الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)

١٠١

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢٢٧)

١٠٢

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ١٩٢.

فقد يعني الضمير الغائب (الْكِتابِ الْمُبِينِ) : القرآن ، أم ويعني فيما يعني رسول القرآن ، و «تنزيل» بديلا عن «المنزل» علّه للتدليل على انه كله منزل منه تعالى كأنه هو التنزيل ، تنزيلا من عليا الربوبية إلى دنيا العبودية ، ومن عالي الغيب إلى ظاهرة الشهود للمربوبين ، فليس تنزيلا من مكان عل إلى مكان دان ، وانما من مكانة عالية إلى اخرى دانية ، دنوّ الخلق عن الخالق مهما كان قلب الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والناس كلهم فقراء إلى الله وهو الغني الحميد الكبير المتعال العلي العظيم والقاهر فوق عباده ، فرحماته رحمانية ورحيمية ليست إلّا تنزيلا من علوّ الربوبية إلى دنو العبودية. والتنزيل هنا تشمل مرحلتي : الإحكام في انزاله دفعيا ، والتفصيل في تنزيله تدريجيا ، وهو فيهما إحداث حديث الذكر (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ ..) وليس إبراز العلم الأزلي حتى يكون قديما كما الذات وصفات الذات.

وإضافة التنزيل إلى رب العالمين للتأشير إلى انه يحمل ربوبيته العالمية الكافلة لتربية العالمين إلى يوم الدين ، دونما نظرة وحي آخر يكمّله أو ينسخه خلاف سائر الوحي.

ليس القرآن تنزيل الروح القدسي الرسالي ، ولا الروح القدس على قلبه ، فهذا وسيط الوحي وذلك مهبطه ، وليس تنزيله إلّا من رب العالمين كما يراه صالحا للعالمين.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ١٩٣ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ١٩٤ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ١٩٥.

نزل بالوحي الأمين الروح الأمين إلى الرسول الأمين (عَلى قَلْبِكَ)

١٠٣

دون ـ فقط ـ سمعك ، فمنزل القرآن هو قلبه المكين : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) (٢ : ٩٧). و «به» هنا هو القرآن المفصل المنزل نجوما ، دون المحكم النازل عليه ليلة القدر ، والسر النازل عليه ليلة المعراج ، إذ لم يكن هنا وهناك لوحيه أي وسيط : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ١٠٢) ولا صلة لتثبيت المؤمنين إلّا بما يسمعونه منه من الوحي المفصل دون الأسرار المستسرة الخاصة بساحة الرسالة.

ودلالة اخرى (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وليس القرآن المحكم بلسان عربي أو سواه ، فضلا عن «مبين».

فجبريل الروح الأمين القدس نزل بالروح القرآن المفصل على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ايضا الروح القدس الأمين ، فالنازل والمنزل والمنزل روح قدس أمين ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ، وتراه كيف (نَزَلَ .. عَلى قَلْبِكَ) والقرآن المفصل بما يحمل من ألفاظ تسمع لا بد لمنزله من أذن أو سمع؟ فهل انه نزول المعنى دون لفظ كيلا يحتاج إلى أذن؟ والقرآن يعني كلا اللفظ والمعنى ، فالمعنى دون لفظ لا يقرء وإنما يلهم ، وليس الملهم قرآنا ينزل حيث القراءة تخص اللفظ! : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ).

فنازل الوحي إلى قلبه أعم من القرآن حيث يعم محكمه الذي لا يقرء ومفصّله الذي يقرء.

أجل وللقلب سمع هو أسمع من سمع الأذن كما له بصر ، وليس سمع الأذن إلّا ذريعة لسمع القلب كما بصر العين ذريعة لبصر القلب ، وللقلب ان يسمع أو يبصر دون وسيط كما (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) دونما وسيط.

