الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

وَهارُونَ)(٤٨).

وترى من ألقاهم ساجدين سواهم أنفسهم؟ إنه هيبة الموقف ، فخلافا لما كانوا يأملون أدهشتهم الآية البارعة فلم يتمالكوا أنفسهم إلّا تساقطا على الأرض سجّدا ، حيث الحق قد لمس عواطفهم ومس شغاف قلوبهم ، هزة مفاجئة أزالت عنهم ركامات الضلالة في لحظات قصار وهم كانوا قبلها هارعين إلى البغية الملكية الطاغية ، فتحولوا ـ إذا ـ بكامل كيانهم الى «ساجدين» ونطقت ألسنتهم كلمة الحق التي كانوا لها ناكرين «قالوا» قالا وحالا وفعالا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) لا فحسب الايمان بالله الواحد ، بل وبرسالته ايضا المتمثلة في موسى وهارون (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) تاركين أية ربوبية سواها.

هنا التآمر الحاشد من الحاشية ، الناتج عن تلك المباراة الحاشدة ، مع كافة الصعوبات التي كلّفتها حتى ألفتها ، أصبح ذلك التآمر هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ، فتلجلج فرعون وملأه وتبلج موسى وملأه ، وآمن السحرة ، لحد أصبح بطن الأرض اريح لفرعون من ظهرها ، حيث استأصلت كل محاولاته ومكيداته ، فلم تبق له باقية إلّا باغية أخيرة هي شيمة كل باغية :

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(٤٩).

ويكأنّ الايمان ـ أيضا ـ كسائر الأمور المسيّرة الميسرة بالإذن ـ بحاجة إلى اذن ، خلطا لعمل القلب بعمل القالب ، ولأن ذلك البليد الطاغي يدعي السلطة المطلقة على شعبه ، فلتكن قلوبهم ـ أيضا ـ بيده.

٤١

وهنا (آمَنْتُمْ لَهُ) دون «به» نكاية بايمانهم انه ليس إسلاما عن قلب ، بل هو استسلام لسحر أعلى أمام ساحر عليم ايمانا لصالحه ، تحويلا للآية إلى سحر ما وجد اليه سبيلا.

إنه لا يشعر قلبه ما استشعره هؤلاء من الحق ، وهم أحرى ممن سواهم في تمييز الآية من السحر ، ومتى كانت للطغات قلوب يفقهون بها حتى يلمسوا هذه اللمسات الحية الوضائة.

هنا الطاغية يثنّي تهمة الاستسلام بأخرى يتهدم بها ـ في زعمه ـ صرح السحر من هؤلاء السحرة ، وأنه تآمر على السلطة الفرعونية : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ومتى كان بينهم حتى يعلّمهم ، ومتى سبق له سحر حتى يعلمه فيعلّمه ، ومهما يكن من أمر يكون له مأخذا في هذه التهمة ، فهو ان بعض هؤلاء ـ وهم من الكهنة ـ كانوا يتولون تربية موسى حين كان وليدا في قصره ، ولكنه يعاكس تهمته الى ضدها ، إنه (ع) تعلم من هؤلاء ، فبدلا من قوله «انه لتلميذكم ..» قال (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ..) ليزيد الأمر ضخامة في أعين الجماهير ووخامة في قلوبهم.

ولكن هذه الثانية كما الأولى لا تجد مجالا من القبول ، فالسحرة فالتة ، والحشد متنزّل أو متحول ، فالى ثالث ثلاثة هي التهديد بالصلب القاسي الذي كان يجري بحق أعصى العصاة وابغى البغاة :

(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ماذا أفعل بكم ايها الخونة المتمردون! (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) والسلطة قاهرة والطاغية قادرة ، فلو كان إسلامهم استسلاما لكانوا يستسلمون للسلطة الفرعونية ، إذ لم تكن لموسى سلطة زمنية ، اللهم إلا آية إلهية ، ولكنهم أثبتوا دون أية ريبة أن ايمانهم واقع دون مماراة ، لا مرد له ولا تحويل.

٤٢

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١).

