مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

بان مفادها علم يجري الأصل لأنه يقين ولا ينقض بالشك على المختار بخلاف ساير المسالك.

والثالث في صورة تعارض الاستصحاب مع الأصل العقلي مثل قبح العقاب بلا بيان فان الاستصحاب مقدم لأنه علم وبيان على المختار بالورود ومع الأصل الشرعي فانه حاكم عليه لأنه علم تعبدي بالبيان السابق وهذا من ثمرات تتميم الكشف لا غيره.

فان قلت (١) بعد كون الاستصحاب أصلا محرزا وبمنزلة العلم فكيف يقدم عليه قاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحة مع كونها من الأصول المحرزة أيضا قلت السر في ذلك هو انه لو قدمناه عليها يلزم لغوية القواعد وعدم المورد لها لأن كل مورد من الموارد يكون فيه الاستصحاب.

واما تقديمه على أصالة الاشتغال (٢) مع انه أصل محرز بالإحراز الوجداني لأنه يحصل بعده العلم بالفراغ إذا عمل عليه بخلاف الاستصحاب فانه محرز تعبدي فيحتاج إلى دليل والحاصل يحصل المعارضة بين الأصول المحرزة المتخالفة ففي كل مورد يحتاج إلى دليل آخر للتقديم والاشتغال على فرض كونه أصلا عقليا يكون الأصل الشرعي المحرز مقدما عليه.

هذا كله على مسلك التحقيق واما على مسلك الشيخ قده وهو تنزيل المؤدى

__________________

(١) هذا الإشكال والجواب في حاشية الآخوند قده على الرسائل ص ٣١٧ في بحث التعادل والترجيح فان شئت فارجع.

(٢) أقول موارد تقديم الاستصحاب إذا كان موافقا للاشتغال وهو الّذي يسمى باستصحاب الاشتغال يكون التقديم مع الاستصحاب وتظهر الثمرة عند التعارض لأنه دليل شرعي واما صورة التخالف بين استصحاب المخالف له والاشتغال فلم نجد مثالا له ولم يمثل له مد ظله بعد المراجعة إليه وقال انه نادر ومع ذلك فاللازم إمكان تقديم الاشتغال عليه لأن كل مورده يكون لنا استصحابه فيتعارضان ونحتاج إلى مرجح.

٢٤١

فقال شيخنا العراقي قده بأنه لا يتصور عليه الحكومة ولا يترتب عليه الثمرات التي ذكرناها في مسلك الكشف فانه لا يقوم مقام القطع جزء الموضوع لأنه ليس التنزيل في كونها علما وكذا لا تكون غاية ، للاستصحاب بهذا المناط وهكذا ساير الثمرات بهذا الملاك فان ملاك الحكومة وترتيب الآثار شيء واحد وهو تنزيل الظن منزلة العلم لا تنزيل المؤدى منزلة الواقع هذا ما قيل.

ولكني أقول انه يمكن القول بالحكومة وترتيب الثمرات على هذا المسلك أيضا وخلاصة الكلام هي ان دليل الأمارات يكون موجبا لليقين فإذا قامت الأمارة في مورد يحصل لنا القطع الوجداني بالواقع التعبدي فإذا حصل لنا هذا القطع فنضم دليل الأصل إلى هذا الدليل فنرى الحكومة بالنسبة إلى الأصل الشرعي والورود بالنسبة إلى الأصل العقلي.

اما الثاني فلان حكم العقل فيه يكون لعدم البيان ومع العلم الوجداني بالواقع التعبدي نفهم البيان فلا موضوع له مع قيام الأمارة واما الأصول الشرعية فبالنسبة إلى المحرز منها مثل الاستصحاب فيكون الحكومة محكمة فان دليل الأصل يدل على ان اليقين لا ينقض إلّا باليقين بخلافه والأمارة تحكم بأنه يكون لك اليقين بالواقع التعبدي.

واما شيخنا النائيني قده فيكون مسلكه في باب الاستصحاب موافقا للشيخ قده فانه يقول يكون التنزيل فيه في المتيقن لا في اليقين لأن اليقين يكون منقوضا تكوينا فمعناه ترتيب آثار المتيقن إلى أن يحصل اليقين بخلافه وفي الأمارات يكون مسلكه تتميم الكشف خلافا له وعليه أيضا يقال بعد العلم الوجداني بدليل الأمارة بالواقع التعبدي ينتهى أمد الاستصحاب.

لا يقال الاستصحاب أيضا كذلك فلما ذا لا يقدم على الأمارة مع انه أيضا تنزيل في المتيقن على مسلك العلمين الشيخ والنائيني لأنا نقول الأمارة موردها الشك والأصل موضوعه الشك وتقديمه عليها يلزم منه الدور لأن جريانه متوقف على بقاء موضوعه حتى يكون حاكما على الأمارة وبقاء موضوعه متوقف على جريانه.

٢٤٢

وبعبارة أخرى لازم تقديمه هو تخصيص دليل الأمارة في مورده وهو متوقف على بقاء موضوعه وبقاء موضوعه متوقف على تخصيصه دليل الأمارة وهذا يكون من جهة ذهاب موضوعه بواسطة الأمارة.

في حكومة الأصول المحرزة على غير المحرزة

واما الأصل الغير المحرز مثل البراءة فيكون تقديم الأمارة عليه أيضا بالحكومة من باب انه بيان تعبدي في مقابل رفع ما لا يعلم فان ما لا يعلم مرفوع ما لم يحصل العلم الوجداني بالواقع التعبدي هذا بالنسبة إلى الأمارة والأصل.

واما الأصول فنسبة بعضها مع البعض في المقام أيضا يكون مثل ما مر في تتميم الكشف بهذا البيان في تقديم الأمارة على الأصل على مسلك الشيخ (قده) فالأصل المحرز مقدم على الأصل العقلي بالورود وعلى ساير الأصول الشرعية بالحكومة من باب أن مفادها علم وجداني بواقع تعبدي.

