الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

تشمل سائر الطير دونما استثناء ، مهما برزت الهدهد في ذلك المسرح.

وهل إن (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) هنا تختص علمه بمنطقها بين سائر الحيوان؟ فكيف علّم منطق النملة! ألأنها كانت من طيرها فتشملها «الطير»؟ ولا يقال لذوات الأجنحة منها طير!

أم لأن النملة اختصت بهذا النص بين الحيوان غير الطير ، فلم يعلم منطق سائر الحيوان إلّا النملة؟ .. ليس لنا إلّا متابعة النص ، فقد علّم منطق الطير والنملة ثم لا ندري هل علّم منطقا آخر ام لا؟ اللهم إلّا أن تلمح (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) و (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) شيء من العلم بمنطق سائر الحيوان بل وسائر الكائنات (١) وشيء من الملك والملك.

اجل (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لا تعني البعض الذي يعرفه الكلّ علما فطريا أو تعلما ، وانما «أوتينا» كعطاء خاص رباني كما (آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) فذلك المؤتى له من كل شيء ، شيء من العلم الخاص والقدرة الخاصة أمّا هيه من المخبؤ تحت ستار الغيب ، لا يعلمها إلّا من علمه الله ، و (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) حيث يبين اختصاص الفضل على سائر العالمين ، إذ لا يناله أحد إلّا بما يؤتيه الله لا سواه.

إلّا أن هنا فرقا بين (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) و (أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)

__________________

(١) المجمع روى الواحدي بالإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال : أعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والانس والشياطين والدواب والطير والسباع وأعطي علم كل شيء ومنطق كل شيء وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة التي سمع بها الناس وذلك قوله (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

١٦١

حيث الأول تلمح انه علم منطق الطير ككل ، والثانية لمكان «من» التبعيض تختص علمه وقدرته بالبعض ، فقد علّم ـ إذا ـ بعض المنطق من سائر الحيوان وسواها ، كما أوتي البعض غير العلم كما العلم ، وليس منطق الطير كلّ ما يسمع منها ، فقد يكون صوتا دون معنى كما قد يكون منا ، وقد لا يكون صوتا نسمعه كما في النمل واضرابها ، فما يناله الإنسان من الصوت انما هو عدد محدود من الارتعاش الصوتي وهو كما يقال ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين وثلاثين ألفا في الثانية ، والخارج منها في الجانبين خارج عن حدود سمعه ، وقد تنطق الطير أو سائر الحيوان دون صوت ، وإنما بإشارات تلغرافية أو الرادار كما نراها من النمل وسائر الحيوان ، فلا يختص المنطق بما له صوت ، بل يعمه مسموعا لنا وسواه ، ام رمزا لا يسمع ، والنطق هو إبراز ما في الباطن بآلة ظاهرة لسانا وسواه ، و (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) تعم مثلث النطق. اجل وللطير منطق كما لكل حيوان حيث الكل امم كما نحن : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨).

ذلك! لضرورة التفاهم بينها لإدارة الشئون الحيوية لها ، وليس للإنسان التعرّف إلى منطقها مهما حاول وزاول ، لأنه من الأسرار الربانية يعلّمها من يشاء!.

وحين يعلّم سليمان منطق الطير ويؤتى من كل شيء فباحرى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من آله الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين ، أحرى بهم ان يعلّموا منطق الطير ويؤتوا من كل شيء (١) فإنهم أئمة

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٧٧ في الخرائج والجرائح قال بدر مولى الرضا (عليه السلام) ان إسحاق بن عمار دخل على موسى (عليه السلام) فجلس عنده واستأذن عليه رجل من ـ

١٦٢

__________________

ـ خراسان فكلمه بكلام لم اسمع بمثله كأنه كلام الطير ، قال اسحق : فأجابه موسى (عليه السلام) بمثله ولغته إلى أن قضى وطره من مسائله فخرج من عنده فقلت : ما سمعت بمثل هذا الكلام! فقال (عليه السلام) : هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله ثم قال : أتعجب من كلامي بلغته؟ فقلت : هو موضع العجب! قال (عليه السلام) : أخبرك بما هو اعجب منه ان الامام يعلم منطق الطير ونطق كل ذي روح خلقها الله تعالى وما يخفى على الإمام شيء.

أقول «لا يخفى على الامام شيء» قد يعني لغة كل شيء لا كل شيء من كل شيء فانه خاص بالله الذي لا يعزب عن علمه شيء.

وفيه عن المناقب لابن شهر آشوب محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال سمعته يقول : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أقول : وهذا يؤيد تبعيض العلم وكل شيء من كل شيء.

وفيه عن بصائر الدرجات بسند عن الثمالي قال كنت مع علي بن الحسين (عليهما السلام) فانتشرت العصافير وصوتت فقال : يا أبا حمزة أتدري ما تقول؟ قلت : لا قال : تقدس ربها وتسأله قوت يومها ثم قال : يا با حمزة (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

وعنه عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس : أن الله علمنا منطق الطير كما علم سليمان بن داود ، ومنطق كل دابة في بر وبحر. وفي تفسير البرهان ٣ : ٢٠١ محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات بسند متصل عن محمد بن جعفر عن أبيه قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): استوصوا بالصنانيات خيرا يعني الخطاف فانه آنس طير الناس بالناس ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : أتدرون ما تقول الصنانية إذ هي ترنمت تقول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حتى تقرء ام الكتاب فإذا كان في آخر ترنمها قالت ولا الضالين.

