الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

احمل أحدا على الهدى إذ ما علي إلّا البلاغ إنذارا وتبشيرا.

وحين تنحصر الرسالة الاسلامية ـ بعد توحيد العبادة والإسلام لله ـ ب (أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) فما دور السنة أمام القرآن ، إلا دورا هامشيا لتلاوة القرآن إيضاحا له وتبيينا.

وملا تلاوة سنته الموحاة اليه عليهم إلا تلاوة القرآن القائل (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) أمّا شابهما من آيات.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ٩٣.

«وقل» : أظهر قالا وحالا واعمالا ان «الحمد» كله «لله» لا سواه ، حيث النعم كلها من الله لا سواه ، وكما أراكم آياته من ذي قبل (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) من بعد ، كآية الدابة التي تكلمهم يوم الرجعة ، وسواها من آيات يوم الدنيا وما بعدها ، «فتعرفونها» شئتم أم أبيتم ، ولم يك ينفعكم ايمانكم عند آيات العذاب لا في الأولى ولا الأخرى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)؟ (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ..).

٢٨١
٢٨٢

سورة القصص مكية

وآياتها ثمان وثمانون

٢٨٣
٢٨٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ

٢٨٥

أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

٢٨٦

هذه من الطواسين الثلاث في حروفها الثلاثة المقطعة ، وتماثل القصص مع الشعراء في (طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يجعل السورتين متشابهتي الأهداف ، ومنها قصص موسى المسرودة هنا بصورة مفصلة أكثر مما في الشعراء ، وعلّها لذلك تتسمى بالقصص حيث الجو الغالب عليها القصص وكأنها سورة موسى إذ تأتي بصورة ووضاءة لموسى منذ الولادة حتى الرسالة وإلى نهاية أمره ، وهي تقدمات وطمأنينات للرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) كأصل تتمحوره السورة في قصصها ، انتقالا حثيثا من الرسالة الموسوية بآياتها إلى الرسالة المحمدية بآياتها الخالدة القرآنية.

تنزل القصص في مكة والمسلمون قلة مستضعفة والمشركون ثلة قوية مستكبرة ، ولكي يطمئن المؤمنون القلة يأتي بسرد شامل لقصص موسى وفرعون وقارون ، ليعرفوا أن ليست القوة مع الجاه والمال والمنال ، بل إنّما القوة لله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

وآية الوعد لرده (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى معاد آية أنها نزلت في أحرج المواقف لرسول الهدى ، فلم تنته السورة إلّا وقد أحرجوه فأخرجوه عن أم القرى ، فكما الله رد موسى إلى أمه : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) كذلك نردك إلى أم القرى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨٥) واين رد من رد؟.

(طسم ١ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ٢ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ٣.

الأوليان من هذه الثلاث مفسرتان في الشعراء ، و «نتلوا» في الثالثة من التلاوة القراءة لتتلوا متابعة ككل ومنها القراءة على الكل ، والنبأ خبر ذو

٢٨٧

فائدة عظيمة ، و «من» تبعّضه عناية إلى أهم الحلقات من ذلك النبإ كما هو اللائق بالذكر الحكيم ، وهنا المتلو عليه هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي يتلوه على كل المرسل إليهم ، ولكنه بالمآل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فمن آمن من قبل يزداد به ايمانا واطمئنانا ، ومن يتحرّى عن ايمان ولمّا يؤمن ـ إذ فيه مادة الايمان وقابليته ـ فهو يكسب ايمانا ، و «يؤمنون» يشملهما.

أجل وإن هذه التلاوة لذلك النبإ تلقي ظلال العناية والاهتمام التام (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، دون الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذه تكرمة ربانية (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أن الله يتلوا الأنباء الرسالية على رسوله لأجلهم لأنهم هم المستفيدون ، وكما القرآن ككل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مهما كان القصد منه هداهم أجمعين كحجة على كافة المكلفين ، كذلك أنباءه الرسولية والرسالية هي (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والآخرون هم الخاسرون ، و «بالحق» هنا قد تتعلق ب (نَتْلُوا .. نَبَإِ .. يُؤْمِنُونَ) نتلوا بالحق ـ نبإ موسى وفرعون بالحق ـ لقوم يؤمنون بالحق ، والباء هنا تعم السببية والمصاحبة ، تلاوة النبإ لقوم يؤمنون في مثلث الحق.