فالفرق بين تتميم الكشف وتنزيل المؤدى هو انه على الأول يحصل العلم التعبدي بالواقع الواقعي وهنا يحصل العلم الوجداني بالواقع التعبدي.

واما الأصول المحرزة بعضها مع البعض فيحصل التعارض بينهما ونحتاج للترجيح إلى مرجح كما نقول في تقديم قاعدة التجاوز والفراغ على الاستصحاب لعدم بقاء المورد لهما لأن كل مورد من مواردهما يكون فيه الاستصحاب والحاصل على مسلك تنزيل المؤدى يأتي كل ما قلناه على مسلك الكشف ويترتب الثمرات أيضا ثم انهم وجهوا كلام الشيخ قده انتصارا له بتوجيهين :

الأول (١) : ان الخطاب يكون عاما من الأول في أدلة الأصول فإذا قيل

__________________

(١) أقول لم يبيّن وجها وسندا لهذا القول وبعد المراجعة إليه مد ظله قال كلامهم ليس أزيد من هذا ولكن يمكن أن يكون قولهم هذا من باب ان العلم الوجداني اليقينيّ قليل جدا ولكن الشك الواقعي كثير جدا فغالب اليقين في صدر لا تنقض اليقين إلخ وذيله هو الحاصل من الأمارات وهكذا ما يكون غاية دليل البراءة ولذا ـ

٢٤٣

لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر أو كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام. ان اليقين والعلم في غاية الدليلين بقوله بل انقضه أو حتى تعلم إلخ يكون الأعم من الحاصل بالتعبد أو بالوجدان فإذا قامت الأمارة على شيء يكون العلم التعبدي حاصلا فيكون مقدما بالورود لا بالحكومة لأن موضوع الأصل كان مغيا بعدم حصول هذا النحو من العلم أيضا فإذا حصل لا يبقى له موضوع.

وأجاب عنه المدقق العراقي (قده) بأن هذا خلاف الظاهر فانه كما ان الشك يكون بلحاظ الواقع كذلك العلم ظاهر في العلم الوجداني فلو قلنا بأن الشك يتعلق في صدر الدليل بالواقع والعلم في ذيله بالأعم منه يلزم تهافت الصدر والذيل فلا يتم هذا الوجه حذرا من هذا المحذور.

التوجيه الثاني هو ان كل مورد من موارد الأمارات يكون مورد أصل من الأصول اما البراءة أو الاستصحاب فلو لم نقل بتقديمها عليه يلزم لغوية جعلها لعدم بقاء مورد يمكن أن نتمسك بها فإذا كان مقدما على أصل واحد يلزم منه تقديمها على جميع الأصول ولو لم يلزم بعد تقديمها على بعض الأصول محذور اللغوية لعدم ترجيح الأصول بعضها على بعض بالإجماع.

والجواب عنه أولا انا لا نحتاج إلى هذا الطريق في تقديم الأمارة على الأصل بل الحكومة بتقريب تتميم الكشف أو بتقريب تنزيل المؤدى على ما مر مفصلا. وثانيا لا يكون لنا إجماع تعبدي بان الأصول كلها يكون الملاك فيها واحدا ولو فرض يكون سنده هذه الاحتمالات الأصولية ولا يكون من الإجماع الّذي يكون حجة شرعية. وثالثا قد مر أن الأمارة موردها الشك والأصل موضوعه الشك وهي تذهب بموضوع الأصل لأنه بعد قيام الأمارة لا يبقى للأصل مجال وتقديمه عليها يكون اللازم منه هو الدور المحال الذي مر آنفا

__________________

ـ يمكن أن يقال بأن هذا صار سببا لانقلاب كون المفهوم من اليقين هو الوجداني فقط فادعاء كونه أعم لا يكون فيه خلاف الظاهر العرفي ولا يكون بعيدا عنه كثير بعد ولا يبعد الورود بهذا التقريب وان كان تقريب الحكومة أيضا كما مر متين.

٢٤٤

من انه لا بد له من تخصيص دليل الأمارة في مورد الأصل وهو يتوقف على بقاء موضوعه وبقاء موضوعه يتوقف على كونه مخصصا ومما ذكرنا ظهر أن المسلك الثالث وهو مسلك الخراسانيّ قده (١) في الأمارة من باب جعل الحجة والحجية غير تام ولا يتم الحكومة والورود بالنسبة إلى الأمارات فنضرب عنه الذّكر اختصارا.

الأمر الثاني

من الأمور التي تقدم البحث عنه هو انه ربما توهم ان البحث عن ان الأصل في صورة الشك في التكليف البراءة أو الاحتياط متوقف على البحث عن ان الأصل في الأشياء هل يكون الحذر أو الإباحة فلو قلنا ان العقل يحكم بالحذر لا بدّ من القول بالاحتياط ولو قلنا أن الأصل هو الإباحة فهنا أيضا يكون الأصل هو البراءة فالبحث هو البحث ولا يلزم التكرار.

وقد أجيب عنه بأن المقام يكون البحث عن الحكم الظاهري وهناك كان البحث عن الحكم الواقعي فيمكن ان يقال بأصالة الإباحة بحسب الواقع وبأصالة الاحتياط بحسب الظاهر أو يقال بالحذر في الواقع والبراءة في الظاهر ولا تلزم من اختيار الحذر هناك اختيار الاحتياط هنا وهكذا بالعكس وفيه انه ان كان العقل مستقلا بالحذر فكيف يمكن ان يقال بالبراءة مع أن موضوعها هو الشك وفي صورة الحكم الاستقلالي من العقل لا وجه في القول بها لعدم بقاء الموضوع وهكذا لو كان الأصل يقتضى الإباحة وحكم العقل مستقلا به فلا يبقى شك ليحتاط فان ضرب اليتيم وظلمه يكون قبيحا عقلا ولا يكون له وجه للجواز الشرعي إلّا إذا كان الضرب

__________________

(١) أقول يرجع لفهم مسلكه قده في حاشيته على الرسائل في ذيل التعادل والتراجيح ص ٣١٧ وفي ذيل الاستصحاب كما أشار إليه قده في هذا الموضع من شرحه وتعرض له مد ظله في الدورة الأولى وقررناه في تلك الدورة وفيها مطالب أخر أيضا.

