الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً

٢١

وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦٨)

تسعة وخمسون آية تستعرض معارضة فرعون الرسالة الموسوية منذ البداية حتى غرق فرعون وقومه ، عرضا لطائل الحوار بينهما ، ثم مسرح السحرة والآية الرسالية الى (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ).

ومن ثم نرى عرضا لرسالة ابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام) كلا في قصص له بتلحيقة واحدة : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تسلية لخاطر الرسول الأقدس (ص) كيلا يخلد بخلده الشريف أنه بدع من الرسل في مواجهة التكذيب ، فالرسالات الإلهية هي ذات طبيعة واحدة وصاحبة عرقلة واحدة ، فعلى الداعية التصبّر في الدعوة حتى النهاية.

ولقد مضت حلقات من قصة موسى في البقرة والمائدة والأعراف ويونس والأسرى والكهف وطه ، اضافة إلى إشارات اخرى في سواها ، وكل هذه متناسقة مع جو السورة وموضوعها الرئيسي ، والحلقة المعروضة هنا هي مسرح الرسالة المعارضة لصرح الفرعونية الجبارة ، مقسّمة إلى مشاهد متنوعة بينها فجوات متناسقة.

وقصص موسى كسائر القصص القرآنية جديدة في كل مسرح رغم تكرارها موضوعيا ، لأنها تناسق كل الأجواء المستعرضة فيها ، لولاها لكان الجو ناقصا ، فالى مشاهد سبعة هنا بين موسى وفرعون :

٢٢

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)(١١).

ذلك النداء يتم بعد ما يكمل موسى عشر حجج في مدين بعد ما خرج إليها من مصر خائفا يترقب (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٢٠ : ٤٠) ففي ذلك القدر المقدّر لبزوغ الرسالة هكذا يؤمر.

واذكر (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) كما ناداك ، وآواه كما آواك (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم وأهليهم وظلموا الحق ، عائشين في ثالوث الظلم ، المظلم جوّ الحياة على عائشيها ، ففي الرسالات الإلهية سلبيات وايجابيات ، سلبا لآلهة الأرض ثم إيجابا لإله السماوات والأرض ، وسلبا لأي ظلم من أي ظالم فإيجابا للعدل : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) فقد اظلمت الجوّ طغواهم ، فلتحملهم على تقواهم ، ام لا قل تقدير تصدهم عن طغواهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(١٤).

أعذار أربعة يعتذر بها موسى عن ذلك الإتيان ، أنكوصا عن تكليف الرسالة بأسره؟ وكيف يرسل الله الناكص المنتكس! أم عرضا لحاله استنصارا من ربه على عدوه؟ وعلمه بحاله يكفي عن مقاله!.

في الحق إنه عرض الحال التماسا وهو يعلم الحال ، وكما في كل دعاء واستدعاء ، و (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) برهان لا مرد له على عدم النكوص ، وانما هو استمداد من ربه ان ينصره على عدوه.

وترى فرق التكذيب والقتل في سبيل الدعوة أهما مما يتطلب عرض الدعاء ، وهما طبيعة الحال في كافة الدعوات الرسالية؟ ففريق يكذّبون

٢٣

وآخرون يصدّقون ، وفريق يحاولون قتل الداعية وآخرون يمانعون؟.

إنه هنا يخاف التكذيب المطلق ألّا يصدق ابدا ، لا مطلق التكذيب ممن دأبهم التكذيب ، ويخاف أن يقتل قبل نشور الدعوة ، إذا فما هي فائدة هذه الدعوة بين تكذيبها وقتل الداعية؟!.

ثم ومن دوافع التكذيب المطلق والقتل (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ...) فلذلك (يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) وذلك قصور في الدعوة ، فليستمد ربّه بامدادات متصلة واخرى منفصلة ك (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ).

فلئن كان منشرح الصدر منطلق اللسان كان بالإمكان ان يرتد تكذيبه كيفما كان ، فهو الاحتياط الرسالي حفاظا على سلامة الدعوة لا. الداعية اللهم إلّا لسليم الدعوة وقاطعها.

فقد احتاط من أن يحتبس لسانه في بزوغ الدعوة وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه ، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة منذ البداية ، واحتاط من ان يقتلوه فتتوقف دعوته دون ان تجبر عن ضعفها ، وهذا هو اللائق بموسى الرسول الذي صنعه الله على عينه واصطنعه لنفسه ، ونراه مستجابا فور دعوته.

