الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

تُفْتَنُونَ) ٤٧.

التطيّر هو التشاءم ، وهو من عادات المجاهيل المتّبعين الخرافات الجارفة والأوهام الخارقة ، حين يهم أحدهم بأمر يجهل صالحه من طالحه يلجأ إلى طائر يزجره فان مرّ سانحا عن يمينه استبشر ماضيا فى أمره ، وإن مر بارحا عن يساره تشاءم تاركا امرا حيث يتوقع ضره ، وما يدري الطير غيب الخير أو الشر وهو حيوان ، فهذا الإنسان هو أحون من الحيوان وأضل سبيلا.

هذا أصل التطيّر ، ثم غلب استعماله فى التشاءم ، ولأن الخير والشر راجعان إلى الإنسان بعمله ، وأنّ عمله معه لا يفارقه : أن يطير عنه إلى غيره أم إلى الفناء ، يسميه القرآن طائرا كما : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٣).

فطائر الإنسان ـ أيا كان ـ من خير أو شر ، هو معه كما هنا ، وهو عند الله كما في آيتنا : (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) حيث الأعمال راجعة طائرة إلى الله ، محفوظة لدى الله حيث يستنسخها الله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فكيف (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) حين لا تصدر اعمالكم خيرة أو شريرة إلّا منكم ف (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ولا يصدر الجزاء الوفاق خيرا أو شرا إلّا من عند الله ف (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) فما منا في هذا الميدان سلب ولا إيجاب ، اللهم إلّا دلالة إلى الحق المبين بإذن الله! وليس طائركم معنا على أية حال (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) بجنّة الأوهام وظنّه الأحلام ، فإن تعليق الخير والشر بغير العامل نفسه ، إفضاء لكل عامل عن استقلالية الأعمال بآثارها ، وذلك أنزل دركا وانذل من المكائن الأتوماتيكية ، فإن نتائجها ترجع إليها دون اختيار منها ،

٢٢١

وهذا الإنسان الغبيّ يحول خيره وشره بآثارهما إلى غيره وهو مختار (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)! وتراهم اطيّروا به وبمن معه بمجرد الدعوة دون أمر سواها؟ ومن مواد طيرتهم الاختلاف الناشب بينهم اثر الدعوة! وعل منها إصابة الجوع كما يروى (١).

هؤلاء المفتنون الهاربون عن الايمان بالغيب الحق ، الناسبين اليه الخرافة الحمقاء ، نراهم يؤمنون بالغيب الباطل الموهوم ، من تطيّر وسواه من الخرافات الجارفة ، فنراهم يعلقون همامة ضخمة على العدد (١٣) بنحوسته أيا كان ، فالبيت المرقم به يكتب عليه ١+ ١٢ ، بديلا عن ١٣ ، ويعلقون على مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم ، وعلى كثير من الغيب الموهوم الذي لا سند له ، مستبدلين الغيب اللامعقول بالغيب المعقول ، مبتهجين متبجّهين بما عندهم من الحضارات المادية ، والخرافات الروحية (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) امتحانا بفتنة الله ونعمته ، وامتهانا بفتنة الشيطان ونعمته ، فاليقظة الدائبة ومتابعة السنن وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وبلاء هو الكفيل بتحقيق الخير فى النهاية ، لا التطير بخلق الله.

فلا صدفة عمياء فيما يحدث من خير أو شر ، وإنما اصابة قاصدة هي من خلفيات الأعمال الفاسدة ، ف (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) و «طائركم

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٣ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية .. «فإنهم أصابهم جوع شديد قالوا : هذا من شؤمك وشؤم من معك أصابنا هذا القحط ، قال طائركم عند الله» يقول : خيركم وشركم من عند الله (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) يقول : تبتلون بالاختبار.

٢٢٢

معكم» ولا ثالث يحمل طائرا لكم أو عليكم.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) ٤٨.

(تِسْعَةُ رَهْطٍ) من المستكبرين ، والمستضعفين الضالين تحت نيرهم ، احزاب عدة متراصّة واحدة في أصول الإفساد ، تسعة في مختلف محاولاته وشكلياته ، والرهط هو العصابة دون العشرة أم دون الأربعين ، فهم العصابات المتعصبة ضد الحق ، الصارمة في الإفساد الخالص حيث (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) وإن في مجالة أو حالة واحدة ، مكرّسين كل طاقاتهم وإمكانياتهم في مختلف حقول الإفساد ، عقيديا وخلقيا أمّا هو من الإفساد في النواميس الخمسة ، التي هي محطات الإصلاحات الرسالية ، ومن إفساد هؤلاء التسعة أن :

(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ٤٩.

