الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

النار المرئية لأي راء لرأته اهله معه! وهذه ترجيحة اخرى لما ذكرنا ، ان الهدى الرسالية هي الراجحة ، بل ولأنها كانت هي المترقّبة لموسى وبعد تأجيل ذلك الردح البعيد من الزمن ، فيخبر ـ إذا ـ بهذه الفروسية اللّامعة :

(سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) هنا ، و (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) ـ وكما فصلنا ـ في طه!.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٨).

هنا (فَلَمَّا جاءَها) وفي طه (فَلَمَّا أَتاها ..) وهما تتجاوبان في معنى : حضر عندها ، ثم هنا (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ...) وفي طه (... نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ..) فقد كانت النداء من الشجرة المباركة الزيتونة المحلّقة عليها نار النور ونور النار : كما في القصص : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ (١) فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠).

(.. نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ..).

وترى (مَنْ فِي النَّارِ) هو الله سبحانه وتعالى ، بذاته المقدسة المتعالية عن الحدّ والمكان؟ و «بورك» الرامية إلى حادث البركة على من في النار تبعده عن ساحته تعالى ، تقريبا إلى من باركه الله في هذه النار ، كما و (سُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تسبحه وتنزهه عن ان يحل في نار أو نور هي من مربوبيه وهو رب العالمين ، فقد متّى المتى فليس له متى ، ومكّن المكان فليس له مكان!

ام (مَنْ فِي النَّارِ) هو من ظهر سلطانه وقدرته ورحمته في النار؟ ولا يعبر عن سلطانه ورحمة ب «من»! ولا تحلّ قدرته في شيء ، نارا ام غير نار! فلا تعني (مَنْ فِي النَّارِ) لا ذاته سبحانه ولا صفاته ، حيث البركة هي منه

١٤١

إلى خلقه ، فكيف «بورك»؟ ومن هو الذي باركه؟ ام بارك نفسه ما لم يكن باركها من ذي قبل! (سُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)!

قد يعني (مَنْ فِي النَّارِ) روح القدس ، المبارك هنا بحمل الوحي الرسالي لموسى ، ف «من حولها» هو موسى حيث بورك بذلك الوحي.

ام (مَنْ فِي النَّارِ) هو موسى بمن معه من وسيط الوحي أم ليس معه ، حيث «أتاها» فحصل في جو النور النار ، ف «من حولها» هم الأنبياء الإسرائيليون الذين بوركوا بوحي السماء وهم مدفونون حول الواد المقدس ، في القدس وما حولها.

وعلى أية حال فلا تخلوا هذه البركة الخاصة في «بورك» عن وسيط الوحي ومن أوحي اليه ، والمحور الأصيل هنا هو موسى ، دون ذات الله او صفاته تعالى (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عن هذه الشطحات الزور والغرور!.

إنها نور كانت تترائى نارا قضية ظلم الليل وعدم وضح الوحي فيه ، نور وقّادة خلقها الله على الشجرة المباركة في الواد المقدس ، ولقد مضت هذه البقعة في سجلّ الوجود في الكيان الرسالي مباركة مقدسة بتجلي الوحي الموسوي فيها ، تلقيا لوحي التورات كما (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ٩.

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ...) (٢٠ : ١٣) ـ (.. نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ٣٠ :

«إني أنا ربك ـ الله رب العالمين ـ العزيز الحكيم» تلمح كمجموعة ان

١٤٢

صيغة النداء كانت تشملها كلها ، فمثلت التعبير مطوي فيها ، وفي كل مجالة من عرضها تأتي ما تناسبها من هذه الثلاث.

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ١٠.

