الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

وكيف يستند إلى آية الخلافة الكاشفة السوء بدعاء المضطرين ، في فرض الطاعة للخلافة الخلاعة السوء ، التي هي سوء على سوء للمضطرين؟!

كلا! وإنها دعوة خير استئصالا لضر وشر وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله حين يسأل يا رسول الله الام ندعو؟ قال : أدعو لي الله وحده الذي إن نزل بك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك ، والذي إن أصابك سنة فدعوته أنزل لك» (١).

وهذه مصاديق متعودة فردية للضر والشر ، ثم أضر منها وأقفر ما المضطرون إلى كشفه عنهم أفقر وهو السلطة الصالحة في خلافة الأرض ، وقمتها العالية المنتظرة لكافة المستضعفين المؤمنين الخلافة المهدوية العالمية عليه كل سلام وتحية ، ف «يجعلكم» هنا ليست لتعني فقط الجعل التشريعي دون تكوين ولا التكويني دون تشريع ، لأن كلّا دون الآخر لا يكشف به السوء الجماهيري المترقب من الخلافة الصالحة ، فانما واقع الخلافة الشرعية هو الذي يكشف به ذلك السوء ، وللمخاطبين في «يجعلكم» درجات حسب القابليات والفاعليات ثم و «يجعلكم» هذا هو نتيجة أدعية المضطرين بمن فيهم المستأهل لهذه الخلافة ، دعوات مقرونة بمحاولات صالحة لاجتثاث الخلافة عن الطالحين واختصاصها بالصالحين بمراتبهم ودرجاتها.

فالله هو المجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، وبالمآل

__________________

ـ هو ـ بشرها لماذا استسلموا له دون معارضة ممكنة؟.

(١) المصدر اخرج احمد وابو داود والطبراني عن رجل من بلجم قال قلت يا رسول الله إلى م ...

٢٤١

(يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) دون سواه ف «الله الذي (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ... جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ..) هو الذي يجيبكم حال اضطراركم .. وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ..) ففي الخلافة الأخيرة (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) حيث الحياة جديدة جادّة نحو الحق ، وينزل عليكم من سماء الوحي والرحمة غزيرة ناصعة تروي العطاش ، وينبت حدائق بهيجة في حقول المعرفة الربانية ، لكم فيها من كل الثمرات ، ويجعل الأرض المتأرجفة بمفسديها قرارا بذلك المصلح الكبير ، ويجعل خلالها أنهارا تروّي العالمين من المعرفة برب العالمين ، ويجعل فيها رواسي هي أصحاب الألوية الثلاثة عشر رجلا من أصحابه الخصوص ، أعضاء الدولة العالمية ، ويجعل بين بحري المالح والعذب حاجزا فلا خلط ـ إذا ـ بين الحق والباطل .... أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)!.

فما دامت السلطات الجائرة مسيطرة على الشعوب فهم مضطرون ، وعليهم الدعاء الدائب بشروطاته الصالحة ليجعل الله لهم بالمآل خلافة الأرض صالحة مصلحة محلّقة على العالمين أجمعين وكما وعد الله هنا و (الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) و (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢٤ : ٥٥).

ولعمر إلهي الحق ان المضطر بالحق زمن الغيبة هو الامام المنتظر حيث

٢٤٢

يرى المستضعفين تحت أنيار الظلم والضغط من المستكبرين الذين لا يدينون دين الحق.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ٦٣.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) هدي الحياة الدنيوية والروحية (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ظاهرية أو باطنية (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) روحانية برياح الوحي وسواها بسائر الرياح (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يهديكم فى أي هدي (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) به في حقول الهدى.

وهنا (ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تعني فيما عنت باطن البر وخضمّ البحر غورا وغوصا فيها ، و «يهديكم» تشمل كل الوسائل المستقبلة لخوض الأعماق في البر والبحر.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ٦٤.