٢٤٥

للتأديب فهذا يكون من مستثنيات حكم العقل وقد أجيب عنه أيضا بان البحث عن أصل الإباحة أو الحذر في الأشياء يكون مربوطا بالموضوعات الخارجية مثل التصرف في الأملاك ولا يكون في العناوين الكلية من الأحكام.

والجواب عنه ما مر من أنه مع استقلال حكم العقل لا يبقى مجال لحكم الشرع.

فالصحيح أن يقال ان حكم (١) العقل كان منوطا بعدم ترخيص من الشرع فالبحث عن الأصل في الأشياء أيّ شيء انتج يكون مراعى بعدم الترخيص من الشرع وأصل البراءة ترخيص عنه ووصل إلينا أو يقال هذا البحث يكون في الأحكام الثانوية وذاك البحث في الأحكام الأولية وكيف كان فذاك البحث ساقط عن الاعتبار.

الأمر الثالث

من الأمور التي يجب تقديمه هو بيان ان النزاع بين الأصولي والاخباري في القول بالبراءة والاحتياط هل يكون صغرويا أو كبرويا قال شيخنا العراقي قده ان البحث صغروي والكبرى لا يكون فيها الإشكال.

بيانه انه يقول ان سند الأصولي هو قبح العقاب بلا بيان وهذا حكم عقلي يحكم به كل عاقل ولا يمكن أن يقال ان كبراء الأخباريين مع جلالة شأنهم لا يلتفتون إليه.

وسند الاخباري هو أن دفع الضرر المحتمل الأخروي واجب بحكم العقل فيجب الاحتياط والأصولي لا ينكر هذا الكبرى وأيضا لا نزاع في تقديم قبح العقاب بلا بيان على دفع الضرر المحتمل بالحكومة كما يقوله الأصولي فهذه الثلاثة لا نزاع

__________________

(١) لو كان سندهم حكم العقل فقط واما لو كان سندهم الدليل الشرعي والتمسك بالآيات والروايات كما انه لا يخلو كلامهم منها فيكون مدعى الحذر احتياطيا ومدعى الإباحة قائلا بالبراءة ولكن في مورد خاص وهو الأموال وهذا البحث هنا يكون بالنسبة إلى كل مشكوك فهذا البحث أعم منه.

٢٤٦

فيها وانما النزاع في الصغرى وهي أن الاخباري يقول ان البيان وصل إلينا بالآيات والاخبار الدالة على وجوب الاحتياط فيجب الاحتياط والأصولي يقول ما وصل إلينا بيان لعدم تمامية الاستدلال بالآيات وسقوط الاخبار لتعارضها مع الاخبار الدالة على البراءة.

ويرد عليه قده أولا بأن قوله لا نزاع في تقديم قبح العقاب بلا بيان على دفع الضرر المحتمل يكون على مسلكه قده وأما على مسلك غيره ففيه الاختلاف حتى من الأصوليين فضلا عن الأخباريين فهذا محل النزاع والاخباري يقول بأن التقديم مع قاعدة دفع الضرر لا قبح العقاب بلا بيان.

وثانيا لو تم كلام الاخباري بأن البيان تام باخبار الاحتياط والآيات فلما ذا يتمسك بدفع الضرر المحتمل وترجيحه.

وثالثا من أين يحتاج الأصولي إلى التمسك بقبح العقاب بلا بيان في قوله بالأصل فانه كفاه إسقاط أدلة الاخباري في قوله بالاحتياط.

الأمر الرابع

في انحصار الأصول بالحصر العقلي إلى الأربعة : الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير.

وبيانه ان المشكوك اما أن يكون له حالة سابقة تلاحظ تلك الحالة فيه فهو مورد الاستصحاب واما لا يكون له حالة سابقة كذلك وعليه اما أن يكون في مورده منجز للتكليف كالعلم الإجمالي أولا وعلى الأول اما أن يمكن الاحتياط فهو المرجع واما أن لا يمكن الاحتياط مثل دوران الأمر بين المحذورين فالأصل هو التخيير وعلى الثاني وهو صورة عدم المنجز فيه فالأصل هو البراءة فقد انحصر الأصول في الأربعة بهذا البيان.

لا يقال أن مورد التخيير والبراءة واحد لأن صورة التخيير اما أن يكون المكلف فاعلا أو تاركا وفي صورة البراءة أيضا كذلك لأنه بعد جريانه اما أن يفعل أولا فهما

٢٤٧

من حيث ان اقتضائهما الفعل أو الترك لا تعدد فيهما.

لأنا نقول فرق واضح بينهما وهو ان القول بالتخيير يكون بعد إحراز التكليف بالعلم الإجمالي ويكون الترخيص من باب عدم إمكان الجمع بين المحتملات بخلاف أصل البراءة فان الترخيص في الفعل أو الترك نشأ من قبح العقاب بلا بيان بحيث لو لم نقل بالبراءة من هذا الباب لا يكون محذور في الجمع بين المحتملات فلا إشكال في كون الأصول أربعة.

ثم أن ترتيب البحث وعنوانه وان كان هو الكفاية ولكن ترتيب الشيخ الأنصاري قده أوفق بفن التعليم لأن الخراسانيّ قده جعل البحث عن الشبهة التحريمية والوجوبية من جهة فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين أو الشبهة في المصداق في أربعة مسائل وقال ان البحث عن الشبهة المصداقية أصول وكون الشبهة تحريمية أو وجوبية لا يوجب تفرد البحث عن كل واحد لاتحاد الدليل ولكن الشيخ (قده) جعل البحث عن الشبهة التحريمية من جهة إجمال النص وفقده وتعارضه والشبهة الموضوعية في أربعة مسائل والبحث عن الشبهة الوجوبية أيضا في أربعة فالبحث على ما جرى عليه أوقع في النّفس من جهة التفصيل.