١٠٤

وكيف لا و «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء» فالقلب إمام الأئمة فكيف لا يؤم به الحس وهو ـ فقط ـ مأموم غير إمام! وكيف لا؟ ومن لزامات الوحي ألّا يسمعه إلّا من يوحى إليه ، فلو كان يحمل ألفاظا صوتية ـ وبطبيعة الحال جاهرة حتى يسمع ـ لكان يسمعه غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان يوحى اليه بمرأى ومسمع من الناس ، فهو يسمع وهم لا يسمعون ، وإنما يرون كأنه يغشى عليه من وطأة الوحي! وكان ينفث في روعه قرآنا وسواه من وحي(١).

فلا يسمع إلى قول القائل إن النازل إلى قلبه هو المعنى ـ فقط ـ والألفاظ هي من صياغته ف (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ..) (٧٥ : ١٨)! واسخف منه ان القرآن بلفظه ومعناه من منشآت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الملقاة من روحه الأمين إلى قلبه المكين ، إذ (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) فانما (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ..) وهو (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهل أصبحت روحه الأمين ربّ العالمين حتى ينزّل القرآن على قلبه؟.!

ليس النص «قرأه الروح الأمين عليك» ام «نزل به عليك» حتى يحتمل قراءته على سمعه وانما (عَلى قَلْبِكَ) وهو عمق الروح حيث تتفأد بنور الوحي ، ولا بد للقلب من نورانية تامة طامة استعدادا لنزول الوحي القمة الأخيرة (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) :

(نَزَلَ .. لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) فالمنزل هو القرآن

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٩٤ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

١٠٥

العربي المبين (عَلى قَلْبِكَ) والغاية من ذلك الإنزال ان تكون من المنذرين ، ولك اختصاص أن إنذارك (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أبين من سائر كتابات الوحي عربية وسواها ، لو كان هناك قبل القرآن كتاب وحي عربي! ، و «عربي» هو الواضح المعرب عن معناه ، و «مبين» : يبين الألسن ولا تبينه الألسن» (١).

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ١٩٦.

هل «انه» : القرآن (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)؟ كما و (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (٨٧ : ١٩)؟ إذا فالقرآن نسخة عربية عن العهدين ، وليس وحيا يستقل عن زبر الأولين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(٢).

ولا يعقل ان محمدا (صلى الله عليه وآله وسمل) ـ وهو اعقل العقلاء ـ يدعي كذبا انه يستقل في وحي القرآن ليستغله في شرعة مبتدعة جديدة يدعيها أفضل مما قبلها ، ثم يصرح ان القرآن نسخة عربية عن العهدين ، هدما لما بناه وهدرا لما تبناه ، لتطول ألسنة علماء العهدين الناقمين

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٦٥ في اصول الكافي علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن الجمال عمن ذكره عن أحدهما عليهما السلام قال سألته عن قول الله عز وجل «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» قال : ...

(٢) كتاب الهداية المطبوع بمعرفة المرسلين الأمر يكن بمصر سنة ١٨٩٨ ص ٤ ج ٢ وكتاب «القرآن والكتاب» للاستاذ حداد البيروتي تحت عنوان : هل بين القرآن والعهدين اتصال ونسب؟ قائلا : هنالك تصاريح من القرآن ان بينه وبين العهدين اتصال ونسب حيث : التوراة إمامه وهو في زبر الأولين وهو تفصيل وتعريب للكتاب المقدس وهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وهم علماء أهل الكتاب ويجب ان يقتدي محمد في قرآنه بالكتاب وأهله وإذا شك فيه فليسأل أهل الكتاب ليعلموه! ثم يحتج لكل بآية أو آيات على حدّ زعمه نأتي عليها بجواباتها بطيات آياتها وكما فصلناها في كتابنا «المقارنات».

١٠٦

عليه ، ودون ان يأتي بشيء جديد للمشركين!

ثم واقع الحال في العهدين ، المتوفرة فيهما التناقضات والمضادات للواقع وبين آياتهما ، دون القرآن الذي لا اختلاف فيه ، ثم اختلاف المواضيع بينه وبينهما تكميلا لنقص أو نقضا لباطل ، وحتى في العرض القصصي ، ذلك الواقع المتهافت بينهما وبين القرآن يبطل فرية انه نسخة عربية عن العهدين.