استجوابات خمس تتجاوب أخراها وأولاها ، فهناك «أمن خلق ..» وهنا (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ويبدأ الخلق قد يعم خلق المادة الأولية لا من شيء ، ثم خلق دخان السماء وزبد الأرض ، ثم سائر الخلق ومنه الإنسان ، و «ثم يعيده» تخص الإعادة إلى الحالة الأولى فيما سوى الأولى لأنها لا شيء ولا إعادة لشيء إلى اللاشيء!

والاعادة إلى البدء عملية مكرورة على طول الخط في الجماد والنبات والحيوان والإنسان يوم الدنيا ، أفيعجز المبدء عن الإعادة فى الأخرى وهي أحرى قضية العدل الحساب ثم الثواب والعقاب ، وليس شيء من الإعادة المعنية هنا وهناك إعادة للمعدوم حتى تدخل في نطاق تفلسف الاستحالة ،

٢٤٣

وانما هي إعادة مواد الأشياء إلى أمثال صورها السابقة البادءة ، ومنها إعادة اجزاء الإنسان إلى مثل ما كان في الصورة ، فالمعاد في المعاد ليس بإيجاد عن لا شيء ولا اعادة المعدوم ، بل هو ذرات البدن الأصيلة حيث تعاد إلى مثل الصورة الأولى ، وهو الروح حيث يعاد إلى نفس البدن الممثل كالأوّل فأين هنا إعادة المعدوم؟

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) في هذه الحلقات الخمس ، ابطالا لما أثبتت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في تكذيبكم ، وأنّى لهم برهان ، وأنى لهم أن يعلموا هذه الحقائق المعلومة لدى ذوي العقول ، بل هم في جهالتهم طائشون ، جهلا عن تقصير ، وهم يطالبون الغيب وأنّى يبعثون!

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ٦٥.

هذه آيات اختصاصه تعالى بعلم الغيب ، بعد ما خصت به الآيات السالفة غيب القدرة ، وهل الله هو ممن في السماوات والأرض حتى يستثنى عنهم بعلم الغيب؟ قد يكون الاستثناء متصلا ، والله قدرته النافذة وعلمه النافذة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دون ذاته لأنه خلقهما و «كان إذ لا كان»! كما (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) اي ألوهيته نافذة فيها ، لا ذاته سبحانه!.

أم هو منفصل تأكيدا لاستئصال علم الغيب عما سوى الله ككل ، والله هو الذي يعلم الغيب ، وطبعا هو الغيب المطلق الذي ليس لينقلب إلى شهود ، لا مطلق الغيب ومنه ما يعلّمه الله من ارتضاه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ..) (٧٢ : ٢٦).

ونموذجا بارزا للغيب المطلق وقت الساعة (وَما يَشْعُرُونَ)

٢٤٤

كل ما سوى الله عابدين ومعبودين (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ، وذلك نفي للعلم عنهم في أدنى مراحله وأغمضها وهو الشعور ، وهو من العلم الذي يستحيل لمن سوى الله وكما يقول الله عن رسول الله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ ..) (٧ : ١٨٨).

وكما سئل علي (عليه السلام) : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين (عليه السلام) علم الغيب؟ فضحك وقال : ليس هو بعلم غيب ، وانما هو تعلم من ذي علم ، وانما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣١ : ٣٤) ـ

فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون للنار حطبا ، أو في الجنان للنبيين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، وما سوى ذلك ـ يعني به المعدود في آية الساعة ـ فعلم علمه الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلمنيه ودعا لي أن يعيه صدري وتضطم عليه جوارحي»(١).

فلقد منح الله الإنسان طاقات يستكشف بها الخبء في السماوات

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٥ عن نهج البلاغة كلام يؤمي به (عليه السلام) الى وصف الأتراك : كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة يلبسون السرق والديباج ويعتقبون الخيل العتاق ويكون هناك استمرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المفلت اقل من المأسور فقال له بعض أصحابه لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فضحك ..