ومما لا بد منه في كل دعوة رسالية مجال التصديق وتجوال الدعوة قبل قتل أو موت الداعية ، وانشراح صدره وانطلاق لسانه (١) في الدعوة ، فلذلك (قالَ رَبِّ ...).

هنا من دوافع تكذيبه المطلق وقتله (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ...) أن قتلت

__________________

(١) تجد تفصيل القول في عقدة لسانه في طه فراجع.

٢٤

منهم نفسا فلا يفسحون لي ـ إذا ـ مجالا للدعوة ، ومنها ان فرعون رباني وليدا ، فهو يتفرعن عن ان يسمع إلى دعوة ربيبه ، المناحرة لدعوته.

ولم يكن قتله القبطي ذنبا في شرعة الله ، فانما (لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) في زعمهم ، وأما المشرك المحارب فمسموح قتله ولا سيما حالة الدفاع ، مهما كان قتله في واجهة أخرى غير مشكور ، إذ أخر دعوته الرسالية عشر سنين ... وهنا يجد حاضر الاستجابة فور الدعوة :

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)(١٥).

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٢٠ : ٤٦) (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢٠ : ٣٦).

كلّا! فلن يكذبوك إلّا ومعهم مصدقوك ، كلا! لا يضيق صدرك فقد شرحناه ، ولا يحتبس لسانك فقد أطلقناه ، كلا! ولن يقتلوك فقد راعيناك «فاذهبا» أنت وأخوك هارون «بآياتنا» التسع إلى فرعون وملإه «إنا» بجمعية الصفات على جمعية الرحمات «معكم» أنتما ومن اتبعكما «مستمعون» قالة فرعون وقومه ، فمجيبون في قال وحال وفعال ف (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٢٨ : ٣٥).

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٧).

هناك «ائت» إذ كان فريدا في رسالته ، فلما زود بوزير له وهو من سؤله ـ إذا ـ «فأتيا» ولأن هذه الرسالة في الأصل واحدة يحملها موسى بموازرة هارون (فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) لا «رسولا» إذ لا اثنينيّة فيها لا في مادة الرسالة ولا في آياتها مهما كانا رسولين كحاملي هذه الرسالة (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) (٢٠ : ٤٧).

٢٥

(فَأْتِيا ... أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) فلم يكن رسولا إلى فرعون وملأه ـ فقط ـ ليدعوهم إلى شرعته ، بل ليطلب ـ بالفعل ـ إطلاق بني إسرائيل عن أسرهم وتسريحهم عن حصرهم (إِنَّا رَسُولُ ... أَنْ أَرْسِلْ) دون «آمن وأرسل» مما يصرح أن هذه الرسالة ليست بالفعل إلّا ناحية منحى السلب ، أن يتخلى فرعون عن بني إسرائيل فإنهم هنا محور الدعوة الرسالية ، وإن كانوا هم ايضا تشملهم هذه الدعوة العالمية كما آمن بها السحرة.

فالرسالة الموسوية ككل هي عالمية مهما بدأت من بني إسرائيل المضطهدين حيث هم حجر الأساس فيها ، وكذلك فرعون وقومه إذ كانوا حجر عثرة للأساس ، ولاتت حين مناص إلّا سلبا لأسرهم بأسرهم حتى يخلوا له جو الدعوة دون معارض مستخف لهم ، مستكبر عليهم ، متفرعن فيهم ، فالسلب دوما يتقدم الإيجاب حتى يحل هو محله من الإيعاب ، فيستتب أمر الشرعة قبولا لها وإقبالا إليها.

أترى ذلك القول الرسالي للطاغية كان قاسيا؟ كلّا حيث القساوة ـ ولا سيما من مثل موسى على سابقته معه ـ ليست إلّا عرقلة في سبيل الدعوة ، وإنما كما في طه وسواها (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٢٠ : ٤٤).

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)(١٩).

أتياه وقالا له ما حمّلاه : دعوى الرسالة ومادة منها سلبية (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) وفي ذلك سلب الربوبية عن فرعون وسلب سلطته عمن يملكهم ، رسالة تهدم صرح السلطة الزمنية والروحية مع بعض ، ومن هو

٢٦

فاعل هذه السلبية القاضية؟ من تربى عند صاحب السلطة وليدا ولبث فيهم عمرا ، ثم وجنى فيهم جناية! ثالوث المهانة فيمن أرسل لهذه السلبية القاسية القاضية.

