مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٣

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧١

لأنه لا فرق بين ان يكون الشيء هو الموجود في الخارج بشخصه مثل ما إذا كان في الخارج مائع علمنا بأنه خمر وحرام وبين ان يكون عنوانا ذا افراد مثل التتن المشكوك حرمته فان هذا العنوان قابل للانطباق على الكثير فيكون هذا الشيء بعنوانه مرآة عن الخارج حلالا حتى يعلم حرمته.

وكذلك لو كان الذيل في الرواية أيضا يمكن الاستدلال بها للمقام ولا وجه لما قيل من انه كلمة بعينه تكون مخصوصة بالشبهات الموضوعية مستدلا بأن الموضوع هو الّذي يكون مميزا في الخارج بحدوده وقيوده دون الحكم لأن الحكم عندنا أيضا يكون له حدود وقيود يجب ملاحظته حتى يعلم ان الحكم الفلاني يكون لهذا الموضوع مثل ان العصير العنبي يكون للقول بحرمة حدّ وهو ان يكون مغليا بالنار مثلا لا ما يكون غليانه بواسطة غيرها فكل شيء من العناوين إذا شك في حرمته يكون حلالا حتى يحرز الحرمة بحدودها وقيودها.

والحاصل ان الإشكال في الرواية من وجوه الأول من جهة كلمة بعينه وقد مر جوابه والثاني من جهة الذيل الآخر وهو ذكر موضوعات بعده مثل الشراء عن السوق واحتمال كون اللحم ميتة واحتمال كون المنكوحة هي الأخت أو الرضيعة فيكون تطبيق الكبرى في الموضوعات شاهدا على اختصاصها بها ولا يشمل الأحكام.

والجواب عنه هو ان الذيل لا يكون بيانا لمورد أصالة الحل بل يكون من باب بيان أحكام أخر بطرق أخر فان اليد أمارة الملكية والسوق أمارة حلية اللحم الّذي يكون فيه وأمثاله وفي النكاح أصالة صحة العقد الواقع أمارة على صحته فهذه قواعد أخر يكون بيانها في الرواية ولا يضر بالصدر.

الإشكال الثالث ان الذيل الآخر أيضا يكون شاهدا على كونها في الشبهة الموضوعية لقوله عليه‌السلام والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين أو تقوم به البينة فان البينة تكون في الموضوعات لا في الأحكام فان الخبر الواحد حجة فيه فيكون صدر الرواية أيضا بالنسبة إلى الموضوع.

والجواب عنه ان قوله يستبين يكون بيانا لغاية الشبهات الحكمية فانه إذا ظهر

٣٠١

الحكم لا يكون للحلية وجه وقيام البينة يكون بالنسبة إلى الموضوعات ومع التسليم لا يضر بالكبرى في الصدر فان ما ذكر يكون بيان موارد خاصة بعنايات أخرى.

ومن الروايات ما عن عبد الله بن سليمان فان ذيلها قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (١)وفي بعض النسخ حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

وتقريب الاستدلال هو أن كل شيء من الأشياء سواء كان عينا من الأعيان الخارجية أو من العناوين التي يتصور أن يكون متعلقا لفعل المكلف ويكون فيه قسمان من الحكم بأن يكون بعض عناوينه حراما وبعض عناوينه حلالا ويكون بعض أعيانه حراما وبعضها حلالا يكون المشكوك منه حلالا حتى يحصل العلم بأنه حرام فلا يكون فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية.

وقد أشكل عليها كما أشكل على السابقة بأن كلمة بعينه مانعة عن شمولها للشبهات الحكمية لما مر والجواب الجواب وقد ظن ان زيادة كلمة منه نصّ في الشبهات الموضوعية فقط ويظهر الجواب عنه في جوابنا عن الشيخ قده.

وقد أشكل الشيخ الأنصاري قده في الرسائل بما حاصله هو أن قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام يكون معناه ان كل ما يكون منقسما في الخارج بقسمين بالفعل مثل اللحم الموجود في الخارج فان فيه حلال وهو المذكى وفيه حرام وهو غيره فيكون معناه كل كلي يكون فيه قسم حلال وقسم حرام فهذا الكلي لك حلال إلى ان تعرف الحرام معينا في الخارج فتدعه وعلى الاستخدام يكون معناه كل جزئيّ خارجي يكون في نوعه القسمان فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف الحرام منه أي من

__________________

(١) في الوسائل ج ١٧ باب ٦١ من الأطعمة المباحة ح ١ وح ٧ ـ وفي ح ٧ يكون كلمة فتدعه مقدمة على كلمة بعينه ولم يكن في الروايتين كلمة منه مذكورا ولا أدري من أين أضيف إليه نعم نقل الشيخ في الرسائل الرواية الأولى عن الشهيد في الذكرى وأضاف إليه كلمة منه وذكر قده انها ليست في بعض النسخ.

٣٠٢

ذلك الكلي فيكون المراد بالشيء هو الجزئي ومن ضميره هو الكلي.

وعلى أيّ تقدير يكون المستفاد منه الشبهات الموضوعية لا الحكمية فسواء كان المراد بالشيء هو الشخص أو الطبيعي لا تشمل الرواية الشبهات الحكمية مع لزوم الاستخدام لأن المراد بالشيء هو الخارجي الشخصي وحيث أن الشخص لا يكون فيه حلال وحرام فانه اما ان يكون حلالا أو حراما ولا ينقسم بقسمين والمراد بالضمير الراجع إليه هو نوعه القابل للتقسيم كذلك واما الشبهات الحكمية فلا يشمله الحديث لأن امره مردد بين الوجود والعدم ولا يقبل التقسيم ذهنا وخارجا فان المشتبه يكون امره مرددا بين الحلية والحرمة لا أنه منقسم إليهما بالتقسيم الفعلي.