أقول : والروايات في انهم علموا منطق الطير وأوتوا من كل شيء علّها متواترة.

١٦٣

سليمان ومن فوقه من النبيين ، وما هم بعالمين كل شيء خلافا لما يروى (١) وترى «علمنا وأوتينا» ـ وهو شخص ـ أهي من سنة الرعونة والكبرياء في الملوك؟ وسليمان من أفضل الصالحين! قد يعني نفسه وأباه داود ، ام ومن معه من النبيين وسائر المعصومين سلام الله عليهم أجمعين ، وكما (آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً).

وقد تلمح «علمنا وأوتينا» برجاحة الإعلان بما أنعم الله أو اختص بكرامته ، كما (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) شرط ألّا تمازجه رعونة وكبرياء فان الله منها براء ، بل هو هنا إعلان رسالي تدليلا بذلك العلم على رسالته الى الناس ، فليس فقط تحديثنا بنعمة ربه راجحا غير واجب.

فقد أذاع سليمان هذه العطية الربانية للناس تحدثا بنعمة الله دون مباهاة ولا تنفّج على الناس ، وكما يدل عليه بتعقيبه (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

وليس منطق الطير وسائر الحيوان ـ ككلّ ـ بالساذج الحيواني دون العقول الإنسانية ، وكما النملة والهدهد تبرزان هذه الحقيقة ، ان لها معارف كما

__________________

ـ وقد يعني ان علمهم عليهم السلام أوسع من علمه كما عن نفس المصدر عن الفيض بن المختار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) ، ان سليمان بن داود قال : «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» وقد والله علمنا منطق الطير وعلم كل شيء ، أقول : ولكن الكل نسبي لا يعني ككل ما يعلمه الله ، وانما البعض الأكثر شمولا مما علم وأوتي سليمان.

(١) المصدر عن بصائر الدرجات احمد بن محمد بن خالد عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) وتلا رجل عنده هذه الآية (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فقال ابو عبد الله (عليه السلام) ليس فيها «من» انما هي «أوتينا كل شيء» أقول : انه مضروب عرض الحائط لمخالفته تواتر القرآن وكما في روايات العرض.

١٦٤

للإنسان ام وقد تكون أصغى وأوفى ، وأنها تسبّح بحمد ربها كما نسبّح (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٢٤ : ٤١) (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) (١).

وإنما الميّزة البارزة للإنسان بين سائر الحيوان هو التقويم الأحسن فيه قلبا وقالبا ، وانه لا يقف لحدّ ، فله التكامل الى قم عليا من الكمال وأعلى من الملائكة المقربين ، وللحيوان ـ ككل ـ مقام محدود ، وحتى بالنسبة للحيوان الذي يتكامل وقليل ما هو ، وان الكمالات الإنسانية روحية وسواها

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٧٨ ـ المناقب عن تفسير الثعلبي قال الصادق (عليه السلام) قال الحسين بن علي عليهما السلام : إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم أعش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح الغراب قال : ان في البعد عن الناس أنسا ـ وإذا صاح القنبر قال : اللهم العن مبغضي آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإذا صاح الخطاف قرء الحمد لله رب العالمين ويمد الضالين كما يمدها القارئ. وفيه في مناقب أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وسمع عصافير تصحن قال : تدري يا با حمزة ما يقلن؟ قلت : لا ـ قال : يسبحن ربي عز وجل ويسألن قوت يومهن.

وعن بصائر الدرجات بسند عن فضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كنت عنده إذ نظرت إلى زوج حمام فهدر الذكر على الأنثى فقال لي : أتدري ما يقول؟ قلت : لا ـ قال يقول : ياء سكني وعرسي ما خلق الله أحب إليّ منك إلّا ان يكون مولاي جعفر بن محمد.

وفيه بسند عن سليمان من ولد جعفر بن أبي طالب قال : كنت مع أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حائط له إذ جاء عصفور فوقع بين يديه وأخذ يصيح ويكثر الصياح ويضطرب فقال لي : يا فلان تدري ما يقول هذا العصفور؟ قال قلت : الله ورسوله وابن رسوله اعلم قال : انها تقول ان حية تريد ان تأكل فراخي في البيت فخذ معك العصا وادخل البيت واقتل الحية ، قال : فأخذت النبعة ـ وهي العصا ـ ودخلت إلى البيت وإذا حية تجول في البيت فقتلتها.

١٦٥

تتبنى المساعي على قدرها ، والحيوان أوتيت المعرفة بالله غريزيا في كل وظائفها (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)!.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) ١٧.

الحشر هو إخراج جماعة عن مستقرهم بازعاج ودفع جماعة ، وهكذا يحشر الجنود المتفرقون في مختلف مستقراتهم لهدف الغزو ، أو عرضهم أمام قائدهم أمّاذا؟ ، والإيزاع هو المنع ، وهنا الحبس عن تفرقهم وحشرهم ان «يحبس أولهم على آخرهم» (١). فقد أصبح جنوده من الأقسام الثلاثة محشورة مع بعض ، دون سماح لهم بالتفرق والرجوع إلى مستقراتهم لفترة مقصودة فيما أهمه.