٢٤٥

والأرض ، على قدر حاجته روحيا وماديا ، وانكشاف سرّ الغيب ـ المخصوص علمه بالله ، أو الممكن تعليمه لمن سواه ـ ليس مما يبغيه في مهمة الحياة ، إلّا الوحي الرسالي الذي يدار به حياته في مدار الحق ، إبعادا له عن الأخطاء ، وأمّا ان يتطلع إلى كل أسرار الغيب كما الله فمستحيل ذلك على كل من سوى الله حيث يصبح كأنه الله ، أو يتطلع إلى أسرار ليست من هامة الحياة ، مهما أمكن تطلعه عليها بتعليم الله ، إذ لا دافع فيه ، وكان فيه ارتفاع الابتلاء في الحياة أن يعلم كل ما في قلب الآخر ، أو كان فيه تعطيل الاستعدادات عن التحرك نحو الكمال.

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ٦٦.

إنهم مبلغهم من العلم في الأولى هو العلم الأعمى ، المنحصر فيها ، المنحسر عن الأخرى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ..) (٥٣ : ٣٠) ، فشكهم فيها وعماهم منها امتناع للعلم باختيار ، فقد صرفوا كل علمهم في الأولى فلم يبق لهم علم بالأخرى (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) تداركا لما فوّتوه على أنفسهم في الأولى ، للأخرى ، ولات حين مناص وقد فات يوم خلاص!

ولأن «ادّارك» هي من باب الافعلّال ، مبالغة في التدارك والدرك ، فقد تعني كمال الدرك والتدارك بعد نقص قصورا وتقصيرا.

وتدارك علمهم ، المقصرون فيه أو القاصرون ، يشمل علم الساعة حيث يتدارك عند الساعة بواقعها ، فالمؤمن بالساعة يعلمها علم الايمان دون متاها ، فيتدارك علمه بها بواقعها ، ثم والعلم بواقع اعمالهم السيئة التي كانوا يرونها حسنة : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ

٢٤٦

حَدِيدٌ) والعلم ان الله هو الحق المبين ، وسائر ما بالإمكان ان يعلموه ثم للمؤمن يضم إلى علم اليقين عين اليقين حيث يعاين حقايق الأعمال بعد إيمانه بها.

إذا فالآخرة هي مجالة العلم ، الميسور لغير الله ، ما قصروا عنه ام قصّروا فيه ، واما السابقون والمقربون فلا تدارك لعلمهم إلا مزيد المعرفة الربانية بما قدموه إلى الأخرى ، وما هم فاعلون فيها ، وسائر العلم فهم حاصلون عليه يوم الدنيا كما يروى عن الامام علي (عليه السلام) قوله : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا».

ثم «علمهم» قد تعني علم كل مكلف على قدره حيث يتدارك تتميما وتطميما ، إلّا العلم غير الممكن تداركه كالعلم بالله ، و «هم» هنا لا تختص بالكافرين.

وترى كيف «علمهم» وهم يجهلون المبدء والمعاد ، فليختص بالمؤمنين؟ ولكن يطارده (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).

«علمهم» في الناكرين هو الفطري والعقلي والعلمي من سواهما ، فقد يتجاهلونه فيجهلون ، فيتدارك علمهم المغطى في الآخرة (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) هنا في تغافل علمهم (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) هنا وهو أنزل من الشك ، فكل ذلك الثالوث يتدارك في الآخرة.

ثم «علمهم» في وجه أشمل يشمل كل علم ناقص قصورا أو تقصيرا ، ولكن «بل هم ..» ليس اضرابا إلّا عن علم الناكرين.

