مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٥

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٥

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٦

١

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

اما بعد فيقول العبد الفاني محمد علي الإسماعيل پور الأصفهاني القمشئي القمي ابن نصر الله غفر الله تعالى ذنوبهما ان ما بين يديك من الكتاب هو المجلد الخامس من كتاب مجمع الأفكار ومطرح الأنظار تقريرات بحث شيخنا العلامة المحقق المدقق آية الله العظمى الحاج ميرزا هاشم الآملي النجفي أدام الله تعالى ظله الشريف مرجعا وملاذا للعلم وأهله وللإسلام والمسلمين مع تنظيم وتنقيح منّي بعد بيان ما ادى إليه النّظر في تذييلاته بقدر المجال.

وفيه يبحث عن قاعدة نفى الضرر والضرار في الإسلام وعن الاجتهاد والتقليد وهذان البحثان من المباحث المهمة المفيدة سواء كانا من مباحث علم الفقه أو من مباحث علم الأصول وقد دون ذلك بعض الأعاظم مثل المحقق الخراسانيّ في الأصول في كتابه المسمى بالكفاية في حد من الاختصار خصوصا في قاعدة اللاضرر.

ولا بد من الدقة فيهما فان قاعدة نفى الضرر قاعدة ربما تزل القدم في تطبيقها على الموارد وملاحظة نسبتها مع غيرها من الأدلة الأولية أو الثانوية فإذا فرض

٣

كون الفقر مثلا ضرريا لا ينفى بها ولا يتبع ما يتوهم انه لازمه وهو أخذ المال عينا أو منفعة من الغنى لأن مفادها النفي لا الإثبات ولأنها قاعدة امتنانية للنوع لا للشخص فقط كما ان قاعدة نفى الحرج أيضا كذلك ولم يعهد في هذا الباب من الإسلام إلّا جعل حق للفقراء بجميع شئون فقرهم في مسكنهم وملبسهم ومأكلهم من الخمس والزكاة والكفارات وأمثال ذلك وغاية أمرهم بيد ولى المسلمين كما ان بحث الاجتهاد والتقليد فيه مسائل دقيقة لطيفة كما لا يخفى عن أهل الفن ولا يكون البحث في الأصول عنه الا في كلياته وكيف كان فلنشرع في أصل المطلب.

خاتمة في الاجتهاد والتقليد

والبحث فيه في فصول

الفصل الأول في معنى الاجتهاد فقد اختلف التعابير في معناه فقيل انه في اللغة عبارة عن تحمل المشقة واصطلاحا هو استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي وقيل انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي وأساتيذنا قالوا انه استفراغ الوسع لتحصيل الحجة الشرعية.

وأقول انه لا يخفى عليكم ان المراد بالمجتهد في اصطلاح الفقهاء والأصوليين ليس من يصدق عليه في اللغة انه اجتهد وسعى فهو مجتهد وإلّا لزم ان يشمل عنوان المجتهد لمن هو كذلك في مبادئ استنباط الأحكام مثل من اجتهد في علم النحو فقط أو الصرف أو المنطق وصار صاحب رأى ونظر.

بل المراد بالمجتهد هو من عرف الحلال والحرام عن الأدلة الشرعية وهو الموضوع لجواز تقليده كما يكون التعبير كذلك في الروايات بأنه من عرف حلالنا وحرامنا فليرضوا به حكما وهذا المعنى الّذي هو موضوع جميع الآثار لا ينطبق عليه التعاريف المتقدمة في الاصطلاح.

٤

لأن من يكون وأصلا إلى درجة الاجتهاد وحصل له القوة أو الملكة ولم يستنبط الأحكام بمقدار معتنى به لا يصدق عليه العارف بالاحكام لأن صرف القوة لا يكفى لكونه من أهل الذّكر الّذي يكون الأمر بالرجوع إليه وهكذا من استفرغ الوسع في بعض غير معتنى به لا يصدق عليه العارف كذلك فالتعبير بأنه استفراغ الوسع لتحصيل الظن أو لتحصيل الحجة غير تام لأن تحصيل الوظيفة أيضا يكون كافيا فمن كان له ملكة الاجتهاد واستنبط مقدارا معتنى به من الأحكام بحيث يصدق عليه انه عارف بالحلال والحرام عن الأدلة التفصيلية فهو المجتهد الّذي يكون له الفتوى والحكم بين الناس والكلام في ان العرفان بجميع الأحكام هل يحصل لشخص أم لا سيأتي في البحث عن الاجتهاد المطلق والتجزّي.

وعلى ما ذكرناه لا فرق بين ان يكون السند له الآية أو الرواية أو أصل من الأصول المحرزة كالاستصحاب أو أصل غير محرز كالبراءة فانه وان لم يكن له علم بالحكم في صورة إجرائه البراءة لكنه عارف بالحكم والوظيفة من هذا الوجه ولا يخفى ان النزاع بين الأخباريّ الّذي يقول لا معنى للاجتهاد والسند هو الرواية والأصولي الّذي يقول لا بد من الاجتهاد لا يرجع إلى محصل لأن فهم الحكم من الاخبار أيضا اجتهاد وتحصيل لعرفان الحلال والحرام وتحصيل للوظيفة المقررة في الشرع الأنور فلا بدّ من تحصيل الوظيفة من الاخبار ومن الأصول العملية.

