والمراد بمثل هذا الشبهات التحريمية لأنها مثل الوجوبية في وجوب الاحتياط.

لا يقال هذه الرواية تكون في مورد الشبهات البدوية قبل الفحص لأن قوله عليه‌السلام حتى تعلموا يكون ظاهرا في المورد الّذي يمكن تحصيل العلم بالسؤال عن الإمام عليه‌السلام أو الرجوع إلى المصادر الّذي يوجب العلم بالتكليف فلا يكون مربوطا بالمقام يعنى الاحتياط فيما لا سبيل إلى العلم به بعد الفحص عن الدليل وعدم العلم به.

لأنا نقول في جميع موارد الشبهات يكون حد الاحتياط إلى آن حصول العلم سواء حصل العلم بأن كان ممكنا مثل زمان حضور الإمام عليه‌السلام ووصول اليد إليه أو لم يكن كذلك مثل صورة كون الإمام عليه‌السلام حاضرا ولم يصل إليه المكلّف للسؤال لبعده عنه عليه‌السلام أو زمن الغيبة وسواء كان موجودا في الكتب المدونة أو لم يكن فالتحديد بالعلم لا يوجب أن يكون الكلام في الشبهات البدوية قبل الفحص فقط بل تشمل الرواية الجميع.

ثم قد (١) أشكل شيخنا النائيني قده بما حاصله ان المقام اما ان يكون داخلا تحت الأقل والأكثر الاستقلالي أو الارتباطي فان كان الواجب عليهما هو قيمة البدنة فيرجع الشك إلى الاستقلاليين فإذا أعطى كل واحد منهما نصفه يشك في الزائد كما إذا ادى دينه بالمقدار المتيقن وشك في الزائد.

وإذا كان الواجب البدنة لا قيمتها فحيث يحتمل دخل النصف الآخر في سقوط التكليف وان يكون المصلحة قائمة بالبدنة الواحدة لا نصف البدنة فيكون من الأقل والأكثر الارتباطيين وعلى كلا التقديرين يكون الشبهة وجوبية ويكون اتفاق الاخباري والأصولي بعدم وجوب الاحتياط فيه فالحديث الشريف لا يشمل مورده.

مضافا بأن البحث في المورد الّذي لا يكون مسبوقا بالعلم أصلا وفي المقام

__________________

(١) في فوائد الأصول ص ١٣٧.

٣٢٥

يكون مسبوقا بالعلم في الجملة وهو وجوب الجزاء اما بالاستقلال أو على كل واحد منهما النصف ومن الممكن القول بوجوب الاحتياط فيه دون ما لم يكن مسبوقا بالعلم كذلك ولم يكن إجماع على خلافه مع أن ظاهر الحديث هو صورة التمكن من الاستعلام لا صورة عدم التمكن منه كما هو مورد البحث.

والجواب عنه أولا بأن الرواية غير مختصة بالشبهات الوجوبية لأن كلمة مثل ذلك يكون المراد منها الشبهات التحريمية فلا تختص بالوجوبية فقط لئلا تشمل موردها والتخصيص بالوجوبية كما مر غير مستهجن لعدم لزوم تخصيص الأكثر مع دخول الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي الوجوبية وكذلك ما قبل الفحص وموارد الفروج والدماء في مورد البحث من الوجوبيّ ولا يضر سبق العلم بالتكليف هنا إجمالا في كون المورد داخلا في البحث لأن كل واحد من الشخصين يكون شبهته بدوية بالنسبة إلى التكليف الزائد وبحثنا في الشبهات البدوية.

ولا يكون كل مورد قابلا لحصول العلم ولو في زمن حضور الإمام عليه‌السلام ليقال ان الإناطة بالسؤال تكون ظاهرة في إمكان رفع الشك لأنه ربما يكون المانع من الوصول إليه عليه‌السلام موجودا فغاية كل شبهة هي العلم سواء أمكن تحصيله أولا فلا يكون هذا إشكالا واردا على الرواية في المقام كما مرّ ودلالتها على المطلوب تامة.

وقد أشكل شيخنا العراقي قده في المقام على الرواية بأنها تكون في مقام النهي عن الإفتاء لا العمل.

والجواب عنه هو ان المراد هو عدم جواز الإفتاء ولا العمل على طبق مورد الشبهة ولا يكون الإفتاء على فرضه بالواقع حتى يقال انه كذب وافتراء ولو كان كذلك فالفتوى بالاحتياط أيضا يكون فتوى على خلاف الواقع.

ومن الروايات موثقة عبد الله بن وضاح (١) قال كتبت إلى العبد الصالح يتوارى منا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا أو يستر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل

__________________

(١) في الوسائل في باب ١٦ من أبواب مواقيت الصلاة ح ١٤.

٣٢٦

الحمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي وأفطر ان كنت صائما؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة فكتب عليه‌السلام أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة وخذ بالحائطة لدينك الخبر.