و «من» هنا تبعّض الجن والإنس والطير ، فلم يكن الكلّ بأسرهم جنوده ، فمن يبقى بعدهم اجمع حتى يحاربهم؟ أيحارب الحيوان الوحش أو الملائكة أمّن هم؟ ولم يتجاوز ملكه ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات! والشيطان ـ وهو من الجن وزعيم مردة الشياطين ـ لم يكن من جنوده ، ومنهم محاربون له معارضون : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) (٢ : ١٠٢) ، ثم الشياطين العمال لم يكونوا كلهم من جنوده ، بل (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (٣٨ : ٣٧) (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٢١ : ٨٢) ومنهم من لم يطلع عليهم كمملكة سبإ حتى أخبره الهدهد! ثم الطير وهي البلايين

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٨٢ القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية ...

١٦٦

البلايين لم تكن لتحشر عن بكرتها ، ومنها الملايين من الهداهد ، وهو يقول عند تفقد الطير (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ..) فهو هدهد خاص بين كل الهداهد ، كان من الطير المشحورة ، ام هو صاحب هذه النبوة الخاصة في هذا الحشر بين عدد من الهداهد.

إذا فجنوده من كل صنف من الثلاثة هم النخبة الصالحة لحرب أعدائه من محاربي الجن والإنس ، المكافحين فيها ، وكيف يأتمن شياطين الجن في الحرب ولهم إدغال وإخلال؟! وأخيرا كيف بالإمكان ان يسافر بذلك الحشد الهائل من كل الجن والإنس والطير حتى يأتوا على واد النمل ، وهو من الوديان الصغيرة المناسبة لطبيعة حال النمل؟!.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ١٨.

لقد سار الموكب الملكي الرسالي مصيره (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) ، وترى اين (وادِ النَّمْلِ) ولها وديان في مختلف الأرض؟ فلو كان واديا كسائر الوديان لكان حق التعبير «واديا للنمل»! فقد تعني (وادِ النَّمْلِ) واديا خاصا مميّزا عن سائر الوديان لجمهورية النمل العجيبة بين جمهوريات الحيوانات (١) وقد ألفت لها كتابات ومنها حياة النمل.

ومما يزيد ذلك التميّز اختصاصا (أَتَوْا عَلى) دون «مرو على» أو «مروا ب» مما يلمح انه إتيان قاصد دونما صدفة غير مقصودة.

__________________

(١) تبلغ اصناف النمل ألفا وتزيد ، وكل صنف يمتاز عن غيره بميّزه ، وكل جمهورية من هذه الجمهوريات لها ملكة أو اكثر ذات جناح ، وقد تتألف قرية النمل من نصف مليون نملة ..

١٦٧

ولأن مملكة سليمان كانت فلسطين الواسعة والعراق ، فقد يكون (وادِ النَّمْلِ) واديا في فلسطين (١) وما يدرينا اين هو منها؟ وكيف هو؟ والنص مقتصر على (وادِ النَّمْلِ).

فبصرت به نملة من النمال فارتاعت لذلك الحشد الحافل ، وخافت على قومها ان تدوسهم جنود سليمان فتحطمهم على غفلة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فأهابت بهم ان (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ..) وقد تلمح (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) وهو الكسر انها تعني فيما تعني كسرهم عن كيان العبودية انعطافا الى زينة الدنيا كما يروى (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٨٢ عن تفسير القمي في الآية فانه قعد على كرسيه وحملته الريح فمرت به على واد النمل وهو واد ينبت فيه الذهب والفضة وقد وكل به النمل وهو قول الصادق (عليه السلام) ان لله واديا ينبت الذهب والفضة وقد حماه الله بأضعف خلقه وهو النمل لو رامته النجاتي ما قدرت عليه.

أقول قصة حمله على كرسيه هنا تخالف (حَتَّى إِذا أَتَوْا) الدالة على إتيانه بجنوده وكيف تحمله الريح على كرسيه وجنوده مشاة؟ وأما قصة إنبات الذهب والفضة فمما لا نصدقها ولا نكذبها فهي مردودة الى قائلها.

وفي البحار ١٤ : ٩٤ يه باسناده الى حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : ان سليمان بن داود عليهما السلام خرج ذات يوم مع أصحابه يستسقي فوجد نملة قد رفعت قائمة من قوائمها الى السماء وهي تقول : اللهم انا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم ، فقال سليمان (عليه السلام) لأصحابه : ارجعوا لقد سقيتم بغيركم.

(٢) بحار الأنوار ١٤ : ٩٢ ن. ع بسند متصل عن داود بن سليمان الغازي قال : سمعت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عليهم السلام في قوله عز وجل : فتبسم ضاحكا من قولها ـ قال لما قالت النملة (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ...) حملت الريح صوت النملة إلى سليمان وهو مار في ـ

١٦٨

أجل (قالَتْ نَمْلَةٌ ..) فهل قالت بصوت ناعم أسمعه الله سليمان ولا يسمعه أي انسان؟! حيث العدد في الارتعاش الصوتي للإنسان محدود ليس ليسمع ادنى منه ولا أعلى ، ام قالت بالتلغراف اللاسلكي أو جهاز الرادار المودوع في قرنيها ، فهي تبادل الخواطر بتلك الوسائل العجيبة ، فتفهّم قولها هو من خوارق العادة للإنسان في بعدي مادة الخاطرة وإيصالها دون صوت ، والبشرية اليوم مهما وصلت الى استخدام الرادار اللاسلكي في نقل الأقوال ، لم تصل حتى الآن الى حد نقل الخواطر دون أية وسيلة صوتية ، وحتى إذا وصلت اليه يوما مّا فليست لتفهم خواطر الحيوان ايّا كان ، فانه من تعليم الملك المنّان!.