«لدي» هنا تعني لدنية القرب في القمة المعرفية الرسالية ، إذ يلقّى فيها الوحي ، لا فحسب العلم والقدرة إذ يشملان كل كائن أيا كان وأيان ، و «جان» هي الحية الصغيرة الناعمة ، فقد اهتزت عصاه بشاكلة كأنها جانّ على كبرها حية تسعى ف (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) خوفة منها ، فإذا بخطاب رب العزة (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ولقد كان من حقه أن يخاف جانّ العصا ولمّا يتقدم من ربه الأمن وألّا يخف ، إذ كانت عصاه سلاحه الذي يدفع به ، فإذا هي حية تسعى ، فلا قرار ـ إذا ـ إلّا الفرار من عصاه المقلوبة من أمنه وتأمينه إلى بأسه ، وقد ظلم نفسه من ذي قبل : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ..)!.

وترى ان «لا تخف» إخبار عن واقع يستغرق كل المرسلين قضية الرسالة وانهم «لدي»؟ فلما ذا خاف موسى هنا ـ وقد بدأت رسالته بالوحي الرسالي ـ من آيته الرسالية؟ وذلك تكذيب لما أخبر الله به (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ ..) أو تكذيب ـ لكونه رسول الله! ألأنه لم يكن «لدي»؟ وهو لدى الله في موقف الوحي الرسالي بآية من آياته! أم لم يكن حينه من المرسلين؟ وهو رسول بسند الوحي وآية الرسالة ، ام ان هذه الضابطة مخصصة في موسى؟ وهي آبية عن التخصيص! ولو خصصت فلما ذا إذا «لا تخف» سنادا إلى نفس الضابطة : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)!.

علّه داخل في المستثنى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) : انتقاصا قبل الرسالة :

١٤٣

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٢٨ : ١٦).

فقد ظلم نفسه من قبل دونما تقصير ثم بدل حسنا بعد سوء فغفر له ربه ، إذا فقد يكون من :

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ١١.

فهو بعد غفره تعالى لا يخاف لدى الله فيما يأمره به الله مهما ظهر جانا أو ثعبانا ، بل هو من الآمنين : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) مهما كنت قبل (مَنْ ظَلَمَ) ولكنك بدّلت بعد حسنا بعد سوء (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ف «لا تخف» المعلل ب (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) هناك ، وب (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ..) هنا ، نهي عن خوفه من ظلمه لمكان غفره تعالى ، وكأنه خيّل إليه الجان المحوّل عن عصاه ، عساه جزاء عن ظلمه ، غضا عن غفره وتعالى تطامنا وتذللا.

وانقطاع الاستثناء هنا لا يرجع إلى معنى صالح فانه «لا يخاف .. إلا من ظلم ثم غفر» وليس للمغفور له أن يخاف كما ليس لغير الظالم ان يخاف ، فانما الخائف هو الظالم غير المغفور له وهو خارج عن نص الآية.

وقد يقال (لا يَخافُ .. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ) ولمّا يغفر له ، فلا يخفف (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)؟ ولكن حصر الخوف لدى الله بمن بدل ، حسر له عمن ظلم ولم يبدّل وهو أحق أن يخاف لدى الله!

ف (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) اخبار حال كونها إنشاء لسلب الخوف لدى الله عن ساحة المرسلين ، وحتى من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فاني غفور رحيم ، فهو إذا من الآمنين ، ليس له ان يخاف لدى الله بعد ذلك الغفر الأمين.

١٤٤

ويا له من مسرح الخوفة المولية له مدبرا دون تعقيب ، إذ ألقى عصاه فإذا هي تدب وتسعى بسرعة هائلة كأنها جان ، فأدركت موسى طبيعة الانفعالية ، وهزّته هزّتها المفاجئة التي لم تك تخطر ببال ، وهو في تلك الحال المباركة (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) فيجري في جريه مولّيا دون تفكير في الرجوع ، فيأتيه النداء الحنون المنون (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ..) وهذه ضابطة شاملة انه انما يخاف لدى الله «من ظلم» ثم لم يبدل حسنا بعد سوء ، وهلّا يخاف غير الظالم الله كما لا يخاف لدى الله؟ طبعا يخاف الله ويخشاه حيث الخوف والخشية من الله هما قضية الضعة الكاملة أمام الله ، ف (لا يَخافُ لَدَيَّ) لا تنفي إلا الخوف عما يخيف من الكائنات المخيفة كحية العصا أمّاذا؟ جزاء الظلم ، فامّا الله ف (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) بالله ، العارفين قدر الله.