وفي هذا الطريق ربما يوافق نظر بعض الأصوليين مع الاخباري كما ان بعض الأصوليين لا يقول بجريان البراءة في الشبهات الحكمية استنباطا من الدليل وفاقا للأخباري فتحصيل الحجة من أي طريق شرعي كان يوجب العرفان بالحلال والحرام حتى إذا كان سند المجتهد حجية الظن المطلق لكونه انسداديا على الحكومة في باب الانسداد فانه حينئذ يكون حاكما بالحكم على طبق الانسداد من سبيل العقل فقط وهو انه إذا رأى عدم كون الإنسان كالبهائم وانه مكلف بتكاليف من الشرع

٥

ولا بد له اتباعه فيحكم بحجية الظن بعد كون الاحتياط عسريا.

فحكم العقل أيضا من هذا الباب أو من باب آخر متبع عن المجتهد وانه الرسول الباطني واما الانسداد على الكشف فهو ينتج كشف حكم الشرع بدليله وليس من الحكم العقلي المحض.

والحاصل سواء كان الدليل العقل أو الشرع يكون رأي المجتهد حجة لنفسه ولمقلديه وهو خبرة الدين فلا بدّ من الرجوع إليه من حيث هو الخبرة ولا يسأل المقلد عن دليله تفصيلا كما ان ساير الخبراء أيضا كذلك.

الفصل الثاني في الإطلاق والتجزي في الاجتهاد

ولكل منهما جهات من البحث الجهة الأولىفي البحث عن إمكان حصول الاجتهاد المطلق وعدمه فانه ربما قيل ان الاجتهاد المطلق لا يمكن تحصيله لكثرة الأحكام الشرعية في جميع أبواب الفقه مضافا بأنه ربما يتوقف على علوم لا يعلمه المجتهد كمعرفة أول الشهر في الصوم مثلا ومعرفة القبلة في الصلاة فان المجتهد محتاج إلى الهيئة والنجوم وليس عارفا بذلك.

ولكن يمكن ان يقال في الجواب عنه ان المراد بالمجتهد ليس من استنبط جميع الأحكام بالفعل حتى يقال لم يتفق ذلك لأحد لكثرة الفروع بحيث لا تحصى بل المراد به من استنبط مقدارا معتنى به مع وجود القوة على استنباط حكم كل مسألة احتاج إلى استنباطه واما عدم علم بعض المجتهدين بالهيئة والنجوم فلا يضر بإطلاق الاجتهاد لأن المجتهد في رد الفروع على الأصول يرجع إلى الخبرة في تطبيق الحكم على الموضوع فهو يستنبط ان القبلة حسب الدليل الشرعي في مكان كذا يكون كذا مثل كون الجدي خلف المنكب في بعض الأمكنة وعدمه في بعض آخر أو يجب الصلاة بعد الزوال أو يجب الصوم في أول شهر رمضان إلى آخره وفي تعيين القبلة الزوال وأول الشهر وآخره يرجع إلى الخبرة في ذلك في مقام التطبيق

٦

والحاصل ان الفقيه يكون شأنه بيان الأحكام وكل علم يكون دخيلا في فهم الحكم كعلم الأصول وغيره لا بد من الاجتهاد فيه واما ما لا دخل له فيه مثل الهيئة والنجوم فيرجع إلى الخبرة في هذا الفن كما يرجع في فهم ان العصير بعد الغليان هل حصل التثليث فيه ليصير حلالا أم لا ليكون حراما إلى الخبرة في هذا الفن وهكذا غيره من الموضوعات.

مضافا بأن بعض العلماء مثل العلامة والشهيدين والبهائي والمحقق من العلماء بالهيئة أيضا فأمثالهم لا يكون الإشكال في إطلاق اجتهادهم نعم من كان قاصرا في مقدمات الاستنباط مثل عدم كون المجتهد خبرة في المسائل الأصولية الدقيقة فهو امر آخر فان بعضهم يفتى بجواز البقاء على تقليد الميت ولكن لا يمس ذهنه إلى ان تنجيز رأي المجتهد لمقلديه جهة تعليلية أو تقييدية ويأتي الكلام في جواز تقليده وعدمه مع عدم علمه بما هو من مقدمات استنباطه.

واما ما يرجع إلى التطبيقات فيرجع إلى الخبراء كما في ساير الموارد فتحصل من جميع ما تقدم ان الإطلاق في الاجتهاد ممكن ولا إشكال فيه.

الجهة الثانية في ان المجتهد المطلق هل يجوز له تقليد غيره بأن لا يستنبط الأحكام أو يجب عليه الاستنباط فيه خلاف والحق عندنا هو انه إذا كان مقدمات الاجتهاد من الكتب الموضوعة لهذا الفن في يده ولا يكون له اشتغال بما هو أهم يجب عليه الاستنباط لأن دليل جواز التقليد سواء كان الفطرة العقلائية أو العقل أو الروايات يكون موضوعه الجاهل بالحكم ومن لا يكون جاهلا وله طريق العلم لا يكون موضوعا لهذا الدليل والأصل يقتضى عدم حجية رأى أحد على أحد.