ثم وليست العمى هنا هي فقد الجارحة المبصرة ، بل هي فقد الجانحة البصيرة ، تعاميا عن الحق المبين ، والذهاب على رسل صفحا عن النظر

٢٤٧

الموصل إلى اليقين ، إما قصدا وتعمدا ، أو تساهلا وتجاهلا ، ثم (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) إذ «علموا ما جهلوا في الدنيا» (١).

وكيف «منها عمون» دون «عنها»؟ حيث القصد شكهم فيها ، والامتراء في صحتها ، فهم في عمى منها ، إذ لا يعني ـ فقط ـ عماهم عن النظر إليها ، بل القصد ذكر عماهم بالشك فيها :

فقد عموا شاكين عن النظر فيها حتى عموا منها ، وهذا إضراب ثالث عن حالتهم الرديئة وجاه الآخرة فهم على علم مّا تجاهلوا فيه : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وعنه إلى شك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) ومنه إلى نكران (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) تنزلا عن قضية العلم بها إلى نكرانها!

وقد تعني «من» السببية فان عماهم عنها ـ دون الأولى ـ مسببة منها ، فانها دار حساب فثواب او عقاب ، وهم يبتغون زهرة الأولى وزهوتها ، والايمان بالآخرة والإبصار إليها يصدهم عما يهوون ، فهم ـ إذا ـ «منها» فقط ، لا الدنيا «عمون» وهكذا يصف الدنيا مطلّقها الامام امير المؤمنين (عليه السلام) قائلا : «من ابصر بها بصرته ومن ابصر إليها عمته»!

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ ٦٧ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ٦٨.

وكيف يتحول التراب إنسانا كما كان؟ وقد تحول لأوّل مرة (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٥٠ : ١٥) (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) بل هم أحون من الحيوان وأضل سبيلا!

وهي كأنهم يحيلون تحوّل التراب إنسانا للمرة الآخرة ، وهم يرون

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٦ في تفسير القمي في الآية قال قال ...

٢٤٨

مختلف التحولات الغامضة مدى الحياة ، فمن اين كانت الخلايا التي كوّنت منها هياكلهم الأولى ، فقد كانت مفرّقة في أطواء الأرض وأجواء الفضاء وأجواز البحر ، ومنها ما انبعث من جسد رمّ ... ثم تمثلت ما تمثلت هذه الخلايا في مختلف الطعام والشراب والهواء والشعاع ، ثم تجمعت هيكلا إنسانيا ينمو من بويضة عالقة في رحم حتى يطلع إنسانا فإذا هو خصيم مبين : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٣٦ : ٧٧)!

كيف أصبح الوعد بالبعث من أساطير الأولين وخرافاتهم المودوعة في مسطوراتهم ، المتنقلة فيما بينهم خلفا عن سلف ، وهو حقيقة تصدقها الفطرة والعقل والحس ، ويفرضها العدل؟!

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ٦٩ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ٧٠.

وذلك السير المأمور به نبهة للغافلين يعم السير التاريخي الجغرافي ، والجغرافي التأريخي ، سيرا حثيثا مسيسا في كتاب التكوين آفاقيا وأنفسيا ، أم تدوينيا ، وأفضل السير فيه وأكمله دونما دجل ولا دخل أو دغل نجده في أكمل نسخة تدوينية عن نسخة التكوين وهو القرآن العظيم (١) حيث يسير بنا إلى مسرح الحياة الغابرة للأرض ومن عليها ، تبصرة وذكرى للذاكرين.

وليس السير في القرآن للمشركين حملا لهم على تقليد دون برهان حيث القرآن هو بنفسه قاطع البرهان على صدقه نفسه وانه كلام الله ، فصدق أنباءه

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٦ في كتاب الخصال وسئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) قال : معناه : أولم ينظروا في القرآن؟.

٢٤٩

الغيبية تصديقا عن تحقيق ، والكون بكل جنباته حسيا وعقليا وعلميا وفطريا وفكريا يجاوب نسخته التدوينية : القرآن العظيم.