خوف وخشية عن الله هما قضية العلم بالله ، وخوف لدى الله ام سواه عما سوى الله هو قضية عصيان الله ، ف«من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شي» (١).

فقد كان يخاف موسى لما ظلم نفسه (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤ : ٢٨) ، وهذا خوف من غير الله قضية الانتقاص بجنب الله.

ثم هنالك خوف من الله قضية العلم بالله (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣ : ١٧٥) (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (٧٦ : ٢٠) أم خوف في الله حفاظا على شرعة الله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (٨ : ٥٨).

__________________

(١) عيون الأخبار عن الامام الرضا (عليه السلام).

١٤٥

فهنا خوف صالح وخوف طالح وعوان بين ذلك ، وموسى ينهى عن العوان ، وكلنا منهيون عن طالحه الى صالحة.

والآن بعد ذلك الحنان من الرب المنان ، وقد اطمأن موسى الى أمن الحضور ورحمته يؤمر مرة ثانية بآية أخرى :

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ١٢.

لماذا «في جيبك» دون كمّك الداخلة يدك فيه دونما حاجة إلى إدخال؟ علّه لم يكن له كم فليدخلها في جيبه ، ام ليتأكد انها أصبحت (بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) وإلّا فعلّها كانت في كمه ، ومنذ فترة قصيرة بيضاء من سوء برص ، فلا يجديه نفعا : «وأخرج يدك من كمك»!.

ثم (فِي تِسْعِ آياتٍ) هل تعني كل الآيات الموسوية وهي اكثر منها؟ كلّا ، وإنما هي التي (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)(١) دون الباقية الخاصة ببني إسرائيل كما فصلناها في الأسرى على ضوء : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...)(١٠١). ولم يأت هنا بعديد الآيات التسع إلّا ثنتين والسبع الأخرى مسرودة في الأعراف؟ حيث التركيز على قوة الآيات وهما نموذجتان من اقواهما لنعرف المكذبين بها ما أغواهم.

وقد تعني (فِي تِسْعِ آياتٍ) اليد والعصا ، حيث التسع كلها ظهرت

__________________

(١) والتسعة هي : ١ ـ اليد البيضاء ، ٢ ـ ثعبان العصا ، ٣ ـ الطوفان ، ٤ ـ الجراد ، ٥ ـ القمل ، ٦ ـ الضفادع ، ٧ ـ الدم ، ٨ ـ ضرب الأموال بنقص وطمس وأخذهم بالسنين ، ٩ ـ فلق البحر.

والآيات الخاصة ببني إسرائيل هي : ١ ـ نتق الجبل ، ٢ ـ تفجير اثنتي عشرة عينا ، ٣ ـ المن والسلوى.

١٤٦

منهما ، إذا فهما التسع في الأصل وكل التسع فروعها.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ١٣.

ولماذا «هذا» و «آياتنا» تتطلب «هذه»؟ علّه لأنها قولتهم الهاتكة لها دون قول الله ، فهم تغامضوا عن عديد الآيات ، وحتى عن أنها آية إلهية ، فلم يعتبروها إلّا شيئا وامرا مّا غير خارق للعادة ، رغم انها مبصرة لمن ابصر إليها وبها ، ولكنهم كانوا قوما عمين ف (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) لا ريب فيه حيث يبين سحره للناظرين ، وقد سبق لهم المسرح العظيم من صراع السحرة مع موسى في محشر الناظرين ، وثبت للساحرين أنفسهم ان ما جاء به موسى آية بينة من رب العالمين!

ولماذا مبصرة ، وكل آيات الله مبصرة؟ علّها توصيفة تأكيدية لفرقة وتبيينية لآخرين! أم أن الآيات غير المبصرة حسيا أبعد عن الحجة وان كانت اقرب الى المحجة واثبت ، وآيات موسى كلها مبصرة.