واما الخراسانيّ قده أيضا يصح مذهبه من حيث أن الشبهة الوجوبية والتحريمية لا تكون موجبة لانفراد البحث عن كل واحد منهما على حدة ونحن نجري على ما جرى عليه الشيخ قده.

فنقول البحث هنا في مقامين وكل مقام في أربعة مسائل المقام الأول في الشبهة التحريمية والمقام الثاني في الشبهة الوجوبية من جهة فقدان النص أو إجماله أو تعارضه أو الشبهة في المصداق مع كون الشبهة تحريمية فقط أو وجوبية فقط أو يدور الأمر بين الواجب والحرام فنقول :

٢٤٨

المسألة الأولى في المقام الأول

وهو البحث عن الشبهة التحريمية من جهة فقدان النص

وفي صورة كون الشبهة دائرة بين الحرمة وغير الوجوب وفي هذه المسألة اختلاف بين الأخباريين والأصوليين ونحن نقول بالبراءة وفاقا للأصوليين وخلافا لهم القائلين بالاحتياط والآن نذكر دليل البراءة ثم نتبعه بدليل الاخباري فنقول يدل على البراءة الأدلة الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

اما الكتاب ففيه آيات منها قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها. وتقريبها عندنا هو ان المراد بالتكليف هو البعث والزجر والمراد بكلمة ما مطلق الشيء أعم من كونه تكليفا أو مالا لأن الوضع في الحروف والأسماء عام كما ان الموضوع له عام والخصوصيات تستفاد من الخارج فقوله تعالى وجاء رجل من أقصى المدينة يكون استعمال الرّجل في معناه العام وتعيين حبيب النجار مصداقا له يكون من جهة قرينة خارجية وهي مجيئه من أقصى المدينة وغيره.

وهكذا كلمة ما الموصولة في المقام والإيتاء أيضا استعمل في معناه الحقيقي وإيتاء كل شيء بحسبه فان إيتاء الحكم بنحو وإيتاء المال أيضا بنحو آخر وليس بمعنى الاعلام فيصير معناها ان الله تبارك وتعالى لا يبعث ولا يزجر نفسا إلّا بتكليف أعلمها أو مال أعطاها فإذا لم يكن بيان التكليف وهو إتيانه لا يكون له تعالى بعث وزجر فيكون المكلف بريئا من التكليف قبل إعلامه وكلمة ما مفعول به لا مفعول مطلق بأن يقال لا يكلف الله تكليفا بل المعنى لا يكلف الله شيئا من الصلاة والصوم والزكاة وبهذا التقريب يندفع جميع الإشكالات.

منها ان المحتملات في الآية المباركة ثلاثة بالنسبة إلى الموصول الأول أن يكون المراد منه هو التكليف ومن الإيتاء الوصول والاعلام الثاني ان يكون المراد من الموصول هو المال ومن الإيتاء هو الملك أي لا يكلف الله نفسا الا بمال ملّكه الثالث يكون المراد بالموصول مطلق الشيء ومن الإيتاء الإقدار أي لا يكلف الله

٢٤٩

نفسا إلّا بما أقدرها عليه.

ولا مجال للاحتمال الثاني لأنه يلزم منه التكرار لأن صدر الآية يكون متعرضا له بقوله تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله.

ولا للأول لأن صدر الآية منوط بالمال ولا يناسب التكليف ولا للثالث لأن المراد بالإيتاء ان كان الإقدار فلا يناسب الحكم فانه يحتاج إلى الاعلام والإقدار يناسب بالنسبة إلى المال.

وربما قيل كما عن النائيني قده (١) وغيره بأن الاحتمال الأول وهو كون المراد بالموصول التكليف لازمه أن يكون مفعولا مطلقا وعلى فرض كون المراد منه المال أن يكون مفعولا به ونحو وجود المفعولين مختلف فان المفعول المطلق يتخذ من حاق الفعل والمفعول به يكون غيره ويتعلق به الفعل فكيف يمكن أن يكون المراد من الموصول هو الأعم من المفعول المطلق والمفعول به فان الجمع بينهما غير ممكن وهذا وجه آخر لبطلان الاحتمال الثالث.

ولكن نحن نقول لا نحتاج إلى القول بالأعم بهذا المعنى حتى يلزم علينا رد هذا الإشكال بل نقول كلمة ما الموصولة يكون مفعولا به مطلقا ولا يكون المعنى لا يكلف الله تكليفا بل نقول ان متعلق التكليف أيضا هو مفعول به فانه اما أن يكون الصلاة أو الصوم فنقول لا يكلف الله نفسا الا بالصلاة والصوم اللذين أقدر المكلف عليهما.

وقال شيخنا الأستاذ العراقي قده يكون الاستعمال في خصوص التكليف مستفادا من دال آخر وإلّا فبعد كون كلمة ما في الوضع عاما مع الموضوع له العام يلزم من إرادة جميع المعاني تعدد اللحاظ مع انه واحد.

وهذا الكلام منه (قده) مع انه زاد الإشكال به ولم يكن جوابا فان الدال الآخر لم يكن في المقام بعد كون كلمة ما موضوعا للمعنى العام ومعنى زيادة الإشكال

__________________

(١) في فوائد الأصول ص ١٤ وأجاب عنه أيضا فيه ثم اختار ما يقرب من اختيار الأستاذ مد ظله بل هو عينه عند قوله ولكن الإنصاف إلخ.

٢٥٠

هو انه لو كان لنا دال آخر أيضا مثل ما ورد من الرواية هل كلف الناس بالمعرفة قال لا على الله البيان لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها فان المراد هو البيان بالنسبة إلى كل شيء تكليفا كان أو مالا أو شيئا آخر فلا يكون مضرا بعمومية وضع العام والموضوع له العام (١).

ثم الإشكال بأن المراد لا بد ان يكون المال من الموصول لأن السياق يكون بالنسبة إليه أيضا غير وارد لأن ما ذكرنا من الأعمية لا ينافى السياق لأنه يكون أعم من المال وغيره فلا يكون مخالفا للسياق حتى يقال المتيقن منه المال لا التكليف حتى يفيد أصالة البراءة عما شك فيه.