يا رسول رب العالمين! (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) فكيف تعارض مربيك إلى خلاف ما رباك؟ (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) فأنت إذا عضو منا وقسم ضعيف من كياننا ، فكيف تتفضل علينا؟ (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) حيث قتلت منا قتيلا (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) نعمة الإبقاء إذ ما قتلناك رغم المرسوم الملكي عندنا بتقتيل الولائد من بني إسرائيل ، و (مِنَ الْكافِرِينَ) نعمة التربية ولبثها! و (مِنَ الْكافِرِينَ) بربوبيتي إذ تناسيتها فأجرمت فينا ، ثم أتيت رسولا إلينا تتهدم صرح ملكنا ، بل ومن الكافرين ـ أيضا ـ بربك الذي بعثك إذ كنت عندنا كأحد منا! فكيف تواجهنا هكذا بذلك الوجه الأسود والسابقة السوداء وهو خلاف العقلية والتربية الإنسانية؟.

ثم وعلى أية حال كيف الفرع يفوق الأصل ويتفضل ، وما فضله إلّا منه؟ فكرة خاطئة بين حماقى الطغيان والذين يؤصّلون الموازين المادية بين كل الموازين ، متغافلين عن الأصالة الموهوبة من الله ، فيستغربون ان وليدا بينهم عاشهم سنين يرجع إليهم رسولا من الله.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)(٢٠).

هنا يقدم موسى ثالث ثلاثة من ثالوث الاعتراضات الفرعونية النكدة ، فينكر (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) كفرا وكفرانا في كل الزوايا المعنيّة ، ثم يصرح (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) وتراه : كان ضالا حين فعل فعلته؟ وعماذا؟ فهل هو ضلال عن الايمان؟ وهو كفر ينكره! أم ضلال الكفران؟ فكذلك الأمر! حيث بدل (مِنَ الْكافِرِينَ) إلى (مِنَ الضَّالِّينَ)! فلا كفر له ـ إذا ـ ولا كفران

٢٧

فلا عصيان!

انه ضلال عن الرسالة الحكيمة التي أوتيها بعد فعلته وخروجه إلى مدين ورجوعه إلى مصر حيث أخّر فعلته رسالته دونما علم ولا تقصّد في تلك الفعلة ، أو الضالين عن الطريق حيث دخلت المدينة وما كان لي ان أدخلها (١) وأنا ملاحق في ذلك الجو المحرج ، أو الضالين عن كيفية الدفاع ، فلم آخذ الحائطة فيه حيادا عن القتل ، وذلك ضلال في بزوغ الرسالة غير عامد ، قد اخرها إلى سنين.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٢١).

لقد وهب له ربه حكما قبل الوكزة القاتلة ، دون حكم الرسالة المعصومة العاصمة عن كل الضلالات والزلات كما في القصص : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٤ : ١٦).

هنا (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وهناك (مِنَ الضَّالِّينَ) لا يطاردان أنه أوتي

__________________

(١) البحار ١٣ : ٣٣ في حوار المأمون مع الرضا (ع) قال المأمون جزاك الله يا أبا الحسن فما معنى قول موسى لفرعون (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال الرضا (ع) ان فرعون قال لموسى لما أتاه (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) لي قال موسى (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) عن الطريق بوقوعي الى مدينة من مدائنك (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ...).

٢٨

حكما وعلما فإنهما ليسا هما الرسالة البعيدة عن عمل الشيطان وعن أي ضلال في سبيل الدعوة ، وقد قوبل الحكم في مواضيع عدة بالرسالة والنبوة مما يجعله أعم منهما مهما كان منصبا إلهيا كما كان لطالوت ، ولكنه ليس ليعصم صاحبه عن كافة الزلات والضلالات ، فقد أوتي حكما مع الرسالة بعد ما رجع من مدين وبينه وبين الحكم الأول عشر سنين ، فذلك حكم رسالي ورسالة الحكم ، ليس ليضل معه بعد على طول خط الدعوة ، والأول حكم الدعوة قبل الرسالة قد يضل معه كما ضل.

ثم ولم يكن ضلالة له عن الايمان ولا عن حكم الشرعة الإلهية إذ كانت الوكزة القاتلة في ذلك الاقتتال مسموحا أو فرضا حسب الشرعة ، دفاعا عن نفس محرمة موحدة عن ان تهدر ، مهما هدرت نفس مشركة غير محترمة.