«قالوا» في تشاور بينهم على عديد رهطهم ، حيث الكفر ملة واحدة مهما اختلفت حقوله وعقوله (تَقاسَمُوا بِاللهِ) : تشاركوا في القسم بالله ، امرا هو حصيلة الشورى اللعينة بينهم ، وتكفي «قالوا» أن تكون «تقاسموا» أمرا ، وكيف التقاسم التشارك بالله وهم مشركون بالله؟ لأنهم يؤمنون بالله كرب الأرباب مهما أشركوا به سواه ، فما التقاسم بالله عندهم بأدنى من التقاسم بأرباب سواه ، بل وهو أحرى وأقوى!

وعجبا من هؤلاء الحماقى الأنكاد يتقاسمون بالله ليبيتوا داعي الله ، ويكأن الدعوة إلى عبادة الله وحده هتك لساحة الله حتى يقسم بالله في قتل الداعية بأهله! وهكذا كان يخيّل إلى جماعة من المشركين أن عبادة الله هتك له

٢٢٣

فليعبد سواه ليقربهم إلى الله زلفى!

«لنبيتّنه» وهو قصد العدو ليلا لقتله «وأهله» هم زوجته وولده وكل من هو تحت عيلولته ، (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ) بعد تبييته «لوليه» وهو بطبيعة الحال من غير اهله ، أو غير الآهلين معه في بيته ، وهو ولي دمه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) دون مهلكه وأهله ، ألأن غير الشاهد لمهلك أهله بأحرى ألّا يشهد مهلكه نفسه؟ ولا أولوية في هذا البين ، وقد يكون عكس الأمر أولى أننا ما شهدنا مهلكه ، فبأولى مهلك أهله ، فإنهم معه بطبيعة الحال ليلا! والنص (مَهْلِكَ أَهْلِهِ)!.

ضمير المفرد الغائب في «أهله» الثاني راجع إلى وليه فإنه أقرب مرجعا وأصح معنى ، فصالح وأهله هم أهل لوليه ، ف (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي القتلى الذين هم أهله ، وله المطالبة بدمائهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في (ما شَهِدْنا).

ثم «مهلك» قد تعني هنا مثلث المعاني ، مصدرا وزمانا ومكانا للهلاك ، اجتثاثا لكل بنود الاتهام ، فلا خبر لنا إطلاقا عن زمان الهلاك ولا مكانه ولا أصله.

احتيال ساذج غير ناضح يطمئنهم فيما اعتزموه ، تخلصا عن صالح ووليه و (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) :

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ٥٠.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا مكرهم ولا مكرنا ، شعورا بضالة مكرهم ، وشعورا بعاقبته في مكرنا ، وأين مكر من مكر؟ مكر جاهل قاحل ، ومكر عالم كافل ، مكر عن عجز تبييت ، ومكر عن قدرة في تبييت.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) ٥١.

٢٢٤

حيث العاقبة الموافقة للمكر مكر مثله إلّا في دناءته وضئولته ، فقد فاجأهم عذاب الله : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) وهم تسعة رهط المتقاسمون الماكرون «وقومهم» المشاركين معهم في كفرهم وتكذيبهم بالرسالة «أجمعين».

وكم ذا وحتى متى يخطئ المستكبرون؟ منخدعين بما يملكون من أموال وبنين ونعمة هم كانوا فيها فاكهين ، غافلين عن العين الرقيبة عليهم التي لا تنام ، والقوة القاهرة فوق كل قوة ، حيث تباغتهم جيئة فجيعة تدمرهم عن بكرتهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)! :

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥٢ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ٥٣.

