مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

في القول بالتعيين عند دوران الأمر بين المحذورين

مع احتمال الأهمية

ثم أنه يكون في كلمات الاعلام مثل الخراسانيّ وشيخنا العراقي (قدهما) اختصاص ما ذكرنا من عدم جريان التعبد بأي نحو كان في الدوران بين المحذورين بصورة عدم احتمال أهمية بعض الأطراف من حيث الاحتمال كما إذا كان احتمال الوجوب أقوى بالنظر إلى الدليل أو احتمال الحرمة كذلك ومن حيث المحتمل كما إذا كان الشيء على فرض وجوبه من أهم الواجبات كحفظ النظام ولو كان حراما من أهم المحرمات كقتل النّفس مثلا فكما يقال في باب الدوران بين التعيين والتخيير بتقديم محتمل الأهمية كذلك يقال في المقام لاحتمال الأهمية.

وقد أشكل كما عنى شيخنا النائيني (قده) (كما في الفوائد ص ١٦٥) بأن القول بالتعيين يكون في صورة إحراز الحكمين ويكون الشك في تعيين أحدهما واما في المقام الّذي لا يكون الحكم مسلما وجنس الإلزام غير قابل للامتثال فلا يأتي بحث التعيين والتخيير فيه.

والجواب عنه أنه يكون الحكم عن الشرع في هذه الصورة متصورا لأنه يمكن العصيان فان المانع من القول بوجوب أحد الأطراف أو حرمته كان هو عدم خلو المكلف عن الفعل أو الترك فلا يكون التعبد بالنسبة إليه متصورا واما في المقام فعلى فرض كون هذا المعين هو المكلف به يكون العصيان ممكنا بتركه (١) فلا محذور في التعبد به بخلاف تلك الصورة فان العقل يستكشف حكم الشرع في هذه الصورة وقد أشكل ثانيا (٢) بان الوجود التقديري للحكم في الواجب التخييري يكون

__________________

(١) أقول إمكان وجود الحكم لا يستلزمه وجوده إثباتا فالحق مع المستشكل في ذلك.

(٢) هذا هو الإشكال الأول بتقريب آخر وهكذا الجواب عنه ولذلك لم يكن في بيان النائيني قده الا التقريب الأول.

٤٠١

متصورا ولذا يمكن القول بتعيين المكلف به عند احتمال الأهمية ولكن في المقام الحكم على التقدير أيضا لا يكون والجهل به يوجب القول بعدمه فكيف يقال بتعيين ما لا وجود له إثباتا لأنه فرع وجود أصل الحكم في البين.

وفيه ان الحكم في صورة التخيير لا يكون تقديريا بل لكل حكم تعييني ولكن يسقط بفعل الآخر فلا يكون الحكم دائرا مدار التخيير بل أصل الحكم يمكن أن يكون بالنسبة إلى المعين كما كان بالنسبة إلى الآخر.

ثم انه ربما قيل بان احتمال الحرمة بنفسها في جميع المقامات يكون لازمه القول بالتعيين لأن دفع المفسدة يكون أولى من جلب المنفعة فكل الموارد في دوران الأمر بين المحذورين يكون الأهم فيه موجودا فيؤخذ به.

وقد أشكل فيه بان ترك الواجب أيضا يكون فيه المفسدة فلا يكون جانب الحرمة مختصا بالمفسدة فقط وفيه ان العدم عدم لا يكون له أثر وجودي فان ترك الواجب لكونه تركا يكون منطبقا للعدم فكيف يكون له أثر وهو المفسدة ولو فرضت المفسدة فيكون لطرو عنوان آخر غير عنوان الترك وهو يكون فيه المفسدة كما إذا فرض لزوم خلاف النظام في ترك الواجب ولا فرق في النظام أيضا بين النظام الشخصي والنظام النوعيّ فان كل واجب يمكن ان يكون تركه خلاف النظام شخصيا أو نوعيا في مقابل كون الحرام أهم المحرمات فيكون ترك الواجب أيضا أهم فلا يختص الأهمية بصورة إرجاع الواجبات الشخصية إلى النظام النوعيّ في الأهمية كما عن النائيني وكيف كان لا سند لكبرى دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة وإلّا فيمكن الإشكال على ما ذكر من أن ترك الواجب فيه المفسدة لعدم تأثير العدم في شيء هذا كله البحث في التوصليات.

في دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات

فنقول اما التعبديات فلا يكون مثل التوصليات في ما ذكر فان التوصلي قد مرّ عدم جريان التعبد فيه يعنى إعمال المولوية لحصول الفعل أو الترك تكوينا وذلك لعدم

٤٠٢

الموضوع للمخالفة والموافقة واما إذا كان الدوران بين المحذورين وكان كلاهما أو أحدهما تعبديا فحيث يتصور المخالفة يمكن التعبد فيه فإذا فرض ان الأمر لو كان هو الوجوب يكون تعبديا فأتى المكلف بالفعل بدون قصد الأمر يحصل له القطع بالمخالفة لأنه ان كان في الواقع حراما فقد فعله وان كان واجبا لم يفعله على وجهه وهو قصد الأمر الّذي يكون من شروط عبادية العبادات فيمكن هنا التعبد بأحد الطرفين معينا وحيث لا دليل على التعيين فالقول بالتخيير بين الفعل والترك بنحو لا يلزم المخالفة القطعية ولا يكون الاضطرار إليها أيضا كما هو واضح.

هذا كله في الواقعة الواحدة واما إذا كان دوران الأمر بين المحذورين في الوقائع المتعددة مثل أن يكون النذر على ترك الكتابة أو فعلها في ليلة الجمعة مثلا فانه إذا علم انه نذر أحدا من الفعل والترك ولا يعلم الخصوصية يكون من الدوران بين حرمة الفعل ووجوبه فان كان هذا في ليلة واحدة فلا شبهة في كون حكمه ما مر واما ان كان أكثر من ليلة واحدة فهل يكون التخيير ابتدائيا بحيث انه إذا اختار في أول ليلة الفعل أو الترك فيكون ملزما به إلى آخر الوقائع أو يكون التخيير استمراريا بحيث يكون له اختيار الفعل في ليلة واختيار الترك في ليلة أخرى ، فيه خلاف.