وهنا تقتسم الوكزة إلى أصلها المصيب المشروع فليس ضلالا ، وإلى قتلتها المخلّفة عن قوتها وقد خلفت فرار صاحب الحكم عن الجو الرسالي الآتي وأجل رسالته عشر سنين ، وذلك مقصود وهذا غير مقصود ، وليس عمل الشيطان هنا إلّا غير المقصود ، والمقصود هو عمل الرحمان ، فلم يكن الضلال إلّا في البعد الثاني من وكزته وهي القتلة الناتجة عنها ، غير المقصود فيها ، فلم يرتكب ـ إذا ـ كمؤمن ذنبا ، وإنما ارتكب خطأ رساليا ولمّا يرسل (١) إذا فهو ضلال عن تلك الرسالة السامية في مرحلة ادنى منها مهما

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٨ في عيون الأخبار يسأل مأمون الرشيد أبا الحسن الرضا (ع) فيما سئل أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ـ قال : فما معنى قول موسى لفرعون : فعلتها إذا وأنا من الضالين؟ قال الرضا (ع) : إن فرعون قال لموسى لما أتاه : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ـ قال موسى : فعلتها إذا وانا من الضالين عن الطريق بوقوعي الى مدينة من مدائنك ففررت منكم لما خفتكم» وقد قال الله لنبيه ـ

٢٩

كانت أعلى قمم الايمان ، وكما في رسول الهدى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) في وجه وجيه من وجوهها.

وقد قال حينه (ظَلَمْتُ نَفْسِي) دون «غيري» إذ كان ظلم الانتقاص لعاجل الرسالة دون تقصد (فَاغْفِرْ لِي) سترا عن منعة الرسالة (فَغَفَرَ لَهُ) حيث وفقه للفرار وظل عشر سنين في مدين (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٢٠ : ٤٠) والتفصيل إلى محله.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) ـ : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ..) (٢٨ : ٢١) «يترقب» الفرج ، وان يعجل في آجل الرسالة (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) بعد الحكم الأوّل ـ وطبعا ل ـ فوقه لحدّ (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وأما تربيتي فيكم وليدا ولبثي عندكم من عمري سنين فلم تكن نعمة تمنها عليّ :

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢).

فلو لا تعبيدك بني إسرائيل أسرا وحصرا وقتلا لولائدهم واستحياء لنسائهم لما اضطرت أمي أن تقذفني في التابوت (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ

__________________

ـ محمد (ص) : الم يجدك يتيما فآوى ـ يقول : الم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) يعني عند قومك «فهدى» اي فهداهم الى معرفتك.

أقول : يعني ضلالة بعد القتل عن طريقه المقصودة الى غير المقصود «ودخل المدينة خائفا يترقب» ووجه آخر ذكرناه في المتن ، فلعل هذا الوجه غير وارد عن الامام (ع) حيث يتبع من الوجوه الدلالية القرآنية احسن الوجوه!.

٣٠

فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له. وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني» (٢٠ : ٣٩).

إذا فأنا صنيع الرب وربيّه عندك ، حفاظا ربانيا عن بأسك وأنتم لا تشعرون ، وما كان منكم إلّا قصد الانتفاع مني (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٨ : ٩) وهذا تعبيد لي من وجه آخر غير ما كان لسائر بني إسرائيل.

فأية نعمة تمنها علي وهي في كل زواياها وحواياها تعبيد لبني إسرائيل؟ فالرسم الملكي بتقتيل الأبناء المستثنى فيّ ، كان رسما لتعبيدي انا في وجه آخر ، فحتى لو كانت نعمة منك عليّ ، فهي ليست لتطارد نعمة الرسالة الإلهية وهي أنعم النعم ، فليست قضية النعمة من بشر لبشر نكران أو نسيان النعمة الإلهية الكبرى الرسالية ، على ان كل نعمة تصل العبد فانما هي بتقدير من الله قدّره ، ولا سيما نعمة الحفاظ على نفسي عند أعدى أعاديّ (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ...)!

فهنالك انهدم صرح الحجاج اللجاج الفرعوني صدا عن بازغ الدعوة الموسوية ، فانتقل إلى لجاج آخر في صورة الحجاج :

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٣).