«خاوية» : خالية عن كيانها كبيوت ، وعن كائنين فيها كأصحاب البيوت ، تدميرا لها بأسرها وأسرهم «بما ظلموا» وفروا عن الحق المرام (إِنَّ فِي ذلِكَ) التدمير (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ثم في ذلك التدمير الخواء (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) منهم ، فقد خرجوا بايمانهم وتقواهم عن طغواهم ، فخارجون ـ إذا ـ عن قومهم الهالكين أجمعين.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ

٢٢٥

أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٥٨)

عرض خاطف عن لوط وقومه بدء ختم في معارض الغابرين : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً .. وَلُوطاً إِذْ قالَ ..) فصالح يدعوا في مفتتح دعوته إلى عبادة الله حيث التخلف البارز فيهم كان هو الإشراك بالله ، ولوط ينهى عن الفاحشة ، لأنها كانت هي التخلف البارز فيهم مهما كانوا من المشركين.

فإتيان الرجال شهوة من دون النساء ظاهرة غريبة في تأريخ الشهوات الجنسية ، أن يصبح كقاعدة مطردة بين قوم ، بدلا عن إتيان النساء المفطور عليه كل من القبيلين ، فقد يشذ الإنسان غير الملتزم بالشرعة الإلهية في حالات استثنائية كثكنات الجيش التي ليس فيها نساء ، أو السجون الطائلة ، أم لأمراض نفسية أو ملابسات أخرى وقتية ، فيميل الذكور لإتيان الذكور ، وأما ان يشيع ذلك الشذوذ دون أية أسباب أو ملابسات رغم توفر النساء ، فهذا هو الحادث الجلل في تأريخ الإنسان ، البارز بأبشع صوره في قوم لوط المجرمين.

(.. أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) العملية المنكرة المتجاوزة عن حدها ، متجاوزة عن الشهوة الفطرية المتعودة إلى المتخلفة عنها ، المنحرفة المنجرفة إلى هواتها البعيدة المدى ، العميقة الردى ، ومتجاوزة عن التستر المتعود في عمل الجنس مهما كانت حلا ، إلى أوساط النوادي جهارا بكل إصرار ودون أي إسرار ،

٢٢٦

وهذه كلها معنية من هذه «الفاحشة» لأنها المتجاوزة في العصيان المتعود حدّه.

(أَتَأْتُونَ .. وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) انها فاحشة خلاف الفطرة وخلاف الشرعة الإلهية ، (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) خلفياتها البغيضة الحضيضة خلقيا وجماعيا وإهلاكا للنسل والعائلة (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أن أهل نوادي الفاحشة ينظرون إليكم وأنتم تفعلون ما تفعلون (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ..) (٢٩ : ٢٩)؟ ، وإتيان الفاحشة بمختلف الإبصار هكذا ، وبمسرح الأبصار ، مما يجعلها أفحش الفواحش النكيرة.

فهنا في اللواط المتعود هكذا بين قوم لوط جنبات عدة من الفاحشة ، التجاوز عن النساء إلى الرجال ، والتعود في ذلك التجاوز كقاعدة مطردة ، وإبرازها في ملإ النوادي ، مما يجعله فاحشة منقطعة النظير (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) مهما لحقهم من لحقهم من انجلترا وسواها الذين سنّوا حلّها في مجالسهم النيابية!

(... بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أمن الجهل بمدى الفحشاء؟ (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) تطارد جهلهم! بل هو الجهالة أنهم يأتون الفاحشة وهم مبصرون تجاهلا عنها بنزوة الشهوة الطائشة العمياء ، ومن جهالتهم الجهلاء الخواء ، كخلفية لدعوة صالحة مصلحة من لوط :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) ٥٦.

و «آل لوط» هنا هم لوط نفسه بالرساليين المؤمنين معه ، لا فقط آل النسب أو السبب حيث الأقرب منهم سببا وهي زوجته (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) فلم تكن هي من آله فيما (قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ ..) إذ لم تكن

٢٢٧

من (أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) إذا فهم الأناس المتطهرون ، ف «آل لوط» هنا هم أهل بيت الرسالة الذين يعيشون جوها ، أنسباء كانوا وأقرباء أم بعداء وأغرباء.

ولماذا (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ)؟ ل (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) تهكما ساخرا بالتطهر من ذلك الرجس البخيس النحيس ، فهم يتطلبون جو الحرية الطليقة لهذه الفاحشة المبصرة ، دونما أي رادع ولا مانع ، فمجرد وجود المتطهرين ـ وإن لم ينهوا عن هذه العملية ـ إنه ينغصّ عيشتهم المتخلفة.