(قُلْ سِيرُوا .. فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) : القاطعين ثمرات الحياة قبل إيناعها ونضجها ، الجاعلين لطاقاتها ـ وجنى الثمرات غير الناضجة فيها ـ هباء منثورا ، فأصبحوا خواء بالعراء (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) إلّا باغية داثرة غامرة ، ضامرة هامرة.

وإذا هم لا يرحمون أنفسهم ولا يرعوون ف (لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لماذا أجرموا وفنوا (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) إذ (ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦ : ١٢٣) فلا تضيق ـ إذا ـ إلّا أنفسهم بما يمكرون.

وإذا كانت عاقبة الإجرام هنا ـ وليست هي دار الجزاء ـ هكذا ، فباحرى العاقبة الأخرى وهي دار الجزاء الأوفى ، فقد تلمح عاقبة العاجل لكونها أحرى وأتم في الآجل!.

وهنا نلمس حساسية مرهفة لذلك القلب الكبير الكبير كيف كان يحزن على مسير قومه الناكرين ومصيرهم كالسابقين ، وهم الماكرون به والمؤلّبون عليه ، ثم الله يطمئنه عن مكرهم ويخلصه عن الحزن عليهم ، ليداوم في دعوته الصالحة دونما فشل ولا عطل.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ٧١.

ويكأن صدق الوعد لزامه العلم بمتاه ومداه ، فهل إنّ جهلهم بمتى الولادة والوفاة لأنفسهم يحملهم هذا على نكران الولائد من ذي قبل ووفاتهم لوقت مّا؟ فكيف اختص التصديق ب (هذَا الْوَعْدُ) دون سواه ، بموقف العلم بمتاه ، فلولاه فكذب هو من أساطير الأوّلين!

٢٥٠

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ٧٢ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ٧٣.

وإذا أنتم تستعجلون (هذَا الْوَعْدُ) العذاب بكامله ، ف «قل» لهؤلاء الحماقى الأنكاد (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) وقرب منكم «بعض» الوعد (الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) فهو ـ عساه ـ في آثاركم لاحقا بكم دون إهمال ولا إمهال.

وطالما عذاب الناكر لهذا الوعد ردفه وهو معه لا يفارقه فانه عمله اللازم معه في عنقه ، ولكنه لا يردف له يوم الدنيا تأجيلا إلى الآجل في الأخرى.

وعلّ اللام في «لكم» كما تختص ذلك العذاب بهم دون سواهم من المستحقين ، كذلك سخرية بهم كأنه لصالحهم وهم يتطلبون حاضر وعدهم ، ف (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) لصالحكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) رغم انه عليكم وليس لكم!

ف «ردفكم» لا يخصهم في واقع العذاب الذي هو معهم ، و «ردف عليكم» لا يحمل ذلك الهزء بهم ، إذا ف (رَدِفَ لَكُمْ ..).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث لا يستعجل لهم عذابهم في الأولى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ذلك التأجيل ، عقيديا كما الناكرون ، أو عمليا كما العاصون ، ايغالا في المعاصي ، وادغالا في المآسي! : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) فخيرات كل نفس وشرورها هي ردفها هنا وردف لها هناك ، اللهم إلّا (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) فقد يردف لهم هنا عذاب الاستئصال كيوم بدر قتلا لهم ، وسواه صيّبا من السماء أو الأرض ، وهو بعض الذي به يستعجلون ، ثم عذابهم يوم الرجعة إذ يرجع من محضّ الكفر محضا كمن

٢٥١

محّض الإيمان محضا ، ثم كامل العذاب يوم البرزخ ، وإلى أكمله في الأخرى ، و «عسى» هي بأحرى للأوّل ، دون الثلاثة الأخرى فانها محتومة.