ولماذا «مبصرة» والإبصار إنما هو للناظرين؟ علّها مبالغة في وضوحها كأنها هي التي تبصر الناظرين لشدة لمعانها ، فتجلب الناظر لينظر إليها ، إذا فهي مبصرة في ذاتها ، دون حاجة إلى دافع آخر ، لكونها خارقة للعادة بينة لا غبار عليها.

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ١٤.

هؤلاء الأغاد المناكيد (جَحَدُوا بِها) : الآيات المبصرة «و» الحال انهم (اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) حيث تجاوزت أبصارهم إلى عقولهم ، وشملت أنفسهم اللهم إلّا قلوبهم المقلوبة عن الهدى ، المليئة من الردى ، (جَحَدُوا بِها) لا عن اقتناع أو شبهة فيها أو ريبة تعتريها ، وانما (ظُلْماً وَعُلُوًّا) جحدا بألسنتهم

١٤٧

رغم استيقان أنفسهم ، حيث القلوب قاسية لا تحن إلى هدى مهما استيقنت النفوس.

ف «أنفسهم» هنا لا تشمل قلوبهم ، فان ظنها فضلا عن استيقانها يحمل أصحابها على التصديق.

وقد يلمح هنا الاستيقان دون الإيقان إلى استثناء قلوبهم عن أنفسهم ، فقد كانت حواسهم وافكارهم وعقولهم ومعها فطرهم تتطلّب ايقان قلوبهم لأنها ذرائع الايمان والإيقان ، ولكنهم (جَحَدُوا بِها) بألسنتهم وقلوبهم (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) بسائر ادراكاتهم ، تغافلا عنها وتجاهلا عن تطلباتها ، «ظلما» بأنفسهم وبالحق والذرائع الموصلة اليه ، فقد ظلموا حواسهم الى فطرهم وفكرهم وعقولهم ، وتنازلوا عن استيقانها لقلوبهم ، «وعلوا» على الله ورسله برسالاته ، فذلك الظلم الفاتك عبّد طريقهم إلى علوّهم ، فصدوا منافذ الهدى عن قلوبهم ، وفتحوا مسالك الردى إليها فختم الله عليها بما ظلموا وعلوا!.

هذه الآيات المبصرة كانت مستيقنة تطلب اليقين ، ثم وحواسهم بسائر ادراكاتهم كانت تستيقن هذه الآيات تطلبا ليقين القلوب ، ولكنهم (جَحَدُوا بِها ... ظُلْماً وَعُلُوًّا) تنازلا وتغافلا عن كل ادراكاتهم وحتى الحسية الحيوانية ، فهم أصبحوا أنزل من الحيوان وأنذل وأضل سبيلا ، حيث تحلّلوا عن كافة الإحساسات والنفسيات انسانية وحيوانية!.

وذلك هو أسفل دركات الجحود بالحق (١) «فانظر» عبر التاريخ (كَيْفَ كانَ

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٧٥ بسند متصل عن أبي عمر الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز وجل ، قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه فمنها كفر الجحود على وجهين ـ الى قوله ـ : واما الوجه الآخر ـ

١٤٨

عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) نظرا إلى مهالكهم بما ظلموا وعلوا (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فقد أفسدوا ذوات أنفسهم ، وأفسدوا بذلك البلاد ومستضعفي العباد!.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ

__________________

ـ من الجحود على معرفة وهو ان يجحد الجاحد وهم يعلم انه حق قد استقر عنده وقد قال الله عز وجل : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ..

١٤٩

صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ

١٥٠

إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)

١٥١

قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٤)

عرض حافل لملك سليمان وسلطته الروحية الرسالية مع الجن والأنس والطير فهم يوزعون ، في حلقات من حياته المنقطعة النظير مع الطير والنمل وملكة سبإ ، تبرز سلطته الملكية بجنب سلطانه الرسالي ، تبيينا لعدله في

١٥٢

سلطانه الجامع غير الجامح ، قصصا حافلة بحركات ومشاعر ومشاهد ، نبراسا ينير الدرب على الزعماء في كل حقل كيف يجب عليهم رعاية الرعايا والتجنب عن الخطايا :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) ١٥.