في ذلك الاستجواب العارم نرى فرعون في اعمق الحمق وسوء الأدب ، ونرى موسى يجيبه كريما كأن لم يسمع إلى شطحاته القارصة الراقصة فندرس في هذا الحوار كيف يجب علينا ان نحاور خصومنا الظالمين فضلا عن سواهم من المسترشدين.

«ما» هنا تهوين لساحة الربوبية العالمية ، استنكارا لها زعم انه هو الرب الأعلى فلا أعلى منه ، حتى يرسل رسولا إلى الرب الأعلى!

٣١

إنه لا يعيى عن النكاية بموسى كرسول ، يحاول القضاء على كيان مرسله رب العالمين ، وهل هو ـ فقط ـ سؤال عن الماهية؟ والصيغة الصالحة في الماهية الإلهية هي «من» دون «ما» ثم السؤال عن الماهية ليس إلّا بعد الاعتراف بصاحبها وهو ناكر رب العالمين ، لمكان دعواه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) و (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ...) (٢٨ : ٣٨) فقد كان دهريا لا يؤمن بالله ولا سيما المدعوّ ب (رَبُّ الْعالَمِينَ) فانه ممن يقسم الربوبية بين أرباب عدة ارضية وسماوية ، وهو منهم كما الأصنام منهم : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ..) (٧ : ١٢٧). فحتى لو كان معترفا بوجود الله كرب للأرباب ، فهو ناكر لكونه رب العالمين ، اللهم إلّا عالما له خاصا كما لسائر الأرباب عوالم خاصة.

وقد يكون الطاغية جامعا في سؤاله عن «ما» بين التوهين والاستفهام عن الماهية والكيفية ، فأتى موسى بالجواب الصالح وهو عرض الصفات الفعلية وكما يروى انه لما قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ..) قال فرعون متعجبا لأصحابه : ألا تسمعون أسأله عن الكيفية فيجيبني عن الصفات ...» (١).

إذا فهو سؤال استنكار وتهوين لمكانة من سماه موسى (رَبُّ الْعالَمِينَ) وهنا موسى يضرب الصفح عن تلك المهانة مجيبا عن مكانة رب العالمين ، مبينا سعة العالمين دون اختصاص بعالم دون آخر :

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)(٢٤).

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ١٨١ تفسير القمي قال حدثني أبي عن الحسن بن علي الفضال عن ابان بن عثمان عن أبي عبد الله (ع) قال لما بعث الله موسى الى فرعون ـ إلى ان قال ـ : وانما سأله عن كيفية الله فقال موسى رب السماوات ...».

٣٢

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بأصل الربوبية الأصيلة ، فهي ـ إذا ـ الربوبية العالمية المحلّقة على الكون كلّه المعبّر عنه ب (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) وان لم تكونوا موقنين بأصل الربوبية فالسؤال (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) ساقط من أصله ، إلّا هزء كما هو كذلك ، إلا أن موسى الرسول مهمته ان يهدي الضالين مهما كان سؤالهم متنعتا مستهزء.

ويا له من جواب يكافئ ذلك التجاهل العارم ويغطّيه ، انه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) التي أنت جزء منها ضئيل ، كالذرة أو الهباءة بين شاسع الكون وهائله.

هنا ينبري الطاغية بقولة لاهية لاغية لمن حوله ، يستنصرهم في القضاء على حجة الله البالغة :

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)(٢٥).

ألا تستمعون إلى ذلك التقوّل العجاب ، كيف يجرأ عبد من عبيدي أن يختلق ربا للكون كله ويجعلني ضمنه و (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)! وقد يكفي ردا عليه ادعاءه الجوفاء الخواء أمام الرب الأعلى أنه مرسل اليّ من رب العالمين!

أترى موسى يجيبه عن لاغيته؟ كلّا! بل يمر عليها مر الكرام مستمرا في تعريفه برب العالمين :

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(٢٦).

إن رب العالمين ـ رب السماوات والأرض وما بينهما ـ هو «ربكم» : فرعون وملؤه ، (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فان كنت يا فرعون ربا لمن حولك ومن معك كما تزعم ، فهو (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه ، وأحدّ مراسا لاثبات الربوبية العالمية ، مما يدفع فرعون إلى قولة جنونية تجنّن موسى ، وليسقّطه عن عقلية

٣٣

الحوار ، ويجتثّ الحق عن كل دعاويه :

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٢٧).