وكيف (عَسى أَنْ يَكُونَ ..) والله لا يرتجى شكا وممن يترجّى؟ «قل» هنا يحول ترجي «عسى» إلى ساحة الرسالة ، أنه يرجوا ردفه لهم هنا بما يتطلبون ويستحقون ، والعلم عند الله ، فالموقف الرسالي في هذه المقالة هو موقف الرجاء ، وليس الله ليترجّى!.

ثم من واجهة أخرى قد تعني «عسى» هنا تنازلا أمام المشركين الناكرين الوعد وتحقيقه بحق الكافرين ، حيث الرسول موقن انهم سوف يعذبون بعد الموت ، ولكنه غير موقن بعذاب قبل الموت إلّا ان يعده ربه.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ٧٤ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ٧٥.

علّهم خيل إليهم ان الله لا يعلم ما تكنه صدورهم ، إظهارا لخلاف المكنون فيها ، فلا يعجل لهم العذاب ردفا لهم لوعده قبل الآخرة ، إذ لا يعلم أسرارهم ، ولكنه إمهال وإملال عن علم ، فضلا لمن يتنبه امتحانا ، وتأجيلا لسواه امتهانا ، وأن الآخرة هي دار الجزاء (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) فضلا عما يعلنون (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ..).

وليس فحسب (لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أولاء ، بل (وَما مِنْ غائِبَةٍ .. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو العلم المكنون لدى الله.

وعلّ «غائبة» هي المبالغة بتائها كالبصيرة والعلامة ، فأغيب الغيب في الكون كله هو (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) علما وقدرة ، فضلا عن سائر الغيب ، ام

٢٥٢

هي صفة ل «أشياء ـ امور ـ حالات ـ طويات» أما هيه من صالحة لهذه الصفة ، وعلّ المبالغة أولى وهي تشملها بالأولى ، ام لكليهما مبالغة وتأنيثا.

وقد تعني «مبين» انه تعالى يبين كل غائبة لمن ارتضاه (١) ، إلّا ما اختص الله بعلمه.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٦ عن اصول الكافي عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) انه قال : وقد أورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان وبه يحيى الموتى ونحن نعرف الماء تحت الهواء وان في الكتاب لآيات ما يراد بها امر إلا أن يأذن الله به ما قد يأذن مما كتبه الماضون جعله الله لنا في ام الكتاب ان الله يقول : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ثم قال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل ، وأورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كل شيء.

٢٥٣

وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ

٢٥٤

فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ٧٦.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٦ : ٦٤).

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) دون سواه من قرائين الوحي السابقة عليه «يقص» قصا من الأنباء المذكورة في كتب الوحي الإسرائيلية (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وهم المحور الأصيل في شرعتهم مهما كانت تعم كافة المكلفين (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وذلك الأكثر هو بطبيعة الحال يحمل أهم الخلافات في أصول الشرعة وفروعها وما تحمل كتاباتها من قصص النبيين وسواهم ، ثم الأقل الذي هم فيه يختلفون قد يلوح من طيات الأكثر.

و (الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يشمل كافة الاختلافات الإسرائيلية التي

٢٥٥

تخلّفها اختلاقاتهم وتحريفاتهم كتابات الوحي التوراتي عن جهات أشراعها طول الزمن ما داموا هم موجودين لمكان «يختلفون» الدالة على الاستمرارية في بشارات بحق هذا الرسول الإسماعيلي لأنه ليس من إسرائيل ، وقصص رسالية ، وأحكام كتابية أمّا هيه ، كما هي بينة في سرد القصص القرآنية عن افتعالاتهم في مختلف حقولها.

وذلك القص الساحق هو قضية الهيمنة القرآنية على كتابات الوحي السالفة ، وليدل أهل الكتاب على مدى ضلالهم ، دفعا لهم إلى الهدى القرآنية الصادقة ، كما :

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ٧٧.