ومن الإشكالات في المقام هو ان غاية ما يستفاد من الآية هي أن التكليف بدون البيان لا يكون من الشرع الأنور ولا ينفى التكليف مع البيان فيقول الاخباري هنا ان الاخبار الآمرة بالاحتياط تكون واردة على هذه الآية لأن موضوعها عدم البيان والاحتياط بيان.

ولا يقال عليه ان الاحتياط لا يكون وجوبه نفسيا بل يكون طريقا إلى الواقع فلم يثبت الواقع في ظرف الشك لنتوصل إليه بالاحتياط فيكون المقام من الشبهة المصداقية لدليل الاحتياط ضرورة انه نشك في وجود الواقع فيتحقق المعارضة بين الآية والاخبار الآمرة بالاحتياط من جهة عدم وجوبه لعدم ثبوت التكليف ومن حيث انه يقول يجب الاحتياط في هذا المورد.

لأنا نقول يمكن ان يقال بأن الاحتياط يكون على فرض الواقع كما قلنا بأن الأمارات بيان على الطريقية على فرض الواقع إلّا انه لا يكون للكلام في المقام أصل حيث أن الأمارات ناظرة إلى الواقع وطريق لها ولكن الاحتياط لا يكون نظره إلى الواقع فلا يكون بيانا والعمل به يكون من باب اللابدية.

والتحقيق ان يقال في جوابه ان الآية في مقام بيان الحكم الامتناني على العباد

__________________

(١) قد استفدنا أكثر ما في المقام منه مد ظله بعد الدرس.

٢٥١

بأنه إذا لم يصل التكليف إليكم بواسطة دسّ الدساسين بعد جعله لا يكون عليكم التكليف واما التكليف الّذي لا يكون مجعولا من رأسه فلا يكون الامتنان في رفعه لأنه غير مجعول من الأول فالحكم يكون مرفوعا في مرتبة الظاهر والواقع بالنسبة إلى ما لا بيان من الشرع أي البيان الواصل فليس للأخباري أن يقول انه مرفوع في مرتبة الظاهر دون الواقع حتى يجب الاحتياط لحفظ الواقع فالمعارضة بين الآية واخبار الاحتياط محققة وسيجيء عدم تمامية الاخبار في الاحتياط لأنها معارضة بمثلها.

ومن الآيات الدالة على البراءة قوله تعالى وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا.

وتقريب الاستدلال هو ان مقتضى الألوهية بمقتضى الفطرة أيضا هو عدم العذاب بدون بعث الرسل وإنزال الكتب فإذا لم يكن البيان واصلا إلينا لا يكون علينا التكليف حتى يلزم من مخالفته العقاب والعذاب في الآخرة كما أن مقتضى العبودية بعد بيان التكليف هو الإطاعة فالعقاب بدون البيان خلاف الألوهية والعصيان بعد البيان خلاف العبودية.

وقد أشكل أولا على الآية أيضا بإشكالات واهية الأول ان الآية كما هو الظاهر من قوله تعالى ما كنا إلخ تكون في مقام بيان قضية ماضية في الأمم السالفة أي انا ما عذّبنا الأمم السالفة وما أهلكناهم في الدنيا الا بعد إرسال الرسل فعصوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك أي العذاب الدنيوي ولا تكون في صدد بيان عدم العذاب في الآخرة بالنسبة إلى الأمة المرحومة حتى يستدل بها للبراءة.

وفيه ان المشتق لا يكون الزمان فيه مأخوذا حتى يقال انه يكون زمانه هو الماضي بل يكون لمطلق الحدث وهو ان العذاب لا يكون من شأن الله بدون البيان ولو سلم فيستفاد منها أن العذاب في الدنيا كان مع البيان فنحن بالأولوية القطعية نستفيد منها أن عذاب الآخرة بدون البيان وإرسال الرسل لا يكون من شأن الله تعالى فلا وجه لهذا الإشكال.

وثانيا بأن الآية تكون في مقام بيان نفى فعلية العذاب لا في مقام بيان نفى الاستحقاق وقد استحسنه بعضهم فلا تكون نافية للاحتياط كما انه في بعض الموارد يعفو عن

٢٥٢

العقاب المسلم مثل مورد الظهار.

وقد أجاب عنها شيخنا العراقي قده بأن الآية لا تكون في مقام نفى الفعلية فقط بل في مقام بيان نفى الاستحقاق أيضا لأن العقاب كما مر يكون خلاف شأن الألوهية ولو كان الاستحقاق متحققا ما كان وجه لنفي التعذيب مطلقا بل ربما يعذب وربما يعفو لأنه تعالى في خيار.

وقال الشيخ والخراسانيّ (قدهما) انها ظاهرة في نفى الفعلية إلّا انه يكون الإجماع على نفى الاستحقاق أيضا نافيا له والثاني يقول ان الاخباري يعترف بأنه إذا كانت فعلية العذاب منتفية يكفى الانتفاء لعدم وجوب الاحتياط ويقول بالملازمة بين فعلية التكليف ووجوب الاحتياط فبانتفائها ينتفي الاحتياط ونحن نكون في مقام جواب الأخباري وهذا كاف لنا في ردّه.

والجواب اما عن الأول فلان الإجماع في المسألة الأصولية معلوم السند فلا نتمسك به وعن الثاني انه جدل يقنع الاخباري به ولكن لا ينفى أصل الإشكال فانه مع الاستحقاق يجب الاحتياط في الواقع.

أقول ما هو المهم لنا في المقام هو نفى العذاب والعقاب سواء كان الاستحقاق في الواقع أم لا ورجاء العفو مع المعصية العمدية يكون للعبد ولا يكون مسلما حتى يقال مع استحقاق العقاب لا يكون العذاب ليثبت به وجوب الاحتياط فبينهما بون بعيد فلا يقال في المقام بالاستحقاق والعفو كما يقال في ذاك المقام.