وتقريب الاستدلال هو أن الشبهة كانت حكمية للسائل لأنه لا يعلم أن استتار القرص يكفى أو يجب ان تذهب الحمرة ليجوز الإفطار والصلاة فأجاب عليه‌السلام يجب الأخذ بالاحتياط كما مر في التقريب في الروايات السابقة.

وقد أشكل عليها (١) شيخنا النائيني قده بأن الشبهة يمكن ان تكون موضوعية والشاهد عليها هو الأمر بالاحتياط مع انه لو كانت حكمية لكان اللازم بيان الحكم ومن كانت شبهته موضوعية ولا يعلم ان الليل دخل أم لا يجب عليه استصحاب النهار ولو لا امره عليه‌السلام بالاحتياط أيضا لكان اللازم مراعاته لذلك وهو خارج عما نحن فيه لأن الشبهات الموضوعية لا كلام في البراءة عنه عند الفريقين.

واما ان كانت الشبهة حكمية أيضا فيكون الأمر بالاحتياط لبيان الحكم الواقعي وانه يجب ذهاب الحمرة والتعبير بالاحتياط يكون للتقية لأن العامة لا يقولون بذلك فكان هذا التعبير لجعل أوهامهم إلى أن الحكم كذلك عند الشيعة احتياطي استحبابي لا انه واجب فلا تكون الرواية على هذا في مقام بيان وجوب الاحتياط أصلا بل في مقام بيان الواقع بهذا اللسان الموافق للتقية.

والجواب عنه قده ان الشبهة لا شبهة في كونها حكمية لا موضوعية لأن السائل صرح في السؤال بأنه لا شك عنده من هذه الجهة لأنه يصرح باستتار القرص ويسأل أن ذهاب الحمرة لازم أم لا وبعد كونها حكمية فالامر بالاحتياط في كل مورد مشتبه يكون صحيحا والتطبيق يكون هنا في خصوص المورد لأجل التقية وهو لا يضر بعموم الحكم في الذيل فدلالتها أيضا على لزوم الاحتياط مستقيمة.

__________________

(١) في الفوائد ص ١٣٧.

٣٢٧

في اخبار التثليث للاحتياط

ومن الروايات اخبار التثليث كخبر عمر بن حنظلة (١) وهو مقبول انما الأمور ثلاثة امر بيّن رشده فيتبع وامر بيّن غيّه فيجتنب وامر مشكل يرد حكمه إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحديث.

وتقريبها انها في صورة كون الشبهة حكمية تحريمية كما يشهد له قوله حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك يكون الواجب هو إرجاع امره إلى الله تعالى وعدم الارتكاب وهذا يكون في كل مورد يكون مشتبها ويكون فيه الريب فالاحتياط لازم من هذه الجهة وقد أجاب عنها (٢) شيخنا النائيني أيضا بأن مساق هذه الرواية هو ان الأمر فيها يكون للإرشاد كما يظهر من قوله فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم فملاحظة الإنسان على هذا يكون موجبا لعدم عادة النّفس بارتكاب المحرمات من باب الإقدام على المشتبهات فهذا حكم أخلاقي يحكم به العقل ويرشد إليه الشرع لا انه واجب نفسي.

والجواب عنه ان وجود ملاك أخلاقي في الرواية لا يوجب حمل الرواية عليه واختصاص ملاك الحكم به فوجوب الاجتناب مسلم كما هو الظاهر وهذا أحد فوائده ولا ينحصر الملاك فيه فالاخبار بعضها عندنا تام على وجوب الاحتياط فيحصل التعارض بينها وبين اخبار البراءة.

في الجمع بين اخبار البراءة والاحتياط

فنقول إذا وصلت النوبة إلى التعارض فنحن لا بد لنا بعد القول بالتساقط من الرجوع إلى البراءة العقلية وهو قبح العقاب بلا بيان أو الحكومة لاخبار البراءة على

__________________

(١) في الوسائل ج ١٨ في باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٩.

(٢) في الفوائد ص ١٣٨.

٣٢٨

اخبار الاحتياط ومثل الشيخ القائل بعدم تمامية دلالة الاخبار الاحتياط فالبراءة بحكم الشرع مضافا إلى حكم العقل ثم قال (١) الشيخ قده على فرض تسليم التعارض يدور الأمر بين تخصيص الاخبار بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية والحكمية الوجوبية أو القول بأن الجميع إرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط فيما كان معللا كقوله قفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة والحمل على الثاني أهون فيحمل على الإرشاد.

وفيه ان قوله قده بذلك يكون لما في ذهنه من عدم دلالة الاخبار على الوجوب بل كان إرشادا وهذا ليس بجمع بل يكون الحمل عليه بلا شاهد عندنا فهو جمع تبرعي محض واما ما ليس التعبير فيه بالشبهة مثل الاخبار الآمرة بالاحتياط فإشكالها تخصيص الأكثر لخروج الشبهات الموضوعية والوجوبية الحكمية وقد مر الجواب عنه بأنه لا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن لأن تخصيص العنوان الّذي يكون تحته افراد ليس تخصيصا للأكثر.