ثم المشركون الموجهة إليهم ـ في الأصل ـ هذه التوجيهات ، لم يكونوا ليؤمنوا بالأصل المزعوم للقرآن فضلا عن الفرع القرآن! فكيف يقول لهم ولماذا؟ إنه نسخة عربية عن العهدين.

وكذلك الكتابيون حيث يعترضون : فإذا لست على شيء جديد ، فلتكن لنا تبعا وكيف ترجوا أن نتبعك؟.

ثم وكيف يصرح أولا : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ ..) ثم يناقضه ب (إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) إذا فلم يوح اليه ، إلّا إلى الأولين وهو راسم رسمهم في هذا القرآن.

ثم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) ١٩٧ عطفا على (إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) يعني دليلا ثانيا على استقلال وحي القرآن عما أوحي إلى الأولين ، ولو كان علما لهم انه نسخة عربية لزبر الأولين لكان هدما لبرهان القرآن امام الكتابيين والمشركين بما (يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)!

أم «انه» : القرآن ببشارة له بوحيه بلسان عربي مبين ، (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) وكذلك رسول القرآن؟ وهذان واقعان لا مرد لهما مهما حرفت عن جهات اشراعها.

فبالنسبة لبشرى القرآن : (... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ... الَّذِينَ آتَيْناهُمُ

١٠٧

الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) (٦ : ٢٠) ، وكما جاء في كتاب اشعياء نبأ هذا الوحي العربي وإليكم الأصل العبراني نصا (٢٨ : ٩ ـ ١٤) :

«ات مى يوره دعاه وات مي يا بين شموعاه غكمولي محالاب عتيمي مشادايم كي صولا صاو صولا صاو قولا قاو قولا قاو زعير شام زعير شام ١٠ كي بلعجي شافاه وبلاشون أحرت يدبر إل هاعام هذه ١١ آشر آمر إليهم زئت همنوحاه هانيحو لعايف وزئت همرجعاه ولا آبوء شموع ١٢ وهاياه لاهم دبر يهواه صولا صاو صولا صاو قولا قاو قولا قاو زعير شام زعير شام لمعن يلخوا وخاشلوا آحور ونشبار ونقشوا ونلكادوا ١٣ لاخن شمعوا دبر يهواه أنشي لا صون مشلي هاعام هذه أشر ييرو شالام» ١٤ :

«لمن ترى يعلّم العلم ولمن يفقّه في الخطاب أللمفطومين عن اللبن للمفصولين عن الثدي ٩ لأنه أمر على أمر أمر على أمر فرض على فرض فرض على فرض هنا قليل وهناك قليل ١٠ لأنه بلهجة لكناء بشفاه عجمية وبلسان غير لسانهم «العبراني» يعني «العربي» يكلم هذا الشعب ١١ الذين قال لهم هذه هي الراحة فأريحوا الرازح وهذه هي الرفاهية فأبوا ان يسمعوا ١٢ لذلك سيكون كلام الرب لهم امرا على امر أمرا على أمر. فرضا على فرض ثم فرضا على فرض هنا قليلا وهناك قليلا. لكي يذهبوا ويسقطوا إلى الوراء فيحطّموا ويصطادوا فيؤخذوا ١٣ لذلك اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء ولاة هذا الشعب الذي في أورشليم» ١٤ (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٩٤ ـ اخرج ابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : كان نفر من قريش من أهل مكة قدموا على قوم من يهود بني قريظة لبعض حوائجهم فوجدوهم يقرؤن التوراة فقال القرشيون ماذا نلقى ممن يقرأ توراتكم هذه لهؤلاء أشد علينا من محمد وأصحابه فقال اليهود : نحن من أولئك براء أولئك يكذبون على التوراة وما انزل الله في ـ

١٠٨

فهذه الآيات البينات بشارة جميلة للقرآن ونبيه انه يكلم هذا الشعب الاسرائيلي بغير لغتهم «كي بلعجي شافاه» بلسان اعجمي ـ غير لسانهم ... ، ثم وبالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرات من البشارات سجلناها في «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ويقول عنه القرآن : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦).