والتطهر تكلف في الطهارة ، فقد يكون صادقا فليكن ، أو قد يكون كاذبا ف «اخرجوا ..» إذ هم كانوا يرونهم يتكلفون الطهارة عن فاحشة اللواط كاذبين ، حيث أصبحت لهم أولاء طبيعة ثانية كأنها هي القاعدة في حظوة الجنس ، إذا فآل لوط هم أناس يتطهرون ، لا يصلحون للمقام بيننا تكديرا لجو الشهوة الرائجة المائجة فينا.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) لا آله فإنهم أخص ـ كما بيناه ـ من أهله ، حيث يشمل امرأته دون آله (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) على قدر تخلفها عن بيت الرسالة (مِنَ الْغابِرِينَ) : الماكثين بعد مضي ما هو معهم من دعوة الحق وشقوة الباطل ، دون ان يهتدوا إلى هداهم ، فحقّ عليهم أن يقدّروا (مِنَ الْغابِرِينَ) الماكثين في عواقب اعمالهم ، ومنها هنا (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) وكما أمطروا في حياتهم الجهنمية أمطار السوء والبلاء ، فقد بدلوا مياه النطف لإحياء النسل ، ذريعة لإماتة النسل وإماطة حق العائلة ، وكذلك الله بدل مطر الإحياء إلى مطر الإماتة (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)!.

٢٢٨

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ

٢٢٩

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُناأَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧٥)

٢٣٠

جولة ختامية للسورة بآيات تذكيرية في استجوابات في أغوار النعم وأطوار النقم ، فللمؤمنين النعم وللكافرين النقم ، مما يتطلب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أولا وأخيرا ، فانها مفتاح كل أمر بعد البسملة وختامه :

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) ٥٩.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على العاقبة الصالحة للصالحين والطالحة للطالحين ، فكل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) دون سواه ، فانه هو الموفق لهداه على أية حال ، والمجازي لمن عاداه على أية حال (قُلِ .. سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) وهم كل الدعاة الله على مدار الزمن الرسالي «سلام» عليهم من الله و «سلام» عليهم منك ومن معك من المصطفين والصالحين ، و «سلام» من الله عليهم أحياء إذ كانوا يحملون رسالات الله ، و «سلام» من الله عليهم أمواتا ليستمروا في الحياة الروحية القمة ، ثم «سلام» مني عليهم إذ لا أقول لهم إلّا سلاما وتصديقا ، و «سلام» مني إليهم فانني مسلم معهم مقتد بهداهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٦ : ٩٠) فإن هداهم هداي مهما كانت درجات ، وخط الهدى واحد مهما كان له مقامات ، فليس اقتداء الرسول بهداهم إلّا المشي على خطهم مهما سبقهم ، كما اقتداء غير الرسول به وبهم مهما كانوا ادنى منهم ، فخط الرسالة الإلهية وهداها واحدة والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

إذا (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ومقابل الخير هنا ـ وهو الخير المطلق ـ ليس إلا الشر المطلق ، وحتى إذا كان «خير» صيغة تفضيل فانه تهكم ، ام تنازل : أن لو كان ما يشركون فيه خير فهل ان الله اكثر خيرا أمّا يشركون؟.

٢٣١

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ٦٠.

سلهم هل شارك الله سواه في (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من المادة الأم ، وخلق المادة الأم لا من شيء ، ثم (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) ولم يكن في الأرض ماء «فأنبتنا» انتقالة لطيفة حفيفة من الغياب إلى الحضور تدليلا ضمنيا انه هو الذي خلق ما خلق وأنزل ما أنزل وأنبت ما أنبت (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) من غابات ام بساتين صناعية فان الإنبات ككل هو من صنيع الله و (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) بحولكم وقوتكم ، وإنما لكم تهيئة الوسائل والظروف لنباتها ثم المنبت هو الله ، وكما الخالق لكم ولهذه الوسائل واختيارها والتوسل بها هو الله «ء إله» إذا «مع الله» يشاركه في الخلق والتدبير؟ لا (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) شركائهم بالله «كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا و (خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) فيعدلون بالمآل عن الله إلى سواه تأليها له دون الله ، ان يعبدونه دون الله ، ويستشفعونه دون الله ، تنزلا عن توحيده إلى الإشراك به وإلى توحيد غيره ، وكأن الله لا دور له في خلق ولا تدبير.