وربما يجاب عنه بأن الشيء مساوق للوجود فكل شيء فيه حلال وحرام معناه كل موجود فيه حلال وحرام وهو أعم من الحكم والموضوع فان موارد الشبهات الحكمية مثل الشك في حلية شرب التتن أيضا يكون الشك في موجود فيه حلال وحرام.

وفيه ان هذا خلاف الظاهر فان الظاهر من الشيء هو الشيء الخارجي لا الوجود مع أن الشيء يكون فوق المقولة ولا يكون مساوقا للوجود وربما قيل ان المراد بقوله فيه حلال وحرام أي فيه احتمال الحلية والحرمة وهو أيضا خلاف الظاهر لأن الظاهر منه هو التقسيم الفعلي.

والصحيح في الجواب أن يقال لا بد من ارتكاب خلاف الظاهر سواء كان المراد من الشيء الشبهات الحكمية أو الموضوعية لأنه على فرض شموله للموضوعية لا بد من الاستخدام ويمكن تصوير التقسيم الفعلي بحيث يشمل الشبهات الحكمية وان كان هو أيضا خلاف الظاهر.

وتقريبه ان يقال كل شيء فيه حلال وحرام أي كل نوع من الأنواع يكون فيه حلال وحرام مثل اللحم مثلا فمشكوكه حلال فان في اللحم حلالا وهو لحم الغنم وحراما وهو لحم الخنزير ومشتبها وهو لحم الحمار فيصدق كل شيء فيه حلال مثل لحم الغنم وحرام مثل لحم الخنزير فهو لك حلال مثل لحم الحمار فالانقسام الفعلي موجود والمراد من كلمة بعينه هو حدود الحكم وقيوده فالاستدلال بالرواية

٣٠٣

للشبهات الحكمية والموضوعية يمكن تصويره مع الالتزام بالاستخدام لأنه لا بد منه لأنه لا معنى للرواية لو لم يكن كذلك لعدم التقسيم في الشيء الشخصي.

ومنها ما عن معاوية بن عمار بمضمون ما تقدم (١) والإشكال عليها الإشكال والجواب الجواب ولا فائدة في التكرار وذكر الجبن فيهما لا يعين ان تكون الرواية في الشبهة الموضوعية فقط بل الشبهات الحكمية أيضا داخلة من باب إضافة كلمة وغيره بقوله سأخبرك عن الجبن وغيره ولفظ الغير شامل للطبائع الكلية التي تكون مشتبهة.

فتحصل من جميع ما تقدم تمامية الروايات الواردة في البراءة اما بنحو العموم في الشبهات الحكمية والموضوعية سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية مثل حديث الرفع واما بنحو الخصوص في خصوص الشبهة التحريمية ويكون مفاد الجميع نفى الاحتياط الّذي يقول به الاخباري.

في الدليل الثالث على أصالة البراءة وهو الإجماع

الدليل الثالث على البراءة الإجماع وله تقريبان الأول هو ان كل ما لم يصل من ناحية المولى وهو هنا الشرع البيان عليه يكون إجماع الأمة على البراءة منه لأن التكليف الغير الواصل لا يكون عليه العقاب.

وفيه ان هذا وان كان متحققا متسالما عليه بين الاخباري والأصولي ولكن لا يتم من باب ان الاخباري يقول في مورد النزاع وصل البيان وهو وجوب الاحتياط فلو لم يكن لنا البيان كذلك لكان الإجماع تاما.

التقريب الثاني هو ان يقال ان لنا الإجماع على ان كل واقعة مشتبهة يكون الأصل فيه البراءة عند العلماء أجمع ولا يكون الاحتياط مجعولا وهذا النحو من الإجماع لو كان متحققا لكان مفيدا ولكن لا يكون لنا إجماع كذلك لأن أصحابنا الأخباريين

__________________

(١) في الباب المتقدم ذكره ح ٧.

٣٠٤

يكونون من الاعلام في الفقه وهم منكرون لذلك واختلافنا معهم يكون نظير اختلاف الأصوليين في الأقل والأكثر الارتباطي فان بعضهم يقولون بالبراءة فيه كما هو الحق وبعضهم يقولون بالاحتياط فهكذا الأخباريون يقولون بوجوب الاحتياط فما هو المتحقق من الإجماع غير مفيد وما هو مفيد غير متحقق فلا وقع للإجماع في المقام مع انه سندي.

الرابع من الأدلة للبراءة حكم العقل

وهو أن المولى الحكيم يجب ان يبلغ تكليفه بأحد من الطرق العادية الدارجة عند العقلاء وحيث لم يكن له حكم فما بأيدينا من الكتب بعد الفحص يكون العقاب على ما لم يصل من العقاب بلا بيان وهو قبيح عقلا ففي كل مورد يكون كذلك يكون حكم العقل بالبراءة دليلا عليها.

لا يقال ان الاحتياط لو كان مجعولا من الشرع لكان اللازم الأخذ به والاحتياط العقلي مثل الاحتياط الشرعي واحتمال الضرر حيث يكون فيحكم العقل برفع ذلك الضرر المحتمل من جهة الاحتراز عن الوقوع في المصلحة ولا فرق في ذلك بين حكم العقل أو الشرع.

لأنا نقول اما ان لا يكون احتمال الضرر بيانا أصلا أو يكون محكوما لقبح العقاب بلا بيان فلا يقدم عليه ولتوضيح المقام لا بد من بيان كلام الشيخ الأعظم وبيان كلام المحقق الخراسانيّ قده وأساتيذنا العظام قدس أسرارهم.

اما الأول فما يظهر من عبارته في الرسائل هو ان الضرر المحتمل لا يصلح أن يكون بيانا حتى لا يجيء قاعدة قبح العقاب بلا بيان وغيره يقول انه بيان ولكن يكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردا عليه.

فعليك بعبارة الشيخ قده بقوله ودعوى ان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة بأن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه وانما هو بيان لقاعدة كلية

٣٠٥

ظاهرية وان لم يكن في مورده تكليف في الواقع فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده فلا يصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة بل قاعدة القبح واردة عليها لأنها فرع احتمال الضرر أعني العقاب ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع فيه للتكليف فتردد المكلف به بين امرين كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها انتهى.