فالقرآن بنبيه والمواصفات القرآنية والرسالية المحمدية (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) على تحرّفها(١) : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ..) (٧ : ١٥٧).

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) ١٩٧.

الواو هنا عطف على آية القرآن نفسه وفيه الكفاية عن أيّة آية ، ثم آية (إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) لا فحسب للكتابين بل وكذلك للمشركين ، حيث البشارة به فيها ملحمة غيبية تدل على انه من غيب الوحي على الرسول الأمين.

فان لم يكن لهم ـ كتابيين ومشركين ـ آية بنفسه وببشاراته في زبر الأولين (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) الأحرار ، غير المحرفين الكلم عن مواضعه ، إذ لم ينسوا حظا عما ذكروا به.

أم وكل علماء بني إسرائيل قبل نزول القرآن مهما كفر به بعضهم إذ

__________________

ـ الكتب إنما أرادوا عرض الدنيا فقال القرشيون فإذا لقيتموهم فسوّدوا وجوههم وقال المنافقون ما يعلّمه إلّا بشر مثله وأنزل الله : وانه لتنزيل رب العالمين ـ الى قوله ـ : وانه لفي زبر الأوّلين يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفته ونعته.

(١) راجع كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ص ١٠٨ ـ ١١٠.

١٠٩

نسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢ : ٨٩) : بنبإ القرآن ورسوله الآتي ، فقد كان علماء بني إسرائيل يتوقعون هذه الرسالة وينتظرون هذا الرسول ، ويحسون ان زمانه قد أظلهم ، وأيامه قد أطلتهم ، يحدّث بعضهم به بعضا ويتحدثون على المشركين مستفتحين بذلك الفتح المبين!.

إنه (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) لا يثير قوميتهم ، و (إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ..) يعلمه علماء بني إسرائيل ، فقد تمت عليهم الحجة وطمت المحجة.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ١٩٨ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) ١٩٩.

«لو» هنا تحيل تنزيله على بعض الأعجمين ، أعربيا ينزل على اعجمي (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (١٤ : ٤) واختلاف لغة النازل عن لغة الرسول عرقلة في الدعوة ، ونقص في الدعاية ، ومثار للنكاية ، فعذر للمعنيين بالدعوة الرسالية.

أم أعجميا على أعجمي؟ وهو نقص في اللغة حيث العربية قمة بين اللغات والوحي الأخير قمة بين سائر الوحي ، فليكن بلسان عربي مبين.

ثم والعرب الألداء وهم مبتدء الدعوة ومنطلقها ما كانوا ليؤمنوا به ، فليكن عربيا منزلا على عربي.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ) عربيا أو أعجميا (عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) أصلا أو ترجمانا (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) حيث النخوة العربية وقوميتها المتعرقة فيهم كانت تصدهم عن ان يؤمنوا به : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)

١١٠

(٤١ : ٤٤) (١).

اجل و «لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم» (٢).

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ٢٠٠ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ٢٠١ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ٢٠٢.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥ : ١٠ ـ ١٤) «كذلك» القويم القويم «نسلكه» : القرآن ـ إنفاذا (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قطعا لكافة الأعذار القومية والاقليمية واختلاف اللغة أماهيه ، وسردا لكافة البراهين القاطعة لوحي القرآن داخلية وخارجية ، ولكنه ليس لينسلك في هذه القلوب المقلوبة ف (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) تخيّرا منهم رغم بارعة الحجج إلّا عند رؤية البأس : (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ).

و «كذلك» البعيد البعيد «نسلكه» : عدم الايمان بالقرآن رغم ناصع البرهان (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) طبعا عليها وختما : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(٣).

__________________

(١) راجع تفصيل البحث عن الآية إلى سورتها.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٦٥ في تفسير القمي في الآية قال الصادق (عليه السلام) : ...