لا يقال هذا في المجتهد الّذي يكون رأيه انفتاح باب العلم أو العلمي يصح واما المجتهد الانسدادي فهو مثل الجاهل لأن عقيدته عدم طريق له للعلم بالاحكام فلا إشكال في رجوعه إلى من يكون انفتاحيا.

لأنا نقول ان المجتهد إذا كان انسداديا أيضا يكون عالما بالوظيفة مثل

٧

الانفتاحي الّذي لا سند له إلّا أصالة البراءة من الأصول الغير المحرزة فكما انه عالم بالوظيفة وان كان جاهلا بالحكم كذلك الانسدادي في المقام مضافا بان الانسدادي يرى الانفتاحي جاهلا فكيف يرجع إليه والعلم بالواقع ربما لا يحصل لمن قامت عنده الأمارة لخطاء الراوي في الواقع في روايته.

ولذا نقول انه لا يكون للمجتهد الّذي أفتى بالاحتياط ان يرجع مقلديه إلى غيره لأنه بعقيدته رأى وجوب الاحتياط من باب العلم الإجمالي ويرى رأى غيره وفتواه في ذلك مخدوشا وان أفتى جزما فكيف يمكن ان يرجع مقلده إلى من هو جاهل عنده وهذا الكلام يعنى إرجاع الاحتياط إلى الغير وان كان مشهورا عند الفقهاء ولكن لا أصل له بهذا الدليل.

نعم إذا كان احتياط المجتهد الأعلم من باب عدم استنباطه الحكم لكثرة اشتغاله أو لوجوه أخر فله ان يرجع مقلده إلى من حصل العلم في ذلك فالانسدادي والاحتياطي يلزمه العمل برأيه لا رأى غيره.

الجهة الثالثة في ان المجتهد الانسدادي يجوز تقليده أم لا؟ (١)

__________________

(١) أقول ان الّذي يلزم التوجه إليه في المقام هو ان المجتهد الانسدادي يكون نظره بعد العلم الإجمالي بالاحكام وعدم إمكان كوننا كالبهائم وعدم الاحتياط لكونه عسريا إلى ان ما بأيدينا من الآيات والروايات متواترة كانت أو آحادا وموارد الإجماعات لا يفي لانحلال العلم الإجمالي فما لم يصل فيه دليل خاص يكون الظن المطلق حجة فيه على فرض كون نتيجة مقدمات الانسداد الحكومة لا الكشف.

ولكن الانفتاحي يقول ان ما بأيدينا مما ذكر واف لانحلال العلم الإجمالي وفيما لم يصل إلينا فيه دليل خاص فالأصل يقتضى البراءة فالفرق بين الانسدادي والانفتاحي يحصل بان سند أحدهما البراءة وسند أحدهما الظن والانسدادي عارف بكل ما علمه الانفتاحي فكيف يقول المحقق الخراسانيّ قده وغيره ان الانسدادي جاهل ولا رجوع إلى الجاهل ويقول بالرجوع إلى البراءتي مع انه أيضا جاهل بهذا المعنى فكما ان البراءتي يخطأ الانسدادي في رأيه فكذلك الانسدادي يخطئ ـ

٨

قال المحقق الخراسانيّ قده بما حاصله هو عدم جواز تقليد الانسدادي لأن دليل جواز التقليد هو ان الجاهل يرجع إلى العالم بحكم العقل والعقلاء والروايات والانسدادي حيث يكون جاهلا يكون رجوع الغير إليه من رجوع الجاهل إلى الجاهل.

بل كان سيدنا الأستاذ الأصفهاني قده يقول لا يرجع إلى المجتهد الّذي سنده البراءة لأنه أيضا جاهل ومقدمات الانسداد توجب حجية الظن لنفس الانسدادي ولا توجب تعيين وظيفة البشر.

مضافا بان الانسدادي يكون باب العلم منسدا عنده ولكن المقلد لا يكون كذلك مع وجود الانفتاحي فانه يرجع إليه وربما (١) لا يحصل له العلم الإجمالي بالاحكام والتحير الّذي يكون من مقدمات الانسداد.

قال قده فان قلت رجوعه إلى المجتهد الّذي يكون سنده الأصل أيضا يكون من رجوع الجاهل إلى الجاهل قلت حيث لا يمكن للمقلد ان يفهم عدم الدليل الا الأصل وهو عاجز عنه يبين المجتهد مورد جريان الأصل فيكون هذا من رجوع الجاهل إلى العالم في هذا القدر من العلم هذا كلامه فقها وأصولا فأقول ان التحقيق خلاف ما ذكره وبيانه هو ان الموضوع لجواز التقليد كما مر يكون المجتهد الّذي يكون عارفا بالاحكام والعارف بالحكم يصدق بالنسبة إلى من استنبطه من الروايات لما ورد من قولهم عليهم‌السلام أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا (٢) وقوله

__________________

ـ البراءتي في رأيه.

فكل ما قيل في الرجوع إلى البراءتي يقال في الرجوع إلى الانسدادي فلا يكون في الرجوع إلى الثاني كثير إشكال ولا في تقليده غرابة وامتناع فاحفظ هذا فانه مفيد للمقام في دفع الإشكال.