وعلّ نملة هذه هي الملكة في واد النمل ، ـ كما يلمح لها تأنيثها ـ أو الخطيبة الممثلة لها ، فخاطبت النمل خطابها العجيب :

(يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ..).

ويا لمساكن النمل من أعاجيب في هندساتها وتنظيماتها ، وهل أتاك نبأ البيوت التي تتخذها تحت الأرض وتجعل لها أعمدة وبهوات متسعات :

__________________

ـ الهواء والريح قد حملته فوقف وقال عليّ بالنملة ، فلما أتي بها قال سليمان : يا أيتها النملة اما علمت اني نبي الله واني لا اظلم أحدا؟ قالت النملة : بلى قال سليمان : فلم حذرتنيهم ظلمي وقلت (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) قالت النملة : خشيت ان ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن الله تعالى ذكره ـ وفي العلل : فيعبدون غير الله تعالى ذكره ، وفي العيون : فيعبدون عن ذكر الله تعالى ، ثم قالت النملة : هل تدري لم سخرت لك الريح من بين سائر المملكة (الملكة) قال سليمان : مالي بهذا علم ، قالت النملة : يعني عز وجل بذلك : لو سخرت لك جميع المملكة كما سخرت لك هذه الريح لكان زوالها من يدرك كزوال الريح ، فحينئذ تبسم ضاحكا من قولها. أقول : وللنظر في بعض فقراتها مجال إذ تخالف القرآن أم لا توافقه.

١٦٩

(صالات) في كل بهوة أبواب مفتّحات إلى حجر صغيرات تسكن فيها ، وآخر تخزن فيها الحبوب والغلال وبينها الطرق والمسالك والشوارع بحيث تهتدي بها إلى أعلى الأرض وتجتمع من تلك البيوت وبهواتها وحجراتها وأعمدتها قرى كاملة ذات بيوت كثيرة.

والأغرب من ذلك أنها قد تملك عدة قرى كأنها مستعمرات تصل بينها بطرق كما تفعل الأمم المتمدنة وتصل بين مستعمراتها بالسكك الحديدية.

وهي لا تقتصر على فن واحد من العمارات ، فقد تبني بيوتا فوق الأرضية كما تحتها ، من أوراق الأشجار والأغصان وقصور الخشب المتساقطة من الأشجار العتيقة وتبني مساكن وترى أمام الناظر كأنها آكام ما بين عشرة أقدام إلى خمسة عشر قدما ، ويكثر ذلك تحت شجر الصنوبر ، ثم نوع ثالث من مساكنها تنحت من الأشجار العتيقة بيوتا كما نتخذ نحن من الجبال بيوتا (١).

__________________

(١) للاطلاع إلى إجمال من حياة النمل راجع الى ما جمعه الشيخ الطنطاوي في تفسيره الجواهر ، مما وصل اليه العلم حتى الآن ، ومما جاء فيه ان النمل تفعل فعل الملوك فتدبر وتسوس كما يسوس الحكام ، فتراه كيف يتخذ القرى تحت الأرض ولبيوتها أورقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات منعطفات ، وكيف تملأ بعضها حبوبا وذخائر وقوتا للشتاء ، وكيف تجعل بعضها بيوتها منخفضا مصوبا تجري اليه المياه وبعضها يكون حولها مرتفعا لئلا يجري اليه ماء المطر. ومن حكمة النمل ان الحبوب المخزونة عندها إذا أصيبت بماء المطر تنشرها ايام الصحو فيقطع حبة القمح نصفين ويقشر الباقلا والعدس والشعير ويقطع حب الكربزة اربع قطع كيلا تنبت ، مما وصل اليه الإنسان بعد تجارب عدة!.

ذكاء النمل :

ومن عجائب تدبير النمل انه رأى رجل ان النمل يتكاثر على شجرة في حقوله فعمد ـ

١٧٠

وهناك عجائب اخرى في حياة النمل قد يقتضي سردها مؤلفات عدة ، ثم لا نصل إلى كل اسرارها وكما قال الله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ

__________________

ـ إليها وحفر حولها وملأ الحفرة ماء وظن انه نجا منها وبات ليلا خالي البال منشرح الصدر مطمئنا على شجرته الغالية فأصبح فرأى الورق مغطى بالنمل ونظر الحفرة فوجدها مملوءة بالماء ، وبينما يتفقد السبب إذ رأى اوراقا متراصة على سطح البركة من شاطئها الى جذع الشجرة والنمل يمر عليها كأنها قنطرة الى حيث تطلع على تلك الشجرة!