وقال الخراسانيّ (قده) ان إيجاب الاحتياط حيث يكون طريقيا وممكن المعارضة مع اخبار البراءة ولكن المعارضة تكون مع ما هو أخص وأظهر وهو اخبار البراءة ضرورة ان ما دل على حلية المشتبه أخص بل هو في الدلالة على الحلية نصّ وما دلّ على الاحتياط غايته انه ظاهر في وجوب الاحتياط مع أن هناك قرائن دالة على انه للإرشاد فيختلف إيجابا واستحباب حسب اختلاف ما يرشد إليه ويؤيده انه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا مع انه آب عن

__________________

(١) في أوائل البحث عن الاخبار في الرسائل الحاضر عندي ص ١٩٥ ولم يبين قده وجه كون الإرشاد أهون من التخصيص ولعله كان لحفظ أصالة العموم على هذا التقدير بالنسبة إلى اخبار الاحتياط بخلاف التخصيص ولكن ليس لنا التزام بحفظ أصالة العموم في كل مورد فان هذا يدور مدار الدليل الدال عليه فربما يقدم الإرشاد وربما يقدم العموم وهذا هو سرّ كلام الأستاذ مد ظله أيضا.

٣٢٩

التخصيص قطعا وكيف يقال في قوله قفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة بأن المراد من الهلاكة هو العقوبة في الشبهات البدوية مع عدم البيان له فلا بد من القول بالإرشاد انتهى.

ونقول له ان كان مراده قده بالأخصية هو التقديم من باب تقديم الأظهر على الظاهر الّذي يكون هو مناط التقديم في كل دليل متعارض ولو كان الأظهر هو العام يكون كلامه قده متين لأظهرية اخبار البراءة وان كان المراد ما هو المصطلح من العام والخاصّ فلا يكون كذلك لأنه كما خصص اخبار البراءة بموارد السبق بالعلم الإجمالي والشبهات البدوية قبل الفحص وفي باب الفروج والدماء كذلك اخبار الاحتياط خصص بالشبهة الوجوبية الحكمية وبالشبهات الموضوعية.

فالنسبة بينهما عموم من وجه مورد الاجتماع هو الشبهات التحريمية لأن اخبار الاحتياط يحكم بوجوبه واخبار البراءة يحكم بعدم الوجوب ولهما موردا افتراق أيضا بل يمكن أن يقال اخبار الاحتياط أخص من اخبار البراءة لأن تخصيص اخبار الاحتياط يكون في موردين وهو الشبهة الوجوبية والموضوعية واخبار البراءة يكون تخصيصه في مورد واحد وهو مورد السبق بالعلم الإجمالي.

ولا فرق فيما ذكر بين القول بأن المرفوع من الأول هو إيجاب الاحتياط في حديث الرفع أو يكون المرفوع هو الحكم الواقعي بلحاظ تولد الاحتياط منه لو لم يكن مرفوعا لأن القائل بالبراءة يقول لا يكون للواقع شأنية وجوب الاحتياط فيه واخبار الاحتياط يحكم بان للواقع شأنية كذلك فالمعارضة متحققة على أي تقدير لأن المرفوع لو كان إيجاب الاحتياط أيضا يكون مقتضى اخبار الاحتياط وجوبه.

لا يقال علي فرض كون المرفوع هو الواقع كما عن النائيني قده يكون معناه عدم اقتضاء الواقع إيجابه واخبار الاحتياط يحكم بوجوبه ووجود الاقتضاء للواقع للاحتياط فيدور الأمر بين اللامقتضى والمقتضى ولا شبهة في تقديم ما له الاقتضاء على ما لا اقتضاء له فأخبار الاحتياط عليه مقدم بل يقال بعبارة أخرى اخبار البراءة يكون في صورة عدم العلم بالواقع وعدم المنجز له بتعيين الوظيفة واخبار الاحتياط يكون

٣٣٠

مفاده تعيين الوظيفة فلا معارضة.

لأنا نقول اخبار البراءة يكون موجبا لرفع ما لا يعلم بمعنى ان الواقع ليس بحد يوجب الاحتياط (١) أي لا يجب الاحتياط من ناحية واخبار الاحتياط يحكم بوجوبه فالتعارض يكون محققا واما احتمال كون ما لا يعلم أعم من عدم العلم بالواقع أو بالوظيفة فهو خلاف الظاهر لأن الظاهر منه هو عدم العلم بالواقع الوجداني ويحصل غايته في صورة حصول العلم الوجداني لا العلم بالوظيفة وهو الاحتياط.