(١) أقول مع الغمض عن ساير الإشكالات لا يرد هذا الإشكال لأن العلم الإجمالي للمقلد لا يلزم ان يحصل فلو قلنا بجواز تقليده يجب عليه العمل بفتوى الانسدادي ولو لم يحصل له علم إجمالي وسيجيء الجواب عن ساير الإشكالات منه مد ظله.

(١) في الوسائل ج ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢٧

٩

في رواية عبد الأعلى مولى آل سام يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله بعد قوله عليه‌السلام امسح على المرارة (١) وتقريب الاستدلال هو ان عرفان معاني كلماتهم يوجب الأفقهية والعلم يحصل بملاحظة كتاب الله تعالى ومن المعلوم ان الاخبار عنهم عليهم‌السلام الا ما شذ كالمتواتر يكون ظني السند والدلالة وهكذا الكتاب قطعي السند كالمتواتر ولكنه ظني الدلالة فلا يوجب أحدهما القطع والعلم الوجداني الا قليلا.

وبعبارة أخرى ان حجية الأمارات اما ان تكون من باب تتميم الكشف كما هو التحقيق أو من باب تنزيل مؤداها منزلة الواقع كما هو رأى الشيخ الأعظم أو من باب جعل الحجية كما عن المحقق الخراسانيّ قده وعلى أي تقدير لا توجب العلم الوجداني بل لنا العلم بوجود الحكم الطريقي إلى الواقع وانه ربما يوصل إلى الواقع وربما لا يوصل إليه.

فإذا عرفت ذلك فنقول العلم بالحجة والوظيفة أيضا علم لأن العرفان إذا صدق على ما لا يكون عرفانا في الواقع فنقول بتوسعة صدقه على غيره فعلى هذا المجتهد الانسدادي والّذي يكون سنده البراءة يكون عالما وليس الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى الجاهل بل من رجوع الجاهل إلى العالم وما فهمه الانسدادي يكون وظيفته ووظيفة البشر فمع كونه اعلم لا بد من الرجوع إليه لا إلى غيره وليس لأحد ان يقول لا يرجع إلى المجتهد الأعلم.

فعلى هذا يكون باب العلم منسدا للمقلد أيضا لأنه لا بد من الرجوع إلى الانسدادي نعم إذا كان الانفتاحي والانسدادي متساويين فيكون له الرجوع إلى الانفتاحي فما ذكره المحقق الخراسانيّ قده من ان ما ادى إليه حجته يكون وظيفة لنفسه لا للبشر لا يخلو عن الإشكال.

ثم من هذا الوجه قال قده بما حاصله هو انه ان أشكل على هذا وقيل بأن

__________________

(١) في الوسائل ج ١ باب ٣٩ من أبواب الوضوء ح ٥

١٠

من كان سنده الأصل أيضا يكون جاهلا مثل الانسدادي قلنا بأن المجتهد مبين لموارد جريان الأصول وعارف بعدم الدليل في المقام والمقلد عاجز عن ذلك فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.

وأقول نحن كما مر نقول ان العرفان في الروايات الدالة على ان الرجوع إلى من عرف حلالهم وحرامهم جائز يكون أعم من العرفان بالحكم بواسطة القطع أو الظن المعتبر أو الوظيفة وموارد الأصول المحرزة وغيرها عرفان لحكم الله تعالى في المورد.

ولذلك ترى ان الأصول المحرزة مثل الاستصحاب يكون مقدما على الأصل غير المحرز مثل البراءة والسر في ذلك صدق العرفان الّذي هو غاية في لسان دليل البراءة مثل قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فالعرفان يكون أعم من العرفان الوجداني بالواقع الواقعي أو الواقع التعبدي أو العلم التعبدي بالواقع الواقعي كما ان التحقيق في الاستصحاب هو ان لسان الدليل يفهم منه تنزيل الشك منزلة العلم فكأنه يقال أيها الشاك أنت عالم.

كما ان مبنى الشيخ الأعظم هو العكس بتنزيل المشكوك منزلة المتيقن فالعلم الوجداني يكون عنده حاصلا بالواقع التعبدي كما ان رأيه كذلك في باب الأمارات في قوله بتنزيل مؤداها منزلة الواقع خلافا لما نقول من تتميم الكشف وهذا شأن كل دليل أوّلي مع الدليل الثانوي فان الاقتداء بمن هو عادل واقعا هو الظاهر من الدليل ولكن لسان دليل الاستصحاب يوسع الواقع فان جوازه يكون بالنسبة إلى مستصحب العدالة أيضا فتحصل من جميع ما تقدم ان الأمارات والأصول المحرزة تكون نازلة منزلة العلم على ما فهمنا من الأدلة.

والأصول الغير المحرزة أيضا حيث يوجب بيان وظيفة المتحير يمكن ان يكون العارف به عارفا بالحجة والوظيفة ويكون مصداق من عرف حلالهم وحرامهم فلا إشكال في الرجوع إلى المجتهد الانسدادي ومن يكون سنده البراءة خلافا

١١

لسيدنا الأستاذ الأصفهاني قده في خصوص الرجوع إلى المجتهد الّذي سنده البراءة أو الّذي يكون انسداديا.