«قالوا» بأجمعهم «لا ضير» لنا فيما تهدّدنا إذ (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) انقلابا تاما لنا ، طاما لكياننا ، فلا مجال لك فينا ، ولا رجعة لنا إلى ما كنا :

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٢٠ : ٧٢ ـ ٧٤) (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (٧ : ١٢٦). اجل «لا ضير» في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ، ولا في تصليبنا أجمعين (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) عن حمأة هذه الأدنى ، فلا مطمع لنا إذا ولا مطمح إلّا (أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) طول حياة التكليف حتى الآن ، (يَغْفِرَ لَنا) ل (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) حيث سبقنا في هذه المباراة غيرنا في الايمان ، بل وسبقنا المؤمنين في صمود الايمان.

فيا لله ، يا لروعة الايمان وضوءته إذ تشرق في الضمائر الحية ، وتفيض على القلوب المستعدة فتسكب الطمأنينة في نفوس نفيسة في أعماقها ، مهما كانت بخيسة خسيسة في أوحاقها لفترة ـ مهما كانت طويلة ـ من أوقاتها ، فترتفع بسلالة من طين إلى أعلى عليين.

فلما تصل النفوس إلى هذه القمة المرموقة يوحى إلى الرسول (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ..).

وهنا يسدل الستار على موقف السحرة المهددون به إلى فرار موسى ومن معه إلى جانب البحر :

٤٣

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)(٥٢).

أترى فرعون طبّق على السحرة المؤمنين ما أوعدهم؟ لا إشارة له! ولو كان لبان كحدث هائل في تاريخ الرسالات ، قتلا وصلبا جماهيريا لحشد كبير من السحرة! والجوّ آنذاك ما كان يسمح أو يفسح مجالا لهذه القتلة الهائلة ، فإن غلب الحق في تلك المباراة أوقع على فرعون وملئه أثقل الوقعات ، فكيف يجرأ على هذه العملية الفاتكة بحق الكبراء من قومه الخصوص ، وقبل أن يلاحق موسى ومن معه؟! وطبيعة النقم على الفرعونية الجبابرة تقتضي التصريح بهذه القتلة لو حصلت ، تأكيدا لايمان من آمن من قومه ، وتبديدا للفعلة الفرعونية الطاغية!.

قد تلمح (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) انهم هم السحرة المؤمنون حيث حققوا حق العبودية لله ، ام ـ ولا قل تقدير ـ انهم منهم ، ف «عبادي» هم بنوا إسرائيل والسحرة المؤمنون ، بل وجموع آخرون ممن دخلوا في زمرتهم في الردح الفاصل من الزمن بين المباراة والإسراء إلى جانب اليم ، فلم يكن موسى الرسول وأخوه بمن معهما من المؤمنين سكوتا لا ينطقون فلا يدعون إلى الله طول هذه المدة وهم على بينة قاضية شاهرة بين الجماهير!.

فقد كان الايمان لموسى مثلثة الزوايا ، السحرة بطبيعة الحال ، وجماعة آخرون من القبط ، وجماعة من بني إسرائيل ، قد يشملهم كلهم آية يونس التالية للمبارات (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٣ فحبس فرعون من آمن بموسى (ع) في السجن حتى أنزل الله عز وجل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فأطلق عنهم فأوحى الله عز وجل إلى موسى «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ».

٤٤

أترى «من قومه» تعني ـ فقط ـ قوم موسى الإسرائيليين؟ وقد آمن له السحرة أفضل ايمان في هذه المباراة ، وهم أفضل ممن سواهم ايمانا إلّا قليلا من بني إسرائيل المخلصين!

أم هم قوم فرعون من السحرة ومن تابعهم؟ وبعد الضمير يبعده! وقد آمن مع موسى جم غفير من قومه مهما آمن له معهم آخرون!

أم هم القومان وضمير الغائب هنا له مرجعان ، فقد آمن لموسى ذرية من قوم فرعون هم السحرة ومن تابعهم ، وذرية من قومه نفسه (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) كأصل المخافة و «ملإهم» القبط المترفين ، والاسرائيليين العملاء لهم حفاظا على مكانتهم في عمالتهم الخاوية ، وهكذا يكون دوما فرقة الايمان ، انهم هم المستضعفون الذين لا يحسبون بشيء أمام الطغاة والكبراء ، المترذّلون في حسبانهم (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (٢٦ : ١١١)! ومن هنا يعبّر عن المؤمنين له بقومه مهما كانوا قبطا ، حيث الايمان الموحّد يزيل الفوارق القومية : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ...) (٨٧).