وهنا وجه آخر لبعض الظرفاء (١) من الأعيان في مقام القول برفع العذاب الفعلي بأن ما هو المهم هو رفع عذاب الوجوب والحرمة اللذان هما الحكم وهما يستفادان من التكليف الفعلي.

__________________

(١) لم يبين كلام هذا العين وهو الكمپاني أزيد مما ذكرناه بل أشار بنحو مجمل وكلامه في حاشيته على الكفاية فارجع إليه والوقت لا يسعنا لبيان كلامه وما فهمنا منه أيضا لا يخلو عن إشكال لقصور فهمنا عن دركه.

٢٥٣

وفيه انه غير منوط بالاستحقاق وعدمه في المقام واستفادة ما ذكر يكون من فعلية الأحكام هذا تمام البحث فيما أردنا إيراده من الآيات على البراءة ولا نتعرض لغيرها لعدم تماميتها وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

الروايات التي استدل بها على البراءة

وهي أيضا كثيرة منها حديث الرفع الّذي هو المشهور ويكون فقراتها سارية في الفقه والأصول في باب المعاملات والعبادات ويجب ان يتوجه إليه كاملا وتسمية هذا الحديث بالنبوي لا يكون مثل سائر النبويات فان هذا التعبير يكون لأجل نقل الإمام عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الخصال والتوحيد مسند بسند صحيح وفي من لا يحضره الفقيه باب ١٤ ح ٣ قول صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفته.

وقبل الورود في البحث عن الاستدلال يجب رسم أمور.

الأمر الأول ان الفرق بين الرفع والدفع هو أن الأول يطلق بالنسبة إلى شيء يكون شاغلا لصفحة الوجود ثم رفع بسبب من الأسباب وأزيل واما الدفع فيطلق بالنسبة إلى شيء لم يأت في صفحة الوجود فيوجد المانع عن وجوده.

وفقرات هذا الحديث الشريف لا يكون الرفع بالنسبة إلى جميعها صادقا ففي فقرة ما لا يعلمون التي تكون دليلنا على البراءة يكون الرفع بمعنى الدفع أي لم يجعل حكم من قبل الشارع بالنسبة إلى غير العالم واما بالنسبة إلى ساير الفقرات يكون بمعنى الرفع فان الخطاء والاضطرار وأمثالهما يكون موجودا فيرفع حكمه عن صفحة الوجود مع أن الرواية استعمل فيها كلمة الرفع بالنسبة إلى الجميع فهل يكون هذا الاستعمال مجازا أو حقيقة فيه اختلاف.

فقال الشيخ (١) النائيني قده بما حاصله هو أن الرفع والدفع يكون لهما جهة

__________________

(١) في تقرير بحثه فوائد الأصول ص ١٢٢.

٢٥٤

اشتراك وهي ان الشيء كما يحتاج في وجوده إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه أيضا إليه وما يمنع عن تأثير المؤثر واقتضائه يطلق عليه الدافع وما كان موجودا ثم أزيل عن صفحة الوجود يكون هذا في الواقع دفعا (١) لتأثير المؤثر في البقاء وما لم يجئ في صفحة الوجود ثم حدث المانع يكون دفعا للتأثير في الحدوث فهما مشتركان في إطلاق الدفع عليهما وجهة امتياز وهي مسبوقية أحدهما بالوجود وعدم مسبوقية الآخر به فلا مجاز في الكلمة لكون الاستعمال موافقا للوضع ولا في الإسناد لعدم الاحتياج إلى التقدير كما سيجيء فاستعمال الرفع في الدفع لا إشكال فيه.

والجواب عنه انه ان كان المراد هو الاستعمال في ذلك بقرينة أخرى غير وضع اللفظ فهو خلاف المتبادر وليسا مترادفين ليصح فيه ذلك فان المتبادر هو وضع كل واحد منهما بإزاء معنى واحد والحاصل مع الوضع الواحد ندعي انه خلاف المتبادر لأنه يكون متعددا.

وان كان مراده الاستعمالين بمعنى ان الدفع يستعمل في معناه تارة وفي الرفع أخرى فهذا كلام عجيب فان المفهوم المتعدد يكون له مطابق متعدد والمفهوم الواحد لا يمكن ان يكون له مطابق متعدد إلّا ان يكون في أحدهما على سبيل المجاز فاستعمال الرفع (٢) في الدفع مجاز والحاصل مع الوضع المتعدد يكون استعمال

__________________

(١) أقول هذا يرجع إلى أن يقال ان كل رفع دفع في الواقع ولكن لا يرجع إلى أن يكون كل دفع رفعا في الواقع حتى يكونان مترادفين ويصح استعمال كل منهما في الآخر فيكون الرفع مختصا بمورد والدفع مختصا بمورد ونحتاج إلى قرينة المجاز مع وجود العلاقة في استعمال أحدهما في الآخر أو يقال ليس لنا رفع أصلا وليس له مطابق لأن كل رفع دفع وهذا خلاف الواقع فان الرفع يكون المتبادر منه في العرف غير الدفع وهو علامة الوضع.

(٢) أقول يمكن أن نختار أن الوضع يكون متعددا وفي المقام ندعي وجود القرينة على فرض قبول استعمال الرفع في الدفع وهو عدم إمكان كون المولى الحكيم لاغيا في الكلام فان هذا قرينة عقلية عليه وسيجيء معنى الرفع والدفع في فقرة ما لا يعلمون.

٢٥٥

كل واحد في الآخر مجازا وهو خلاف الواقع.

وقال شيخنا العراقي قده بما حاصله ان لنا حقيقة واقعية وحقيقة ادعائية فيمكن ان يكون استعمال الرفع في الدفع من باب استعمال للفظ في المعنى الحقيقي الأعم من الادعائي والواقعي فيكون استعمال لرفع في الدفع من باب انه يكون رفعا بالنسبة إلى الوعاء المناسب له.