بقي في المقام إشكال وهو ان المقلد الّذي يريد الرجوع إلى الأصل الّذي نقّحه المجتهد وهو البراءة لا يكون شاكا في بعض الأوقات لغفلته فكيف يصير الحكم شاملا له والجواب عنه بالنقض والحل اما النقض فهو ان المقلد في باب الأمارات أيضا لا يكون شاكا مع كون موردها الشك فكيف تشمله واما حلا فنقول في الموضوعات يكون الشك الفعلي هو اللازم للمقلد في كونه مصداق الحكم واما في الأحكام فالشك التقديري كاف بمعنى كفاية انه لو التفت لشك فيها.

والمجتهد وكيل عن قبل المقلد بمقتضى ما دل على الرجوع إلى العارف بالاحكام وقبول قوله من دون فحص فالمجتهد المطلق مرجع في الفتوى مطلقا.

الجهة الرابعة في نفوذ حكم المجتهد المطلق وقضائه فنقول لا شبهة ولا ريب في عدم نفوذ حكم المقلد بين الناس لأن منصب القضاوة حسب الروايات يكون لمن هو منصوب من قبلهم عليهم‌السلام ويكون عارفا بأحكامهم واما المجتهد المطلق فلا شبهة في جواز حكمه كجواز تقليده إذا كان ممن يرى انفتاح باب العلم واما إذا كان انسداديا ففيه الكلام.

والدليل عليه ما ورد من الروايات كرواية أبي خديجة (١) والمجتهد المطلق هو الّذي يصدق عليه انه ممن روى حديثهم عليهم‌السلام ونظر في حلالهم وحرامهم عليهم‌السلام وعرف أحكامهم عرفا.

وكمقبولة عمر بن حنظلة ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر

__________________

(١) في الوسائل ج ١٨ في باب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٦ عن أبي خديجة قال : بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابنا فقال : قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارؤ في شيء من الأخذ والعطاء ان تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر.

١٢

في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله الحديث (١) فان قلت ان الفقرة في هذه الرواية وهي قوله عليه‌السلام فإذا حكم بحكمنا كيف تصدق مع كون القضية فيها فتوى المجتهد والفتوى ليست من حكمهم عليهم‌السلام قلت حيث يكون غالب موارد قضاء الفقيه في الموضوعات الخارجية مثل الحكم بان الدار لزيد دون عمرو والفرس لبكر دون خالد ولم يكن مما ورد فيه النص نفهم ان المراد ان المنصوب من قبلهم يكون فتواه في حكم أيضا حكمهم عليهم‌السلام.

هذا في الانفتاحي واما المجتهد الانسدادي فيكون فيه الإشكال كما كان في حجية فتواه عن محقق الخراسانيّ قده وغيره من جهة انه جاهل ولا رجوع إلى الجاهل وجوابنا ما مر من انه أيضا عالم بالوظيفة وعلى فرض كونه انفتاحيا في باب القضاء فيقولون ليس لنا القول بالفصل إذا كان انسداديا في ساير الأبواب.

وحيث يكون الحق هو جواز قضائه وفتواه على فرض الانسداد فلا إشكال أصلا عندنا.

ثم ان الاجتهاد في خصوص القضاء هل يكفى لقضائه أم يجب الاجتهاد في جميع الأحكام فيه خلاف وحيث ان الحق هو ان الاجتهاد عندنا ليس إلّا وجود الملكة للاستنباط مع الاستنباط لمقدار معتد به من الأحكام فيكفى استنباطه لجملة من الأحكام ولو لم يكن الاستنباط بالنسبة إلى الجميع لعدم إمكانه.

فتحصل ان المجتهد أعم من كونه انسداديا أو انفتاحيا يجوز قضائه ويصدق عليهما العارف بالاحكام وان كان صدقه من جهة ما عرفه الانسدادي من موارد الإجماعات والمتواترات والضروريات (١)

__________________

(١) في ج ١٨ من الوسائل باب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١.

(٢) أقول قد مر ان المجتهد الانسدادي لا ينقص عن القائل بأصالة البراءة في موارد الشبهات من جهة علمه بما ورد من الاخبار الآحاد والحجج الخاصة ـ

١٣

في جهات البحث في المتجزي

الجهة الأولى في إمكانه والحق عندنا إمكانه لأن المسائل بعضها مبتن على مبادئ صعبة وبعضها على مبادئ سهلة فربما يكون الشخص مجتهدا في مسألة أو مسائل يكون سندها الروايات الظاهرة دلالة وظاهرة الجمع على فرض التعارض وربما لا يكون مجتهدا في مسائل مبتنية على البحث في التعبدي والتوصلي في الأصول وكذلك المبتنية على البحث عن الأقل والأكثر والتعيين والتخيير والمتباينين وتحقيق الفرق بين الثلاث فإن أمثال هذه الموارد صعب جدا لا بد من التحقيق البليغ فيه فلا يكون الشخص مجتهدا في المسألة التي يكون مبناها ما ذكر وليس الاجتهاد الا الفحص عن دليل الحكم تفصيلا ففي أي مورد حصل العلم بالدليل يكون الشخص مجتهدا فيه.

مضافا بأنه لو لم يكن التجزي متحققا يلزم الطفرة في الاجتهاد المطلق ضرورة انه تدريجي الحصول فبواسطة الاجتهاد في هذه المسألة وتلك بنحو التجزي يحصل الاجتهاد المطلق ولا يمكن تحصيله دفعة.