والحاصل انّا وان كنا نستفيد تمامية بعض الاخبار في باب الاحتياط ونعترف بالمعارضة ولكن نقول ان اخبار الاحتياط محكوم بالنسبة إلى اخبار البراءة لأن مناط التقديم في باب العام والخاصّ هو الأظهرية سواء كان الأظهر هو الخاصّ أو العام فلو كان العام أظهر من باب أن تخصيصه يوجب أن لا يبقى له مورد نقول بتقديم العام ففي المقام نقول ما كان من اخبار البراءة بلسان كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام بعينه يكون نصا في أن في مورد الشبهة التحريمية يكون الحكم هو الحلية إلى أن يعلم الحرام بالعلم الوجداني بالواقع واخبار الاحتياط ظاهر في هذا المورد فأخبار الحلية مقدم.

واما ما كان التعبير فيه بالهلكة من اخبار الاحتياط مثل قوله عليه‌السلام قف عند الشبهة إلخ تكون الأمر بالاحتياط في صورة الهلكة واخبار الحلية يذهب بموضوعه من باب انه لا هلكة بمقتضى تلك الاخبار.

واما القول بأن المراد بحتى تعلم هو العلم بالوظيفة واخبار الاحتياط يكون علما بالوظيفة فهو خلاف الظاهر كما مر فما دام لم يحصل العلم بالواقع لا مجال للقول بالاحتياط وهكذا قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى يكون نصا في البراءة

__________________

(١) وهذا هو الّذي مر منا في كلام النائيني قده من أن مراده هو اقتضاء عدم الاحتياط من الرفع لا عدم اقتضائه وهو مد ظله في ذلك المقام كان يفهم من كلامه عدم الاقتضاء كما قررناه.

٣٣١

في الشبهات التحريمية واخبار الاحتياط ظاهر.

ولا يقال حتى يرد نهى يكون المراد منه المنجز وهو الاحتياط لأنا نقول يكون المراد هو ورود النهي عن الواقع لا القول بالاحتياط.

فتحصل من جميع ما تقدم ان اخبار البراءة على فرض المعارضة مقدم على اخبار الاحتياط للأظهرية وهو الحق وعلى فرض عدم القول بهذا فبالتعارض يتساقطان ومعه يكون قبح العقاب بلا بيان سندا للبراءة العقلية بعد تقديمه على دفع الضرر المحتمل ولكن على هذا يسقط الثمرات الفقهية للبراءة الشرعية ولكن عرفت أن البراءة الشرعية لا إشكال فيها هذا تمام الكلام في اخبار الاحتياط والبراءة.

الدليل الثالث للاحتياطي هو العقل

وهو قد مر مرارا ويكون التعرض له هنا احتراما للاعلام وحاصله أن لنا علم إجمالي بالتكاليف في الشرع الأنور وعدم إهمالنا من جهة واشتغال الذّمّة اليقينيّ يحتاج إلى فراغ يقيني وهو لا يمكن إلّا بالاحتياط في الموارد المشتبهة.

وفيه ان العلم كذلك منحل لوجود تكاليف بواسطة العلم التفصيلي الوجداني والأمارات بمقدار يحصل العلم بالانحلال.

ولا يقال ان العلم الإجمالي سابق على وجدان التكاليف ولا يوجب ما هو متأخر عن العلم الإجمالي انحلاله كما إذا كان بعد العلم بنجاسة أحد الكأسين العلم بنجاسة أحدهما بعينه فانه لا يوجب الانحلال لعدم العلم بانطباق الواقع عليه.

لأنا نقول المدار على المعلوم وهو هنا مقدم فانه كان مع العلم الإجمالي بالتكليف وجود الأمارات للواقع فيكون مثل العلم بالتكليف قبل العلم الإجمالي فيكون مثل ما إذا علمنا بنجاسة أحد الكأسين بعينه ثم حصل العلم الإجمالي أيضا بوقوع قطرة دم مثلا لا ندري انه وقع في معلوم النجاسة أو في غيره فانه لا يؤثر شيئا.

لا يقال ان الأمارات لا يكون الواصل منها بمقدار يوجب العلم بالانحلال وهي على أي مسلك من تتميم الكشف وتنزيل المؤدى أو جعل الحجية لا تفيد العلم بالواقع

٣٣٢

حتى يصير سببا للانحلال فالعلم الإجمالي بالتكليف لازمه الاحتياط ليحصل الفراغ اليقينيّ لأنا نقول هذا نشأ من الخلط بين الانحلال الحقيقي والحكمي ولتوضيح ما ذكر نحتاج إلى مقدمة وهي أن لسان الدليل في الأمارات تارة يكون هو تعيين المعلوم بالإجمال فيما وصل إليه وتارة ليس كذلك فعلى الأول يعبر عنه بجعل البدل وهو مؤكد العلم ولا يوجب انحلاله مثاله ما إذا علمنا بأن أحد الكأسين من الأبيض والأسود نجس ولكن لا نعلم انه الأبيض أو الأسود فقام أمارة فتقول النجس المعلوم بالإجمال هو الأبيض مثلا فان هذا اللسان يعين المعلوم بالإجمال في هذا المخصوص ودليل التعبد بالأمارة يحكم بالتعبد بمفادها وجعل هذا بدلا عن الواقع.