منهم ومن سواهم ممن يقرع آذانهم صارم الوحي القرآني السامي ، «هدى» تقيهم من خلافاتهم العارمة ، توحيدا للنهج وتوصيلا إلى المبلج ، وذلك الاهتداء بهدي القرآن هو قضية الايمان بقضيته ، والمنهج القرآني هو الوحيد المنقطع النظير في استعادة النفوس عن ورطاتها ، وتركيبها وفق الفطرة الساذجة والعقلية الناضجة دون تكلّف ولا تخلّف عن السنن الكونية ، تجاوبا رائعا بين كتابي التكوين والتدوين.

والمصدران يشيان لمحتد القرآن انه مصدر الهداية والرحمة ، فانه خالصهما دون شوب ، وكأن هو الهدى والرحمة!.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ٧٨.

«إن ربك» الذي رباك بهذه التربية القمة القرآنية (يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) هنا في القرآن قضاء صارما يفصل بينهم بالحق ، وهنا يوم الجزاء قضاء عمليا جزاء وفاقا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) تغلبا على المتخلفين المختلفين «الحكيم» في عزته بقضائه وحكمه.

٢٥٦

ثم وبعد ما أوحي إليك يا رسول الهدى هذا الكتاب المهيمن في هداه دون نقص ولا ركس :

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) ٧٩.

إنه ليس التوكل على الله اتكالية دون سعي ، وإنما هو زاد الطريق الشاق الطويل المليء بالأشواك والدماء والأشلاء ، بعد التزود بكل الطاقات والإمكانيات المحوّلة والمخوّلة ، فقد خوّل إلى الرسول ذلك الحق المبين ، وحول اليه تحقيق هذا الحق المتين ، إذا (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في تحقيق هذه الرسالة الشاقة (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ) المطلق «المبين» لكل حق وكما يبين (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وهذه تسلية لخاطر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الجريح القريح ، وتأسية على جموع المشركين والكتابيين ولجاجهم وإصرارهم على النكران بعد الجهد الشاق في النصح والبيان ، و :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ٨٠.

«إنك» على محتدك الرسالي (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إذ لا سمع لهم ، وترى كيف الموتى لا يسمعون الأحياء وهم في حياة برزخية قد يسمعون أكثر منا وأقوى ، ولا سيما ان المسمع هو رسول الهدى؟ إن الموتى ليسوا في حياة التكليف حتى ينفعهم سمعهم هكذا ، والمقصود هنا السمع في حياة التكليف لتكاليف الشرعة ، فهؤلاء الموتى عن الروحية الانسانية وسمع الإنسان اذنا وقلبا «إنك لا تسمعهم ، حيث الإسماع بحاجة إلى سمع (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) وقد يسمع الصّم الدعاء إذا تسمّعوا أم لم يولوا مدبرين ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) كما و (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ... إِذا وَلَّوْا

٢٥٧

مدبرين» عن الحياة الدنيوية ، إسماعا ينفعهم هناك.

فظرف السمع للدعاء الرسالي هو القلوب الحية والآذان الصاغية ، للمؤمنين بآيات الله ، دون ميتات القلوب والصم الأسماع هنا ، ودون الأموات حيث لا يدعون للشرعة :

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) ٨١.

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ) عن أبصار القلوب «عن ضلالتهم» فلا إسماع للموتى والصمّ العمي (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) آفاقية وانفسية هي لهم مرئية فهم مبصرون ، ومسموعة فهم سامعون (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إسلاما لله بما يرون ويسمعون ويعقلون من آياتنا.

وقد تكون «الصم والعمى» بيانا للموتى فلا قصور فيك كرسول ، ولا في آياتنا إبصارا بها وإسماعا ، وانما القصور التقصير في الموتى والصم الذين لا يسمعون ، والعمي الذين لا يبصرون فلا يستجيبون (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٦ : ٣٦) ، ومن الموتى المستعدون للحياة من يسمع فيحيى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٢٢).