وقد أشكل في المقام بأن الاجتهاد عبارة عن الملكة وهي امر بسيط والبسيط لا يتجزى فكيف يحصل التجزي والجواب عنه ان غاية ما يقال في المقام هي ان العلم من الوجود ومساوق معه ولكن لا شبهة في وجود المراتب للوجود أيضا وهكذا الاشتداد والتضعف فالمجتهد المطلق يكون قويا في هذه القوة والمتجزي يكون ضعيفا فيها ولا إشكال في ان يكون القوة للنفس ذات مراتب شديدة وضعيفة وان كان مجردة وبسيطة من حيث ذاتها.

__________________

ـ فيكون صدق العرفان عليه أيضا مثله.

وانما الفارق عدم كفاية ما بأيدينا لبيان الأحكام وعدم إيجابه انحلال العلم الإجمالي بها في نظر الانسدادي فيقول بحجية الظن المطلق والانفتاحي يقول بكفايته للانحلال وفي موارد الشبهة الأصل هو البراءة عنده.

١٤

وأجاب الاعلام عن هذه الشبهة بجواب عرفي وهو ان عدم قبول القوة للتجزية من جهة البساطة لا يمنع عن حصولها بالنسبة إلى بعض المسائل دون بعض فما حصل منها بسيطة.

وقد أشكل ثانيا بأن أبواب الفقه مرتبطة بعضها ببعض من حيث الدليل فان الخلوة مع الأجنبية دليل حرمتها روايتان إحداهما في الإجارة والأخرى في الطلاق فلا يحصل التجزي للمجتهد مع عدم الإحاطة بجميع أبواب الفقه لإمكان وجود الدليل بخلاف ما فهمه في زاوية من زوايا الكتب المدونة لم يعثر عليه.

والجواب عنه هو ان الأمر وان كان كذلك في مقام الثبوت ولكن في مقام الإثبات حيث ان أبواب الفقه صارت منضبطة في القرون المتأخرة وجعل الفقهاء والمحدثون للفقه والاخبار أبوابا يذكر فيها جميع ما يتعلق بالمسألة المناسبة لذلك الباب غالبا فإذا تفحص المجتهد ولم يجد شيئا يطمئن بعدم وجود شيء آخر وإلّا لذكروه واحتمال وجود رواية أو دليل آخر يصير بعيدا.

فلو لا جهد الماضين من العلماء رضوان الله عليهم لكان للإشكال وجه لكنهم شكر الله مساعيهم جعلوا طريق الاستنباط واضحا.

فان قلت ان المبادي التي هي دخيلة في حصول قوة الاستنباط كثيرا ما لا تكون بيد المتجزي فكيف يمكنه الاستنباط بدون الإحاطة بعلم الأصول وساير العلوم الّذي يتوقف عليه ذلك.

قلت بعض المبادي الّذي يصعب الاجتهاد فيه مثل مسألة ان الأمر بالشيء هل يقتضى النهي عن الضد أم لا أو أن إطلاق الأمر هل يقتضى التعبدية أو التوصلية أم لا ربما لا يحتاج إليه في مسألة من المسائل فإذا كان طريق المسألة سهل التناول فلا إشكال في حصول العلم بالحكم من الدليل التفصيلي واما ما يتوقف على ما ذكر فلا يحصل الاجتهاد فيه لعدم ما هو من مباديه وكيف كان فلا إشكال في إمكان التجزي في الاجتهاد.

الجهة الثانية في ان المتجزي هل له ان يعمل برأيه أم يجب عليه التقليد حتى

١٥

يصير مجتهدا مطلقا فيه بحث والحق هو ان له ان يعمل برأيه لأنه صار عالما بفحصه ودليل التقليد وهو رجوع الجاهل إلى العالم لا يشمله لأنه عالم بالنسبة إلى ما علمه فلا إشكال في عمله برأي نفسه.

ثم انه ربما يقال بأن المتجزي لو كان انسداديا لا يكون له العمل برأيه لأن الانسدادي جاهل فلا بد له إلّا ان يرجع إلى العالم.

والجواب عنه ان المتجزي ربما لا يحصل له الظن حسب مقدمات الانسداد حتى يكون حجة عليه مثل من رأي خلاف مثل العلامة الحلي قده وسائر الاعلام من الفقهاء ولا يحصل له من مقدماته الظن فهذا خارج عن محل الكلام لأن البحث في صورة حصول الظن الّذي هو حجة على فرض كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن على الحكومة.

وربما يحصل له الظن من جهة تمامية مقدماته فان حصل الظن فلا شبهة في حجيته لنفسه حسب ما ادى إليه اجتهاده فله العمل على وفق ما علمه وليس له الرجوع إلى غيره فتحصل ان المتجزي مطلقا له ان يعمل على طبق رأيه.

الجهة الثالثة في ان المتجزي هل يجوز تقليده فيما استنبطه أم لا ولنفرض كونه اعلم فيما تجزى فيه مثل من كان أعلميته في خصوص باب المعاملات أو في خصوص العبادات كما نسب إلى بعض الاعلام من الفقهاء انه كان أعلم في باب المعاملات في مقابل من كان أعلم في باب العبادات وفيه خلاف.