والحاصل هذا يكون من التوسعة في الفراغ لا في الجعل نظير قاعدة التجاوز والفراغ فان قوله عليه‌السلام تمت صلاته في صورة الشك في إتيان جزء وعدمه والشك في صحة المأتي به بعد التجاوز عنه لا يكون معناه ان الصلاة في حق هذا الشخص يكون أربعة اجزاء مثلا بعد كونها خمسة في حق غيره بل يكون معناه ان الناقص يكون مقبولا منزلة التام مع حب المولى في مقام الجعل بالخمسة ولا فرق في ذلك بين الواجب والحرام فانه يمكن قبول شيء منزلة شيء حرام في البين فالاجتناب عن النجس الّذي قام عليه الأمارة يكون بدلا عن الحرام في البين.

واما إذا كان لسان الأمارة عدم تعيين المعلوم بالإجمال في المعين مثل أن نعلم بنجاسة أحد الكأسين ثم قام أمارة على أن الأبيض مثلا نجس لا ان يقوم على ان النجس في البين هو الأبيض وهذا القسم يأتي البحث فيه عن الانحلال وعدمه ولا يأتي البحث عن الانحلال في القسم الأول.

ثم ان هنا صورا من العلم الإجمالي نذكر واحدة منها وهي أن يكون العلم كذلك مع الأمارة القائمة على أحد الطرفين مقارنا والأقوال في الانحلال على ثلاثة أوجه الأول أن يكون الانحلال حقيقيا مطلقا الثاني ان يكون حكميا مطلقا والثالث ان الدليل الدال على أحد الأطراف لو كان هو العلم الوجداني يكون حقيقيا ولو كان الدليل الأمارة يكون الانحلال حكميا.

٣٣٣

والأول رأى شيخنا النائيني قده وجملة من الاعلام والدليل عليه الوجدان والبرهان اما الوجدان فلأنه إذا كان في البين نجس واحد وقامت الأمارة على نجاسة أحد الكأسين بخصوصه أو حصل العلم الوجداني كذلك نعلم بالوجدان نجاسة أحدهما ونشك بشبهة بدوية في نجاسة الآخر كما نقول في باب الأقل والأكثر الاستقلالي فانه إذا علم يقينا أن دينه عشرة دراهم وشك في الزائد فأدى العشرة يكون له شك بدوي في وجوب الأكثر لأنه لم يعلم ان دينه كان عشرة أو خمسة عشر فله متيقن ومشكوك فكذلك المقام.

واما البرهان فلان العلم الإجمالي ينبسط على الطرفين ويحصل التنجيز بالنسبة إليهما ثم إذا قامت أمارة على أحد الطرفين أو العلم الوجداني فلا يمكن ان يكون العلم الإجمالي منجزا بالنسبة إليه لأن اجتماع المثلين كاجتماع الضدين محال ففي المقام اجتماع وجوب الاجتناب من ناحية العلم الإجمالي ومن ناحية الدليل الخاصّ يكون من اجتماع المثلين فحينئذ تقول لا يكون هذا الطرف داخلا تحت عنوان العلم الإجمالي لأنه يلزم منه اجتماع المثلين فإذا سقط عن التنجيز في طرف واحد لا يكون له أثر بالنسبة إلى الطرف الآخر لأنه يكون كخروج أحد الأطراف عن الابتلاء فكما انه يوجب سقوط التنجيز كذلك هذا فيكون الشبهة بالنسبة إلى الطرف الآخر بدوية وهذا معنى الانحلال الحقيقي.

وفيه ان العلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أو حصول العلم بالنسبة إلى بعض الأطراف في صفحة النّفس محقق لأنه لم يكن الدليل قائما على أن المعلوم بالإجمال يكون ما دل عليه الدليل بالخصوص بل قام الدليل على هذا بالخصوص ويكون في صفحة النّفس احتمال أن يكون النجس في البين أيضا موجودا في الطرفين فليست الشبهة بدوية محضة.

واما قياسه بالأقل والأكثر الاستقلالي ففيه أو لا انه لا فرق بين الارتباطي والاستقلالي على التحقيق من القول بالبراءة في الارتباطي أيضا وثانيا يكون له فرق مع المقام لأن الشك هناك يكون في حد التكليف من حيث الزيادة والنقصان ويكون له متيقن

٣٣٤

ومشكوك من الأول بخلاف المقام فان الطرفين يكونان عرضيين بالنسبة إلى الحكم في البين وقيام الدليل على أحدهما بالخصوص لا يوجب الانحلال كذلك حقيقية.