ومن عجائب كدحه في عمله الجبار انه قضى عالم من علماء الرومان طول حياته في التنظر في حال النمل فشاهد نملة تشتغل طول يومها فحسب ما حفرته وبنته في ذلك اليوم نسبة الى جسمها وشغل الإنسان وجسمه فوجد انها لو كانت رجلا مشتغلا هذا الشغل لكان يحفر خليجين كل منهما طوله اثنان وسبعون قدما وعمقه ٥ ، ٤ اقدام ، وأخذ هذا الطين وصنع منه آجرا وبنى به اربع حيطان على الأربع الجوانب للخليجين كل حائط من قدمين الى ثلاثة ارتفاعا ، ونحو ١٥ بوصة سمكا وغلظا ويدعك تلك الحيطان من الداخل فتصير ملساء وكل هذه الأعمال بلا مساعد آخر في النهار كله مع ان الأرض مملوءة بالأعشاب الصغيرة والأخشاب والأشجار وجذوعها الهائلة والأرض وعرة المسالك فيها آكام من الردم! سبحان الخلاق العظيم.

قوة النمل :

وقد تبلغ قوة نملة أقوى من إنسان ٣٠٠٠ مرة وكما يروى عن المستر ، د. دى بوا ، العالم الطبيعي انه قال : رأيت نملة تحمل حصاة من أسفل العرامة إلى أعلاها فوزنت النملة والحصاة وزنا دقيقا بادق الموازين وقسمت ارتفاع العرمة فوجدت بعد الحساب ان الرجل لكي ينافس النملة في رفع الأثقال يجب ان يحمل حملا وزنه نصف طن ويصعد به ٢٥ درجة من درجات السلالم الاعتيادية ، وقد أكد احد عار في طبائع النمل انه إذا كان رجل يزن (١٥٠) رطلا وله قوة بالنسبة الى وزنه كقوة النمل لاستطاع ان يحمل على ظهره قاطرتين من اكبر قاطرات السكك الحديدية من غير ترنّح.

وقد روى الأستاذ رفنون ان في افريقيا نوعا من النمل يسمى (بول دوج) يستطيع ان يمشي واثبا وكل وثبة نحو قدم ، فإذا رام الإنسان ان يجاريه وجب ان يثب الوثبة الواحدة نحو ١٤٤ قدما.

١٧١

يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨).

__________________

حشم النمل :

ومن عجيب حياة النمل بقره وهو نوع من البعوض النباتي المائل الى الخضرة وهو كثير في الجناين فالنمل يقنص هذا البعوض ويأخذه إلى عشه ويحميه ويغذيه ، وهذا البعوض يفرز مادة لزجة يستطيبها النمل والعجب انه لا يفرزها ما لم يدغدغه النمل بخرطومه وقد حاول دارون ان يجعل بعوضة تفرز عسلها إذ دغدغها فلم تفرز شيئا فلما اطلق عليها نملة دغدغتها فأفرزت العسل.

النمل جراح :

وهل خطر لك ان النمل جراح حاذق ، ففي البرازيل نوع من النمل القاطع للورق يحسن الجراحة كأمهر جراح فمتى جاءت اليه نملة تقاسي من جرح خطرا يستدعي بعض الجنود الاختصاصيين ثم يضم شفتي الجرح معا ويأمر الجندي ان يمسكهما معا بفكيه ويبقى هذا ممسكا بهما الى ان يخيطهما الجراح على طول الجرح بواسطة خيوط يفرزها من نفسه!.

جبانة النمل :

ومن اغرب الأمور للنمل انه يدفن موتاه في مقبرة خاصة وذلك ان بعض النملات ترفع الجثة بواسطة خراطيمها وتتبعها النملات الأخرى في موكب جليل وتسير جميعا خارج الوكر الى مكان معين تدفن فيه موتاها!.

قرى النمل :

وقرية النمل تتشكل من ستة عشر قسما : ١ ـ باب القرية ، ٢ ـ مدخل القرية ، ٣ ـ مكان الحرس لمنع دخول الغريب ، ٤ ـ أوّل طبقة لراحة العمال في الصيف ، ٥ ـ الطبقة الثانية لراحة العمال في الصيف ، ٦ ـ مكان تناول الغذاء ، ٧ ـ مخزن الأقوات ، ٨ ـ ثكنة الجنود ، ٩ ـ الغرف الملوكية حيث تبيض فيه ملكة النمل ، ١٠ ـ إصطبل لبقر النمل مع علفه ، ١١ ـ إصطبل آخر لحلب البقر ، ١٢ ـ مكان لتفقؤ البيض عن الصغار ، ١٣ ـ صغار النمل وبيضه ، ١٤ ـ صغار النمر ، ١٥ ـ مشتى النمل وبيمينه جبانة لدفن الموتى ، ١٦ ـ مشتى الملكة. وقد وردت روايات في عجائب شأن النمل ، يراجع فيه الى المفصلات كالبحار وسواه.

١٧٢

(.. قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ١٨.