وقد تعم بنو إسرائيل في هذا المجال غيرهم من المؤمنين ، ام انه تعبير عن الكل باسم الجل تغليبا (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ..) (٩٠).

وعلى اية حال يؤمر موسى بعد نجاحه في المباراة ان يفر بقومه سريا (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أتراهم لم يكونوا متّبعين طول هذه المدة إلّا لمّا أوحي إلى موسى؟ اجل ولكنه اين إتّباع من إتّباع ، فهم كانوا متّبعين ملاحقين وهم يتحملونه إذ كان محمولا ، ولكنهم الآن متبعون استئصالا لهم عن بكرتهم.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٥٦).

٤٥

لقد أسرى موسى بعباد الله ليلا نحو اليمّ بسرعة خارقة بارقة ، وسمع فرعون بهذه المكيدة النابغة (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ) المصرية ككل «حاشرين» يجمعون الناس ليسمعوهم تالية الدعايات ضد الرسالة الموسوية وأتباعها :

«إن هؤلاء» الشاردون «لشرذمة» : جماعة منقطعة عما يصلحها ، مطرودة عن مجتمعنا ، بقية بالية باقية من بني إسرائيل «قليلون» عدة وعدة. «وانهم» على قلتهم وعلتهم (لَنا لَغائِظُونَ) من سوء صنيعهم بين شعبنا ودعاياتهم المضللة فيهم.

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ) مجتمعون ، في سلطتنا زمنيا وروحيا «حاذرون» عما يصطدمها روحيا وزمنيا «شاكون في السلاح» (١) ، لذلك فانا نتتبعهم فنتبعهم فنقضي عليهم إزالة للفساد وإصلاحا للبلاد.

ذلك كيد فرعون وملإه ليقضي قضاء حاسما على شرذمة قليلة مغيّضة له ، ولكن الله يعكس امره ضده :

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها (٢) بَنِي إِسْرائِيلَ)(٥٩).

كيف وهم خرجوا متّبعين ، ينسب الله خروجهم إليه؟ حيث قدّر في خروجهم إخراجهم ، وفي اتباعهم موسى ومن معه إحراجهم ، «كذلك» فعلنا بهم (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)(٦٠).

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٨٣ تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله «لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ... وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» يقول : مؤداة في الأداة وهو الشاكي في السلاح.

٤٦

اتبع الجمع الحاذر الغادر شرذمة قليلة «مشرقين» حالة الإشراق ، وطبعا بسرعة اكثر منهم حتى يلحقوهم لحد الترائي ، والمعركة المصيرية بالغة الذروة والضراوة ، والمشهد قريب إلى النهاية ، فموسى ومن معه أمام اليم ليست معهم سفن وزوارق يجتازون بها ، وقد قاربهم فرعون بجيشه الجبار شاكو السلاح ، مستعدين بكل قواتهم للقضاء عليهم ولم يبق هنا أمل للضفة المؤمنة إلّا المعية الربانية وقد أدركتهم كما وأهلكت الآخرين.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)(٦١).

إن هي إلّا دقائق ونحن مدركون ، فقد بلغ الكرب مداه ، هجمة الموت الهمجية الهائجة ولات حين مناص ، وفات يوم خلاص ، فإما خوضا في اليم فغرقا ، أم نظل هنا كما نحن فحرقا! والترائي هو التقارب والتداني لحدّ يصبح كل بمرأى الآخر ، وإن لم ير بعضهم بعضا بموانع كمثار العجاج ، ورهج الطّراد ، فالمراد هو تقارب الأشخاص ، لا ـ فقط ـ تلاحض الأحداق وكما يقال في حين متقاربين تتراءى نارهما.

(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٦٢).