فالفطرة تصرخ ، والبداهة العقلية تصرح ، والكائنات تصارح أن لا إله إلّا الله في خلق ولا تدبير ، فليعبد هولا سواه ، (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)!.

انظروا إلى (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) حيث تبهج الفطر والعقول والحواس ، وان تلوين زهرة واحدة من أزهارها يعجز عنه كل رجال الفنون ، بل والحيطة بأسرارها في تموّج ألوانها وتداخل خطوطها وتنظيم وريقاتها ، مما تتقاصر وتتضاءل دونه العباقرة في الفيزيولوجية النباتية ، فضلا عن الحياة النامية في

٢٣٢

النباتات وهو سر الأسرار. فضلا عن حياة الحيوان والإنسان والملائكة والجان (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) وهو العدل التسوية بالله حين يعني العدل بالله ، وهو العدول عن الله حين يعدلون عن الله فالعدل بالله ما سواه هو ظلم وخلاف العدل وضلال مبين في كافة الحقول ولدي كل العقول : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨) والعدول عن الله ـ ككل ـ إلى ما سواه ، توحيدا له دون الله هو من أظلم الظلم ، وهذا هو الملموس في المشركين بالله في أحوالهم وأعمالهم أن لا إله إلّا غير الله ، إذ لا يحسبون في كل الحياة دورا لله ، ويكأن الله انخلع عن ربوبيته ككل ، محولا لها إلى شركاءه!.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ٦١.

«ام» وبعد خلق الأرض «من (جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) ولم تكن قرارا ، حيث الجعل هنا مركب يتطلب مفعولين كما هما (الْأَرْضَ قَراراً ، اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٤٠ : ٦٤).

ولقد بحثنا حول قرار الأرض في الغافر مشبعا ، وانه من القرّ : البرد والصرد ، دون السكون المطلق ، فالسكون المطلق في المادة عن أي حراك انعدام عن أصل الكيان ، فانما هو سكون نسبي ، حيث كانت الأرض حارة ذائبة ، فسريعة الحركات بكل شماس ، فجعلها الله ذلولا بعد شماس (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) (٦٧ : ١٥) وقرارا في برد نسبي حسب تعديلها في حرارتها وحركاتها ، فقرارا مستقرا لساكنيها ، ويا لقرار الأرض من أسرار بالآفات الملابسات والمرافقات ، لو اختلت واحدة منها أو كلّت أو قلت

٢٣٣

لما كانت الأرض قرارا ، وقد تبقى أسرار قرار الأرض مفتوحة للأجيال ، كلما اتسع العلم وارتفع أدركوا طرفا منها طريفا لم يكونوا يدركونه من ذي قبل!.

ومن خلفيات قرار الأرض (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) فانها قبل قرارها ما كانت تحن لماء ولا كلاء لشماس الحرارة البالغة الذروة ، وفي الحق أنهار الأرض هي شرايين حياتها بمن عليها ، منتشرة إلى أكنانها ومناكبها ، ريّا لأطفالها النبات والحيوان والإنسان من تلكم الثديّ الدائبة الإرضاع.

كما (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) على اثر البرودة فالأمواج المائجة من موادها الثقيلة الداخلية والخارجية الممتدة في حركاتها المعدّلة الدورانية حسب قانون الفرار عن المركز ، والرواسي هي في الأغلب منابع الأنهار حيث تجري منها مياه الأمطار إلى الوديان وتشق مجراها بسبب تدفّقها من قمم الجبال العالية. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) حلوا ومالحا «حاجزا» وحجرا محجورا لا يرى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (٥٥ : ١٩)(١)(... هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (٣٥ : ١٢).

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في هذه الأفاعيل المحيرة العقول؟ لا! (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيتقولون قولتهم المشركة جهلا حالقا قاحلا في تقليد أعمى ، ثم وأقلهم وهم المستكبرون يعلمون لكنهم (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤).

إلى هنا استجواب في مشاهد الكون المشهودة لكل كائن عاقل أمّن دونه ، ثم إلى خاصة الأنفس في كل شارد ووارد :

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ

__________________

(١) راجع تفسير الآية في ج ٢٧ : ٢٦ الفرقان ففيه تفضيل حاجز البحرين فلا نعيده هنا.

٢٣٤

الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ٦٢.