خطيبته متأمرة في شعبها تنادي من تحت إمرتها حفاظا عليهم من التحطم ، سياسة قيادية حيادية للنمل الخارج عن مساكنها للحاجة المعيشية (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) عن بكرتكم ، كي (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) ثم حفاظا على كرامة سليمان وجنوده وهي تعرفهم كما هم ، تعقب على نداءه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إذ لا يرون ما تحت اقدامهم ، فلا يحطمونكم عمدا وعداء ، وإنما غفلة لا شعورية! وقد تعني (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جنوده دون نفسه ولكنه لا يناسب إضافة سليمان إلى جنوده في «لا يحطمنكم». وأعجب بنملة من النمل تبرهن نداءها الحيادية بأن ذلك الحشد العظيم من الإنس والجن والطير «لا يشعرون» وهي النملة تشعر تحطيمهم لا عن شعورهم!

أدرك سليمان قالة النملة وهشّ لها وانشرح صدره بها كما يهش الكبير العادل الحنون للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه ، دون ان يضمر أذاه :

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ..) تبسّمة ضاحكة ، فرحة بما عرف ، وتعجبا مما تعرّفت وقالت ، وكيف تبسم ضاحكا وهو دون الضحك آتيا قبله ، فلا تبسّم حال الضحك كي تصح (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً)؟ علّه لأنه تظاهر بحالة التبسم وهو ضاحك ، حفاظا على سؤدد الملك ، تبسما يخفي ظاهر الضحك فيه إلى باطنه ، كيلا يجلب انظار جنوده كيف يضحك سليمان لا من شيء يضحكه؟ إذ لم يسمع قالة النمل إلّا سليمان.

لقد شعرت النملة عصمة سليمان واعتصام من في إمرته من جنود ، لحد لا يحطّمون النمل قاصدين ، فضلا عن حطم الإنس ، فما لأناس ـ بعد ـ لم يشعروا أن الأنبياء

١٧٣

معصومون؟! وترى النملة أرادت بما قالت الحذار عن حطم النمل بحياتها المادية ، ام حيويتها المعنوية إذ خافت هي على النمل ـ إذا رأت سليمان وجنوده في تلك الحشمة العالية ـ أن تتأرجف عما هي عليها فتقع في كفران نعمة الله ، وكما تلمح له قالة سليمان : (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ ..). وتحطيم الحيوية اخطر من تحطيم الحياة؟ أم هي مريدة كلا الأمرين ، لا ندري ..

وهنا ندرس ان تحطيم النمل وأي حيوان غير مسموح في شرعة الله اللهم إلّا دون شعور ، فليشعر الإنسان في مشيه ألا يحطّم دون مبرر ، جويا أو بريا أو بحريا ، وكما ندرس كف الأذى عن كل حيوان ، بل ونبات ، حالة الإحرام وفي حرم الله ، فنتمرّن هكذا حتى نعيش غير محطّمين الضعفاء أيا كانوا وأيان حتى النبات والحيوان فضلا عن الجن والإنسان.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) ١٩.

«فتبسم» تبسم الفرحة بهذه النعمة الناعمة أن علّم منطق النمل ، فاستفاد منه التحذر عن تحطيمها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) مما يشعرنا أن علينا أن نشعر وندرك من حولنا وتحت أقدامنا ، فلا نتمشى تحطيما غافلا لذي روح ، فضلا عما فوقه من تحطيم في تقصّد.

والإيزاع هو الحبس عن التفرق ، حبس الأوّل إلى الآخر والآخر إلى الأوّل وهو هنا حبس طاقات سليمان عن التمزق والتفرق ، جمعا لجوارجه وجوانحه كلها في شكر الله ، وحشرا لطاقاته كلها في خدمة الله ، وهكذا إيزاع للشكر ليس ـ بطبيعة الحال ـ إلّا بطريقة الوحي والإلهام ، حيث الإنسان ـ أيا كان ـ لو خلي وطبعه ، لا يستطيع أن يجنّد كل طاقاته وامكانياته

١٧٤

في سبيل شكر نعم الله كما يحق ويليق بساحته.

فسليمان هنا يتطلب الى ربه ان يلهمه شكر نعمته ، اضافة الى ما تدعوه إليه فطرته وعقليته وشرعته ، شكرا إلهاميا ليس فقط من مقولة الألفاظ ، وليس الشكر ـ كذلك ـ قالة تلفظ ، بل هي حكاية عن واقع الشكر بجانحة أو جارحة ، فقد تعني (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ ..) هنا ما تعنيه (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٢١ : ٧٣) ، ثم (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) كخلفيّة لذلك الإيزاع الحبس الإلهام ، أو هو مصداق عملي للشكر بعد مصداقه الروحي ، فإيزاع الشكر هنا يحلّق على الشاكر بكل كونه وكيانه ، وكأنه الشكر بعينه ، بقلبه وقالبه ، ولا يتيسر ذلك الشكر التام الطام إلّا بإلهام من الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!

(أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ...) وهي الوحيدة : ـ لمكان نعمتك ـ النعمة الرسالية ، معرفية وعملية ، ولحدّ (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ـ ومنطق النمل وسائر الحيوان! وكذلك التي (عَلى والِدَيَّ) : والدي داود حيث أوتي ما أوتي من ملك النبوة السامية ، ووالدتي إذ ولدتني من والدي بكل طهارة ونزاهة ، دون ما تتقوله التوراة المحرفة ، إن سليمان ولد من امرأة أورياه التي اغتصبها منه داود وحاشاه (١) وهو هبة الله لداود

__________________

(١) ففي صموئيل الثاني الاصحاح ١١ «وكان وقت المساء ان داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داول وسأل عن المرأة فقال واحد أليست هذه بثشبع بنت اليعام امرأة أوريّا الحثّي. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت اليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت الى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت اني حبلى.