كلا! لا إدراك لو كان لكم إدراك ، ولا هلاك إلّا لعدونا إن كنتم مؤمنين (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي) معية العلم والنصرة ، لا يفارقني عند المهالك ، ولا يتخلى عني في المعارك ، فلا يذلني أو يضلني ، بل «سيهدين» بخارقة ربانية كما هداني في المباراة ، وفي كل ما هو آت ، إن ربي دعاني لهذه المسيرة فهو الذي يكلأني ويرعاني (١) ، وان لم ير بعضهم بعضا بموانع كمثار

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٥ في مناقب ابن شهر آشوب ابراهيم بن أدهم وفتح الموصلي قال كل واحد منهما كنت أسيح في البادية مع القافلة فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة وإذا أنا بصبي يمشي فدنوت منه وسلمت عليه فردّ عليّ السلام فقلت له : إلى اين؟

٤٧

العجاج ، ورهج الطّراد ، فالمراد هو تقارب الأشخاص ، لا ـ فقط ـ تلاحض الأحداق وكما يقال في حين متقاربين تتراءى نارهما.

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٦٣).

لقد هداه ربه بما أوحاه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) ويا لها من عصى تحمل آيات عظيمة ما أعظمها في مباريات بين موسى وفرعون «فانفلق» البحر فلقتين وفرقتين (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وانشق بين فرقي الماء طريق يبس : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٢٠ : ٧٧) (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ..) (١٠ : ٩٠) فالفرق هو الجزء المنفرق منه ، والطود هو الجبل الشاهق في السماء ، فقد أصبح البحر خندقا فيه طريق يبس مستو وطرفاه جبلان شاهقان من الماء ، ويا لها من آية باهرة قاهرة ، فانفلاق ماء البحر ككلّ آية ، والطودان بطرفي الطريق الممر آية ، وبقاء البحر كحالته هذه حتى دخل فرعون بجنوده آية ف (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٦٧)!.

إذا فما هي حيلة فرعون ، هل يقف باهتا ساخطا يعض عليه الأنامل من الغيض؟ وهو يراه أقدر من موسى ومن معه وهم يعبرون الخضمّ الملتطم! :

__________________

ـ قال : أريد بيت ربي ، فقلت : حبيبي انك صغير ليس عليك فرض ولا سنة ، فقال : يا شيخ ما رأيت من هو أصغر مني سنا مات ، فقلت : اين الزاد والراحلة؟ فقال : زادي تقواي وراحلتي رجلاي وقصدي مولاي ، فقلت : ما أدري معك شيئا من الطعام؟ فقال : يا شيخ هل تستحسن ان يدعوك انسان إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام؟ قلت : لا ـ قال : الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقين» أقول والصبي كان علي بن الحسين (عليهما السلام) كما ذكر في أواسط هذا الكلام على طوله واختصر منه ما ذكر.

٤٨

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)٦٦.

«وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى كأنها جادة جادة لهم إلى المقصود ، طريق مكشوف يعبرونها ، وها هم واصلون إلى جانب البحر ، فليغمر الغيض بغمر الغيض ليفعل فعلته التي يروم ، ولكن :

(إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (١٠ : ٩٢).

الإزلاف هو التقريب ، والآخرين هم فرعون ومن معه أجمعين ، فقد قرّب الله فرعون والذين معه إلى بحر الهلاك ، وأنجى موسى ومن معه من البحر الهلاك والبحر هو البحر والماء هو الماء! (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) لما دخلوا البحر ، عن آخرهم ، وبطبيعة الحال لم يغرقوا إلّا حين طم البحر أوّلهم وآخرهم ، وقد تعني «أزلفنا» إزلاف بعضهم إلى بعض ككومة واحدة ، وإزلافهم إلى موسى ومن معه ، إلى ازلافهم الى البحر فازلافهم في خضمّه هالكين. (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٣ في الخرائج والجرائح ان عليا (ع) قال : لما خرجنا إلى خيبر فإذا نحن بواد ملآن ماء فقدرناه فإذا هو اربعة عشر قامة فقال الناس يا رسول الله (ص) العدو من ورائنا والوادي أمامنا فكان كما (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فنزل (ص) ثم قال : اللهم إنك جعلت لكل مرسل علامة فأرنا قدرتك ثم ركب وعبرت الخيل والإبل لا تندى حوافرها ولا أخفافها.