وذلك تهكّم في أصل الرسالة ، فقضاء ـ في زعمه ـ على ما يحمله من مواد الرسالة الإلهية ، ضربا عميقا عميما على موسى في الصميم ، كفاحا عن ضربته السياسية والدينية على فرعون في الصميم.

أترى موسى يقابل الطاغية بالمثل قائلا : ان ربكم الأعلى لمجنون؟ كلّا! بل هو يمضي في طريقه قدما كأن لم يسمع قولته الباغية :

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(٢٨).

فإن كنت أنا الرسول المجنون بسند التعريف بالربوبية العالمية ، فمن رب المشرق والمغرب وما بينهما ايها العقلاء إن كنتم تعقلون؟.

أمن العقل نكران خالق العقل والعقلاء ، ونكران الربوبية الوحيدة لهذا النظام المنسّق بنسق واحد ، والمنظم بنظام فارد ، أم الجنون بعينه هو النظام من نتائج فوضى الربوبيات المتشاكسة ، والوئام التام دون تفاوت في الخلق من آثار مختلف الربوبيات الشاسعة!.

إن المشرق والمغرب مشهدان معروضان لكل ذي بصر ونظر ، فهل ان الشروق والغروب هما من تصريفات فرعون وآلهته؟ إنه توجيه وجيه يهز القلوب البليدة المقلوبة هزا ، إثارة لمشاعرهم ، وايقاظا لعقولهم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

ولا يخشى الطغيان ما يخشاه من يقظة الشعوب النائمة ، كالبهم الهائمة ، المحرضة إلى العقل عن الحقائق في كل حقل ، دون تبعية بغبغائية قاحلة ، وتقليدة جاهلة ، ويا له من ترتيب رتيب عجيب في تعريفه برب العالمين ، ابتداء من الأثر العام : (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الظاهر

٣٤

حدوثها ومربوبيتها ، فان ادعي قدمها فالى ما لا ينكر في حدوثه (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) حيث الإنسان مخلوق على أية حال ، ثم استدلالا لوحدة الربوبية بنظام الشروق والغروب ، كالحجة الابراهيمية مع نمرود ، وهذه الثلاث تشترك في التعريف بالآثار حيث الذات الألوهية وصفات الذات لا تعريف لها ذاتيا إلا بالآثار والأفعال وهي صفات الفعل.

ولما ينتهي امر الحوار إلى إيقاظ الشعب ، يترك فرعون حواره العار إلى التهديد :

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)(٢٩).

وهذه نهاية الحوار من كل جبار لا يملك برهنة على جبروته ، قتلا أو نفيا أو سجنا ، ولكيلا يوقظ الجماهير فتتخلّف عن ملكته الجابرة وسلطته العاهرة ، ولأنه يزعمه الرب الأعلى ، لذلك يتناسى الآلهة الأخرى ، ف (إِلهَاً غَيْرِي) يعني الرب الأعلى ، دون الأرباب الأدنين الأخرى ، فانه كانت له آلهة تعبد.

و (مِنَ الْمَسْجُونِينَ) قد توحي أنه كان في ملكه من يعبد إلها غيره كأصل الألوهة ، الله أم سواه ، ام كانوا في التخلف عن السلطة الفرعونية كمثل موسى.

أتراه يجيبه بما أجاب خوفة من السجن؟ وهو استمرار سلفه الصالح يوسف القائل (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)!

انه يحاول إبانة الحق المرام كما يرام ، فلا يشير إلى سجن وسواه حتى يهديه هداه ، ثم وفي نهاية المطاف يستسلم لما يجري في سبيل الدعوة والله هو المستعان على ما يصفون.

وترى موسى بماذا يجيب الطاغية عن تهديده العارم ، انه يوجهه إلى واجهة اخرى خارقة :

٣٥

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)(٣٠).

و «لو» هنا احتياطة عاقلة مع الطاغية ، حيث يحيل ان يكون موسى على حق مبين ، ولكن على فرض المحال (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) يبين حق دعواي اكثر مما بان ، ويبين حق الربوبية العالمية أوضح مما كان ، أفهناك ـ أيضا ـ تهدّدني بالسجن وترميني بالجنون؟.

طبعا لا! وكل ذي حجي مهما تنازل عن حجاه يقول : لا ، فلنجرب الداعية هل يأتي بشيء مبين ، وهنا الطاغية يتطلب اليه ان يأتي بشيئه ، واثقا انه لن يأتي بأيّ من شيئه:

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٣١).