فربما يقال بان القول بالتخيير الاستمراري حيث يلزمه المخالفة القطعية للعلم بها بعد تكرار الواقعة فلا يجوز لأنا وان لم نقدر على الموافقة القطعية ولكن نقدر على ترك المخالفة القطعية.

وقد أشكل عليه بعضهم كما عن شيخنا النائيني قده بأن المخالفة والموافقة تكون بعد إحراز التكليف وانا في كل واقعة لا يكون لنا التكليف المحرز بل يكون من دوران الأمر بين المحذورين الّذي لا يكون فيه مجال التكليف والتعبد.

والعلم الإجمالي في المقام لا يكون مثل العلم الإجمالي في التدريجيات منجزا فانه في دوران أيام المرأة بين كون الثلاثة الأولى من الشهر حيضا أو الثانية أو الثالثة نحكم بتنجيز العلم الإجمالي ووجوب الاحتياط في جميع الأيام ولكن في

٤٠٣

المقام لا يكون كذلك لأن العلم الإجمالي لا يكون طوليا بل في كل ليلة يكون لنا العلم الإجمالي اما بكون التكليف هو الترك أو الفعل ولا يكون التكليف عن الشرع محرزا كما يكون في التكليف بالحيض ففي كل واقعة يلاحظ حكم تلك الواقعة.

وفيه انه لا فرق بين أن يكون منشأ العلم هو حكم الشرع ابتداء كما في الحيض أو وجود الحكم لطريان شيء مثل النذر فان الوفاء بالنذر أيضا واجب فحيث ما أمكن الموافقة القطعية لا يجوز المخالفة القطعية وهذا هو حكم العقل فيكون العلم بالنسبة إلى ما أمكن المخالفة منجزا ويجب متابعته.

ثم هنا كلام آخر لاختيار كون التخيير بدويا لا استمراريا وهو أن العلم الإجمالي على مسلك بعضهم يكون علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية ومقتضيا بالنسبة إلى الموافقة القطعية ففي المقام حيث يلزم المخالفة القطعية على الاستمراري يكون العلم مؤثرا.

وقد أجيب عنه أولا كما عن شيخنا العراقي قده بأن العلم الإجمالي يكون علة تامة بالنسبة إلى الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية وفي التخيير الاستمراري حيث يكون العلم بالموافقة القطعية أيضا في ضمن العلم بالمخالفة القطعية لا إشكال في التخيير الاستمراري وهذا يكون من جهة فساد المبنى.

وثانيا (١) على فرض التسليم للمبنى يكون المقام مثل مقام الاضطرار إلى أحد

__________________

(١) أقول على فرض تسليم المبنى للقائل ان يقول ان ترك المخالفة القطعية هنا ممكن وان كان المخالفة الاحتمالية لازمة على أي تقدير.

مضافا بأن كون الاضطرار إلى أحد الأطراف موجبا لعدم تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر محل كلام فان الاضطرار إلى الكأس الأبيض مثلا لا يوجب جواز ارتكاب الأحمر خصوصا إذا كان الاضطرار بعد العلم مع التأمل في مساواة المقام لموارد تشخيص التكليف بخصوصيته كموارد العلم الإجمالي نعم حيث ان العلم الإجمالي علة تامة للموافقة وترك المخالفة لا يكون القول بالتخيير البدوي مستقيما كما هو الحق والله العالم.

٤٠٤

الأطراف فحينئذ لا مجال للقول بوجوب الموافقة القطعية لعدم الإمكان فإذا اضطر أحد إلى ارتكاب أحد الإناءين المشتبهين لا يمكن أن يقال بوجوب الاجتناب عنهما بتحصيل الموافقة القطعية حتى لو فرض العلم التفصيلي بشيء وآل الاضطرار إلى ترك ما هو واجب وفعل ما هو حرام لا كلام عن الموافقة القطعية فضلا عن صورة كون العلم إجماليا كما في المقام فلا يمكن أن يقال بوجوب ترك المخالفة القطعية لأنها لازمة على أي حال فلا يكون هذا سند التخيير البدوي فيكون التخيير استمراريا وهذا الإشكال يكون عن شيخنا (١) العراقي وقد تم البحث هنا عن الشك في التكليف والحمد لله أولا وآخرا.

فصل في أصالة الاشتغال

قال في الكفاية لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب والتحريم فتارة لتردده بين المتباينين وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيقع الكلام في مقامين.

المقام الأول في دوران الأمر بين المتباينين إلخ.

أقول وفي هذا المقام يكون البحث عن أمور الأمر الأول في البحث عن العلم الإجمالي الّذي تعلق بالطرفين أو الأطراف والعمدة فهم كلام المحقق الخراسانيّ قده هنا من جهة انه يقول يكون البحث عن العلم الإجمالي من جهة انه هل يكون مقتضيا للامتثال أو علة تامة من ناحية العلم لا من ناحية المعلوم فانظر إلى كلامه.

وتوضيح مقاله هو ان الأحكام الواقعية المجعولة من قبل الشرع اما ان يكون من جهة الملاك والأهمية بحيث يجعل في ظرف الجهل به والشك فيه الاحتياط ويكون فعليا من جميع الجهات حتى جهة الشك فيه واما ان لا يكون كذلك بل يكون

__________________

(١) في نهاية الأفكار لمقرره المرحوم آية الله الشيخ محمد تقي البروجردي قده.

٤٠٥

المصلحة بحيث لو وصل إلينا ولم يمنع عنه مانع من الجهل وغيره لكان فعليا فان كان الحكم الواقعي من قبيل الأول لا فرق في العلم المتعلق به بين أن يكون تفصيليا أو إجماليا للمصلحة التامة فيجب الموافقة القطعية كما في باب الفروج والدماء واما إذا لم يكن كذلك بل بحيث لو وصل ولم يمنع عنه مانع لكان فعليا يكون لجريان الأصل في صورة الشك فيه مجال لعدم المانع من تطبيق حديث الرفع وساير أدلة البراءة بالنسبة إليه لأنه لم يكن فعليا حتى في ظرف الشك فيه فانقدح بذلك عدم الفرق بين العلمين وانما الفرق في تأثير العلم وعدمه بين المعلومين.