واما الجواب عن البرهان فهو أن العلم الإجمالي لا يكون له مطابق في الخارج بل يكون صورة حاصلة في صقع النّفس وما يكون في الخارج لا يكون إلّا المشكوكين فان كل طرف يكون الشك في تطبيق المعلوم بالإجمال عليه فان المردد لا مطابق له لا في الذهن ولا في الخارج فان العلم المردد بين هذا أو ذاك لا يكون له مطابق في الخارج للترديد فلا يكون العلم منبسطا على الأطراف ليصير بعد ورود الدليل الخاصّ في بعض الأطراف اجتماع المثلين محققا فنقول بالانحلال الحقيقي وهذا في العلم الوجداني بأحد الأطراف كذلك فضلا عن قيام الأمارة التي لا يكون كالعلم الوجداني.

وهذا كله كاشف عن أن الانحلال ليس بحقيقي بل هو حكمي ومعنى الحكمي هو وجود العلم مع عدم الأثر له وهو التنجيز سواء كان الانحلال كذلك بقيام الأمارة على تعيين أحد الأطراف أو بقيام العلم الوجداني لأنه بعد ذلك يكون احتمال تطبيق الواقع على المعين بحكم العقل ولا يمكن وجود منجزين في مورد واحد تنجيز من ناحية العلم وتنجيز من ناحية الأمارة أو العلم الوجداني للطرف المعين فيكون تعيين بعض الأطراف مثل صورة خروجه عن الابتلاء.

فكما انه ينحل العلم الإجمالي بواسطة احتمال كون النجس هو الّذي يكون محل ابتلائه من النجس أو يكون ما هو خارج عن ابتلائه لأن الخطاب بالنسبة إلى ما هو خارج عن الابتلاء مستهجن فكذلك في المقام لا بد من الاجتناب عما قام الأمارة عليه وتكون الشبهة بالنسبة إلى غيره بدوية.

لا يقال ان العلم الإجمالي كالتفصيلي في التنجيز كما انه إذا كان العلم التفصيلي منجزا حتى بعد وجود دليل آخر على أحد الأطراف أو خروجه عن الابتلاء كذلك العلم الإجمالي فلا فرق بينهما في ذلك.

لأنا نقول الفرق بينهما واضح لأن العلم التفصيلي في كل طرف يكون منجزا مستقلا وسقوط بعض الأطراف لا يكون له تأثير في منجزيته بالنسبة إلى الطرف

٣٣٥

الآخر فان خروج أحد الكأسين عن الابتلاء بالإهراق مثلا بعد العلم بنجاستها لا يؤثر شيئا بالنسبة إلى الآخر بخلاف العلم الإجمالي فانه لا يوجب في كل طرف الا الاحتمال فيكون بالنسبة إلى كل طرف نصف العلم لا العلم التام والتام يكون بينهما وهو الّذي يوجب التنجيز فإذا سقط بعض الأطراف وخرج عن الابتلاء فحيث سقط نصف المنجز يكون الشبهة بالنسبة إلى الطرف الآخر بدوية والعلم غير مؤثر فيه واحتمال التطبيق وان كان ولكنه غير منجز وهذا هو الانحلال الحكمي.

لا يقال ان كلامكم في هذه الصورة كان في فرض مقارنة الأمارة مع العلم الإجمالي وليس الأمر في التكاليف الشرعية كذلك لأن العلم الإجمالي بالاحكام متقدم والظفر بالأمارة لأحد الأطراف يكون بعد الفحص فهو متأخر والمتأخر لا يؤثر في إسقاط العلم الإجمالي كما إذا كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الكأسين فأهريق أحدهما فانه يجب الاجتناب عن الطرف الآخر لأن العلم أثر اثره ولا يكون الخروج عن الابتلاء مضرا بساحة العلم الإجمالي المتقدم فلا يحصل الانحلال في المقام حكميا أيضا وهذا سند القول بعدم الانحلال مطلقا حكميا وحقيقيا.

لأنا نقول ان الأمارة بوجودها الواقعي كان مقارنا مع العلم الإجمالي والفحص طريق إليه ولا موضوعية له والمدار على المعلوم وهو متقدم على العلم ومقارن مع العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى نقول ان العلم الإجمالي المتقدم على الفحص لا شك انه ان بقي يكون له الأثر وان عدم فلا يكون مؤثرا فحينئذ نقول العلم الإجمالي يبقى إلى ما بعد الفحص فإذا تفحص فوجدت الأمارة يحصل التقارن في هذا الحال ويحصل الانحلال فالأخباري ليس له أن يقول بوجوب الاحتياط لحصول الانحلال.

والقدماء رضوان الله عليهم في صورة تقدم العلم الإجمالي وتأخر المنجز في أحد الأطراف كانوا يقولون بعدم حصول الانحلال ح لأن العلم أثر اثره فيما تقدم ولم يكن وجدان الأمارة متأخرا مؤثرا ونحن موافق لهم في النتيجة ولكن في الطريق

٣٣٦

يكون لنا بيان آخر لعدم حصول الانحلال وهو انه (١) إذا حصل العلم الإجمالي بما هو في عمود الزمان ويكون الأطراف فيه تدريجيا لا يوجب وجدان الأمارة على بعض الأطراف انحلال العلم الإجمالي في الأزمنة المتأخرة عنه.