هنا «المضطر» : الذي هو في ضر أو أصابه ضرّ ، ما يضر بحياته الراضية المرضية ماديا ومعنويا ، دنيويا وأخرويا ، فرديا وجماعيا سياسيا أو عقيديا أو ثقافيا أو اقتصاديا أم أيا كان مما يضره من سوء ، والإضرار هنا أعم من التكويني والتشريعي ، وما اختاره هو ام حصل له باضطرار ، فانما النص «المضطر» وهو الذي يضطر أيا كان ، ولكنه اضطرار سوء لقوله (وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

يجد نفسه في ضر حالق خانق يلمسه ، حين تضيق عليه كل الحلقات ، وتشتد الحنقات والخنقات ، وتتضاءل كل القوى الظاهرة وتتخاذل ، وتهاوى الأسناد والمستندات ، فيجد المضطر نفسه منقطعة الصلاة عن كافة الأسباب ، حين تكلّ فيكلّ هو في ضره ، فيجد نفسه في هوة ، دون ناصر ولا قوة إلّا الله وهنا «فالاضطرار عين الدين» (١) والاطمئنان اليقين.

(إِذا دَعاهُ) هو لا سواه ، وبطبيعة الحال ، وقضية الفطرة يدعوه لا سواه ، دعوة في عمق ، دون لقلق اللسان ، ام تجربة الجنان ، وانما دعوة منقطعة عن سواه ، متجهة إياه ، وكما هو متعلق الكون بالله ، يصبح متعلق الكيان بالله ، لا يهوى سواه ، ولا يهوي إلى سواه ، امّن يجيبه ـ إذا ـ إلّا الله ، وليس ليتركه في دعوته الفطرية المنطلقة ، المطلقة عن الحواجز ، وهو الذي فطره عليها ، فلسانها لسان الله حيث فطره الله ، وسئوال الله نفسه ـ طبعا ـ لا يرد!

__________________

(١) تفسير بيان السعادة ٣ : ١٧٧ ـ واليه أشار الصادق (عليه السلام) بقوله : ...

٢٣٥

هم تو بودى اوّل آرنده دعا

هم تو باش آخر اجابت را رجا

چون حذا از خود سئوال وكدّ كند

پس سئوال خويش را كي رد كند

هم دعا از تو أجابت هم ز تو

ايمنى از تو مهابت هم ز تو

وهنا كتاب التكوين : الفطرة ، وكتاب التشريع الآمر بالدعاء ، يتعانقان في ذلك الدعاء ويتجاذبان تعاملا عشيقا رفيقا. فلسان الدعاء للمضطر وسواه هو لسان الله ، وطبعا لسان الفعل دون الذات والصفات ، حيث كوّن ودوّن ما يقتضي ذلك الدعاء!

فهنا الدعاء المستجاب دون ردّ له ركنان ، حالة الاضطرار التام ، وانه ضرّ السوء ، لا الذي يخيّل إليه ضرا وهو في الحق ليس به ف (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣ : ٣١٦) وليس الله بمجيب دعاء من يدعوا على نفسه تحسبا انه يدعوا خيرا أو زوال شر ، وهو في الحق ليس في اضطرار شرّ ، فمن اركان الدعوة المستجابة في آياتها أن تكون صالحة للداعي شخصيا أم جماعيا ، ف (إِذا دَعاهُ) دعوة حق وفي حق بصادق النية ولائق الطوية وصالح القضية ، فالإجابة ـ إذا ـ حاضرة عاجلة ام آجلة دونما استثناء.

ف «المضطر» وهو الذي يضطر في حالة سوء ، تستغرق كل مضطر دون إبقاء. فالدعوات غير المستجابة إنما تنقص من أركانها ، سوء ، أو اضطرارا ، ام دعاء خالصا (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٤٠ : ٦٠) (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). (٣ : ١٨٦) (إِذا دَعانِ) هنا و (إِذا دَعاهُ) في آية المضطر ، تشملان دعاء القال والحال والأفعال ، دون دعاء الذات ، فكل

٢٣٦

الذوات هي متعلقة الكون والكيان بالله ، شعرت أصحابها أم لم تشعر ، أرادت أم لم ترد ، اعتقدت أم لم تعتقد ، فهي إذا دائبة الدعاء ذاتيا و «إذا» هي دعاء أحياني باختيار.