والجواب عنه أولا انه يكون الفرض في موارد العلم الإجمالي بعد العلم بفعلية البعث ويكون الشك فقط من ناحية المكلف به فانه يعلم بأن الاجتناب عن النجس واجب غاية الأمر يكون الشك في انه هل كان هذا الإناء أو ذاك فلا يكون الشك في أصل التكليف حتى يجري البراءة.

وثانيا ان المصلحة (١) تكون منكشفة بأصل الخطاب المتوجه إلى الواقع ولا

__________________

(١) أقول لا يكون في كلامه قده في الكفاية ص ٢٠٨ تعرضا لاختلاف مراتب الواقع بواسطة العلم الإجمالي بل حاصل ما فهمناه من كلامه قده أن الواقع بدليله تارة يكون الدليل بحيث يكون مطلوب المولى على أي نحو كان ولو بواسطة الاحتياط وتارة لا يكون المستفاد من دليله هو مطلوبيته على أي حال فقال في الصورة الثانية يكون لجريان البراءة مجال بخلاف الأولى فلا يكون الإشكال عليه بهذا الوجه واردا وان كان الإشكال الأول عليه واردا.

وعدم فرقه بين العلمين التفصيلي والإجمالي يكون في صورة كشف وجوب الاحتياط من الدليل وهذا صحيح في نفسه ولكن لا يكون دليلا على جريان البراءة في المقام.

واما ما استنبطه مد ظله من لازم كلامه من أن التفاوت لا بد أن يكون بتفاوت العلم والجهل وهو ممنوع عنده ففي أصله كلام متين واستفدنا بعد عنه أنه يقول به فصارت التفاوت في العلمين لا المعلومين.

٤٠٦

يكون لعلم المكلف وجهله بالواقع دخل في الملاك حتى يكون في صورة العلم تفصيلا أقوى وفي صورة العلم إجمالا أضعف فان الواقع لا يتغير عما هو عليه بالعلم والجهل الشخصي وليس العلم جزء الموضوع حتى يقال في صورة العلم يتم المصلحة بل طريق محض وبيان دخله العلم في ذلك هو انه في صورة عدم إحراز أهمية المصلحة من دليل الواقع يكون في صورة العلم التفصيلي واجب الإتيان وفي صورة العلم الإجمالي مجرى للبراءة فصار علم المكلف وجهله دخيلا في مصلحة الواقع.

الأمر الثاني ربما يقال بأن العلم الإجمالي لا يكون منجزا لعدم وجود المتعلق له وما لا متعلق له لا يكون له وجه في التنجيز وذلك لأن العلم بحكم كل واحد من الأطراف شخصا غير حاصل كما هو المفروض والّذي يتعلق العلم به هو عنوان أحدهما لا بعينه وعنوان الأحد كذلك لا يكون له مطابق لا في الخارج ولا في الذهن بل هو مفهوم انتزاعي اختراعي من النّفس فحينئذ يكون العلم الإجمالي كالشبهة البدوية في عدم الأثر له ومال إليه القمي قده ولم يجزم به.

والجواب عنه ان الفرق بين المقام وبين الشبهات البدوية هو عدم حصول العلم مطلقا بالنسبة إليها واما في المقام فيكون العلم حاصلا بما في البين وللعلم انطباق في الواقع ولا يكون لنا العلم به ففرق واضح بين ما لم يمس العلم أصلا كالشبهة البدوية وما تعلق به العلم وصار الشك في التطبيق.

ولا يقال في الشبهات البدوية أيضا يكون العلم الإجمالي بوجود أحكام في الشريعة المقدسة ويكون احتمال تطبيقه على مورد الشبهة فيكون مثل المقام.

لأنا نقول العلم الإجمالي بالاحكام صار منحلا بواسطة وجدان بعضها في

__________________

ولكن اشكاله بان العلم والجهل لا يكون دخيلا في مصلحة الواقع لا نفهمه لأنه لا إشكال في أن يكون مصلحة التسهيل مقتضية لرفع الحكم في ظرف الجهل بالموضوع كما في موارد الشبهة البدوية.

٤٠٧

الآيات والاخبار ولكن في المقام لا يكون منحلا وهذا هو الفارق.

لا يقال الإشكال الّذي قد مرّ منكم على الخراسانيّ قده من ان المائز يكون بين العلمين لا المعلومين يرد عليكم لأن حاصل ما أفدتم ان الفرق يكون بين المعلومين أي في منطبق العلم فانه في الإجمالي لا يكون المعلوم واضحا وفي التفصيلي يكون واضحا بدون الشك فيه فصار الاختلاف في المعلومين لا العلمين فالحق معه (قده) في ذلك.

لأنا نقول ان العنوان الّذي يكون متعلق العلم تارة لا يكون له مطابق في الخارج جوهرا أو عرضا مثل عنوان زيد فانه لا مطابق له شخصا في الخارج لأن ما في الخارج يكون له وجودات جوهرية وعرضية من الكم والكيف والوضع والأين وليس كل واحد من هذه العناوين منطبقا لعنوان زيد فيكون مشيرا فقط مثل عنوان من في الصحن بالنسبة إلى الافراد من زيد وعمرو وخالد.

وتارة يكون له مطابق محرز في الخارج كعنوان الإنسان فان زيدا يكون فيه شيء يكون هو منطبقا للإنسان واقعا وهو النّفس الناطقة.

وتارة ثالثة لا يكون المنطبق موجودا في الخارج لا شخصيا ولا جنسيا ولكن يكون له انطباق في الواقع ونفس الأمر بحيث لو كشف الغطاء يكون الواقع شخصا معينا وهذا يكون مثل عنوان الأحد الّذي يكون في العلم الإجمالي بين الأطراف فان هذا العنوان يكون له منطبق واقعا بين الكأسين ولكن لا نعلمه.