٤٩

وقد ينسب الله إزلافهم إلى نفسه المقدسة لأنه هو الذي كادهم بما جعل في البحر طريقا يبسا فطمع فرعون وجنوده لاجتيازه ، ثم رجّعه إلى حالته الأولى فغرقوا أجمعين ، فهم لم يكونوا يقدمون على غرقهم بذات أيديهم دون ريب ، لو لا هذه المكيدة الربانية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي حصل في تلكم المباريات من آيات «لآية» وعلامة قاطعة قاصعة لمن يحنّ إلى ايمان «و» لكن (ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) و «هم» هنا قدر اليقين هم فرعون وملؤه ، ومعهم بنو إسرائيل ، فقد آمن من الأولين السحرة وقليل سواهم ، كما آمن من الآخرين قليل ، وقد يبرهن لهذه القلة الزهيدة الثانية (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١٠ : ١٣٨).

ثم وفي واجهة عامة عدم الايمان من الأكثرية الساحقة أو المطلقة كان ضابطة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، اللهم إلّا زمن الدولة الحقة العالمية للقائم المظفر المهدي (عليه السلام) ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) لا يغلب مهما تغلّب الكافرون وتقلبوا في البلاد «الرحيم» بعباده المؤمنين كواقع ، وبكل عباده في حقل الدعوة الجماهيرية (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها

٥٠

عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢)

٥١

مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ)(٦٩).

خبرا ذا فائدة عظيمة لقبيل الايمان من ابراهيم ، فانه عاش منذ طفولته جو الشرك ، وبدل أن يتأثر ـ كما هو طبيعة الحال ـ أثر أثرا عميقا وأرجف صرح الشرك بوحدته رغم جمعه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ)(٧٠).

تلك التلاوة المباركة على المشركين الزاعمين انهم ورثة ابراهيم على دينه القديم ، تنديدة شديدة بهم ، انه خالف أباه وقومه إلى الهدى ، وأنتم تخالفون ابراهيم وشرعته إلى الردى ، فأنتم إذا خلف متخلفون فبماذا

٥٢

تفتخرون؟.

فإلى حلقة الرسالة الإبراهيمية إلى قومه الألدّاء ، وحواره الصارم معهم في قوة الأداء ، وهنالك حلقات اخرى من صورة هذه الرسالة الوضاءة وسيرتها في البقرة والأنعام وهود وابراهيم والحجر ومريم والأنبياء والحج ، كلّ تناسب جو السورة بما تتطلبه الدعوة القرآنية .. وهنا اختصار دون احتصار لمحاجته أباه وقومه ولكلّ تفصيل في محالها من السور.

(إِذْ قالَ .. ما تَعْبُدُونَ) وهنا ل «ما» دورها في تجهيلهم بعبادتهم غير العاقل ، ويتساءلهم عن ماهيتها لكي يركز حواره على جوابهم عنها ، وهذه طريقة حسنى في الحوار ان تتبنى ما عليه محاورك فتبني عليه محاورك سنادا إلى ما يعترف به.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (٧١).

«أصناما» من مختلف المواد ننحتها «فنظل» دوما أحيان العبادة «لها» دون سواها «عاكفين» عكوف العبادة وعبادة العكوف ممن يسمّون أناسي أحياء لجثث غير ذوات الأرواح.

وفي «نظل» غير الداخلة في صميم الجواب اظهار لصميم عبادتهم لها بكل ابتهاج تثبتا للجواب.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)(٧٣).

فسمع السؤال عن سؤل ، ثم نفع منهم لكم أو ضرّ ، هذا هو أقل ما يتوفر لإله يعبد ، فان كانت صماء لا تسمع كما هي ، فهل تملك نفعا أو ضرّا دون ان تسمع لحاجة ، فإذا «لا» كما هيه فعبادتها ـ إذا ـ لاغية! حيث العبادة تعني حرمة المعبود وحاجة إليه طلب نفع أو دفع ضر ، وهذه العبادة خاوية

٥٣

عن كل معانيها ومغازيها.

هنا يخرس قومه وأبوه عن إجابة قاصدة عاقلة إلى ما تعوّدوه من قولة لاغية :

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(٧٤).