«لقد» تأكيدان اثنان لوهبة العلم الربانية ، و «آتينا» في جمعية الصفات تاكيدة ثالثة تلمح لمختلف صنوف العلوم الربانية ، الممكن ايتاءها للصالحين الخصوص ، ثم «علما» منكرا تأشير إلى فخامة ذلك العلم ، كما و «آتينا» تشير إلى انه ليس مما يحصل بتحصيل متعوّد ، بل هو إشراق رباني الى قلوب الطاهرين على قدر الفاعليات والقابليات «علما» ومعرفة بالله يتبع العقيدة الصالحة والعمل الصالح «علما» يعلم صاحبه مصدره ، متجها إلى الله ، منفقا له في مرضات الله ، مقرّبا له إلى الله ، دونما صدّ للقلب عن الله ، زائغا عن مصدره ومورده ، لا يثمر إلّا شقاوة ، لأنه منقطع الصلة صادرا وواردا ، وبعيدا عن النور مادة.

وهنا نعرف موقف الواو في (وَقالا ...) كأنها عطف على محذوف معروف من «علما» هذا ، وهو العقيدة الصالحة والعمل الصالح : (آتَيْنا ... عِلْماً) ـ فاعتقداه وعملا به (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ ..) فذلك الحمد باللسان يتبع الحمد بالجنان والأركان ، شكرا على عطية الملك المنان ، و «فضلنا» ليس فقط في مجرد العلم ، إذ لا فضل في مجرده عن أثماره ، بل هو الذي قال الله عنه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ـ : بالله و (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) علم التقوى والتقوى في العلم ، جناحان يطير بهما العبد الصالح إلى قمم المعرفة والكمال.

١٥٣

ثم وليس «فضلنا» هنا ـ فقط ـ بما علمنا مجردا عما يرام منه مادة وفاعلية ، بل «فضلنا» بما يفضّل عبادا على عباد وقمته التقوى ، و (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) تعقيبة رقيبة على ذلك التفضيل في علم وسواه ، انه في العبودية والايمان ، دون العلم الفاضي عنهما ، وانما هو الفائض منهما ، الصادر عنهما ، والوارد موارد الحق المرام فيهما.

ولقد أشير إلى العلم المؤتى لداود في (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٣٨ : ٢٠) ولسليمان (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٢١ : ٧٩) فهما المؤتيان حكما وعلما ، يشملان قمما معرفية عالية فضّلا بها على كثير من عباده المؤمنين.

اجل وهم من القلة القليلة بين (عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٥٦ : ١٤) فتلك الثلة وهذه القلة هم القلة القليلة (مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

ومن فضل داود المشار إليه ب «فضلنا» : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (٣٤ : ١٢).

فقد كان داود يرتل مقاطع من الزبور فيتجاوب به ذرات الكائنات من حوله ، مما يدل على العبودية العريقة القمة ، وسليمان المسخر له الريح والجن والإنس بأمر الله قضية طاعة الله كما قال الله : عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي انا أقول للشيء كن فيكون ، أجعلك تقول للشيء كن فيكون!

لذلك لمّا «سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أفضل الأعمال فقال : العلم بالله والفقه في دينه وكررها ، عليه ، فقال : يا

١٥٤

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسألك عن العمل فتخبرني عن العلم فقال ان العلم ينفعك معه قليل العمل وان الجهل لا ينفعك معه كثير العمل» (١).

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) ١٦.

«ورث» هنا لا تعني ارث النبوة ، بل هو هنا المال ، فالنبوة ليست لتورث لأنها وهبة إلهية كما هنا (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) فالله هو الذي علم سليمان كما علم داود فلا مجال لأرثه عنه بعد ما آتاه الله ، إلّا تحصيلا لحاصل ومن غير مصدره!