ورابعة لا يكون له انطباق أصلا مثلا عنوان أحد نكرة فانه لا يكون له منطبق أصلا والمقام يكون من قبيل الاحتمال الثالث وطور العلم فيه لا يكون مثل طور العلم فيما يكون له منطبق خارجي شخصي ومنشأ الفرق بين العلوم الّذي قلنا يكون اختلاف نحو الصور في النّفس الّذي يكون مسمى بالعلم ولا يمكن ان يقال بسراية صورة من الصور إلى أخرى كما لا يسرى صورة التمني في النّفس إلى صورة الترجي وصورة العلم إلى صورة الشك وهذا ليس مما قال الخراسانيّ قده في بيان الاختلاف بين المعلومين.

٤٠٨

الأمر الثالث وقد تعرض لها في الرسائل (١) وهو انه هل جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مثل أصل البراءة يكون له مانع ثبوتي مطلقا بعد عدم التنجيز أو إثباتي مطلقا بمعنى عدم مساعدة الدليل ولو كان بحسب العقل بلا مانع أو التفصيل بين الأصول المحرزة مثل الاستصحاب فيكون المانع ثبوتيا وبين الأصول الغير المحرزة فيكون المانع إثباتيا وجوه وأقوال.

ومال الشيخ الأعظم قده إلى كون المانع إثباتيا وان توهم ان المانع عنده ثبوتيا ولا شبهة ولا ريب في ان الاحتمال لو لا المؤمن حجة فضلا عن العلم الإجمالي ويكون البحث في المقام مع قطع النّظر عن التنجيز في أنه هل يمنع العلم ذاته من جريان الأصول أم لا وان كان في الكلمات الخلط بين العلم المنجز وما لا يكون كذلك ومورد عدم التنجيز للعلم يكون مثل صورة وجود الحالة السابقة في الأطراف فانه إذا كانت الحالة السابقة في الإناءين النجاسة وحصل العلم الإجمالي بطهارة بعض الأطراف لا يكون لهذا العلم أثر.

والحق عندنا عدم منع العلم إذا لم يكن منجزا عن جريان الأصول في أطرافه مطلقا سواء كان الأصل تنزيليا مثل الاستصحاب أو غيره كالبراءة.

فان الأصول في المقام ثلاثة أصالة الإباحة وأصالة البراءة والاستصحاب والكلام فيه هنا يكون مثل ما سبق في جريان الأصل في باب دوران الأمر بين المحذورين والكلام الكلام والجواب الجواب.

فان شيخنا النائيني كما مر عنه يكون قائلا بعدم جريان أصالة الإباحة من جهة انها بمدلولها المطابقي يضاد العلم الإجمالي لأن إباحة هذا يكون معناها إباحة الطرف الآخر أيضا وهو يضاد مع العلم الإجمالي بوجود الواقع في البين.

وقد مر الجواب عنه بان موطن العلم لا يكون موطن الشك فان العلم الإجمالي

__________________

(١) وفي الرسائل الحاضر عندي ص ٢٢٦ و ٢٢٧ وفي الفوائد الجزء الرابع عن النائيني ص ٥ و ٦ و ٧.

٤٠٩

يكون موطنه النّفس ولا يسرى (١) إلى الخارج فجريان الأصل في الخارج للشك التفصيلي لا يكون مضادا للواقع بواقعيته ولو سلم ما ذكروه في دوران الأمر بين المحذورين لا نسلمه هنا لأن هناك كان الشيء الواحد مورد جريان الأصل وعدمه وفي المقام لا يكون كذلك لأن كل واحد من الأطراف يكون الشك فيه منحفظا ولا يكون الإتيان لكل واحد مضادا مع العلم لأنه لا يكون مفاد أصالة الإباحة هو الجمع بين الطرفين حتى يكون مضادا للعلم بخلاف صورة كون المورد واحدا فلا محالة يكون مخالف الواقع.

واما أصالة البراءة فهي أيضا لا إشكال في جريانها لعدم المضادة أيضا واما الأصول التنزيلية مثل الاستصحاب وقاعدة الفراغ وأصالة الصحة فانها أيضا لا مانع من جريانها.

خلافا لشيخنا النائيني قده فان حاصل بيانه هو ان هذه الأصول حيث يكون مفادها النّظر إلى الواقع ولا يكون لنا واقعان متضادان فالقول بالبناء على الواقع مع العلم بعدم كون الواقع كذلك يمنع من جريان الأصل وهذا الكلام مع إقراره قده بأن الكلام يكون في فرض عدم التنجيز.

والجواب ما مر من أنه فرق بين القول بأنه الواقع أو كأنه الواقع والبناء على الواقع لا يكون مثل نفس الواقع مع عدم سريان العلم إلى الخارج فلا منافاة ثبوتا في جريان الأصول بالنسبة إلى العلم الغير المنجز.

واما المانع الإثباتي فقد نسب إلى الشيخ والخراسانيّ قدهما فقال الثاني في باب وجوب اتصال الشك (٢) باليقين في الاستصحاب بأن الموضوع لجريان الأصل

__________________

(١) العلم وان كان لا يسرى إلى الخارج ولكن لا ينكر انه كاشف عما في الخارج من الواقع بحيث لو كشف الغطاء لكان المنطبق في الخارج حتما.

(٢) هذا في الاستصحاب واما في ساير الأصول فلا بد ان يقول بهذه المقالة من باب عدم الموضوع الساذج وهو الشك بل يكون الشك مقرونا بالعلم أيضا وهو خلاف ظاهر الدليل.

٤١٠

يكون هو الشك فإذا لم يكن الموضوع متحققا لم يكن الحكم بالأصل لأن مفاد الدليل عدم نقض اليقين بالشك واما نقض اليقين بغير الشك فلا إشكال فيه ففي صورة العلم الإجمالي في البين لا يكون الشك في كل واحد من الأطراف متصلا باليقين بل صار العلم الإجمالي فاصلا بين الشك واليقين فليس لنا شك فعلا بل كل واحد من الأطراف يحتمل أن يكون منطبق العلم الإجمالي فيكون من الشبهة المصداقية لدليل الأصل مثل لا تنقض اليقين بالشك لأن احتمال التطبيق أخرجه عن كونه شكا محضا.