وحاصل كلامه ان الضرر المحتمل موضوعه الاحتمال وهو في الشبهات البدوية يكون مرفوعا بواسطة قبح العقاب بلا بيان وانما يجب مراعاة الضرر المحتمل إذا كان لنا العلم بالتكليف ولو إجمالا واما في صورة عدمه فلا وقع له إلّا ان يكون دفع الضرر قاعدة ظاهرية نفسية وتكون المصلحة في نفسها ومعلوم انه ليس لنا دليل على ذلك إثباتا لأنها ليست أمارة شرعية مجعولة وعليه لا يكون له شأن ضرورة عدم كونه لإحراز الواقع والكلام يكون فيه لا في كونه قاعدة ظاهرية.

لا يقال عليه ان دفع الضرر المحتمل لا يمكن ان يكون قاعدة ظاهرية بل هو حكم إرشادي لأن كل حكم يكون في سلسلة معلول الحكم يكون إرشادا كما يقال في أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فانه يحكم العقل بوجوب الإطاعة بعد وجود الأمر من المولى وفي المقام يكون حكم العقل من باب وجود حكم العقل لحفظ ما هو في الواقع فيكون حكمه إرشاديا ولا يكون قاعدة ظاهرية بحيث يكون المصلحة في نفسها.

لأنا نقول لو كان لنا حكم من الشرع ولو بنحو الإجمال كما في موارد الشبهة المحصورة لكان لذلك وجه واما إذا لم يكن لنا حكم يجب إحرازه فلأي شيء يكون هذا إرشادا فان ذات الاحتمال لا يكون بيانا للواقع حتى يكون حكم العقل بدفع الضرر المحتمل إرشادا فما عن النائيني قده غير وارد عليه.

قال قده (١) فالإنصاف انه ما كنا نترقب من الشيخ قده ذلك فان حكم العقل

__________________

(١) في ص ١٣٤ من الفوائد تقرير الشيخ محمد على الكاظمي قده.

٣٠٦

بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر العقابي انما يكون إرشادا محضا لا يمكن ان يستتبع حكما مولويا شرعيا فكيف يمكن ان يكون العقاب على مخالفته وان لم يكن في مورده تكليف واقعي وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية مع ان مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع بل العقاب يدور مدار مخالفة الواقع مع وجود طريق إليه وفي جميع الموارد القواعد الظاهرية يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة القاعدة عند أدائها إلى مخالفة الواقع لا مطلقا على اختلاف فيها من كونها محرزة للواقع كالأمارات والأصول التنزيلية فالعقاب على الواقع أو غير محرزة كأصالة الاحتياط فالعقاب على مخالفة القاعدة ولكن بشرط كونه مؤديا إلى مخالفة الواقع وعلى كل حال ما أفاده قده من ان العقاب على مخالفة نفس القاعدة الظاهرية وان لم تؤدى إلى مخالفة الواقع مما لا يستقيم انتهى.

اما وجه دفعه هو ان الشيخ (قده) ينكر حكم العقل بوجوب الدفع وينكر كون حكمه بيانا حتى يكون مانعا عن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومعه لا تصل النوبة إلى القول بأنه إرشاد فانه مع عدم الواقع وعدم الحكم كيف يكون إرشادا إليه.

وثانيا (١) انه قده يقول انه لو سلم ان يكون قاعدة ظاهرية يكون العقاب على

__________________

(١) أقول هذا أيضا خلاف الظاهر فان العقل لو كان له حكم يكون لحفظ الواقع فقط ويمكنه ان يحكم بوجوب الاحتياط في كل مورد من الموارد ففيما كان الواقع موجودا فهو وفي صورة عدمه يكون لغوا مثل الأمارات فلا يرد على النائيني قده كثير إشكال مع ان كلام الشيخ قده لا يكون بهذا البيان صريحا وهو مد ظله بيّن كلامه هكذا لاحتمال كون مراده ذلك لئلا يرد عليه الإشكال عن النائيني (قده) أو غيره.

ومع ذلك لا يتم وسيجيء إيراد الإشكال على الشيخ أخذا من كلامه مد ظله في بيان أدلة الاحتياطي في آية التهلكة في التذييلات فارجع إليه فإعطاء الحق لشيخه قده أولى من إعطائه للشيخ الأعظم قده.

٣٠٧

تركه ولو كان جعلها لوجود واقع احتمالي يراد حفظه مثل العقاب على ترك الاحتياط فنعبر عنه بالفارسية نر ومادة لا ان لنا واقع يجب حفظه حتى يكون إرشادا إليه فانه وظيفة قررت مثلا للشاك في الواقع ولا يمكن ان يكون بيانا للواقع حتى يكون غاية لقبح العقاب بلا بيان فقبح العقاب بلا بيان لا مزاحم له لأنه يكون بالنسبة إلى الواقع فلا يكون اشكاله عليه واردا وما كنا نترقب منه قده ان يشكل كذلك كما ان ما نترقب عن الشيخ قده فالحق مع الشيخ قده في ذلك وقوله بالورود لا يكون حسب الاصطلاح بل يكون من باب عدم الموضوع لقاعدة دفع الضرر رأسا.

قال الخراسانيّ قده في حاشيته على الرسائل ص ١١٧ بما حاصله ان قاعدة دفع الضرر المحتمل يكون موضوعها احتمال الضرر كما هو واضح لمن تدبر وهو فرع عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فانه ان لم تجر القاعدة يبقى احتمال الضرر فيحكم العقل بوجوب دفعه ومع جريان القاعدة ينفى احتمال الضرر فلا يكون موضوع لقاعدة الضرر فقاعدة القبح بجريانها يذهب بموضوع قاعدة الضرر وكل دليلين يكون حالهما كذلك يكون المذهب بالموضوع واردا عليه فيكون قاعدة القبح واردة على قاعدة دفع الضرر.