(٣) فهنا مراجع لضمير الغائب في نسلكه : قرأنا وتكذيبا به وايمانا به ، والأولان صالحان معنويا والأخير لا يصلح كما بيناه.

١١١

وهذا السلك هو من مخلفات السلك الأوّل المواجه بالتكذيب جزاء وفاقا ، ومن مخلفات السلك الثاني : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) هنا في الرجعة أو قبلها ، ام في البرزخ والأخرى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ... فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥) ، فلا تعني (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) سلك الايمان فان الله ليس ليحمل المكذبين على الايمان ، ولو حمل على ايمان فكيف (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ..)؟ : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (١٠ : ٩٩).

«فيأتيهم» ذلك العذاب الأليم «بغتة» دون إخبار ولا إمهال (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) به و «لا يشعرون» الايمان بالقرآن.

(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) ٢٠٣.

إنظارا لكي نؤمن به ، ولات حين مناص ، وقد فات زمن الخلاص.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ٢٠٤.

فلقد كانوا يستعجلون بعذاب الله الموعود للمكذبين تحدّيا على النبيين ، استهتارا واغترارا بما لهم من متع الحياة الدنيا ، وهم بذلك الاستعجال العضال يكدّرون خاطر النبي الأقدس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ٢٠٥ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ٢٠٦ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ٢٠٧.

فقد «رؤي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّه متحيّر فسألوه عن ذلك فقال : ولم؟ ورأيت عدوي يلون أمر امتي من بعدي فنزلت : «أفرأيت ...» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٩٥ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال رؤي ...

١١٢

فلقد كان يغمّه متاعهم خوفة على شرعته وأمته ، إمرة لمن لا يؤمن ولا يؤمن (١) على المسلمين ، فطمأنه ربّه أن أيديهم قاصرة عن القضاء على شرعة الله ، مهما كانت طائلة في متع الحياة الدنيا ، فان للحق دولة وللباطل جولة ، وسوف تزول كل المتع عن الكفار في دولة القائم المهدي (عج) (٢).

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ٢٠٨ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) ٢٠٩.

«منذرون» هنا تأشير إلى تواتر الإنذار بحق المهلكين «ذكرى» لهم عن غفوتهم فطريا وعقليا ، فان مواد الهدى مرتكزة في الفطر والعقول ، ولا يعني بعث الرسول كأصل إلّا «ذكرى» لمن استغفلوا عن دلائل الايمان ، ايقاظا لأصول الهدى ، ثم الفروع تتبناها واردة على قضايا الفطر والعقول.

(وَما كُنَّا ظالِمِينَ) في ذلك الإهلاك ، و «كنا» هنا تستأصل أصل

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٦٥ في الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه بني امية يصعدون على منبره من بعده ويضلون الناس عن الصراط القهقري ، فأصبح كئيبا حزينا قال : يا جبرئيل إني رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقري فقال : والذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث ان نزل عليه بآي من القرآن يونسه بها قال : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ...) وانزل عليه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...) جعل الله ليلة القدر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا من الف شهر ملك بني امية.

(٢) تفسير البرهان ٣ : ١٨٩ محمد بن العباس بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : خروج القائم (عليه السلام) (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) قال : هم بنو امية الذين متعوا في دنياهم.

١١٣

كينونة الظلم في الله سبحانه وتعالى ، إذ لا دافع له إليه ، ولو كان لم يظلم لأنه عدل حكيم ، وانما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، خوفة من القوي أن يغلبه ، أو يساميه في القوة ، وكلّ ذلك مسلوب عن ساحة قدسه سبحانه.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ٢١٠ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ٢١١ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) ٢١٢.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) عن الملإ الأعلى ، ردا على المتطاولين على الذكر الحكيم انه (تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ).