وهكذا رفع ما لا يعلمون في المقام لا يجري لأن ما لا يعلم وهو المشكوك يكون مرفوعا واما ما لا يكون شكا ساذجا فيكون الشبهة في تطبيق الدليل لأن احتمال كونه مما يعلم ولو باحتمال التطبيق يمنع عن جريان الأصل.

والجواب عنه قده ان العلم والشك يكون لكل واحد منهما موطنا ولا يسرى موطن (١) العلم إلى موطن الشك فيكون العلم في موطن لا يسرى إلى الخارج والشك في كل واحد من الأطراف تفصيلي فلا مانع من جريان الأصل كما مر.

واما إشكال الشيخ (قده) فيكون من جهة مناقضة الصدر والذيل في الأدلة فيما له ذيل مثل قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر وقوله عليه‌السلام كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام بعينه وقوله عليه‌السلام كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر.

لأنه لو فرض جريان الأصل في موارد العلم الإجمالي يلزم نقض اليقين بالشك فان الصدر منع عن نقض اليقين بالشك والذيل أمر بالنقض بيقين آخر والصدر حكم بحلية كل مشكوك الحلية والذيل يدل على ان ما عرفنا انه حرام لا يكون حلالا وكذا ما علمنا انه قذر ليس بطاهر وما دل العلم الإجمالي عليه أيضا يكون معلوما بوجه

__________________

(١) العلم والشك وان كان لا يسرى أحدهما إلى الآخر ولا يسرى العلم إلى الخارج ولكن يكون العلم كاشفا عما في الخارج وهذا شيء لا ينكر.

٤١١

ومشكوكا من وجه فلا يمكن ان يكون مورد الأصل.

والقول بتعيين وجه الشك في جريان الأصل لا مرجح له وكذلك القول بالتخيير بين جريان حكم الأصل من جهة الشك وعدم جريانه من جهة العلم لم يقل به أحد فلا يمكن القول بجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي.

والجواب عنه قده مع عظم شأنه هو انا نسأل منه ان كان المراد باليقين أو العلم الّذي يكون غاية لحكم الشك هو الأعم من الإجمالي والتفصيلي فلا موضوع للأصل أصلا لأن العلم الإجمالي أيضا كالتفصيلي فيكون معلوما لا مشكوكا وموضوع الأصل هو الشك ولا ربط له بمناقضة الصدر والذيل وعلى فرض اختصاص الغاية بالعلم التفصيلي فيكون الموضوع باقيا لأن المعلوم بالإجمال يكون كالمشكوك وهو قده رأى أن التصرف في الصدر أرجح بحمل اليقين على اليقين الإجمالي فإذا كان اليقين في شيء إجمالا لا ينقض الا بيقين لا بالشك في كل طرف من الأطراف كاليقين بنجاسة أحد الكأسين فانه لا ينقض إلّا باليقين بالطهارة.

ولكنا نسأل منه أي فرق بين الصدر والذيل فانه لو كان اليقين الإجمالي كافيا فلم لا يقال بهذه المقالة في صورة كون الكأسين مثلا نجسين وحصل اليقين بطهارة أحدهما فانه أيضا يقين فلما ذا يقال لا أثر لهذا اليقين فان النقض باليقين الآخر لو شمل اليقين الإجمالي يجب أن يشمل هذا أيضا ولم يقل به.

فالسرّ في عدم جريان الأصل في العلم الإجمالي يكون تنجيزه في نفسه لحكم العقل به لا مناقضة الصدر والذيل.

فان قلت نحن نأخذ بما لا ذيل له مثل رفع ما لا يعلمون والناس في سعة ما لا يعلمون حتى لا يأتي الكلام عن المناقضة قلت المطلق يقيد والعلم يخصص فان ما له الذيل يكون خاصا فيكون المدار أيضا على المقيد والكلام فيه ما مرّ.

لا يقال لا يحمل إحدى الطائفتين على الأخرى لأن من المحرر في الأصول عدم حمل المطلق والمقيد والعام والخاصّ المثبتين على الآخر ويكون التقييد في صورة تنافي العام والخاصّ والمطلق والمقيد بالنفي والإثبات.

٤١٢

لأنا نقول هذا حق في صورة عدم إحراز وحدة المطلوب واما في المقام فندعي ان المطلوب من جميع الروايات واحد وهو كونها في مقام جعل الوظيفة في ظرف الشك.

مضافا بأنه يمكن أن يقال بان المناط هو إحراز الموضوع ولو كان الدليل بلا ذيل فان عنوان ما لا يعلمون يجب أن يكون صادقا ففي صورة عدم الصدق لا مجرى للأصل والفرض أن مورد العلم الإجمالي لا يكون الموضوع متحققا فلا يكون هذا مختصا بما له الذيل فانه كان أو لم يكن لم يؤثر فيهما هو المهم وإلّا فلو لم يكن العلم الإجمالي مانعا من الجريان يلزم ان لا يكون التفصيلي أيضا غير مانع لأن الموضوع في كلا الصورتين غير منحفظ.

فالحق أن يقال ان الموضوع في كل طرف منحفظ ولذا يجري الأصل فيه والعلم بالواقع بينهما لا يسرى إلى الخارج وإلى موطن الشك في فرض عدم تنجيز العلم الإجمالي وموته سواء كان المراد بالذيل العلم التفصيلي أو الإجمالي.

ثم انه قد أشكل شيخنا العراقي قده على الشيخ بما حاصله ان المراد باليقين في الصدر هو اليقين التفصيلي لظاهر الدليل ويكون المراد من الذيل أيضا ما هو المراد من الصدر فقوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين يكون المراد التفصيلي منه وقوله بل انقضه بيقين آخر يكون المراد نقض اليقين باليقين الّذي يكون مثل يقين الصدر لوحدة السياق فجريان الأصل في صورة العلم إجمالا وعدم نقض اليقين التفصيلي بالإجمالي لا يكون من المناقضة بين الصدر والذيل ولا يلزم من العمل بالصدر طرح الذيل.