ولو فرض قاعدة العقاب بلا بيان فرع قاعدة دفع الضرر المحتمل يكون دوريا لأن جريان قاعدة قبح العقاب على هذا يكون متوقفا على عدم كون قاعدة دفع الضرر المحتمل بيانا وعدم كونها بيانا متوقف على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنها ان جرت يذهب بموضوع القاعدة وهو الاحتمال.

فنقول له ان التوقف لو كان في الحكم يكون بالنسبة إلى عدم جريان القاعدة أي قاعدة القبح أيضا دوريا لأن عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان متوقف على كون دفع الضرر المحتمل بيانا وكون دفعه بيانا يتوقف على عدم جريان القاعدة أي قبح العقاب بلا بيان فما هو السر في تقديم قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل هو ان موضوع قاعدة الضرر وهو الاحتمال يذهب بواسطة جريان قبح العقاب بلا بيان وهذا حال كل وارد على دليل آخر وإلّا فمع

٣٠٨

قطع النّظر عن ذلك تكون القاعدتان بيانا للوظيفة وتكونان متعارضتين.

هذا كله إذا كان المراد بالضرر الضرر الأخروي واما إذا كان المراد به هو المفاسد التي تكون ملاكا للحكم مثل أن يحتمل أن يكون موجبا لاختلال في النظام فيكون حكم العقل بوجوب دفعه وحكم الشرع كذلك حتى يكون معارضا لقبح العقاب بلا بيان منوطا بقاعدة الملازمة المعروفة بأن كلما حكم به العقل حكم به الشرع فانه بعد تمامية القاعدة تحصل المعارضة.

أو يقال بأن موضوعه يكون هو احتمال الضرر وهو يكون منفيّا بواسطة ذهاب موضوعه بواسطة قبح العقاب بلا بيان لعدم العلم بالتكليف.

قال الشيخ قده هنا وان أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ترتبها على العلم فهو وان كان محتمل لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان إلّا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية لا يجب فيها الاحتياط باعتراف الأخباريين فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة لكان هذا مشترك الورود فلا بد على كلا القولين اما من منع وجوب الدفع واما من دعوى ترخيص الشارع واذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعية إن شاء الله انتهى.

وحاصل ما أفاده قده ان احتمال الضرر والمفسدة يكون موجبا للشك في أن المورد هل يكون مصداقا للهلاك والفساد أم لا والأصل في الشبهات المصداقية أي الموضوعية البراءة كما اعترف به الاخباري مثل الشك في أن هذا المانع خمر أو خل.

وأجاب عنه الشيخ النائيني قده ، بقوله وأغرب من ذلك أي من اشكاله السابق عليه ما أفاده أخيرا من أنه لو كان المراد من الضرر غير العقاب من المصالح والمفاسد فاحتماله لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا الكلام منه قده يعطى أن المصالح والمفاسد من افراد الضرر وتعمها قاعدة قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الضرر ولكن الشارع رخص في الإقدام في موارد احتمال المفسدة.

وأنت خبير بما فيه فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الّذي يستقل العقل بلزوم التحرز عن محتمله انتهى.

٣٠٩

وكأنه قده ينكر ان تكون الشبهة موضوعية ومرخصا فيها من هذا الباب ولكن الّذي يجب ان يقال في المقام هو أن الشبهة موضوعية ولكن فرق بين ما كان حصول الشبهة من ناحية الخارج مثل وجود الظلمة المانعة عن رؤية أن هذا خمر أو خلّ وبين ان يكون من باب عدم البيان من الشرع ويكون امر رفع الشبهة بيده والمقام يكون من قبيل الثاني لعدم الدليل من الشرع على لزوم ترك الإقدام فيما يكون فيه احتمال المفسدة.

ثم لا يخفى انه لا فرق بين الضرر الدنيوي الّذي يكون بدنيا وبين أن يكون الضرر بالنسبة إلى مصالح الأحكام ومفاسده فانه يكون في سلسلة علل الأحكام والجامع بينهما هو ان الضرر الّذي يكون مانعا يكون فيهما فلو تم ملازمة حكم العقل لحكم الشرع لا فرق بينهما.

ولكن الحق عدم صحة الملازمة لأن العقل لا يكون محيطا بجميع العلل والأسباب عند الشرع حتى يكشف الملازمة فرب شيء يكون ضارا بنظر العقل ويكون له مانع من قبل الشرع فلا يكون معارضا لقبح العقاب بلا بيان.

ثم ان الخراسانيّ قده (١) أنكر الصغرى في المقام تارة وأنكر الكبرى تارة أخرى اما إنكار الصغرى فهو ان الضرر لا يكون في جميع الموارد ملاك عدم الحكم أو وجوده ألا ترى ان الشارع امر بالزكاة مع انه ضرري ومنع عن البيع الربوي مع انه يكون ضارا فلو كان الضرر ملاك الحكم يجب ان لا يكون الحكم بذلك في هذه الموارد وتبعه في ذلك شيخنا العراقي قده.

وفيه ان الضرر لا فرق بين أن يكون شخصيا أو نظاميا فان البيع الربوي يكون مضرا بالنظام فنهى عنه وكل فرد يكون له نفع تحت النظام وضرر تحت خلاف النظام والزكاة أيضا كذلك فانها أيضا توجب قلة السارقين لكونها موجبة لشبعهم فيكون النهي عن ملاك ضرري ولا يمكن إنكار كون النواهي كاشفا عن وجود الضرر

__________________

(١) في الكفاية ج ٢ ص ١٨٠.

٣١٠

ولكن ليس للعقل كشف حكم الشرع في كل مورد احتمله.

واما إنكاره قده الكبرى فيكون من باب انه يقول ان العقل لا يستقل بدفع كل ضرر محتمل بل ربما يكون تحمله أولى من باب المزاحمة بالأهم فيختلف الدواعي باختلافه.