مثاله ان المرأة إذا علمت بأنه اما أن يكون دمها في أول الشهر حيضا أو وسطه أو آخره فانها يكون لها العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل فرد من افراد الزمان وكذلك من علم بنجاسة أحد الكأسين الأبيض أو الأسود فانه إذا فرض مبدأ العلم هو يوم الجمعة يكون العلم الإجمالي بأنه اما ان يكون الكأس الأبيض في الجمعة نجسا والأسود في يوم السبت أو يوم الأحد أو يوم الاثنين نجسا فيكون له علم إجمالي في الجمعة والسبت والأحد والاثنين.

فإذا قامت الأمارة في يوم الأحد على نجاسة أحدهما المعين هذه الأمارة حين وجودها يوجب إسقاط العلم الإجمالي المقارن معه والمتقدم عليه ولكن لا يمكنه التأثير فما هو متأخر عنه لأن المتأخر وهو على الفرض يوم الاثنين لم يجئ حتى يصير هذا سببا لانحلاله فلا محالة لا يوجب قيام الأمارة على بعض الأطراف العلم

__________________

(١) أقول هذا طريق شيخه العراقي قده ويسمى عنده بالعلم الإجمالي المورّب ولم يسمه هنا لأنه كان في مقام الإشارة فقط واما أصل الكلام فهو دقيق لطيف الا انا إذا لاحظنا هذا العلم الإجمالي في عمود الزمان بالنسبة إلى صفحة النّفس نرى انه لا يكون لنا علم إجمالي بعد قيام الأمارة المنجزة في الواقع حتى يقال انه بعد سقوط ما تقدم يبقى ما تأخر عنه.

فمن الأول لو فرض وجود أمارة في الواقع لأحد الطرفين ينقطع العلم عنده وينتقل العلم إلى الشك في أنه هل صار المعلوم في البين منطبقا عليه أم لا وبالنتيجة تكون الشبهة بدوية بالنسبة إلى الآخر وهذا يكون مثل إهراق أحد الكأسين.

واما حل الإشكال فهو أن الرواية في باب الكأسين وردت بقوله عليه‌السلام يهريقهما ويتيمم فلو كان للمقام علاج بإهراق أحد الكأسين وتصير الشبهة بدوية لقال به عليه‌السلام ومن هنا يمكن تأييد من يقول ان العلم الإجمالي أثر اثره ولا ينحل بذلك.

٣٣٧

الإجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر فعلى هذا في مقامنا هذا نقول بأن وجدان الأمارة في بعض الأزمنة لا يوجب انحلالا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخرة فلا يحصل الانحلال وهذا يوجب حياة الاخباري في قوله بوجوب الاحتياط في المقام.

ولكن يمكن الجواب عن الاخباري نقضا وحلا اما النقض فهو ان العلم الإجمالي لو كان سند الاحتياط فلأي دليل لا يقول به في الشبهات الوجوبية مع انه يلزم ان يقول به لعدم الفرق بين الحكم التحريمي والوجوبيّ في وجوب حفظه والخروج عن عهدته واما الحل فهو انه لا فرق في التنجيز بين الأمارة الواصلة أو المنجز العقلي والأمارة ولو فرضت متأخرة عن العلم ولكن المنجز العقلي وهو وجوب الاحتياط (١) قبل الفحص يكون موجبا للانحلال ضرورة أن الشبهات البدوية قبل الفحص يجب فيه الاحتياط فيكون المنجّز العقلي موجودا وموجبا للانحلال فالاحتياط في كل شبهة يوجب الانحلال فليس الاخباري في فسحة من ناحية العلم الإجمالي بالاحكام ليقول بالاحتياط.

هذا مضافا بأنه لنا علم إجمالي بوجود أحكام فيما بأيدينا من الأمارات واصلة إلى الواقع فإذا تفحصنا فظفرنا به فهو وإلّا يكشف عن خروجه عن مورد العلم الإجمالي وهذا يصير سببا لانحلال العلم الإجمالي بالاحكام فالعلم الإجمالي بوجود أحكام فيما بين الأمارات يوجب انحلال العلم بوجود الأحكام.

__________________

(١) أقول وجوب الاحتياط قبل الفحص في كل الشبهات وهو فيما يجب الجمع فيه بين الأطراف لا يوجب الانحلال فان النزاع مع الاخباري في وجوب الاحتياط وعدمه وهو قبل الفحص متفق عليه وبعد الفحص يكون فيه الكلام على أنه كيف يحصل الانحلال بواسطة موارد قليلة لم يتفحص المكلف فهذا كلام لا نفهمه وعهدته عليه مد ظله.