(وَما تَنَزَّلَتْ) ببرهان القرآن نفسه انه ليس نازلا إلّا بعلم الله ، (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ : الشياطين أن ينزلوا به ، والابتغاء هو قبول البغي الطلب ، فحتى لو طلب من الشياطين ان يتنزلوا بالقرآن (ما يَنْبَغِي لَهُمْ) قبولا لذلك الطلب ، فان قلوبهم مقلوبة عن الهدى مملوءة من الردى ، فأنى لهم ان يحملوا بتلك القلوب المظلمة وحي القرآن؟.

ثم (وَما يَسْتَطِيعُونَ) لو حاولوا في قبول ذلك التنزيل ، ان يقبلوه ، ل (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ...) (٣٧ : ٩).

فإذا كانوا عن السمع معزولين فلا يسمعون مهما تسمعوا ، فكيف يحملون الوحي ـ بقلوبهم المقلوبة ـ إلى قلوب النبيين؟.

وحتى لو ساغ لهم سمعه وحمله بقلوبهم ف (ما يَنْبَغِي لَهُمْ) سماحا لذلك الحمل العظيم لأنهم غير مأمونين ، إذ يخلطون الحق بباطل يهوونه ، رغم خالص الوحي الذي يحوونه! إذ (ما يَسْتَطِيعُونَ) حمله خالصا وأداء كما حمّلوه قضية غلبة الشقوة عليهم ل (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) للحق الناصح «لمعزولون» ومن الشروط الأصيلة للتنزل بالوحي سمعه في قرارة نفس

١١٤

الوسيط.

فلو تنزلت به الشياطين على ذلك النبي الأمين وهو يلعنهم ليل نهار ، لكان أحرى ان تنزّل به على أولياءهم نقضا لما يدعيه من وحي الرحمن ، وكيف تصبح الشياطين بهذه القدرة الخارقة أرحم بعدوّهم من أولياءهم وأنعم ، وهم يحاولون دائبا نقض الوحي ونقصه ، تعبيدا لطرق الشيطنات.

ف (وَما يَسْتَطِيعُونَ) بارزة كالشمس في رايعة النهار إذ ما تنزلوا به على أولياءهم ، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) ظاهرة كالنار على المنار ، فلو لم يكونوا معزولين لأتوا بمثله وأحرى لأوليائهم ، فلا يرد أن ذلك البرهان دور مصرح ، حيث التصديق ب «لا يستطيعون ـ و ـ معزولون» منوط بتصديق القرآن انه وحي الرحمن ، كما ان هذا التصديق منوط ب «لا يستطيعون ـ و ـ معزولون»؟ حيث الانعزال وعدم الاستطاعة باهر واقعيا إذ لم يأتوا بمثله إلى أولياءهم مهما حاولوا واحتالوا! إذا :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ٢١٣.

ولماذا تدعو مع الله إلها آخر وهو حسبك الكافي ونعم الوكيل؟ وذلك النهي الصارم ليس صدا عن اقترافه اشراكا بالله ، واعترافه بغير الله ، وانما هو استئصال لآمال المشركين ان يركن إليهم ويميل بغية ايمانهم ، ام تقليلا لثورة كفرهم.

ثم (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) تنبيهة عالية للمؤمنين أن الداعي مع الله إلها آخر يعذّب ولو كان هو الرسول العظيم ، فضلا عمن دونه من المؤمنين!

والقول إن التكليف لا يعني في نفيه وإثباته إلّا نفي النقص الحاصل واثبات الكمال غير الحاصل ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغ ذروة الكمال فكيف ينهى عن الشرك ويؤمر بلزامات الايمان والرسالة.

١١٥

إنه مردود بان العصمة لا تنافي الإختيار ، ولا حد ـ كذلك ـ للكمال ، وان تكليف السلب والإيجاب لا يلازم اقتراف المنهي عنه وترك المأمور به ، بل هو كأصل إعلام بحكم الله ، وإعلان للأمة بمرادات الله ، وان الرسول يحمله كرسول إلى الأمة بعد ما يحمله كمكلف من سائر المكلفين.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ٢١٤.