وفيه ان باب ملاحظة الأهمية يكون بابا آخر غير مربوط بالمقام فانه يجب البحث هنا لو لا المزاحم الأهم فاحتمال الضرر يكون في غير هذه الصورة.

ثم قال بأن هذا كله في صورة عدم ترخيص من الشرع واما معه فلا يكون وجه لاحتماله وقد ورد مثل قوله رفع ما لا يعلمون وكل شيء لك حلال فيكون هذا دليلا على ان الضرر لو كان أيضا يكون متداركا فدفع الضرر الغير المتدارك واجب اما المتدارك كما في المقام فلا يجب دفعه وهذا متين جدا.

فتحصل من جميع ما تقدم عدم الملازمة بين حكم العقل والشرع ومعه أيضا ورد الترخيص منه وهو موافق لقبح العقاب بلا بيان فدفع الضرر المحتمل مطلقا غير واجب وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في محله مع التأييد بترخيص الشارع.

ثم قد استدل في تقريب حكم العقل بالبراءة بوجه آخر وهو ما عن السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية وحكى الشيخ قده عنه وتعرض له شيخنا العراقي أيضا وحاصل التقرير ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق فهو تكليف محال وقال الشيخ المراد به ما لا يطاق الامتثال به بقصد الطاعة وإلّا فنفس الفعل لا يصير مما لا يطاق بمجرد عدم العلم بالتكليف به.

ونحن نقرب كلامه بوجه آخر لا يبقى فرق بين ما يعتبر فيه قصد الإطاعة كالتعبديات وما لا يعتبر فيه ذلك كالتوصليات وهو أن التكليف من قبل الشارع يكون جعله لجعل الداعي في المكلف وتحريكه نحو العمل والتكليف الّذي لم يصل إلى المكلف ولو تفحص لم يجد أيضا لا يكون له شأنية المحركية فهو تكليف محال لا تكليف بالمحال لعدم تخلف التكليف عن داعي جعله وهو التحريك.

ولا نقول يكون المكلف عاجزا عن الامتثال بل الآمر لا يمكنه جعل هذا النحو

٣١١

من التكليف فضلا عن مرتبة الامتثال فنحن نقطع بعدم التكليف على هذا الفرض لعدم العلم به ولا طريق إليه.

لا يقال اعترفتم فيما قيل بأن التكليف لا يمكن أن يكون مقيدا بالعلم به للزوم دور العلامة.

لأنا نقول الآن أيضا كذلك فان العالم والجاهل في مرتبة الإنشاء مشتركان وكذلك في مرتبة الفعلية بمعنى أنه لو تفحص لوجد واما في مرتبة التنجز فلا يمكن ان يكون هذا الشخص مكلفا بالتكليف المجهول الّذي لا طريق إليه فلا يمكن جعل التكليف بالنسبة إليه.

ولكن يمكن ان يقال ان المراد بالجهل هو الجهل البسيط لا المركب منه وعليه فامتثال شيء باحتمال المطلوبية لا يكون مما لا يطاق فكما ان العلم بالأمر موجب لامتثاله والعلم بالنهي موجب للانزجار عن المنهي عنه كذلك يمكن ان يكون احتمال الأمر أيضا كذلك لو كان عليه دليل وهكذا بالنسبة إلى الجعل يمكن ان يكون الاحتمال داعيا للمكلف إلى المطلوب فلا يكون جعله محالا.

واما الجهل المركب ففي مورد ، لا يمكن الامتثال ولا معنى للجعل أيضا لعدم حصول الداعي ولا الأمثال في مورده فالإطاعة والانقياد متمش من المحتمل كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف فان امتثال الأطراف يكون بواسطة احتمال الأمر في البين لا الأمر التفصيلي المعين.

ثم أن الشيخ قده قال بأن هذا الدليل لم تم يكون مثل ساير الأدلة العقلية ولا يمكن أن يكون معارضا لاخبار الاحتياط لو تم فانها بيان على وجوب الاحتياط فيجب البحث فيها ليظهر أن الاستدلال بها تام أم لا.

ثم قد استدل في المقام بوجوه أخرى للبراءة مثل استصحابها والتمسك بلزوم الحرج على فرض عدم القول بها وحيث لا يكون تاما عنده لا نتعرض له هذا تمام الكلام في الاستدلال على البراءة.

٣١٢

فصل في الاستدلال للأخباري

القائل بلزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية بالآيات وغيرها.

وقد استدل بوجوه : الأول بالآيات منها قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وتقريبها بان يقال ان احتمال الحرمة يكون الوقوع فيه من الهلاكة وقد نهى الله تعالى عن الوقوع فيها فلا بد من الاحتياط لا من باب انه يفتى بالاحتياط بل من باب التوقف من حيث العمل فلا يقال عليه ان الإفتاء بالاحتياط قول بغير العلم وهو أيضا يكون هلاكة للنفس لأن الإفتاء كذلك أيضا هلاكة.

والجواب عنها ان هذه الآية يكون مفادها نظير قولهم بان دفع الضرر المحتمل واجب فلو كان ضرر يجب دفعه واما مع عدم إثباته فلا يجب دفعه كما مر.

والحاصل الاحتمالات في الأوامر الاحتياطية ثلاثة الأول ان يكون نفسيا الثاني ان يكون إرشاديا والثالث ان يكون طريقيا.

اما الأول فبيانه أن يقال عند احتمال الحرمة يتولد مصلحة توجب الأمر بالاحتياط ولكن لو كان في مورده واقع فهو المطلوب وإلّا فيكون المطلوب نفسه نظير ما قال الشيخ قده في دفع الضرر المحتمل فان القاعدة بنظره قده تكون قاعدة ظاهرية بعد عدم إحراز الواقع بمعنى كونه واجبا اما من باب المصلحة في نفسه أو من باب انه لو كان في مورده واقع يكون طريقا إلى دفع الضرر ولا يحتاج إلى وجود منجز قبله كما في موارد العلم الإجمالي.