لا حجة لنا فيما نعبد إلا تقاليد الآباء ، ولكن : ألم يكن الموحدون من أنبياء وسواهم من آبائهم ، فهم تاركوهم ، ثم هم على آثار المشركين منهم يهرعون ، ثم السؤال ينتقل إلى آباءهم المشركين ، وليس الجواب إلّا نفس الجواب (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فليصل إلى الأب الأول أول الموحدين ، فلما ذا تركتموه على أبوته الأولى ، إلى المتخلفين من ولده المشركين ، ترجيحا للمفضول على الفاضل؟

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ)(٧٧).

فقد عبد شطر من آباءكم الأوّلين رب العالمين ، وعبد آخرون سواه ، «أفرأيتم» نظرا إلى كيان المعبودين إلها وسواه؟ (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) جميعا (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) عداء للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وللعقلية الانسانية وما دونها ، ولأية مرحلة دانية من الإدراك ، فإنهم كلهم بمعبوديهم من المربوبين لرب العالمين.

فالاستثناء ـ إذا ـ متصل ، حيث الآباء الأولون لم يكونوا جميعا من المشركين ، وفي ذلك الانضمام تأشير عشير أن آباءكم الأقدمين لم يكونوا كلهم مشركين ، ثم (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) جمع بين العابدين والمعبودين ، الجدد والأقدمين ، إشارة إلى أن القدمة بمجردها ليست دليل القبول ، فليخلط القديم والجديد ، وليقبل منهما القابل للتصديق.

٥٤

ثم وعباده الله بعابديه أقدم ممن سوى الله عابدين ومعبودين ، إن كانت القدمة دليلا يتبع ، فالأب الأوّل ـ آدم (ع) ـ كان موحدا داعيا إلى التوحيد ، ثم الذين معه وبعده من الموحدين

وترى كيف تشمل «عدوّ» الأصنام وهي لا تشعر كما اعترف به عابدوها؟ علّها العداوة الآجلة يوم الدين حيث ينطقها الله كما قال : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ (١) يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١٩ : ٨٢).

أم والعاجلة حيث العداء ذاتية بين المعبود بغير حق والعابد العاقل مهما لم يشعره الصنم ، أم لأنه سبب الضلال فعدو وإن لم يشعر ، أم لأن في المعبود من دون الله عملاء كالطواغيت؟ والجمع أجمل فانه اشمل.

وإنما أفرد «عدوّ» رغم جمع الأصنام ، حيث العداوة هنا واحدة وفي اتجاه واحد ، كما (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (٦٣ : ٤).

فأنتم وصفتم أصنامكم بما وصفتم ، وارتكستم كما ارتكستم ، فتعالوا معي لتعرفوا (رَبَّ الْعالَمِينَ) الأقدم في كونه معبودا ، والمالك لبراهين الألوهية الحقة :

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢).

أبواب ثمان لمعرفته تعالى عدد أبواب الجنة ، لا يتركها إلّا كل ذي جنّة :

١ ـ (الَّذِي خَلَقَنِي) فهل الخالق أجدر بأن يعبد أم المخلوق؟ يقدم

٥٥

خلقه نفسه لأنه اقرب آية واثمنها وأتقنها دليلا على خالقه (١)

٢ ـ (فَهُوَ يَهْدِينِ) لا سواه ، حيث الهداية الكاملة الشاملة تقتضي كامل القدرة والعلم وشامله لمن يهدي ، فقد انشأني من حيث يعلم وأنا لا أعلم ولا من سواي ممن أنشأه ، فهو العالم بسؤلي لا سواه ، والعارف بحالي ومآلي وكل مالي لا سواه «فهو» إذا «يهدين» إلى ما خلقني لأجله ، وقد هداني فطريا وعقليا وحسيا إليه ، وأراني آياته في الآفاق وفي نفسي (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)؟ هناك «خلقني» هو محور المعرفة ،