١٧٥

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٨ : ٣٠) ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(٤٠) فهل إن الهبة الإلهية يولد من امرأة ذات بعل يغتصبها داود؟!.

اجل وان سليمان هو من المشهود لهم بما نقول : واشهد انك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها» وما هذه الفرية الوقحة التوراتية المزورة إلا تسترا لأهلها وراءها فيما يفتعلون من دعارات وافتضاحات ، وسليمان المفترى عليه يستوزع ربه شكر النعمة الغالية على والديه كما عليه ، ومنها عرض براءته في هذه الإذاعة القرآنية ، قضاء صارما على هذه التهم المزورة.

(أَنْ أَشْكُرَ ... وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) دون ما لا ترضاه مهما أنا أرضاه ، وإنما (صالِحاً تَرْضاهُ) فسليمان الذي يستوزع شكر نعمة الله ، ليس ليقف على حالة الشكر وقالته ، بل و (صالِحاً تَرْضاهُ) جمعا لشكر العمل إلى شكر الحالة والقالة.

__________________

ـ فأرسل داود إلى يوآب يقول أرسل اليّ اوريّا الحثّي. فأرسل يوآب اوريّا الى داود. فأتى اوريّا اليه فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لاوريا انزل الى بيتك واغسل رجليك ـ الى ان يقول في احتياله على اوريّا ـ اجعلوا اوريّا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت .. الى قوله : فلما سمع امرأة اوريّا انه قد مات اوريّا رجلها ندبت بعلها ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها الى بيتها وصارت له امرأة وولدت له ابن ..».

هذا! وفي إنجيل متى ١ : ٦ ـ ان داود الملك ولد سليمان من أوريا!

لا فحسب بل داود نفسه ايضا كما في المزامير ٥١ : ٥ : هانذا بالإثم صوّرت وبالخطيئة حبلت بي امي!

١٧٦

(.. وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) هنا وفي يوم الدين ، فنراه يضرع إلى ربه بعد ملكه ونبوته بنعمته ان يدخله في الصالحين ، وهكذا تكون الحساسية المرهفة بتقوى الله وخشيته ، والتشوّف والتشرّف إلى رضاه ورحمته في الآونة التي تتجلى فيها نعمته تعالى عليه.

والملاحظ في ذلك المسرح من دعاء سليمان والتجاءه انه لا تزهيه زهوة الملك ورعونته ، خلاف كل من يزدهي من الملوك والزعماء بكل زهوة وزهرة ، فهم يسطون كلما ازدادوا سلطة وقوة ، وسليمان يزداد تطامنا في عبوديته وشكر النعمة الربانية عليه قائلا : رب ازعني ـ كأنه غير موزع : ان أشكر ـ كأنه غير شاكر : وأن اعمل صالحا ترضاه ـ كأنه تارك أو مقصر : وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين ـ كأنه ليس من الصالحين ، حين يتخوف على نفسه من غلب النعمة ان تنقلب عليه نعمة ، ملتجيا إلى ربه مستدعيا أن يثبته على الروحية الرسالية ويزداد.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ٢٠ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ٢١.

«الطير» هنا هي مختلفها من جنوده المحشورين معه في مسيرته ، ولما (تَفَقَّدَ الطَّيْرَ) كما تفقد الإنس والجن من جنوده ، فلم يجد الهدهد (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) مما يلمح انه واحد منتخب من الهداهد ، ام قائد في جيش الهداهد ، وتعريفه باللّام يخصصه بالتفقد ، إما لوحدة في شخصه أم شخصيته القيادية (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٠٥ ـ اخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : ذكر لنا ان سليمان أراد ان يأخذ مفازة فدعا بالهدهد وكان سيد الهداهد ليعلم مسافة الماء وقد كان اعطي من البصر بذلك شيئا لم يعطه شيء من الطير لقد ذكر لنا انه كان يبصر

١٧٧

والتفقد هو تعرّف فقدان الشيء حين فقده لماذا فقد ، ولمكان «الطير» ككل لم يكن تفقده يختص بالهدهد ، بل يشمل جنود الطير كلها ، فلما لم ير الهدهد من بينها (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ..) مما يدل على ان سائر الطير كانت حاضرة لديه وهو يراها ـ بما فيها سائر الهداهد المجندة ـ إلّا أن تعنى غيّب آخرون من (كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) ـ ولكنه هنا يعني الهدهد الخاص ، المعين لنوبته في ذلك العرض.

وقد يلمح ذلك التفقد لمدى اليقظة والدقة والحزم من سليمان في عرض جنوده ، حيث لا يتغافل عن جندي واحد من حشره الضخم الهائل من الجن والإنس والطير ، الذي يوزع جمعا لأوله إلى آخره وآخره إلى أوّله كيلا يتفرق وينتكث.

وليدرس قواد الجنود من سليمان درسهم في هذه المراقبة التامة والتفقد الشامل ، تحكيما لعرى التجنيد ، دونما تغلّب ولا تلفّت.