والمهم في مثلث الدعاء هو دعاء الحال علما واعتقادا ، ثم الدعاء بالأعمال التي تبرز ان صاحبها يدعو الله ، ثم بالقال ، كإذاعة عن الحال والأعمال ، فالداعي بقاله دون حاله وأعماله خاو في دعاءه مستهزء ، والداعي بقاله وأعماله دون حاله منافق ، والداعي بحاله دون اعماله قليل الايمان ، والتارك لذلك المثلث كله لا ايمان له ، والجامع بين الثلاثة هو كامل الايمان ، والتارك قاله زائدا في حاله واعماله هو أحيانا في قمة الدعاء ، ولكن الضابطة العامة في الدعاء ضم القال إلى الأفعال والأحوال ليصبح الداعي كله دعاء دون إبقاء ، والمضطر بطبيعة الحال يدعو بحاله ، ام وبأفعاله وقاله ، ولكنه قد لا يستجاب لأنه خاطئ في ضره ، فكم من مضطر في غير سوء وهو يحسبه سوء ، يدعو فلا يستجاب رحمة عليه ، وكم من سيّء الحال في واقع الحال ولكنه ليس في حالة الاضطرار إذ يحسبه حسنا فلا يدعو فهل يستجاب دون دعوة؟ وكم من مضطر في أسوإ الحال ولكنه لا يدعوا الله دعوة صالحة وخالصة فلا يستجاب حيث ينقص (إِذا دَعاهُ) واما الداعي ربه مضطرا في سوء ، دعوة صالحة خالصة ، منقطعة الصلة عما سوى الله ، مطمئنا إليه لا سواه ، راجيا إياه ، فهو المستجاب كما وعد الله : «يجيب المضطر ـ ويكشف السوء ـ ويجعلكم خلفاء الأرض» إجابة عن حالة الاضطرار ، وكشفا للسوء الذي اضطره فرديا ، بل وجماعيا حيث (يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) قضاء على ضر الحكم والسلطة غير الصالحة عن بكرتها ، فلا تعني خلافة الأرض هنا ما قد تعنيه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٦ : ١٦٥) وهي خلافة السكن الحيوية بعد الذين ضلوا ، فانها حاصلة

٢٣٧

للمضطر في سوء أيا كان ، فالدعوة لها والاستجابة فيها تحصيلة للحاصل ، بل هي الخلافة عن السلطات الجبارة المكدّرة جو الحياة السليمة الإسلامية ، الحانقة الخانقة جو الاضطرار بسوئها والتقية ، الدافعة إلى سنة الاستتار والخفية.

فالإمام المنتظر المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف هو من أفضل المضطرين في سوء يجيبه الله بدعائه ودعاء المنتظرين قدومه ، آجلا أم عاجلا وكما يراه الله ويرضاه ، شرط أن يكون دعاء المضطرين سواه ، كاملة الدعائم ، شاهرة المعالم ، مزودة بالجهاد الدائب ، والصبر الصائب ، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه واجعلنا من أعوانه وأنصاره ، آمين يا مجيب دعوة المضطرين!

هنا «يجعلكم» تحلّق على كل خلافة أرضية صالحة ، جانبية نسبية غير شاملة كما حصلت أيا ما أو تحصل على ضوء الدعوات الصالحة والجهادات المتواصلة ، أم شاملة محلقة على كافة السلطات الأرضية كما في دولة القائم (عج) المظفرة العالمية فهو ـ إذا ـ خليفة الله في الأرض كلها ، دون خلافة أخرى فيها إلّا لأصحاب ألويته الذين يديرون أمور السلطة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، فهؤلاء الأكارم مع صاحب الأمر هم أصدق المصاديق للمعنيين ب (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) جمعا بين الجعلين التكويني والتشريعي ، وكما سبق في داود وسليمان فلا «المضطر» هنا يختص بالمشركين! ام فرقة خاصة من المضطرين المسلمين! ، ولا أن خلافة الأرض هي الحياة الخلفية لكل قوم عن آخرين ، مهما كان الإمام المنتظر المهدي من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، بمن معه من المضطرين الصالحين ، هم أصدق المضطرين الداعين ، وأصلح خلفاء الأرض (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٩٤ عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : نزلت ـ

٢٣٨

وهذه الخلافة المرموقة هي التي تشعر المسئولية الهامة لحدّ ينتفض منها أوّل الخلفاء وأعد لهم بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين يقرء رسول الله (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ .. وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) فانتفض علي (عليه السلام) انتفاض العصفور ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما شأنك تجزع؟ فقال : ومالي لا أجزع والله يقول انه يجعلنا خلفاء الأرض؟! فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) : لا تجزع والله لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» (١).