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك الرسالة ، و (مِنَ الصَّادِقِينَ) ان تجيئني بشيء مبين (فَأْتِ بِهِ) تعجيزا لموسى (ع) كأنه من الكاذبين.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٣٣).

آيتان باهرتان قاهرتان تحوّلان جوّ البلاط الفرعوني المتبلّج إلى جو متلجلج ، مما يحمل فرعون إلى خربطة القول ف :

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)(٣٤).

لقد شعر فرعون ـ وهو لا يشعر ـ انه خارقة منقطعة النظير في كل ما رآه من سحرته ، فأحس بضخامتها فوخامتها في وجهه أمام حاشيته ، إذ كادوا يتملقون من حوله ، فحاول التغطئة بهذه التخطئة : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)!

«عليم» مكين في علمه ، ليس كالذين نعرفهم عندنا ، بل (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ..) (٥٠) فموسى هنالك في حواره الذي

٣٦

ألجمه «مجنون» هناك وهنا في شيئه المبين «ساحر» وقد أتم وأطم آية الثعبان واليد البيضاء ، محسوسة ملموسة ، إلى الآيات الفطرية والعقلية ، فالطاغي الذي يتنازل عن عقله وفطرته فلا تفيده البراهين ، ينقّل إلى آيات محسوسة يصدقها حتى المجانين ، ولكن هذه الطاغية ليس ليسكت عن غوغائيات التهم الجارفة ، الهارفة الخارفة :

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ)(٣٥).

فلأنه يرى تثاقلهم إلى أرضهم ، وان هذه السلطة هي بغيتهم الآصلة الحاصلة ، يهددهم بإخراجهم من أرضهم لو اتبعوا هذا الساحر العليم ، وفي ذلك استلاب السلطة الروحية : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) (٢٠ : ٦٣) والزمنية المزيجة بها ، وهذه غاية الشيطنة في الفرعنة.

وقد يبدو من هذه القولة عظمة الآية مهما سماها سحرا حيث يصف صاحبها بانه عليم ، ليس كسائر السحرة ، ويبدو خوفه من تأثر من حوله فيهدّدهم بإخراجهم من أرضهم ، ويبدو تضعضعه وتهاويه أمام هذا الساحر العليم! فيستمد ممن حوله متواضعا متسكعا ـ وقد ادعى انه ربهم الأعلى ـ فيطلب أمرهم ورأيهم في ذلك المأزق الخطير (فَما ذا تَأْمُرُونَ)! ومتى تراه كان يطلب أمرهم وهم له يسجدون؟.

انها شنشنة الطغاة بعد طنطنتهم حين تزل اقدامهم وتضل أحلامهم وتكل افهامهم ، فيلينون في القول بعد الخشونة ، ويتواضعون لأمرهم ورأيهم بكل مرونة بعد العرونة ، ويا له كيدا ما أشطنه في ثالوثه المنحوس : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) حيث استفاد هذه التهمة من السحر ، فقد يجوز ان ينتهي بسحره إلى ذلك الحد القمة (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) وارض الوطن بهذه السلطة القوية المرموقة محبوبة لأهلها كأنفسهم (فَما ذا تَأْمُرُونَ)

٣٧

كلام مرن يحرّك العواطف الدفينة ويغطي على الضغائن الكامنة ، ويستحث الحاشية الملكية على إمعان التفكير لتخليص الملك وإياهم عن ذلك المأزق العميق ، فكانت النتيجة ان :

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)(٣٧).

هنا يشير عليه ملأه آمرين كما تطلّب منهم ، وهم شركائه في فرعنته وصرح سلطته ، وأصحاب المصلحة في بقاء كيانه (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) إمهالا إلى أجل دون عجل ، فإن هامة أمره الإمر تقتضي تروّيا ومحاولة جماعية : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ) المصرية أم وسواها «حاشرين» : جامعين (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) دون سقاطهم ، بل اصطفاء للرعيل الأعلى منهم لإقامة تلك المباراة الساحرة القاضية على هذا السحر العظيم.

لقد كان يعلم فرعون أن له ساحرين ، ولكنه اختلط عقله ، مغلوبا عليه من دهشة الموقف القاهر ، ام لم يكن يرى فائدة وعائدة من جمع السحرة لمعالجة الموقف فاستأمر حاشيته فرأوا رأيهم هذا تأجيلا للفضيحة ، وتغطية عاجلة على الموقف الحاسم.