فالمال يورث بما فرضه الله كضابطة لا تستثنى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..) إرثا دون تحصيل ، ثم العلم غير الرسالي قد يورث ولكنه بتحصيل كما «العلماء ورثة الأنبياء» تعلما منهم ، ولكنهما النبوة لا تورث إذ لا تحصل بتحصيل ، وإنما هي وهبة إلهية لا تنتقل من نبي إلى نبي ، بل هي عطية ربانية لمن يشاء : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فطالما العلم مصداق مجازي هامشي للإرث ، فالنبوة غير داخلة في ميراث ولا مجازيا (٢) فكيف يختص هنا الإرث بالنبوة توجيها لغصب فدك

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٢٦.

(٢) اللهم إلّا مجازا بعيدا وضمن سائر الميراث ، بمعنى ان الله تعالى أورث نبيا مثل النبوة السالفة ام فوقها ام دونها ، وبين النبوة والميراث عموم من وجه ، فقد يكون الابن نبيا دون أبيه أو يكون الأب نبيا دون ابنه فلا ميراث هنا وهناك أو يكون الأب والأبن نبيين ولكن النبوة الثانية ليست في الحق ارثا من الأولى إلا بمجاز بعيد عن حقيقة الإرث ومجازه القريب.

وحتى إذا عم الإرث النبوة إلى المال فليس ليختص بغير المال على أية حال.

١٥٥

البتولة الزهراء (عليها السلام) سنادا إلى مختلقة مخالفة لكتاب الله «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة»! وكما يروي الحجاج بهذه الآية واضرابها عن الزهراء سلام الله عليها بين جماهير المسلمين في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخليفة أبي بكر(١) :

__________________

(١) وقد أخرجت بألفاظ تالية : «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها اغضبني» «.. يؤذيني ما آذاها ويغضبني ما أغضبها» «.. يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها» «.. يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها» «.. يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» «.. يسعفني ما يسعفنا ـ و : «فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها» «فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني» «.. يقبضني ما قبضها ويبسطني ما بسطها» «.. يسرني ما يسرها».

اخرج على اختلاف ألفاظها أئمة الصحاح الست وعدة اخرى من رجال الحديث في السنن والمسانيد والمعاجم وإليكم جملة ممن رواها : ١ ـ ابو محمد ابن عيينة الكوفي المتوفي ١٩٨ كما في الصحيحين. ٢ ـ ابن أبي مليكة ١١٧ في رواية البخاري ومسلم وابن ماجة وابن داود وأحمد والحاكم. ٣ ـ ابو عمر بن دينار المكي ١٢٥ كما في صحيحي البخاري ومسلم. ٤ ـ الليث بن سعد المصري ١٧٥ كما في اسناد ابن ماجة وابن داود واحمد.

٥ ـ ابو النضر هاشم البغدادي ٣٠٥ مسند أحمد. ٦ ـ احمد بن يونس اليربوعي ٢٢٧ كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود. ٧ ـ الحافظ ابو الوليد الطيالسي ٢٢٧ صحيح البخاري. ٨ ـ ابو المعمر الهذلي ٣٣٦ صحيح مسلم. ٩ ـ قتيبة بن سعيد الثقفي ٢٤٠ مسلم وابو داود. ١٠ ـ عيسى بن حماد المصري ٢٤٨. ١١ ـ ابن ماجة. ١٢ ـ احمد بن حنبل ٢٤١ في مسنده ٤ : ٣٢٢ و ٣٢٨. ١٣ ـ البخاري في صحيحه ٥ : ٣٧٤. ١٤ ـ مسلم ٢٦١ في صحيحه ٢ : ٢٦١. ١٥ ـ ابن ماجة في سننه ١ : ٢١٦. ١٦ ـ ابو داود في سننه ١ : ٣٢٤. ١٦ ـ الترمذي في جامعه ٢ : ٣١٩. ١٧ ـ الترمذي في نوادر الأصول ٣٠٨. ١٨ ـ النسائي في خصائصه ٣٥. ١٩ ـ ابو الفرج الأصبهاني في الأغاني ٨ : ١٥٦. ٢٠ ـ النيسابوري في المستدرك ٣ : ١٥٤ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ـ وإلى (٤٩) شخصا ذكرهم العلامة الأميني في الغدير ٧ : ٢٣١ ـ ٢٣٥.