فقال المحقق الخراسانيّ قده جواز تقليده مشكل للإشكال في صدق العارف بأحكامهم عليهم‌السلام بالنسبة إليه فان العارف هو المجتهد المطلق الّذي استنبط جملة من الأحكام.

والحق ان يقال ان السند لجواز التقليد ان كانت الفطرة والسيرة العقلائية من رجوع الجاهل إلى العالم وهكذا العلم الإجمالي بالاحكام مع عدم الطريق إليها فلا فرق بين المتجزي والمطلق في جواز الرجوع لأن المتجزي إذا كان عندهم اعلم بالمسألة الفلانية فلا شبهة لهم في وجوب الرجوع إليه لا إلى غيره.

١٦

واما إذا كان الدليل الرواية مثل رواية أبي خديجة ومقبولة عمر بن حنظلة التي مرت آنفا فحيث ان العارف بالاحكام والحلال والحرام لا يصدق بالنسبة إلى المتجزي فيشكل جواز تقليده فعمله برأيه امر وتقليد غيره إياه امر آخر فهو عالم فلا يرجع إلى غيره ويعمل برأيه ولا يصدق عليه العارف بالاحكام فلا يجوز تقليد غيره إياه وكذلك لا يجوز حكمه وقضاؤه لأن دليل الحكم والتقليد واحد وهو الروايات.

فلا يقال عمله بفتواه لأنه عالم لازمه جواز تقليده لأنه عالم فيرجع إليه الجاهل لأنا نقول ان له الحجة لنفسه ولا يصدق عليه العارف بالاحكام ليكون له هذا المنصب ولا يقال أيضا ان الاجتهاد ملكة وهي تحصل بكثرة الاستنباط وليس للمتجزي كثرة الاستنباط لأنا نقول هذا الإشكال يكون في أصل اجتهاده وقد أجبنا عنه في الجهة الأولى في مقام تصوير إمكانه بأن مبادئ الحكم تختلف صعوبة وسهولة وربما يحصل العلم به لسهولة مبدئه.

الجهة الرابعة في جواز حكمه وقضائه بين الناس وعدمه فان المحقق الخراسانيّ قده قال بأنه أشكل من جواز تقليده ولم يبين سره والظاهر ان سره هو ان دليل التقليد يمكن ان يكون الفطرة والسيرة العقلائية من رجوع الجاهل إلى العالم وهو منطبق في حقه واما منصب القضاوة فهو جعلي ولم يكن للفطرة فيه دخل (١) فلا بد من أخذه من الروايات وهي يكون الحكم فيها بنفوذ حكمه في صورة كونه عارفا بالحلال والحرام وهو غير صادق في حق المتجزي فلا ينفذ حكمه.

فان قلت ان السند ليس المقبولة عن عمر بن حنظلة فقط بل مشهورة

__________________

(١) أقول ليس الرجوع إلى الحكام أيضا خارجا عن الفطرة فان الناس في عيشتهم الاجتماعية يرون بفطرتهم احتياجهم إلى من يرفع النزاع عنهم ولذا تراهم ينقادون في بعض الأوقات لرأي بعض مشايخهم أو من يقضى بينهم لأنه أهل لحل النزاع عندهم فضلا عن الرجوع إلى رئيس الاجتماع في فصل الخصومة والشرع أمضى هذه الفطرة مع التحديد بحدود عنده فهذا الوجه للإشكالية غير تام.

١٧

أبي خديجة تكون في المقام وهي دالة على ان عرفان شيء من القضاء أو قضاياهم كاف في الرجوع إليه فلا نحتاج إلى صدق كون المجتهد عارفا بجملة معتدة بها من الأحكام فانه قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (وفي طريق من قضائنا) فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (١). ولا تعارض بين المقبولة والمشهورة ولا يحمل إحداهما على الأخرى لأنهما مثبتتين.

قلت الظاهر من قوله عليه‌السلام يعلم شيئا من قضائنا أو قضايانا أيضا هو العلم بجملة معتدة بها من الأحكام ولا يكون صادقا في حق من فهم مسألة من المسائل عن دليلها فانه غير عالم بقضائهم أو قضاياهم من غير فرق بين كون لفظة من في قوله عليه‌السلام من قضايانا بيانية أو تبعيضية فان البعض أيضا يكون المراد به البعض المعتد به.

فتحصل ان المتجزي لا يكون مرجعا في القضاء بين الناس.

فصل في مبادئ الاجتهاد

لا شبهة في ان الاستنباط للحكم الفقهي يحتاج إلى العلوم التي هي من مباديه وهي النحو والصرف والمعاني والبيان واللغة والتفسير وعلم أصول الفقه وهو العمدة والمنطق وعلم الرّجال ولا بد من الاجتهاد في جميع ما ذكر ولا يصدق العارف على المقلد للغير في تلك العلوم فصرف قول صرفي أو نحوي أو لغوي أو أصولي أو منطقي أو مفسر أو رجالي لا يكفى في إحراز ما نحن بصدده في كل باب من الأبواب ومن هنا يجيء في الذهن شيء وهو ان المجتهد في الفقه لا يكون مجتهدا في بعض ما ذكر من العلوم فكيف يفتى ولكن الّذي يوجب رفع الإشكال هو ان علم الأصول الّذي يكون دارجا بنحو أضبط من غيره في زماننا هذا يكون متكفلا للبحث عن جملة من العلوم وتنقيح الكبريات فيها كما ان بحث المشتق يكون

__________________

(١) في الوسائل ج ١٨ من باب ١ من أبواب صفات القاضي ح ٥.