ولو سلم (١) فلا شبهة في أن حرمة نقض اليقين في الصدر تكون تعبدية محضة

__________________

(١) أقول ليس هذا وما قبله إلّا برهانا واحدا لا كون هذا بعد تسليم عدم وحدة السياق فانه لو كان السياق واحدا يلزمه كون الذيل مثل الصدر وحيث يكون المراد باليقين في الصدر التفصيلي حسب ما يدعيه قده يكون اليقين في الذيل أيضا ـ

٤١٣

لأن الشك إذا جاء لا شبهة في أنه لا يبقى العلم فان المعلوم إذا صار مشكوكا ينقلب عما هو عليه فالحكم بحرمة النقض بعد النقض يكون تعبدا محضا واما الذيل فيكون على حسب التكوين فان اليقين السابق لا ينقض تكوينا إلّا بحصول يقين مثله فإذا حصل اليقين بالخلاف يكون النقض تكوينيا والحكم به يكون من الإرشاد المحض.

ولا شبهة في أن النقض التكويني حاصل إذا كان تفصيليا ولا يمكن نقض اليقين التفصيلي باليقين الإجمالي تكوينا ضرورة لأنه علم مخلوط بالشك فلا يلزم من ذلك أي من جريان الأصل في مورد العلم الإجمالي مناقضة الصدر والذيل لأن ما امر الشارع بنقض اليقين به هو التفصيلي فقط هذا كلامه رفع مقامه انتهى.

وفيه انه على ما هو الحق عندنا من عدم سراية العلم إلى موطن الشك كما مر يصح هذا الكلام لعدم إمكان النقض لوجود الشك التفصيلي في كل طرف من

__________________

ـ كذلك حسب وحدة السياق فيكون تكوينيا.

فعمدة الإشكال عليه قده يمكن ان تكون منع انصراف الصدر إلى اليقين التفصيلي ليلزمه منع الذيل أيضا ومنع الإرشاد ولم يحضرني تقريرات بحثه وهذا ما قرره الأستاذ في الدرس.

ومع ذلك كله يكون هذا الكلام في الاستصحاب فقط ولم يكن بيانا لما له الذيل من أدلة البراءة وإشكال المناقضة يكون عاما للاستصحاب والبراءة ولا يمكن تطبيق هذا البيان في قوله كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام لأن الصدر لا يكون الحكم الا في مورد الشك ولو لم تكن الحالة السابقة.

فالعمدة ان يقال ان الموضوع في الكل هو الشك ويلزم ان يكون منحفظا غاية الأمر يكون في الاستصحاب أحد الأركان والركن الآخر اليقين السابق وفي البراءة هو الركن الواحد. فان كان صادقا مع العلم الإجمالي فهو وإلّا فلا مجال لجريان الأصل وحيث يشكل علينا ما ذكره الأستاذ مد ظله من ان العلم الإجمالي لا ربط له بالخارج فيشكل القول بجريان الأصل ثبوتا لأنه مرآة للخارج بل لا ينفك العلم كذلك عن التنجيز وفرض عدم تنجيزه يكون مجرد الفرض فقط.

٤١٤

الأطراف ولكن الأستاذ قده يقول بجريان الاستصحاب فيما كان معلوما بالإجمال ثم شك في هذا العلم مثل أن نعلم بالعلم الإجمالي نجاسة أحد الإناءين ثم شككنا في أن العلم كان مطابقا للواقع أم لا فانه قده يقول انه يستصحب العلم الإجمالي حتى يظهر خلافه فلو كان المراد من الصدر في الاستصحاب بالانصراف هو اليقين التفصيلي فكيف ينطبق على ما كان يقين الصدر فيه إجماليا.

هذا إيراد الشق الأول من كلامه وهو قوله ان اليقين منصرف إلى التفصيلي واما الإيراد على الشق الثاني وهو أن المراد من اليقين في الذيل هو اليقين التفصيلي أيضا وجعل الأمر بالنقض إرشاديا فهو أيضا يتوقف على القول بأن اليقين في الذيل يكون هو التفصيلي واما على فرض كون المراد به الأعم من الإجمالي والتفصيلي فلا يكون الأمر في صورة العلم الإجمالي إرشادا فيرجع إشكال الشيخ قده بمناقضة الصدر والذيل فالحق هذا الطريق الّذي ذكرناه في جريان الأصول على فرض عدم تنجيز العلم.

إذا عرفت ذلك فيجب البحث في مقامين المقام الأول في حرمة المخالفة القطعية والثاني في وجوب الموافقة القطعية وهذا البحث يكون بعد وجود الاقتضاء لجريان الأصل من جهة انه هل يكون العلم الإجمالي مانعا أم لا.

ففي المقام الأول نقول لا شبهة في ان العلم يقتضى ترك المخالفة القطعية وذلك لأن الصفات تارة تكون نفسية وتارة تكون خارجية فالأوّل مثل العلم فانه يكون من صفات النّفس فإذا كان المعلوم مجملا ومرددا لا يكون التعلق بعنوان الأحد الا من باب أخذ ما هو مخلوق النّفس متعلقا له وهو لا واقع له بل مخلوق لكم ومردود إليكم وتارة تكون الصفة خارجية مثل النجاسة فان الكأس في الخارج يكون مائة مثلا نجسا ويوصف ان هذا في الخارج نجس ولا يقال ان هذا الشيء في الخارج معلوم.

ونحن في المورد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الكأسين نعلم بوجود صفة النجاسة بين ما هو موجود في الخارج ونعلم أيضا بأنه صدر عن الشارع وجوب الاجتناب عن النجس يقينا ونعلم أن متعلق حكم الشارع لا يكون خارجا عما وجدناه

٤١٥

في الخارج والعلم نور محض يكشف عن واقعية يجب متابعته ويكون هذا العلم مثل العلم التفصيلي في كشف الواقع ولا يكون عذر للعبد في المخالفة وعنوان أحدهما لا يكون له المنطبق في الخارج ولا يكون التكليف متعلقا به.