والجواب (١) عنه أولا ان هذا التقريب غير صحيح لأن إثبات كون المورد تهلكة

__________________

(١) عدم صدق التهلكة هو المتعين وهو الأساس في المقام واما كون هذا مثل قاعدة دفع الضرر المحتمل ظاهريا فيرد عليه انه خلاف الظاهر.

وليته قال بهذا في رد النائيني (قده) للشيخ فانه أنكر كون القاعدة ظاهرية في مقابل الشيخ قده والأستاذ مد ظله قال ما كنا نترقب منه ذلك.

٣١٣

لا طريق إليه لعدم دليل على الحرمة فانه من الشبهة المصداقية لها.

وثانيا على فرض التسليم ان كونه قاعدة ظاهرية خلاف الظاهر بل الاحتياط

__________________

واما تعدد العقاب فهو لا يلزم على قول القائل بان المصلحة تكون في نفس الاحتياط لأنه ليس العقاب الا عليه لا على الواقع نعم ملاك وجوبه يمكن ان يكون الواقع والقول بأنه للواقع وانه نفسي متهافت.

فليته قال في جواب الشيخ أيضا بان القاعدة الظاهرية وبتعبيره بالفارسية نر وماده خلاف الظاهر فان المراد بجميع ما ذكر من الدليل النقليّ والعقلي على الاحتياط هو حفظ الواقع لا غير.

ولا يخفى ان السند الوحيد لإيراده هذه الإشكالات هو عدم وجود الدليل على التهلكة وإلّا فمع صدقها لا إشكال في تمامية الدليل فانه يجب الاحتياط بحكم العقل وعليه وان كان الأمر بالاحتياط إرشاديا ولا سبيل إلى القول بالنفسية ولكن أصل عدم الملاك للوجوب نشأ عنده من عدم وجود الهلاك.

واما ما قال ردا للأساتيذ في معنى ان الاحتياط واصل بنفسه فمرادهم قدس الله أسرارهم ليس ان الاحتياط طريق كاشف مثل الأمارة حتى يرد عليهم الإشكال بل مرادهم هو ان الواقع يحرز به وهو تارة يكون بالجمع بين المحتملات كما في العلم الإجمالي وتارة بالترك كما في الشبهة البدوية التحريمية أو بالفعل كما في صورة احتمال الوجوب.

وكيف كان فلو كان لنا دليل على وجوب الاحتياط في مورد كما في باب الفروج والدماء نقول بان وجوبه طريقي بمعنى انه يكون لحفظ الواقع فاللازم ان يقال في ذلك بأنه دل الدليل عليه وكلما يكون الدليل فلا إشكال في الوجوب كذلك لا أن يقال لا يتصور جعل الاحتياط طريقا بمعنى كونه محرزا للواقع واما الطريق الكاشف فلا يكون حتى فيما دلّ الدليل على وجوبه.

ومما ذكرنا ظهر أن قوله في البحث ان الفارق بيننا وبين أساتيذنا صدق التهلكة عندنا وعدم تمامية الدليل وعدم صدقها عندهم يكون من التهافت في الكلام ولعله وقع السهو في البيان والكلام منه مد ظله.

٣١٤

يكون لحفظ الواقع.

وثالثا على هذا الفرض يلزم تعدد العقاب لو صادف الواقع لوجود المصلحة في نفسه وفي الواقع لو تركه وهو كما ترى فانه ليس عليه الا عقاب واحد لو سلم أصله فلا سبيل لنا إلى القول بوجوبه النفسيّ فلا بد من القول بالوجوب الإرشادي بمعنى انه يكون لحفظ الواقع ولا يمكن المساعدة عليه في المقام أيضا لأن الإرشاد يكون بعد حكم العقل بوجوب حفظ الواقع بعد إحرازه وفي المقام حيث ما أحرزنا الهلاك لا يكون الأمر بالاحتياط إرشاديا أيضا فيكون لنا القطع بعدم العقاب لعدم البيان.

لا يقال بقي الثالث وهو أن يكون وجوبه طريقيا مثل الاحتياط الّذي يكون واجبا في الفروج والدماء فانه يكون لحفظ الواقع فيكون بيانا للواقع بهذا النحو من البيان فان الاحتياط على ما هو المشهور بين أساتيذنا واصل بنفسه والأمارات تكون واصلة بطريقه أي تكون طريقا إلى الواقع لا يبقى سبيل مع الاحتياط لفقدان الواقع.

لأنا نقول انه ليس فيما يجب الا وظيفة قررت للشاك ولا يكون له الطريقية إلى الواقع لأنه ليس بعلم ولا علمي فلا كاشفية له عن الواقع إلزاما ولا استحسانا فانه ليس إلّا الجمع بين المحتملات.

لا يقال فلأي دليل يتمسك به في الفروج والدماء لأنا نقول من باب الدليل الخارجي على وجوبه.

هذا طريقنا (١) لعدم إحراز الوجوب بالنسبة إلى موارد التهلكة واما أساتيذنا فينكرون صدق التهلكة في المقام فلا تشمل الآية موارد احتمال الحرمة وانا أقول ان التهلكة صادقة ولكن لا يتم الدليل من هذه الجهة.

فعلى هذا نقول إذا كانت الشبهة بدوية حيث يكون احتمال الهلاك محكوما لقبح العقاب بلا بيان وعدم تمامية هذا الدليل اللفظي على الاحتياط ليعارض مع الأدلة النقليّة للبراءة فلا محالة يكون الحق هو القول بالبراءة لعدم تمامية دليل الاحتياطي

__________________

(١) قد ظهر عدم تمامية هذا وانه سهو بيان في التذييلات السابقة.

٣١٥

هذا وتمامية دليل البراءة عقلا ونقلا كما مر في جواب الدليل العقلي للاحتياط وهو دفع الضرر المحتمل فلا دلالة لهذه الآية على مطلوبهم ولو تم هذا الدليل يكون معارضا مع أدلة البراءة لا محكوما أو مورودا لها.