١٥٦

«أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول الله تبارك وتعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) وقال عز وجل فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) وقال عز ذكره (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقال (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وزعمتم ان لا حظوة لي ولا ارث من أبي ولا رحم بيننا ، افخصكم الله بآية أخرج نبيّه منها؟ أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟ أأغلب على إرثي ظلما وجورا (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١).

ورواية أبي بكر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ،» مضروبة عرض الحائط لمخالفتها نصوصا من الكتاب ، فانها معلّلة عدم الايراث بالنبوة ، (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) واضرابها تورّث الأنبياء بعضهم عن بعض! اضافة إلى المتواتر عن

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦ نقلا لها عن كتاب «بلاغات النساء لأبي الفضل احمد بن أبي طاهر قائلا انها من المشهورات بين الفريقين وفي كتاب الاحتجاج روى عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه عليهم السلام انه لما اجمع ابو بكر على منع فاطمة فدك وبلغها ذلك جاءت اليه وقالت له : يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا ارث أبي لقد جئت شيئا فريا ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ...

١٥٧

الرسول في فاطمته أن أذاها أذاه ورضاها رضاه وقد تأذت ووجدت من فعلة الخليفة (١).

ذلك ارث المال ، واما الحال فلا ارث فيها وهي المذكورة قبل (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ..) وكذلك بعد في قسم من قضاياها (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وَأُوتِينا .. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

ولو كانت هذه مما ورثه داود لم يكن للواو مجال في «وقال» بل الصحيح إذا : قال ، ام : فقال ..

(.. وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ...).

هنا نعرف ان للطير منطقا ، فليس الإنسان هو الحيوان الناطق بين الحيوان ، ولكن كيف تنطق الطير وماذا؟ إن علمه بحاجة إلى تعليم رباني يختص بأمثال سليمان ممن آتاهم الله علما.

__________________

(١) في نور الثقلين ٤ : ٧٥ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب وذكر مسلم عن عبد الرزاق عن معمّر عن الزهري عن عروة عن عائشة وفي حديث الليث بن سعد عن عقيل عن ابن عروة عن عائشة في خبر طويل تذكر فيه ان فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأل ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القصة ـ قال : فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت ولم يؤذن بها أبا بكر يصلي عليها.

واخرج البخاري في باب فرض الخمس ٥ : ٥ عن عائشة ان فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألت أبا بكر الصديق بعد وفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أفاء الله عليه فقال لها ابو بكر : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا نورث ما تركنا صدقة ـ فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرة حتى توفيت.

أقول : ما تركنا صدقة قد تعني ان ما تركناه صدقة لا نورثها ، لا وما تركناه غيرها.

١٥٨

وهل ان الطير ايضا علّمت منطق سليمان إذ كلمته هدهد في حوار؟ طبعا نعم! وإلّا فكيف عرفت مقال سليمان ثم أجابت «فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ

__________________

واخرج في الغزوات باب غزوة خيبرة ٦ : ١٩٦ عن عائشة قالت : ان فاطمة (عليها السلام) ـ الى ان قالت ـ : فأبى ابو بكر ان يدفع الى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها.

واخرج مثله مسلم في صحيحه ٣ : ٧٢ واحمد في مسنده ١ : ٦ ، ٩ والطبري في تاريخه ٣ : ٢٠٢ والطحاوي في مشكل الآثار ١ : ٤٨ والبيهقي في سننه ٦ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ وكفاية الطالب ٢٢٦ وتاريخ ابن كثير ٥ : ٢٨٥ وقال في ٦ : ٣٣٣ : لم تزل فاطمة تبغضه مدة حياتها ، وذكره بلفظ الصحيحين الديار بكري في تاريخ الخميس ٢ : ١٩٣.