٣٣٨

فصل في التنبيه على أمور مهمة في أصالة البراءة

التنبيه الأول انه بعد تمام الكلام عن جريان البراءة في الشبهات التكليفية التحريمية والقول بالإباحة عقلا ونقلا يجب أن لا يكون في مورد جريان البراءة أصل موضوعي مخالف لمفاد الأصل أو حاكم كذلك فانه لا يخفى عليكم أن ما في كلام الشيخ الأنصاري قده وغير انه يشترط أن لا يكون أصل موضوعي يكون بيانا لصغرى من كبرى الحاكم فانه كما يمنع جريان الأصل الموضوعي عن جريان البراءة كذلك يمنع الحاكم عن جريانه.

ولا فرق بين أن يكون الحاكم هو الأصل في الموضوع أو الأصل في الحكم فالأصل الموضوعي يكون مثاله الحيوان الّذي لا نعلم انه قابل للتذكية أولا فان الشك في الحلية ناش عن الشك في القابلية فلو جرى أصالة عدم التذكية لا تصل النوبة إلى أصالة الحل لأن مقتضى جريانها حرمته وكذلك إذا كانت الشبهة في الحرمة من باب الشبهة الموضوعية كاللحم المطروح في البرّ فانه إذا شك في اجتماع الشرائط للذبح مثل الإسلام في الذابح واستقبال القبلة في المذبوح يجري أصالة عدم حصول التذكية بشروطها ويحكم بالحرمة ولا تجري أصالة الحل فجريان الأصل في الموضوع منع عن جريان الأصل في الحكم وهكذا لو كان الشك في الحكم ناشئا عن الشك في حكم آخر.

مثلا إذا كان حكم شيء قبل ذلك الحرمة والآن لا نعلم انها انقلبت إلى الحلية أم لا من باب احتمال النسخ فأصالة عدم نسخ الحكم حاكم على أصالة البراءة فلا تجري بل يحكم بالحرمة.

وهكذا لو كان الحاكم مثل الأمارة فان وجودها يمنع عن جريان الأصل أيضا فان السوق للمسلمين وأياديهم أمارة حلية اللحم وذكاته ومعه لا مجال لجريان أصالة عدم التذكية أيضا فهذا الحاكم مقدم على ذاك الحاكم الّذي لولاه كان حاكما فان أصالة عدم التذكية حاكمة على أصالة البراءة في صورة عدم محكوميتها بالأمارة ولو كانت موافقة فلو دلّ الدليل على أن كل حيوان لا يقبل التذكية إلّا ما خرج

٣٣٩

بالدليل الخاصّ فان التقديم معها ولو كانت مفاد أصالة عدم التذكية أيضا كذلك.

فتحصل انه يلزم أن يكون تعبيرهم في هذا الأمر بأنه يشترط أن لا يكون في مورد الأصل ما هو حاكم عليه سواء كان الأصل في الموضوع أو في الحكم أو أمارة أخرى حاكمة ولقد أجاد شيخنا الأستاذ العراقي قده حيث قال في الدرس ان التعبير بالشرط أيضا فيه مسامحة لعدم الموضوع للأصل مع وجود الحاكم حتى يقال أن هذا شرط وذاك مشروط.

فقد تحصل ان قولهم باشتراط عدم أصل موضوعي في مورد أصل البراءة يكون بيانا لصغرى من صغريات كبرى اشتراط عدم الحاكم.

إذا عرفت ذلك فهنا ينبغي البحث في أمور عند بيان أصالة عدم التذكية.

الأول ان الشبهة في التذكية تارة تكون حكمية وأخرى موضوعية اما الحكمية فهي تكون في صورة الشك في دخالة شيء في كيفية الذبح مثل الشك في أنه هل يشترط مباشرة الذابح للآلة الذابحة أو يكفى ارتباطه إليها بالوسائط مثل ما هو الدارج في زماننا هذا من ذبح الف غنم بواسطة ضرب اليد على مفتاح البرق فانه لو كان مباشرة الذابح شرطا لا يحل هذا النحو من الذبح ما هو المذبوح بخلاف صورة عدم اشتراطه فمع عدم العلم به في صورة الشك يكون البحث في جريان أصالة عدم التذكية هذا من جهة الشك في الشرط.

وتارة يكون الشك من جهة عدم وجدان دليل اجتهادي على ان كل حيوان قابل للتذكية فمن باب الشك في القابلية في المتولد عن كلب وغنم الّذي لا يشبه أحدهما يكون البحث في جريان أصالة عدم التذكية.

واما الشبهة الموضوعية فهي مثل ما إذا علمنا بجميع الشرائط وعلمنا قابلية الحيوان أيضا للذبح ولكن لم نعلم أن هذا اللحم المطروح هل جرى عليه ما يجب أن يجري أم لا فيجيء الكلام في جريان الأصل.

٣٤٠