هذا كله لو كان المراد من التهلكة العقاب الأخروي واما لو كان المراد منه الضرر الدنيوي من وقوع الناس أو الشخص في المفاسد النظامية أو البدنية فالكلام فيه كالكلام في قاعدة دفع الضرر المحتمل وقد مر أن العقل لو كان حاكما بدفع هذه المهلكة لا يستتبع حكمه هذا حكما شرعيا لعدم تمامية الملازمة بين حكم العقل والشرع والفارق انه لو ثبت في المقام تهلكة يكون الأمر بعدم الوقوع فيها واما في دفع الضرر يكون الحكم هو حكم العقل فقط الّذي لا يلازمه حكم الشرع ولكنه يكون إرشادا إلى الواقع وحيث لا واقع للهلاك لعدم الإحراز يكون مثله في عدم الإنتاج.

ومن الآيات آية النهي عن متابعة غير العلم بقوله تعالى لا تقف ما ليس لك به علم ، ولا شبهة في ان الإنسان إذا احتمل حرمة شيء ثم أقدم على ارتكابه يكون هذا ارتكابا لما لا علم له به فالعمل عليه والفتوى بالبراءة يكون من اتباع غير العلم.

ولا يقال عليه ان القول بالاحتياط أيضا يكون إفتاء بغير العلم فلو كان المراد به هو ان الوظيفة تكون هذا في مقام العمل نقول البراءة أيضا كذلك ففي عدم كونهما علما مشتركان فلا ترجيح للاحتياط لأنا نقول كما قال الشيخ (قده) بأنهم لا يفتون بالاحتياط بل يتوقفون في مقامه وفي مقام العمل وهذا غاية تقريب كلامهم.

ويرد عليه أولا بالشبهة الوجوبية فانهم يقولون بالبراءة فيها مع انه أيضا يكون من القول بغير العلم وثانيا ان القول بالبراءة يكون من القول مع العلم فان الدليل إذا دلّ عليها لا يكون اتباعه اتباع غير العلم فان المراد بالعلم لا يكون هو العلم الوجداني فقط بل يشمل الوظيفة أيضا وأدلة الاحتياط أيضا لو تم يكون بيانا للوظيفة ويتعارض مع أدلة البراءة ولكن لا يتم ولو تم أيضا يكون دليل البراءة واردا عليها لذهاب موضوعها وهو الاحتمال للعقاب بواسطة ورود دليل البراءة.

٣١٦

ومن الآيات آية الاتقاء قوله تعالى فاتقوا الله حق تقاته بتقريب ان الإقدام في موارد الشبهة ينافى التقوي والورع في الدين مع انا مأمورون بذلك وهكذا الإفتاء بالبراءة أيضا ينافى التقوي فالعمل والإفتاء ينافى الآية.

ويرد عليه ان الاتقاء واجب عما يكون حراما واما ما لا يكون كذلك لوجود الدليل على البراءة فلا يجب الاحتياط نعم انه حسن في كل حال عقلا وشرعا ولكن الكلام في لزومه ولا دليل عليه مع ان الإفتاء بالاحتياط مع عدم لزومه وورود الدليل على البراءة يكون خلاف التقوي فهذه الآية أيضا لا تتم على مطلوبهم ويكفينا من الآيات ما ذكرناها ولا نتعرض للبقية.

والدليل الثاني لهم الروايات

وهي على طوائف وكل طائفة منها تكون بحد التظافر وفيها صحاح وموثقات : فالطائفة الأولى ما يكون لسانه وجوب الوقوف عند الشبهةوفي عدم الوقوف عندها اقتحام في الهلاكة كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وغيره مما ذكروه من الروايات (١).

وتقريب الاستدلال لجميع هذه الاخبار بوجهين الأول (٢) أن يكون قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) وهي في باب ١٢ من أبواب صفات القاضي في ج ١٨ من الوسائل ح ١٢١ وغيره.

(١) التقريب الثاني هو الأظهر مع عدم تمامية هذا التقريب أيضا لأن اختصاص الشبهة بالبدوية فيه التأمل فان موارد العلم الإجمالي أيضا يكون الشبهة صادقة والاحتياط فيها لازم.

مضافا إلى ان النّظر إلى الذيل يرشدنا إلى أن التوقف يكون لازمه عدم الوقوع في الهلاك وهو غير محرز في البدوية فالتعليل بقوله فان الوقوف إلخ يوجب الإشكال في شمولها للشبهات البدوية والله العالم.

٣١٧

فان الوقوف تفريعا على الأمر بالتوقف وظاهر الخطاب هو التوقف عند الشبهة البدوية لأن أخذ هذا العنوان متعلقا للتوقف يكون ظاهره انه بعنوانه الخاصّ دخيل في الحكم ففي صورة إحراز الواقع بالعلم الإجمالي حيث لا تكون الشبهة محضة ويكون إحراز الواقع من ناحية أخرى يكون خارجا عن هذا العنوان فالخطاب طريقي محض ولا يكون إرشادا لما ثبت حكمه بالعلم الإجمالي لأنه خلاف الظاهر فان الشبهة ظاهرة في البدوية فقط فيتفرع على الوقوف عند الشبهة عدم الوقوع في الهلكة.

والتقريب الثاني ان يقال ان معنى الذيل هو ان علة القول بوجوب التوقف يكون من جهة ان الاقتحام في الهلكة غير جائز فان عموم العلة يكون شاملا للشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي ولا يختص بالعلم الإجمالي فقط لأصالة العموم والتخصيص به يكون خلاف الأصل فيكون الوقوف عند الشبهة معلولا لوجوب عدم الاقتحام في الهلكة.

وهذا التقريب يكون عن الشيخ الأعظم قده (١) وانه كاشف عن ان الاحتياط يكون مجعولا في صورة كون الشبهة بدوية للغوية الخطاب بالتوقف مع عدم وجوبه. ثم أجاب الشيخ قده عن هذا الأخير الّذي تعرض له بأن المراد بالاحتياط والوقوف عند الشبهة ان كان من باب المقدمية لعدم الوقوع في العقاب الأخروي لأنه هلكة فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح كما اعترف به الاخباري فان وجود العقاب فرع التكليف وهو غير مسلم.