وبعبارة أخرى الأحكام في الشريعة المقدسة على نحوين : الأول ما كان معلقا على شيء مثل الأحكام الأولية المعلقة بعدم الاضطرار والحرج والضرر فانه إذا حصل أحد العناوين لا يكون الحكم فعليا ولا يجب البعث أو الزجر منه.

والثاني أن يكون غير معلق على شيء كالاجتناب عن النجاسة فانه لا يكون حكمه مثلا معلقا على صورة علم المكلف بالمتعلق الشخصي بل يكون مطلقا فحينئذ لا يكون للمكلف في صورة إجمال المتعلق ترك الحكم وامتثاله ولا سبيل للعقل هنا في تشريع الحكم بل يحكم العقل بتا بوجوب متابعة هذا الحكم ولا يكون للشرع ردع العقل بجعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لأن حكم العقل يكون تابعا لما نجز في الشرع فللشارع رفع اليد عن حكمه الّذي يكون منشأ حكم العقل بوجوب المتابعة وليس له الردع بعد حكمه بشيء بدون التعليق على شيء فنحن حيث نرى أن الترخيص في هذا وذاك مخالف لإطلاق الجعل نحكم بعدم جريان الأصل في مورد العلم الإجمالي.

ان قلت ليس ما ذكرتم من وجوب الاجتناب عن النجس في مورد العلم الإجمالي الا من باب احتمال تطبيق الواقع في البين على هذا وذاك وهذا الاحتمال أيضا موجود في الشبهة البدوية لاحتمال تطبيق الواقع على المشتبه ويترتب عليه احتمال المعصية فكما لا يعتنى باحتمال التطبيق فيها فلا يعتنى في المعلوم بالإجمال من غير فرق بينهما.

قلت الفرق بينهما واضح لأن مورد العلم الإجمالي يكون التكليف واصلا إلينا بأبزاره فيجب امتثاله واما في مورد الشبهة البدوية فلا يكون التكليف وأصلا أصلا فانه يكون التكليف من أصله مشكوكا بخلاف صورة العلم بنوع التكليف من الوجوب والحرمة واشتباه المتعلق في الخارج.

فان قلت مرّ منكم أن الترخيص في كل واحد من الأطراف لا يكون مناقضا

٤١٦

للعلم ثبوتا فأيّ إشكال في جريان الأصل في كل واحد من الأطراف والّذي يكون مناقضا هو الأصل الجاري في مجموع الطرفين دفعة وليس لنا أصل كذلك مجعول من الشرع.

مضافا بأنه بعد ارتكاب كل واحد منهما يحصل العلم بمخالفة الواقع وهو لا يضر فان المعصية تكون في صورة إحرازها قبل الفعل بوضوح حكم ما يخالفه وليس في المقام كذلك فلا مانع من جريان الأصل.

قلت أجيب أولا كما عن النائيني قده بان الأصلين إذا كان جريانهما مضادا للواقع على فرض الجريان يتساقطان فلا مؤمّن في صورة احتمال التكليف بعد سقوط ما هو مؤمّن لو لا التعارض فلا بد من امتثال التكليف المحتمل في كل واحد من الأطراف نعم الأصل الواحد لا إشكال في جريانه لعدم المنافاة.

واما القول بأنه عند ارتكاب كل واحد لا يكون المعصية محرزة فجوابه أن الفعل كذلك ينافي جعل التكليف في الواقع ومخالفته تحصل بواسطة فعل كلا الطرفين أو الأطراف فان الجمع بين الأصول يضاد العلم الإجمالي بالتكليف بخلاف الأصل الواحد.

ولكن الّذي هو الحق خلاف ما ذكروه في الجواب بل الحق هو ما ذكرناه من أن اللازم من جريان أصل واحد أو الأصول المتعددة هو الترخيص في المعصية ولا يكاد يمكن الترخيص فيها عن عاقل فضلا عن المولى الحكيم فلا يجري أصل واحد أيضا وما ذكر من تعارض الأصول وعدم المؤمّن لا يكون هذا شأنا للعلم بل يكون (١) الاحتمال منجزا والكلام يكون في تنجيز العلم الإجمالي لا الاحتمال فان الشبهات البدوية أيضا يكون الحكم فيها الاحتياط إذا لم يكن المؤمّن في البين كما في موارد

__________________

(١) إذا كان المراد بالاحتمال هو احتمال التطبيق فلا محالة يكون ناشئا عن العلم الإجمالي وليس كل احتمال حجة بل الاحتمال الّذي يكون له منشأ عقلائي ولا مؤمّن له وعدم وجود المؤمّن في المقام يكون لنكتة العلم وإلّا فالشبهة البدوية التي لا تكون في باب الفروج والدماء أيضا فيها الاحتمال وليس بحجة.

٤١٧

الفروج والدماء.

واما ما ذكر من ان الشارع لا يجمع بين تعبدات ثلاثة التعبد بالاجتناب عن النجس في البين والتعبد بارتكاب هذا الطرف وذاك للمنافاة فائضا منقوض بصورة عدم لزوم المخالفة العملية مثل صورة العلم بطهارة (١) أحد الكأسين بعد العلم بنجاستها فانه كيف يمكن التعبد بالقول بالنجاسة وعدم ملاحظة العلم فالحق الوحيد هو أن جريان الأصل يكون من الترخيص في المعصية.

__________________

(١) أقول يمكن ان يقال في المقام وساير المقامات مثله بان الطهارة لا يكون لها الاقتضاء فان احتمال الطهارة لا يكون فيه الأمر بشيء ولكن احتمال النجاسة يكون فيه الأمر بالاجتناب وهو لا يجمع مع الترخيصين ولو فرض في مورد اقتضاء الطهارة حكما تعبديا.

مثل ما لو فرض ثوبان أحدهما يكون طاهرا بعد العلم بنجاستهما يجب الصلاة فيهما قضاء للعلم الإجمالي بوجود الطاهر وترك الصلاة فيها أو الاكتفاء بأحدهما لا يكون صحيحا فعلى هذا لا يكون في طريق القائل بتعارض الأصلين وتنجيز الاحتمال الناشئ من العلم الإجمالي كثير إشكال.