__________________

ـ في القائم من آل محمد عليهم السلام هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا إلى الله عز وجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض وفيه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال قال ابو جعفر (عليه السلام): والله لكأني انظر إلى القائم (عليه السلام) وقد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ـ الى ان قال ـ : هو والله المضطر في كتاب الله في قوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ..) فيكون أوّل من يبايعه جبرئيل (عليه السلام) ثم الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا فمن كان ابتلي بالمسير وافى ومن لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه وهو قول امير المؤمنين (عليه السلام) : هم المفقودون عن فرشهم وذلك قول الله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) قال : الخيرات الولاية.

(١) المصدر ٩٥ عن امالي الطوسي باسناده الى عمران بن الحصين قال : كنت انا وعمر بن الخطاب جالسين عند النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلي جالس إلى جنبه إذ قرء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (أَمَّنْ يُجِيبُ ...) ومثله محمد بن عباس عن عمران عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمفيد في الأمالي عنه وانس بن مالك قال لما نزلت الآيات الخمس في طس «امّن جعل الأرض قرارا الآيات انتفض علي انتفاض العصفور فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مالك يا علي! قال : عجب يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من كفرهم وحلم الله عنهم فمسحه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بيده ثم قال : أبشر فانه لا يبغضك مؤمن ولا ـ

٢٣٩

هذا ، وأما ما يروى عن رسول الهدي من واجب الطاعة لأية خلافة خيّرة وشريرة ، يطارده فرض مطاردة السلطة الجائرة ودفع الفساد أيا كان ، ولا سيما الخلافة الفاسدة المفسدة التي تظلم الجو على الشعوب ، فما الرواية إلّا مختلقة مصلحية الحفاظ على كيان الخلفاء المتخلفين عن شرعة الله ، المستضعفين عباد الله (١).

__________________

ـ يحبك منافق ولو لا أنت لم يعرف حزب الله (غاية المرام ٤٠٢).

أقول : هذه التلحيقة انما طمأنت الامام (عليه السلام) حيث ضمنت عدله في الحكم لحد «لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق» فان الحاكم غير العادل يبغضه المؤمن ويحبه المنافق.

(١) الدر المنثور ٥ : ١١٣ اخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لأن الله تعالى يقول : «.. وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» فالخلافة من الله عز وجل فان كان خيرا فهو يذهب به وان كان شرا فهو يؤخذ به عليك أنت بالطاعة فيما امر الله تعالى به.

أقول : مفارقة الجماعة المؤيدة لخلافة الزور واجبة في شرعة الحق التي تطارد هذه الخلافة ، فمن فارقها نقضا لهذه الخلافة وتركا لتأييدها فهو في الجنة ، ومن وافقها وقارفها فهو في النار واما ان الخلافة خيرا وشرا هي من الله ، فمن الناحية التكوينية صحيح ولكنها لا توجب الطاعة وليس شرها تشريعيا من الله حتى يرضاها الله ويأمر بطاعتها ، ثم وماذا يعني «فهو يذهب به إذا كان خيرا؟ فهل ان الله يذهب بالخلافة الخيرة ويأتي بديلها بالشريرة؟ ثم ماذا يعني : «وان كان شرا يؤخذ به» فهلا يؤخذ بخير الخلافة كما الله يذهب بها ، ثم يؤخذ بشر الخلافة لأن الله يأتي بها ، فما افضحها اختلاقا في مطاردة الخلافة الحقة الإلهية ، وما أقبحها افتراء على رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم)! وان كان قد يعني «فهو يذهب به» ان خير الخلافة لصاحبه ، و «يؤخذ به» يعني ان شر الخلافة لصاحبه ، فما عليكم إلا الاتباع في كلتا الخلافتين ولكن الخلافة بشرها وخيرها تعم الخليفة والرعية ، فهم مستفيدون من خيرها ويضرهم شرها ، وهو يؤخذون ـ كما ـ

٢٤٠