وان كان المراد بوجوبه هو الحكم الظاهري النفسيّ لمصلحة في نفس التوقف من دون ملاحظة الواقع فيكون الهلكة الأخروية مترتبة عليه لا على الواقع وهذا خلاف ظاهر الآية لأن الظاهر هو أن الهلاك يكون بالنسبة إلى التكليف الواقعي

__________________

(١) في الرسائل الموجود عندي ص ١٩٣ إلى ١٩٥ وللإحاطة بجميع جواب كلامه قده يلزم الرجوع إليه وما ذكره مد ظله هنا فذلكة منه وانه بعض كلامه قده لا كلّه.

٣١٨

لا بالنسبة إلى ترك الاحتياط كما يظهر من المراجعة إلى قوله فان قلت إلخ فيكون الأمر إرشاديا وهو لا يكون إلّا في موارد العلم الإجمالي لأن الإرشاد يكون فرع المرشد إليه وفي الشبهات البدوية لا يكون لنا تكليف ليجب إطاعته بحكم العقل ليكون الاحتياط طريقا إلى حفظه ويكون الأمر به إرشاديا فلا يتم دلالة هذه الآية على مطلوبهم.

وقد أشكل عليه شيخنا العراقي قده بأن في الأمر بالاحتياط احتمالا ثالثا وهو كونه طريقا لحفظ الواقع كما في مورد الفروج والدماء وهو قده أيضا يقول به في بعض الموارد فان الاحتياط يكون محرزا للواقع وواصل بنفسه على ما هو التحقيق (١) ولا يكون القول بعدم كونه كذلك مستدلا بأنه ليس الجمع بين المحتملات ولا يكون طريقا علميا ولا بمنزلته بصواب فانه لا شبهة في انه لو كان واقع في البين يكون هذا طريقا إلى حفظه كما أن الأمارات تكون على فرض وجود الواقع حافظة له بوجه وعليه يكون الأمر بالوقوف موجبا للقول بوجوب الاحتياط فيتعارض مع ما دل على البراءة من أدلة الأصولي.

وقد أجاب (٢) بعض الأعيان عن هذا التقريب فان التهلكة هنا منصرفة إلى المضار

__________________

(١) مر منه مد ظله قبل الرد على الأساتيذ في هذا القول وهذا يكون خلافه وقد اعترف بذلك بعد الإيراد عليه وعذره أن الإنسان في كل آن في شأن ومرّ منا ان الاحتياط ليس طريقا في مقام إثبات التكليف كالعلم والعلمي ولكنه طريق لإحرازه

(٢) أقول ان مقتضى التقرير هو بيان نصّ كلام الأستاذ مد ظله وإلّا فما عن بعض الأعيان في حاشيته على الكفاية نهاية الدراية في ذيل ص ١٩٥ وصدر ص ١٩٦ ووسط ص ١٩٧ يأبى عن الحمل على هذا المعنى فانه قده بيّن بيانا في الهلكة الأخروية وقال بأن المحرز حيث لا يكون لها لا وجه للاحتياط ولا للإرشاد وقال وان أريد الثانية أي التهلكة الدنيوية ففيه أولا انه خلاف الظاهر مع ان كل مفسدة ليست تهلكة جزما إلخ قوله وان كان نفسيا فان شئت فارجع إليه.

وتمسك الأستاذ مد ظله يكون بعبارته هذا في ص ١٩٧ قوله لا تجامعوا ـ

٣١٩

الدنيوية كما في نكاح من احتمل كونها أخته الرضاعي من المفاسد الدنيوية والعقوبة الأخروية ليست هلكة.

وفيه ان كون العقوبة من أشد أنحاء الهلكة ظاهرا لا إشكال فيه وعلى فرض إطلاق التهلكة بالنسبة إلى الهلاك الدنيوي والأخروي حيث يكون في لسان الشرع يجب أن يكون المراد منها العقوبة الأخروية لا الضرر الدنيوي لأن مقام الشارعية يقتضى ذلك.

وقد أشكل العراقي (قده) أيضا بأن هذا التقريب يتوقف على إثبات الإطلاق ليكون شاملا للشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي واما على فرض عدم القول بأصالة الإطلاق فينحصر بموارد العلم الإجمالي وهذا يكون دوريا لأن أصالة الإطلاق متوقفة على العلم بالمنجز ولو كان هو الاحتياط بالوجوب النفسيّ.

والعلم بالمنجز في موارد الشبهات البدوية متوقف على أصالة الإطلاق ضرورة انه لو لم تكن جريانها لا يكون هذا دوريا لأن أصالة الإطلاق تكون كاشفة عن إيجاب الاحتياط لأن إيجابه يكون متوقفا عليها ليصير دورا.

والجواب عنه ان هذا يكون في جميع موارد الظهورات والإطلاقات ولا بد

__________________

ـ النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك من لبنها أو أنها لك محرمة وما أشبه ذلك فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة فانه لا شبهة في أن الهلكة لا يراد منها العقوبة بل المفاسد الذاتيّة الواقعية.

كيف وقد نصّ في موثقة مسعدة بن صدقة بأن الإقدام حلال ممثلا له بذلك وبأشباهه وعليه فما في رواية أخرى أيضا لا ظهور للهلكة فيها في العقوبة بل في الجميع إرشاد إلى ما يعم العقوبة والمفسدة كل بحسب ما يقتضيه المورد من وجود المنجز وعدمه انتهى.

وقوله في الذيل ما يعم إلخ صريح في عدم الانصراف بل يمكن ان يستعمل ويراد منه العقوبة والضرر الدنيوي أو يراد منها العقوبة حسب اقتضاء الموارد فعليك بالتدبر في استظهار المعنى منه.

٣٢٠