«فقال» هنا قولة جاهرة أمام الجيوش ، ليعلم الجميع ويعرفوا غائبهم ، فلو أسرّه أم أجمل شأن الغائب لكان سابقة سوء لكل الجند إذ لا يعرف المتخلف بعينه ، (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ..) ونراه هنا لا يوجه التخلف إلى «الهدهد» حين يتفقده فيفقده ، أخذا بالحائطة متهما نفسه : «مالي» كأنه حاضر وهو لا يراه لنقص في رؤيته ، ام حاجز عن مرئيه ، فلما تأكد من سلامة نظره ، انتقل الى مرحلة ثانية (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) وقد تلمح «كان» للغياب عن الحضور في حشر الجنود ، انه (كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) عن الحشر ، لا انه غاب بعد الحضور ، وإلا لم يكن ل «كان» مكان.

كما قد يلمح جمع «الغائبين» ان هناك غيّب غير الهدهد ، أمن الجن أو

__________________

ـ الماء في الأرض كما يبصر أحدكم الخيال من وراء الزجاجة.

١٧٨

الإنس أو الطير أم ومن الهداهد؟ لا ندري ، إلّا أن هناك «غائبين» وعلّ تخصيصه التحذير بخصوص هذا الجندي الغائب ، كان لحاجة حاضرة إليه ، وقد تكون دلالته على موضع الماء كما يروى (١) ولأن الغائب عن حشر الجنود

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٨٣ في بصائر الدرجات بسند متصل عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال قلت له جعلت فداك أخبرني عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ورث النبيين كلهم؟ قال لي : نعم ، قلت من لدن آدم إلى أن انتهى الى نفسه؟ قال : ما بعث الله نبيا إلا ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) اعلم منه ، قال قلت : ان عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله؟ قال : صدقت ـ قلت : وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير هل كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقدر على هذه المنازل؟ قال فقال : ان سليمان قال للهدهد حين تفقده وشك في امره (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) فغضب عليه فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) وانما غضب عليه لأنه كان يدله على الماء ، فهذا وهو طير قد أعطي ما لم يعط سليمان وقد كانت الريح والنمل والجن والإنس والشياطين المردة له طائعين ولم يكن يعرف ما تحت الهواء ، وان في كتاب الله لآيات ما يراد بها امر الآن الى أن يأذن الله به مع ما يأذن الله مما كتبه للماضين جعله الله لنا في ام الكتاب ان الله يقول في كتابه (ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ثم قال (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) فنحن الذين اصطفانا الله فورثنا هذا الذي فيه كل شيء.

وفيه عن تفسير القمي قال الصادق (عليه السلام) قال آصف بن برخيا وزير سليمان لسليمان (عليه السلام) أخبرني عنك يا سليمان صرت تحب الهدهد وهو أخس الطير منبتا وأنتنه ريحا؟ قال : انه يبصر الماء وراء الصفا الأصمّ ، فقال وكيف يبصر الماء من وراء الصفا وانما يوارى عنه الفخ بكف من تراب حتى يؤخذ بعنقه؟ فقال سليمان : قف باوقاف انه إذا جاء القدر حال دون البصر .. وفيه عن المجمع وروى العياشي بالإسناد وقال قال ابو حنيفة لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال : لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه وضحك قال ابو عبد الله (عليه السلام) ما ـ

١٧٩

دون إذن يؤدّب كيلا يكرر غيابه وينتبه الآخرون ف : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) مما يلمح ثانية أن الحاجة إليه كانت مدقعة حيوية لصالح الجنود ، وقد يعني شديد العذاب نتف ريشه (١) ، وأشد منه ذبحه ، أو عذابه هو ما دون ذبحه في الشدة كأن يلقى بعد نتف ريشه في الشمس بين النمل ويقرن بالأضداد.

ولكن سليمان لم يكن ملكا جبارا يحكم دون حجة ، ولمّا يسمع حجة الهدهد الغائب ، ولا حكم على الغائب ، فلذلك يبدّل تهديد العذاب والذبح ب (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فما لم يأت بسلطان مبين فالحكم كما حكم لأنه عصى ..

وترى الهدهد هو من المكلفين حتى يعصي أمرا فيهدّد بشديد العذاب؟ بصورة عامة نعم! فيما يرجع إلى حيونة الشعور بالمحبور والمحظور : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨) ولا يعني حشرهم يوم الحشر إلّا جزاءهم بما عملوا فضلا وعدلا.

ثم بصورة خاصة حين يأمر النبي حيوانا أو ينهاه بأمر الله ، وهو يشعر

__________________

ـ يضحكك؟ قال : ظفرت بك جعلت فداك ، قال : وكيف ذلك؟ قال : الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخ في التراب حتى يؤخذ بعنقه؟ قال ابو عبد الله (عليه السلام) يا نعمان اما علمت انه إذا انزل القدر أغشي البصر؟

(١) ومن العذاب الشديد ايداعه القفص ، والتفريق بينه وبين إلفه ، وإلزامه صحبة الأضداد ، أو خدمتهم أو خدمة الأقران.

وفي البحار ١٤ : ١١٢ عن تفسير القمي في سرد القصة وقال الصادق (عليه السلام) ... لأعذبنه عذابا شديدا : لأنتفن ريشه ..

١٨٠