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٣٨).

وهو (يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٢٠ : ٥٩) كما قرره موسى بما تطلب منه فرعون : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً)(٥٨).

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ)(٤٠).

هنا استعطاف ماكر للناس حيث لا يؤمرون ، وانما يستأمرون : (هَلْ

٣٨

أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) وطبعا (لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) تلحيقا بما فيه هياج الجماهير ، وتحميسهم (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) وهي الغاية المقصودة من ذلك الاجتماع الحاشر (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) و «هم» هنا تؤكد جانب الإثبات في هذه الشرطية المشكّكة ، وهكذا تستحث الجماهير المستخفّة المطاوعة المجيبة لكل ناعق دون تفطّن للغاية الماكرة ، وان الطغاة يعبثون بها ويلهون ، ويشغلونها بهذه المباريات ليلهوها عما تعنيها وتعانيها من كبت دائب ، واحتناك لهم خائب ، دونما حنكة وتعقل ، سيّقة لكل سائق ، سامعة لكل ناعق.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤٢).

هذه قولتهم لأنهم ـ بالفعل ـ عملاء قضية ضغط الموقف ، يستزيدون أجرا على رواتبهم (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) والجواب بطبيعة الحال (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من الحاشية الملكية المتفوقة على سائر الموظفين ، وهذه هي البغية الفرعونية الباغية الغادرة ، فلذلك لا يبخل عن سؤل السحرة ، بل ويزيدهم اجرا معنويا على مادية المسؤول ، وإلى مشهد المباراة المعاكسة للمرام ، المضادة للمرام! :

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ)(٤٤).

تقدّم الاقتراح من موسى (ع) تهدّد لهم هارع وتحدّ بارع ، و (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) يستحث كامل قوّاتهم ، ويستحصل كل قدراتهم في هذه المباراة الحاسمة الجماهيرية ، مستصغرا جموعهم المحتشدة ومعهم القوات الهائلة الفرعونية وأمل الأجل والزلفى ، ومعه ربه سبحانه وتعالى واجره والزلفى وهكذا يجب على كل داعية حق ان يستقدم ما عند داعية الباطل ليقضي

٣٩

عليها من فورها ، ولو أن موسى ألقى قبلهم كان قد ألغى الموقف الجامع حيث يفر الجماهير من ثعبانه فلا يبقى مجال للمبارات ، وقد يؤوّل ما ألقاه انه سحر أعظم ، فلما ألقوا ألغى ما ألقوه بما ألقى من فورهم فغلب الحق وبطل ما كانوا يأفكون.

وليس في تطلّبه سحرهم طلب الباطل ، إذ كان يقصد إبطاله بآيته الإلهية ، وتطلّب ظهور الباطل لإبطاله حق يساند الحق.

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) فلما رأوها تتحرك بكيدهم ، محلّقة الموقف بكل رعب وإعجاب ، مما لم يسبق لهم مثيله بهذه الصورة الجماعية الهائلة ، اشتبه عليهم أمرهم واطمأنوا إلى غايتهم المنشودة كأنما هي الآن حاصلة (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) فان جمع العصي والحبال لا بد وأن تتغلب في سحرها على سحر اليد والعصى الواحدة ، تقديرا ظاهرا وهم عن الحق هم غافلون.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)(٤٥).

فاللقف هو الأكل السريع ، الحاذق الخارق ، فقد أكلت الثعبان المبين كلّ ما يأفكون دونما رجع أو رجيع ، مما يؤكد أنها آية إلهية بعيدة عن السحر ، حيث السحر تخيّل وذلك واقع لا مردّ له ، وغلب سحر على سحر ليس إلا غلب خيال على خيال دونما واقعية مشهودة! ومهما تشكك في واقعه مرتابون ، فليس ليتشكك فيه مهرة الفن : السحرة ، فموقفهم سلبيا أو ايجابيا موقف حاسم لا ينكر له إلا لمن ينكر عقله وحسّه.

وإنها مفاجئة مذهلة غير متوقعة للسحرة ، عصى تنقلب حية تسعى وثعبانا مبينا ، هي لوحدتها تلقف ما يأفكون ، دون ان تبقي لها على أثر.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى

٤٠