١٨

متكفلا لفهم تركيبات الجملة بنحو لا يجيء في ذهن كبراء النحويين بتحليل المشتق إلى مادة وهيئة مثل البحث في مادة هيئة فاعل أعم من كونها في مثل الضارب أو الناصر أو غيره.

وكما ان البحث في العام والخاصّ من مباحث الألفاظ يكون بنحو لا يجيء في ذهن العالم بالمعاني والبيان من الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية وبعض ما ذكر من العلوم يبحث عنه في الفقه بنحو أضبط من الكتب المدونة لذلك فان آيات الأحكام يفسر في الفقه بنحو لا يجيء في ذهن المفسر ألا ترى بحثهم في آية التيمم في الطهارة فهل ترى من مفسر هذا النحو من الإطالة والرد والإيراد ومثلها ساير الآيات في الأحكام واما آيات غير الأحكام فهي غير منوطة بالفقه وهكذا اللغة كلما احتاج إليها الفقيه يبحث عنها بنحو لا يجيء في ذهن اللغوي واما علم الرّجال فان قلنا بان الوثوق بالخبر كاف فكثيرا ما يحصل الوثوق بواسطة موافقته مع الشهرة وعلى فرض عدم قبول بعض أقسام الشهرة مثل الشهرة الفتوائية لحصول ذلك فنحتاج إلى علم الرّجال.

ومعه أيضا يكون امر الاجتهاد فيه سهل لأن بعض الرّجال لا نحتاج في شأنهم إلى الفحص مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما ممن هو كالشمس في رابعة النهار من علو الشأن ومن تكون محتاجا إلى الفحص عن حاله أيضا رجال معدودون لأن لكل امام عليه‌السلام رواة ورجال فنتفحص عن حالهم بحيث يحصل الوثوق هذا مضافا إلى ان الفقهاء رضوان الله عليهم في كل مورد كان الكلام في الراوي يبحثون عنه بحيث يحصل الوثوق بمدحه أو قدحه.

فتحصل ان ما لا محيص عنه من العلوم هو علم الأصول الّذي لا بد منه في الفقه بحيث إذا لم يكن لم يحصل الاجتهاد من وجه آخر.

ومن العجب عن بعض الأخباريين حيث قالوا بان الأصول بهذا النحو بدعة فان أرادوا بكونه بدعة هو ان ترتيب الأبواب والمباحث لم يكن بهذا النحو في

١٩

زمن الأئمة عليهم‌السلام فنقول ان التفسير وكثير من العلوم لم يكن بهذا النحو الّذي هو دارج في الكتب في زمانهم عليهم‌السلام فكما ان هذا ليس من البدعة في شيء فكذلك علم الأصول فان سند الأصولي أيضا روايات الأئمة عليهم‌السلام والاخباري أيضا يبحث عنه.

فانه يقول يكون حديث الرفع منصرفا عن الشبهات الحكمية والأصولي يقول يشمل الشبهة الحكمية والموضوعية مضافا بان بعض المسائل مما لا بد من الأصول في فهمها مثل كون الخمس مثلا تعبديا أو توصليا فانه لا يتضح الا بواسطة البحث في التعبدي والتوصلي من مباحث الألفاظ وفهم ان إطلاق الخطاب هل يقتضى التعبدية أو التوصلية وكيف كان فلا شبهة في لزوم علم الأصول ودخالته في الاستنباط أشد الدخل.

فصل في التخطئة والتصويب

هذا البحث كلامي ذكر في الأصول استطرادا اعلم ان الاجتهاد اما ان يكون في الأحكام العقلية واما ان يكون في الأحكام الشرعية فقيل بان نظر المجتهد في العقليات ربما لا يكون مصيبا إلى الواقع فهو خطاء واما في الشرعيات فقد نسب إلى العامة التصويب فيها خلافا للخاصة فانهم قائلون بالتخطئة لأن الرّأي فيها أيضا ربما لا يوافق الواقع.

ولكن ليس الأمر في العقليات كما ذكر من القول بالتخطئة فيها مطلقا بل هي على قسمين قسم يكون حكم العقل طريقا فيه إلى الواقع الّذي يكون في الخارج ففيه يمكن القول بالتخطئة لأنه ربما يوافق الواقع وربما يخالفه وقسم لا يكون (١)

__________________

(١) أقول هذا حاصل ما استفدناه منه مد ظله في الدرس وفي بحث على حدة ولكن بعد في الذهن شيء يرد عليه وهو ان الكلام في التخطئة والتصويب يكون في ما يكون له خارج وراء ما أدركه العقل حتى يقاس الدرك إليه فمع الموافقة يكون الرأي صوابا وإلّا فهو خطاء واما ما لا واقع له الا نفس الدرك ولا يلاحظ بالنسبة إلى ـ

٢٠