فما دامت آيات الله بينات ، وهناك أموات يتحرون عن الحياة ، وهنا رسول يسمعهم تلكم الآيات ، فالإسلام لله حاضر دون تلكؤ ولا تحميل ، حيث الإسلام هو نداء الفطرة ، ما إن وجدت نداء الحق أقبلت إليها وقبلت ، فليس نكران الموتى عن الحيوية الانسانية ، بالذي يدل على قصور

٢٥٨

في تلكم الآيات ام تقصير في إسماعها ، ف (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

وإلى تهديد شديد حديد في الأولى قبل الأخرى يوم القائم المهدي من آل محمد عليهم السلام :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) ٨٢.

هذه والثلاث اللاتي بعدها عرض لعذابهم الأدنى دون العذاب الأكبر وكما وعد الله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣٢ : ٢١) ثم الرابعة (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ..) تصريحة اخرى ـ بعد تلميحة من الأربع ـ ان وقوع القول عليهم وحشرهم قبل القيامة الكبرى ، وليس يعني اصل القول في وعد العذاب إذ صدر قبل ، ولا واقع القول في اصل العذاب فان فيه موتهم فكيف تكلمهم دابة من الأرض ، إذا فهو وقوع أوانه ولمّا يقع حتى يسمعوا قالة الدابة المندّدة بهم ثم يقع ، وتكلم الدابة المخرجة من الأرض قبل الرجعة هو من أشراطها وكما للساعة أشراط ، وانما تكلمهم الدابة منذرة مهينة إياهم ، فقد انذرهم الرسل فعموا وصموا فلم يك ينفعهم تواتر الإنذار ، فلتنذرهم دابة الأرض تناسقا بين المنذر والمنذر وهم شر منها : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٨ : ٢٢).

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) هؤلاء الموتى الصم العمى ، لا فقط خصوص الموجودين زمن نزول القرآن ، بل هم كل أولئك الذين يحملون ثالوث النكبات على مدار الزمن طول التاريخ الرسالي ، ومن «القول» هو

٢٥٩

كلمة العذاب وكما تأتي بهذه الصيغة في آيات عدة ، أيا كان العذاب في الأولى كما هنا وفي الأخرى كما في سواها ، ومنه سائر القول كوعد الرجعة إلى الحياة الدنيا ليذوقوا فيها عذابا قبل الأخرى ، وهو المقصود هنا إذ لو كان واقع العذاب فلا مستمع منهم لقالة دابة الأرض.

(أَخْرَجْنا لَهُمْ) أولاء ككل ودون إبقاء (دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ...) تكلمهم أولاء الموجودين زمن إخراج الدابة ولمّا يرجع الراجعون يوم الرجعة ، لأنها يوم حشرهم عن بكرتهم في مثلث الزمان ولمّا يأت ، فانه يوم آخر للقول هو يوم واقع العذاب بعد رجوعهم كلهم : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ..).

فالحملة الأولى لخطاب الإنذار التنديد من الدابة هم الأحياء زمن إخراجها ، والموجّه إليهم ذلك الخطاب ـ وهؤلاء الأولون يحملونه ـ هم كل المكذبين بآيات الله الراجعون يوم الرجعة.

وما هي دابة الأرض هذه التي تكلّمهم بلغة الإنسان؟ هي (دَابَّةُ الْأَرْضِ) أيا كان من الحيوان الدابة ، فليس من ملائكة الله ولا الطير ، ولا من أولياء الله ، حيث الدابة ليست تعبيرا لائقا بهم في أدب القرآن الذين يخاطب أدني المؤمنين بالذين آمنوا فكيف يعبر عن اكبر أولياء الله بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ب (دَابَّةُ الْأَرْضِ)؟ كما في مختلقات مروية عندنا أنها الإمام امير المؤمنين علي (عليه السلام) (١)!!!

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٨ في تفسير القمي في الآية حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : انتهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى امير المؤمنين (عليه السلام) وهو قائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال : قم يا دابة الأرض ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ـ

٢٦٠