وهذا كما نقول في إسقاط الخيار في ضمن العقد فان إسقاط ما لم يجب لا معنى له فان المعاملة قبل وقوعها لا يكون فيها خيار حتى نقول بسقوطه وليس هذا لا لتصور معنى أعم للسقوط الّذي يناسب مع ما لم يكن فعلا موجودا فوجود مقتضى هذا الحق في التشريع يكفى لإسقاطه فيستعمل السقوط بدون العناية في ذلك وفي المقام أيضا كذلك فانه يستعمل الرفع في الدفع لشدة المقتضى لوجود هذا الشيء.

والجواب عنه هو انه ليس كذلك فان الحقيقة الادعائية تحتاج إلى العناية وما قال في إسقاط الخيار يكون الإسقاط فيه على فرض الثبوت لا الإسقاط بلحاظ المقتضى فهذا القول لا يناسب التبادر.

فالصحيح ان يقال ان للرفع والدفع جامع في الوجود (١) وهو ما قال شيخنا النائيني قده فيمكن استعمال أحدهما في الآخر بهذا اللحاظ وما قلنا في جوابه قده من انه خلاف التبادر يمكن العدول عنه بأن نقول التبادر تارة يكون إطلاقيا أي يحدث بواسطة كثرة الاستعمال وتارة يكون كاشفا عن الوضع ففي المقام يمكن ان يقال ان التبادر يكون من جهة كثرة الاستعمال ولا يكون كاشفا عن الوضع فاستعمال الرفع في الدفع لا يكون خلاف الوضع فيكون حقيقة فاستعمال الرفع في الحديث الشريف في جميع الفقرات مع أن بعضها دفع لا إشكال فيه ولا يضر بالحديث إلّا ان

__________________

(١) وقد اتضح مما تقدم أن المتبادر خلافه ولا إشكال في ادعاء المجاز لو فرض الدفع في بعض الفقرات وفيه تأمل وسيجيء ولا يمكننا المساعدة مع القول بأن التبادر لا يكون هنا كاشفا عن الوضع.

٢٥٦

يدعى أن التبادر كاشف عن الوضع فيشكل الأمر حينئذ.

الأمر الثاني ان فقرات الحديث الشريف لا تكون متساوية الإقدام من حيث العلية للرفع وعدمها ففي أربعة فقرات منه وهو ما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه يكون العناوين الأربعة الجهل وعدم الطاقة والاضطرار والإكراه علة لرفع الشارع الحكم عنهم بوجوده التكويني والثلاثة من الفقرات وهي الحسد والوسوسة والطيرة لا تكون كذلك بل بالعكس فان هذه العناوين علة لإثبات الحكم فان الحسد علة لوجود الحرمة وكذلك أخواه فيكون بين الطائفتين من الفقرات تمام المقابلة فيكون بعضها علة الإثبات وبعضها علة لرفع فكيف استعمل الرفع فيهما.

والخطأ والنسيان في الفقرتين الأخريين لا يكونان مرفوعين أصلا بل ما هو المرفوع أثر المخطئ والمنسي فانه ربما يكون الأثر على الخطاء والسهو مثل وجوب الدية على القتل الخطئي وضمان الشيء وان أتلفه أو أضرّ به خطاء ومثل وجوب سجدة السهو في الصلاة إذا نسي بعض الاجزاء فلا يكون حكم الخطاء والسهو مرفوعا مطلقا فما يكون أثر نفس الخطاء لا يكاد يرفع بواسطة الخطاء وكذلك النسيان ولذا يقال في الطلاق عن خطاء أن المرفوع هو أثر الطلاق وهو المخطي.

لا يقال لا يصح اسناد الرفع إلى الخطاء والنسيان مع أن المرفوع هو المخطي بلحاظ اثره لأنا نقول هذا النحو من الاستعمال متعارف فانه ينفى المصداق بإسناد النفي إلى الطبيعة فيقال الخطاء مرفوع مع انه بدال آخر يفهم أن المرفوع مصداق ما وقع الخطاء فيه وهذا كالطلاق الذي مر مثاله وسيجيء روايته في ضمن الروايات فان التطبيق على المخطي وهو الطلاق واسناد الرفع إلى الخطاء يكون قرينة على ذلك.

ففي جميع ما ذكرناه يمكن ان يقال بأن الرفع يستند إلى مقتضى الحكم بمعنى أن الشارع دفع ما كان مقتضيا عن اقتضائه وقال شيخنا النائيني قده ان الحكم في فقرة ما لا يعلمون لا يكون له تشريع فان الحكم الّذي يكون مجعولا لا يسند الرفع إليه الا على نحو النسخ فلا بد ان يقال بأن الرفع يكون بمعنى الدفع أي لم يكن الحكم مجعولا من رأسه لمنع مقتضية عن

٢٥٧

الاقتضاء واما في غيره من الفقرات وهي الخطاء والنسيان والاضطرار والإكراه وما لا يطاق فتكون نتيجة الدفع تخصيص الحكم بما عدى هذه الموارد ويكون التخصيص واقعيا بالنسبة إليها وظاهريا بالنسبة إلى ما لا يعلمون أي في ظرف الشك يكون الحكم مرفوعا وبالنسبة إلى الحسد والوسوسة والطيرة أيضا لا يكون الحكم مجعولا من رأسه فيكون الرفع دفعا.

ويمكن الجواب عنه قده بأن التخصيصات طرا يرجع في الواقع إلى التخصصات فالتخصيص فيما لا يعلمون أيضا يرجع إلى التخصص ومراده بالتخصيص الظاهري هو رفع إيجاب الاحتياط لا أصل الحكم ولكن بواسطة دفع مقتضى الحكم عن الاقتضاء فيكون نتيجة ذلك رفع الاحتياط ولكن نحن تبعا للشيخ قده نقول لا فرق في الفقرات فان إيجاب الاحتياط يكون مرفوعا ابتداء.

الأمر الثالث ان الرفع في المقام لا يكون له معنى بالنسبة إلى متعلقاته ففي مثل رفع ما لا يعلمون يكون معنى ما لا يعلم هو الجهل والجهل غير مرفوع بل هو ثابت وكذلك الاضطرار والإكراه وغيره يكون ثابتا غير مرفوع.