__________________

(١) الدر المنثور : ٥ : ٨٩ ـ عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فأسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد فقال حين يخرج : بسم الله الذي خلقني فهو يهدين هداه الله للصواب ـ ولفظ ابن مردويه ـ لصواب الأعمال (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أطعمه الله من طعام الجنة وسقاه من شراب الجنة (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) شفاه الله وجعل مرضه كفارة لذنوبه (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أحياه الله حياة السعداء وأماته ميتة الشهداء (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) غفر الله خطاياه كلها وإن كانت اكثر من زبد البحر (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وهب الله له حكما والحقه بصالح من مضى وصالح من بقي (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) كتب في ورقة بيضاء ان فلان بن فلان من الصادقين ثم وفقه الله بعد ذلك للصدق (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) جعل الله له القصور والمنازل في الجنة. وفي تفسير البرهان ٣ : ١٨٤ ـ ابن بابويه بسند متصل عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) وذكر الحديث فيما ابتلاه به ربه إلى أن قال : والتوكل بيان ذلك في قوله : الذي خلقني ـ إلى ـ يوم الدين ـ ثم الحكم والانتماء إلى الصالحين في قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يعني بالصالحين الذين لا يحكمون إلا بحكم الله عزّ وجلّ ولا يحكمون بالآراء والمقاييس حتى يشهد له من يكون بعده من الحجج بالصدق بيان ذلك (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ..).

٥٦

ثم (فَهُوَ يَهْدِينِ ..) وما بعدها من التدبير تتمحور الخلق ، تفريعا للتدبير على الخلق ، وان الخالق هو المدبر لما خلق لأنه الخالق ، وهما لزام بعض فطريا وعقليا وواقعيا ، وليس الفصل بين الخالق والمدبر ألّا عضلا للخالق عما خلق وهو به أعرف وعليه أقدر ، وإعطاء التدبير لغير الخالق وهو مخلوق كسائر المخلوق ، لا يسطع على تدبير نفسه فضلا عن الآخرين.

و «يهدين» بصيغة المضارعة بعد خلقني الماضي ، اشارة إلى استمرارية الهداية في كل حلقاتها ما دام الكائن كائنا ، كما الهداية تعم كل شئونه بل وكل شيء وكما في جواب موسى لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠).

٣ ـ (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي) كفالة حانية حامية عن جوعتي وهي سؤل الجسم ، فكيف لا يكفل سؤل الروح ، والهداية تشمل كل سؤل بسؤال ودون سؤال!

٤ ـ «ويسقين» فمادة الإطعام والسقي هي من خلقه ، ومعرفة الحصول عليها هي بهدايته.

٥ ـ (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فالمرض مني لمكان «مرضت» والشفاء منه والدواء منه وعلم الأدواء والإدواء منه مهما كان هنالك أطباء ، فإنهم بعلومهم منه ، وقد يمرض الله لما قدمت أيدينا ام لإصلاحنا فهو منا.

٦ ـ (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) كما خلقني ، فلا يميت إلا الخالق مهما كانت للموت ظاهرة الأسباب.

٧ ـ «ويحيين» ليوم الحساب ، يوم تتقطع الأسباب وتحار دونه الألباب.

٨ ـ (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) لا سواه ، إذ لا

٥٧

غافر إلا إياه حيث المعصي والمطاع ـ كإله ـ ليس إلّا إياه.

وقد جمع ذلك التعريف العريف برب العالمين إلى ربوبيته المادية الربوبية الروحية ، وإلى الهدى المادية الهدى المعنوية ، وإلى ربوبية العاجل ربوبيته في الآجل ، جمعا بين المبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد ، وذلك هو (رَبَّ الْعالَمِينَ) ليوم الدنيا ويوم الدين ، أما أنتم ف (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) دون ان تحمل أيا من هذه المواصفات الثمان التي هي لزام الربوبية والمعبودية! فأنى تؤفكون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟.

ولماذا بالنسبة لغفر الخطيئة «أطمع» دون قطع رغم وعده تعالى للمؤمنين ، دون سائر ما ذكر من قبل؟ لأنها كلها مقطوعة غير ممنوعة حسب سنة التكوين ، ولكن الغفر يوم الدين ليس سنة قاطعة ف (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤ : ٤٨). وهل ان ابراهيم كان مخطئا وهو نبي حتى يطمع غفره يوم الدين؟.

إنه يقوله قبل حكمه الرسالي الذي يتطلب العصمة المطلقة (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) فلعل له خطيئة قبل عصمة الرسالة! أم إنه تطامن وتذلل أمام الرب قصورا عما يناسب ساحته تعالى ، وعلّ منه طلب الغفر لأبيه وهو قبل حكمه الرسالي.