واما ما ذكره مد ظله من أنه يكون من الترخيص في المعصية ففي ارتكاب كلا الطرفين يكون كذلك واما في ارتكاب بعض الأطراف فلا نسلمه لأنه من الممكن أن يقتضى مصلحة التسهيل رفع اليد عن حكم بعض الأطراف إذا كان لدليل البراءة عموم أو إطلاق يشمل المقام والمهم صرف عنان الكلام إلى أنه هل يكون الشك الّذي هو موضوع الأصل شاملا لموارد العلم الإجمالي أم لا في لسان الدليل فان القول بأن موضوعه هو الأعم مشكل بل ممنوع فان العرف لا يرى العالم بالعلم الإجمالي كالشاك ولا يكون المراد بالعلم أو اليقين في دليل الأصل هو التفصيلي فقط فانظر إلى قوله عليه‌السلام في الإناءين المشتبهين فانه عليه‌السلام قال يهريقهما ويتيمم ولو لا لزوم الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية ما كان وجه لإهراقهما بل يمكن أن يقول اكتف بترك الواحد منهما في مقام الاجتناب عن النجس.

٤١٨

لا يقال أن ما ذكرتم من المضادة بين جريان الأصل والعلم يكون في صورة وجود العلم الوجداني الإجمالي واما إذا كان الدليل هو العلمي مثل قيام الأمارة على أن أحد هذين الكأسين مثلا نجسا فلا مجال لهذا القول لأن دليل الأصل أيضا أمارة ففي مقام تعارض الأمارتين لأصالة الظهور فيها لا وجه لتقديم أمارة الحكم بل يقدم دليل الأصل أيضا كما أنه يمكن تقديم أمارة الحكم ولا ترجيح لأمارته على أمارة الأصل.

لأنا نقول دليل الحكم يكون حاكما على دليل الأصل لأن الموضوع في جريان الأصل هو الشك فانه يكون جريان الأصل عند عدم العلم بالحكم بقوله رفع ما لا يعلمون وأمثاله وفقدان الموضوع يكون موجبا لفقدان الحكم ودليل الحكم لا يكون موضوعه الشك بل يكون في ظرف الشك فعلى مسلك تتميم الكشف يكون دليل الحكم تنزيل الشك منزلة العلم فيكون مفادها حصول العلم تعبدا فيكون رافعا لموضوع الأصل تعبدا فلذا يقدم أمارة الحكم على الأصل.

وبعبارة أخرى إذا شك في حكم العصير العنبي فدل دليل على النجاسة مثل رواية عن زرارة مثلا فان مفاد دليل الأمارة هو تصديق العادل وإلقاء احتمال الخلاف في ظرف الشك وفرض المشكوك معلوما واما إذا لم يكن دليل كذلك فان مفاد رفع ما لا يعلمون وغيره هو أن الحكم في الموضوع الّذي يكون هو الشك مرفوع فيكون مفاده الأصل لأن الأصل موضوعه الشك فدليل النجاسة يدل على أنك عالم بالعلم التعبدي ودليل الأصل لا يحكم كذلك بل مع تثبيت الشك يحكم برفع الحكم.

ومعلوم أن الّذي يفيد العلم تعبدا يوجب رفع الموضوع بالنسبة إلى ما يكون موضوعه الشك فلا فرق في العلم الإجمالي بين أن يكون العلم وجدانيا أو تعبديا مستفادا من الشرع.

هذا كله في المقام الأول وهو وجوب ترك المخالفة القطعية وحاصل ما قلناه في اقتضاء العلم ذلك هو أنه لو فرض جواز المخالفة كذلك يلزم الترخيص في المعصية وهو قبيح عن المولى الحكيم والمخالف هنا شاذّ.

٤١٩

واما المقام الثاني وهو وجوب الموافقة القطعية فهي أيضا لازمة على التحقيق ولا شبهة لأحد في أن موافقة العلم لازمة ولذا من قال بكفاية ترك المخالفة القطعية يدعى ان الموافقة تكون أعم من الوجداني والتعبدي فان دليل البراءة في طرف واحد إذا كان جاريا يكون مفاده هو الاكتفاء عن الواقع بواحد تعبدا.

والشيخ الأعظم (١) قده أيضا يكون قائلا بوجوب الموافقة القطعية ويكون العلم علة تامة لذلك عنده وليس قائلا بالاقتضاء كما توهمه بعض الناظرين إلى عبارته كما أنه في صورة قيام الأمارة على أن النجس مثلا هو هذا الكأس الأبيض يحكمون بالانحلال أو الاكتفاء عن الواقع بالواحد المعين وعلى هذا يقولون بأن أدلة البراءة حيث تكون عامة ويشمل كل طرف لوجود الشك التفصيلي ومن جهة المضادة مع العلم لا يمكن جريانها في الطرفين لا بد من القول بالتخيير مثل موارد التخيير بين الأمارتين المتعارضتين.

فصل في ان العلم الإجمالي مقتض أو علة تامة

أقول يجب علينا البحث في المقام عن مقامات أربعة الأولى في وجوب الموافقة القطعية كوجوب ترك المخالفة القطعية وإثبات كون العلم علة تامة والثاني البحث في الانحلال والثالث البحث في جعل البدل والرابع البحث في التخيير.

ففي المقام الأول نقول العلم علة تامة بعين الدليل السابق في كونه كذلك بالنسبة إلى المخالفة القطعية وهو أن العلم صفة في النّفس والنجاسة صفة في الخارج فإذا علمنا بأن النجاسة في الخارج موجودة بين الكأسين نعلم أن الحكم بالاجتناب عن النجس الخارجي يكون في البين والترخيص في طرف واحد أو الأطراف يكون من الترخيص في المعصية وهو قبيح على المولى.

__________________

(١) فانظر إلى نصه في المقام الثاني في ص ٢٢٩ من الرسائل فالحق وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور.

٤٢٠