كما يقال المؤمنون عند شروطهم مع أنهم لا يكونون كذلك فانهم ربما ينقضون عهدهم وشرطهم فقال الشيخ الأعظم قده لا بد من تقدير شيء بأن يقال رفع مؤاخذة ما لا يعلم وغيره أو جميع آثاره أو ان اثره الظاهر مرفوع صونا لكلام الحكيم عن اللغوية فان الاخبار عن امر غير واقع يكون كذبا ويخرج عن الكذب بالتقدير.

وقال شيخنا النائيني قده انا لا نحتاج إلى التقدير لأن الحاجة إليه انما يكون في صورة توقف تصحيح الكلام عليه وهو أن يكون ما ذكر اخبارا عن امر خارجي أو يكون الرفع رفعا تكوينيا فانه لا بد عليه من تصحيح الكلام بنحو يخرجه عن الكذب واما إذا كان الرفع تشريعيا فالكلام يصح بلا تقدير فان الرفع التشريعي كالنفي التشريعي ليس اخبارا عن امر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار وكقوله عليه‌السلام لا شك لكثير الشك وأمثال

٢٥٨

ذلك مما يكون متلو النفي امرا ثابتا في الخارج.

والحاصل لا يكون الشارع في المقام في مقام الاخبار بل في مقام إنشاء الحكم نعم لا بد للتعبد كذلك من أثر شرعي وهو غير التقدير.

والجواب عنه قده ان الكلام في نظيره مشكل كما في المقام اما في نظائره وهو كل ما يكون التشريع بلسان الاخبار كما في قوله يعيد الصلاة والمؤمنون عند شروطهم فلا يستقيم ان يقال بأنه يجب الإعادة ويجب الالتزام بالشرط فان مطابق هذه العبارات ليس ما ذكر إلّا بنحو المجاز ولا يليق بشأن الإمام عليه‌السلام الّذي هو في غاية البلاغة.

ولذا قلنا في أمثال المقام انه اخبار عن وجود المقتضى في الخارج لوفور المقتضى والإرادة الشديدة بالنسبة إليه فيخبر بوجود الإعادة ويستعمل في معناه الاخباري لهذه النكتة.

لكن الآن بعد التدبر نرى الإشكال في هذا البيان أيضا وهو أن الإرادة الواصلة تكون الشدة بالنسبة إليها متصورة واما غير الواصلة كما في المقام وغيره فلا لأنه ان كان لنا سند آخر غيره فيكون هو السند ولا نحتاج إلى هذا الاخبار وان شئنا إثباته بهذا الخبر فيكون دوريا لأن ثبوته يتوقف على كشف الإرادة كذلك (١) وكشفها متوقف على ثبوته.

ولكن يمكن ان يقول كما هو مفاد كلامه بأن الاضطرار وغيره لا يكون له وجود تشريعي كما يقال ليس لشرب الخمر وجود تشريعي ونفى هذا الوجود يلزمه نفى الأثر الشرعي لا تقدير شيء في الحديث.

وقال شيخنا العراقي قده بما ان حاصله يرجع إلى قريب من مسلك شيخنا

__________________

(١) وأقول ان عبارة الاخبار تكون لها كاشفية عرفية على المطلوب كالأمر فيكون استعمال يعيد الصلاة في مقام الأمر مقام أعد الصلاة واما أصل الإتيان بالجملة الخبرية فيكون لأبلغية هذا الكلام في إثبات المطلوب عند أهل المحاورة وثبوت واقع الإرادة متوقف على علله لا على الكشف.

٢٥٩

النائيني قده وهو أن الرفع يكون أعم من الحقيقي والتعبدي كما في موارد الاستصحابات فان القول بعدم نقض اليقين بالشك مع انه صار منقوضا به تكوينا يكون التعبد ببقاء اليقين إلى أن يحصل اليقين بالخلاف فاستصحاب العدم يكون بناء على العدم واستصحاب الوجود يكون بناء على الوجود مع انه لم يكن وجوده التكويني مسلما مثل استصحاب حياة زيد وترتيب اثره من نفقة زوجته وغيره فإذا قيل رفع ما لا يعلمون إلخ يكون معناه الرفع التعبدي في وعاء العين أي الخارج لا الرفع التشريعي وحيث أن التعبد يحتاج إلى أثر شرعي فعلى مسلك النائيني قده يكون الرفع في وعاء التشريع وعلى مسلك شيخنا العراقي قده يكون الرفع بلحاظ وعاء التكوين لكن تعبدا.

الأمر الرابع لا شبهة في أن المستفاد من هذا الحديث الشريف هو أن الرفع يكون امتنانا من الشرع على العباد لما ذكر فيه من العناوين التعليلية من الجهل والاضطرار والإكراه وغيره فان هذه العناوين صارت سببا لرفع الحكم لكن وقع الاختلاف بينهم رضوان الله عليهم من حيث أن الامتنان في الرفع كاف أو يلزم أن يكون وضعه أيضا خلاف الامتنان.

مثال ذلك هو ان المضطر الّذي صار بطبعه مضطرا يكون وضع التكليف بالنسبة إليه خلاف الامتنان ويكون في رفعه الامتنان واما من صار مضطرا بسوء اختياره فلا يكون وضع التكليف بالنسبة إليه خلاف الامتنان لأنه كان بسوء اختياره فحينئذ هل يرفع التكليف عنه فان الرفع في هذه الصورة يكون امتنانا ولكن الوضع لا يكون خلافه.

فربما قيل بأن التكليف لا يلزم ان يكون وضعه خلاف الامتنان بل إذا كان رفعه موافقا له يكفى استنادا بأن المنة منصرفة إلى الدرجة العليا منها وهي في صورة كون الاضطرار بالاختيار أيضا منطبقة.

وربما قيل بأن المتيقن من الرفع هو أن يكون وضع التكليف خلاف الامتنان وهو يكون في صورة الاضطرار بالطبع مثلا ومع الشك في ذلك أيضا حيث

٢٦٠