ثم هذا لسان حال المقربين وقالهم تذليلا لساحتهم وتبجيلا لساحة رب العالمين ف «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ثم وتعليما للمخطئين كيف يجب عليهم ان يستغفروا الله.

وما هو دور «لي» في (يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي)؟ علّه سلب لوسيط الشافع فانه غفر للشافع كوسيط ، وكذلك سلب لانتفاعه تعالى بغفره ، وانما «لي».

٥٨

ولماذا (يَوْمَ الدِّينِ) وظرف الغفر الصالح هو يوم الدنيا؟ علّه لأن الغفر يوم الدين هو المهم في غفر الخطايا ، والبرزخ ليس محل الغفر ، والغفر يوم الدنيا قد تلحقه خطيئة اخرى ، ولكن الغفر يوم الدين هو الكاسح الماسح غبار الخطيئة بأسرها.

هنا يسأل الخليل بجدارة ربّه الجليل زادا لراحلة الدعوة الرسالية ، عاجلا وآجلا إذ نجح في ذلك الاختيار :

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٨٣).

وذلك حكم رسالي خاص يطلبه بعد الرحمة العامة ، فهناك (رَبَّ الْعالَمِينَ) في مواصفات تدرّ رحماتها على العالمين ، وهنا «رب» نظرا إلى الربوبية الخاصة لأصحاب الحكم من الله ، فيستوهب ـ إذا ـ «حكما» ما لم يكن له لحدّ الآن ، وليتزود به في دعوته الصارمة أمام الدعايات الضالة العارمة.

وقد يجمع الحكم المستوهب هنا تحكيم الأحكام الفطرية والعقلية والعملية ، إلى الحكم والحكمة الرسالية ، حيث الحكم أعم من الرسالة ، وإطلاقه هنا يعمها وسواها من حكم يستحكم عرى الدعوة الإبراهيمية الشاملة ، ولحد الإمامة بين المرسلين نسبيا.

وقد يعني (أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) اضافة إلى يوم الدين ، لحوقه بهم يوم الدنيا ، ان يكون من زمرتهم وهم الرعيل الأعلى من المقربين ، نوح وموسى والمسيح وخاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد يعني من (هَبْ لِي حُكْماً) كمال القوة النظرية المستكملة بقوة الوحي ، ومن (أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) كمال القوة العملية وكما بالنسبة لمن جعلهم الله أئمة وهو منهم (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ

٥٩

الخيرات ..» (٢١ : ٧٣).

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤).

وقد استجاب له دعواته ، فالأخيرة نجدها في مريم (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩). وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٥٠).

(لِسانَ صِدْقٍ) هنا هو لسان صادق مصدّق مصدّق حالا وقالا وأفعالا ، و «الآخرين» هم حملة الرسالة الأخيرة ، محمد (ص) كرأس الزاوية ، وسائر الأئمة من ولده كسائرها (١) وقد تعني ما تعنيه آية الصافات ، كمريم (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (١٠٨) والزخرف : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨) وطبعا كبعض المصاديق الصالحة (٢) ودعاء من ابراهيم تستمر طيلة حياته المنيرة وحتى بناء البيت وهو في أخريات عمره : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً

__________________

(١) راجع تفسير الآية في سورتها وفي تفسير البرهان ٣ : ١٨٤ تتمة الحديث السابق عن الصادق (عليه السلام) «.. بيان ذلك في قوله «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» أراد في هذه الأمة الفاضلة فأجابه الله وجعل له ولغيره من الأنبياء «لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك قوله : «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ...».

وفي ملحقات أحقاق الحق ٣ : ٣٨٠ في الآية «هو علي (عليه السلام) عرضت ولايته على ابراهيم (عليه السلام) فقال : اللهم اجعله من ذريتي ففعل الله ذلك» أورده عدة من أعلام القوم منهم الحافظ أبو بكر ابن مردويه في كتاب المناقب كما في كشف الغمة ٩٤ روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ... ومنهم المير محمد صالح الكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي ٥٥ نقلا عن ابن مردويه عن الباقر (عليه السلام).

(٢) راجع تفسير آية الزخرف للحصول على تفصيل المعنى.

٦٠