وهنا انتقاله في النذارة من نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عشيرته الأقربين ، ومن ثمّ إلى سواهم وإلى العالمين أجمعين ، وهي طبيعة الحال في الدعوة الصالحة الرسالية ، أن يبدأ الرسول بنفسه وذويه الأقارب ، ثم الأغارب ، حيث الأقربين هم الحملة الأولى للرسالة بعد الرسول ، وفي تركهم إلى سواهم حجة على الرسول : كيف ترك ذويه واتجه إلى سواهم ، ويكأن في دعوته غضاضة لا يقبلها ذووه! وهم اعرف به وبدعوته فلو كان حقا لما تركوه ، وليعلم العشيرة الأقربون أنه لا تنفعهم قرابتهم منه شيئا إلّا بالايمان.

فلما نزلت هذه الآية بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جمع اهله فقال : يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ثم التفت إلى فاطمة فقال : يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أغني عنكم من الله غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٩٦ ـ اخرج ابن مردويه عن انس قال لما نزلت : وانذر عشيرتك الأقربين بكى ... وفيه ٩٧ ـ اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابو نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : وانذر عشيرتك الأقربين ، دعاني رسول الله ـ

١١٦

وقد يؤشر ذلك الأمر الإمر انه كان في بداية الدعوة ولما يتسع نطاقها ، كما (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٥ : ٩٤) فانتفض لتحقيق الأمر فنفض يده من أمرهم ووكلهم إلى الله ، وبيّن لهم مرارا وتكرارا ان قرابتهم له لا تنفعهم ولا تغني عنهم من الله شيئا ، كيف ولا تنفعه رسالته لو

__________________

ـ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا علي! إن الله أمرني ان انذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني مهما أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما اكره فصممت عليها حتى جاء جبرئيل فقال يا محمد انك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك فاصنع لي صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة واجعل لنا عسا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وابلغ ما أمرت به ففعلت ما امرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا اليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال : كلوا بسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم والله أن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال اسق القوم يا علي فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا وايم الله ان كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما كان الغد قال يا علي ان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل ان أكلمهم فعدلنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ثم تكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله ان أدعوكم اليه فأيكم يوازرني على امري هذا؟ فقلت : ـ وانا أحدثهم سنا ـ انا فقام القوم يضحكون.

أقول وقد أخرج القصة باختلافات يسيرة مع الحفاظ على أصلها جم غفير من المحدثين (راجع الدر المنثور وجامع البيان ونور الثقلين والبرهان وبحار الأنوار).

١١٧

لم يأتمر أمر ربه وهو في القمة المرموقة!.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ٢١٥.

خفض الجناح هو ابلغ اللين والرفق والضعة والحنان ، تصورا عن الطائر إذ يخفض جناحه إذ يهبط ، ويخفضه حين يحتضن أفراخه ، وكذلك يؤمر الرسول حين يهبط عن سماء الوحي برسالة الأرض والسماء ، ان يخفض جناح الرحمة لأفراخه المؤمنين به ، من أقارب وأغارب ، دونما ممارات أو مماشاة مع المكذبين الأقارب ، أم طرد للمؤمنين الأغارب ، أم ترجيحا بين من آمن للأقارب ، وانما (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وكما الطائر لا يطير عن أفراخه ولا يغيب في الحالات الحرجة ، كذلك أنت يا ايها الطائر القدسي الرسالي دم على افراخك المؤمنين : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (١٥ : ٨٩) وقد كان خافض الجناح لهم على ما كان من بعضهم من جفاوة ، فلا يواجههم ـ إذا ـ إلّا بكل حنان وحفاوة ، بل وبالنسبة لغير المؤمنين ايضا علّهم يؤمنون.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ٢١٦.

وترى ضمير الجمع في «عصوك» راجع إلى الكفار فقط؟ وهم أبعد مرجعا! والبراءة لا تخص عمل الكافر ، بل والأصل فيها كفره في قلبه حيث يخلّف تخلفه في عمله! أم هو راجع إلى (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) على قربها مرجعا؟ وكيف يواجه الرسول المؤمن الفاسق بتلك البرائة ومن شروطات النهي عن المنكر لين الكلام بالحكمة والموعظة الحسنة.