ولقد بلغت من موجدتها انها أوصت بان تدفن ليلا وان لا يدخل عليها احد ولا يصلي عليها ابو بكر فدفنت ليلا ولم يشعر بها ابو بكر وصلى عليها علي وهو الذي غسلها مع اسماء بنت عميس : (طبقات ابن سعد ـ رسائل الجاحظ ٣٠٠ ـ حلية الأولياء ٣ : ٤٣ ـ مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٣ ـ طرح التثريب : ١ : ١٥٠ اسد الغابة ٥ : ٢٥٤ ـ الاستيعاب ٣ : ٧٥١ ـ مقتل الخوارزمي ١ : ٨٣ ـ ارشاد الساري للقسطلاني ٦ : ٣٦٢ ـ الاصابة ٤ : ٣٧٨ ـ ٣٨٠ ، تاريخ الخميس ١ : ٣٢٣).

وقال الواقدي كما في السيرة الحلبية ٣ : ٣٩٠ ثبت عندنا ان عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله عنها ليلا وصلى عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها أحدا.

ومن جراء تلك الموجدة منعت ان تدخلها يوم ذاك عائشة كريمة أبي بكر فضلا عن أبيها فجاءت تدخل فمنعتها الأسماء فقالت. لا تدخلي ، فشكت إلى أبي بكر وقالت : هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقف ابو بكر على الباب وقال يا اسماء ما حملك على ان منعت ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يدخلن على بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صنعت لها هودج العروس؟ قالت : هي امرتني ان لا يدخل عليها أحد وامرتني ان اصنع لها ذلك ـ راجع (الاستيعاب ٣ : ٧٧٢ ـ ذخائر العقبى ٥٣ ـ اسد الغابة ٥ : ٥٢٤ ـ تاريخ الخميس ـ

١٥٩

به» إلا انه ليس لزامه ان الهدهد تفهمت لغة الإنسان من سليمان ، فالذي علّم منطق الطير يعلم نطقها ويعلم كيف ينطق معها نطقها ، و (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) تشمل النطق بلغتها بجنب تفهّمها لغته ، بل لا فكاك بين ان يفهم منطقها وبين أن ينطق به.

وكما «علّمنا ..» تشمل العلمين سماعا وتكلما ، كذلك «الطير»

__________________

ـ ١ : ٣١٣ ـ كنز العمال ٧ : ١١٤ ـ شرح صحيح مسلم للسنوسي ٦ : ٢٨١ ـ شرح الآبي لمسلم ٦ : ٢٨٢ ـ أعلام النساء ٣ : ١٢٢١.

وقد اخرج ابن قتيبة والجاحظ ان عمر قال لأبي بكر انطلق بنا إلى فاطمة فانا قد أغضبناها فانطلقا جميعا فاستأذن على فاطمة فلم تأذن لهما فأتيا عليا فكلماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام فتكلم ابو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والله ان قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحب الي من قرابتي وإنك لأحب الي من عائشة ابنتي ولوددت يوم مات أبوك متّ ولا أبقى بعده أفتراني أعرفك واعرف فضلك وشرفك وامنعك حقك وميراثك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا إني سمعت أباك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة ، فقالت : أرأيتكما ان حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتفعلان به؟ فقالا : نعم فقالت : نشدتكما الله الم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد احبني ومن ارضى فاطمة فقد ارضاني ومن أسخط فاطمة فقد اسخطني؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : فاني اشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما ارضيتماني ، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما اليه ، فقال ابو بكر : انا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب ابو بكر يبكي حتى كادت نفسه ان تزهق وهي تقول : والله لأدعون عليك في كل صلاة أصليها ، ثم خرج باكيا فاجتمع الناس اليه فقال لهم : يبيت كل رجل معانقا حليلته مسرورا بأهله وتركتموني وما أنا فيه لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي.

١٦٠