علّه راجع إليهما ، والبراءة ـ إذا ـ يخص ما يعملون ، إذ لا براءة من المؤمن نفسه إن كان فاسقا.

أم ان «ما تعملون» هي نفسه «ان عصوك» والعصيان يعم الجوانح

١١٨

إلى الجوارح ، بل وعيان الجوارح هو من مخلّفات عصيان الجوانح ، إن كفرا فأعمال كافرة ، وإن فسقا ففاسقة ، ف (مِمَّا تَعْمَلُونَ) في الكافر يعم قلبه وقالبه ، وفي المؤمن الفاسق عمله إلى تخلفه في قلبه أو نيته.

ثم «إني بريء» في مواجهة الكافر تختلف عنها أمام المؤمن ، والبراءة من العصيان هي قضية الرسالة ، والمجاهرة بها هي من أخريات المطاف في النهي عن المنكر ، وقد تلمح الآيات التالية أن المحور هنا في «ان عصوك» هم الكفار وعلى هامشهم عصاة المؤمنين.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ٢١٧ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ٢٢٠.

و (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) تلحيقة مكرورة طوال السورة في عرض الايمان والكفر ، ف «العزيز» أمام الكافرين و «الرحيم» أمام المؤمنين ، ف «توكل» في كل المجالات الرسالية (عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ولا يهمك بعد ماذا يحصل بعد ان تطبّق أمر الله في دعوتك فانه : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) في صلاتك وفي الدعوة الرسالية (١). «يراك» بعين العلم والقدرة والعناية فلا تفلت عن رؤيته ، إذ لا يلتفت عن رعايتك.

(يَراكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) منذ كنت في أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة ، وحتى رسالتك وإلى ارتحالك إلى رحمة ربك (٢) فهل ترى ان

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٦٩ القمي حدثني محمد بن الوليد عن محمد بن الفرات عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية : الذي يراك حين تقوم «في النبوة» (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : في أصلاب النبيين.

(٢) المصدر. روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و

في الدر المنثور ٥ : ٩٨ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال سألت ـ

١١٩

الله يتغافل عمن تكون حياته قياما لدينه ، وتقلبه فيها سجودا (فِي السَّاجِدِينَ).

وقد يعني (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) إلى ما عناه ، أنه كان يرى في صلاته من خلفه كما يرى من بين يديه ، تقلب العلم والرؤية للساجدين وهو في الساجدين ، وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي فاني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلا هذه الآية» (١).

__________________

ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت بابي أنت وامي اني كنت وآدم في الجنة؟ فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال : اني كنت في صلبه وهبط إلى الأرض وانا في صلبه ، وركبت السفينة في صلب أبي نوح وقذفت في النار في صلب أبي ابراهيم لم يلتق ابواي قط على سفاح لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام هداني وبين التوراة والإنجيل ذكري وبين كل شيء في شرق الأرض وغربها وعلمني كتابه ورقى بي في سمائه وشق لي من أسمائه فذّ والعرش محمود وانا محمد ووعدني ان يحبوني بالحوض وأعطاني الكوثر وانا أوّل شافع وأوّل مشفع ثم اخرجني في خير قرون امتي وامتي الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ورواه في البرهان ٣ : ١٩٢ عن ابن بابويه عن جابر قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. مثله وروى بطرق كثيرة. وفي تفسير البرهان ٣ : ١٩٢ القمي قال حدثني محمد بن الوليد ممن محمد بن الفرات عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين قال : في أصلاب النبيين.

(١) المصدر ـ اخرج مالك وسعيد بن منصور والبخاري ومسلم وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل ترون قبلتي هاهنا فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم واني لأراكم من وراء ظهري وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قام إلى الصلاة رأى من خلفه كما يرى من بين يديه وأخرجه مثله عن مجاهد.

١٢٠