نبأ موسى يبدأ في الأغلب من حلقة الرسالة ، وهنا يبدأ من الولادة إلى الرسالة وإلى النهاية ، فانه عرض كامل كافل شامل كل الحلقات الحيوية لموسى ، والعمليات المضادة من فرعون ، لتصبح درسا حافلا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وليعلموا أن الشرّحين يتمخض ويتمحض يحمل هلاكه ودماره في نفس ذاته ، إذ تتدخل القدرة الرحيمة الربانية لتأخذ بأيدي المستضعفين فتجعلهم أئمة وتجعلهم الوارثين ، وهنا حلقات خمس من عرض النبإ بين قصيرة وطويلة كلها قاصدة راشدة ، حلقة المولد وما أحاط به من قاسية راسية فرعونية ،

٢٨٨

وعناية ربانية ، ثم حلقة الفتوة وملابساتها في الجو الفرعوني ، ثم حلقة النداء الرسالية ، ومن ثم مواجهة فرعون الطاغية ، ثم العاقبة للمتقين غرقا لفرعون بجنوده واستخلافا لموسى بحشوده ، ولكل حلقة مشاهدها العدة : خمسة ثم تسعة ثم اربعة ، بينها فجوات وحلقات ومشاهد ، ما يثير العجب من دقة الأداء الفني للقصة.

والأوليان هما الجديدتان في هذا العرض العريض ، إذ تكشفان عن مدى تحدي القدرة الفرعونية ، إخفاقا لصوت الحق وإخمادا لثائرته في زنده ، ثم مدى القدرة الإلهية حيث تربي قاصم ظهر فرعون في حجره :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ٤.

إن الإفساد الفرعوني هنا مبني على قواعد خمس مهما اختلفت دركاتها : العلو في الأرض ـ جعل أهلها شيعا ـ استضعاف طائفة منهم ـ تذبيح الأبناء ـ استحياء النساء ، مهما كانت الأربعة الأخيرة من خلفيات الأولى.

إن العلو في الأرض وجعل أهلها شيعا ، واستضعاف الشعوب ، هي من شيمة الطغاة الشنيعة على مدار الزمن ، فلما ذا بعد تذبيح الأبناء واستحياء النساء : إبقاءهن أحياء للخدمة ، وإزالة حياءهن؟

لا بد وأن تكون هناك خوفة هارعة من الأبناء الاسرائيليين في ذلك التصميم العميم لإبادتهم ، استبقاء للسلطة الفرعونية وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام عليهم السلام : «.. فان فرعون لما وقف على ان زوال ملكه على يده (موسى) امر بإحضار الكهنة فدلوه على نسبه وانه يكون من بني إسرائيل ولم يزل يأمر أصحابه بشق بطون الحوامل من نساء بني إسرائيل حتى قتل في طلبه نيفا وعشرين ألف مولود

٢٨٩

وتعذر عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ الله تبارك وتعالى إياه ..» (١).

إن العلو في الأرض باستعلاء غاشم ظالم ، واستبداء خانق جاشم ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٥١ : ٢١٩ ـ حديث حافل لمولد الامام المهدي (عج) وطول غيبته وان فيه سنن الأنبياء وحذو النعل بالنعل والقذة بالقذة عن الكافي بسند متصل عن سدير الصيرفي قال دخلت انا والمفضل بن عمر وابو بصير وابان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فرأيناه جالسا على التراب وعليه مسيح خيبري مطوق بلا جيب مقصر الكمين وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ذات الكبد الحرّى قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغير عارضيه وابلى الدموع محجريه وهو يقول :

سيدي! غيبتك نفت رقادي وضيقت عليّ مهادي وأسرت مني راحة فؤادي ، سيدي! غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد ، فما أحسّ بدمعة ترقي من عيني ، وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا إلّا مثّل لعيني عن عوارير أعظمها وأفظعها وتراقي أشدها وأنكرها ونوائب مخلوطة بغضبك ، ونوازل معجونة بسخطك؟.

قال سدير : فاستطارت عقولنا ولها وتصدعت قلوبنا جزعا من ذلك الخطب الهائل والحدث الغائل وظننا انه سمة لمكروهة قارعة أوصلت به من الدهر بائقة فقلنا لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك من اي حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك واية حالة حتمت عليك هذا المأتم؟

قال : فزفر الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه واشتد منها خوفه وقال : ويلكم إني نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خص الله تقدس اسمه محمدا والأئمة من بعده عليه وعليهم السلام وتأملت فيه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين به من بعده في ذلك الزمان وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال الله تقدس ذكره (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) يعني الولاية ، فأخذتني الرقة واستولت عليّ الأحزان فقلنا : يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كرّمنا وشرفنا بإشراكك إيانا في ـ

٢٩٠

يخلّف نفس العلو فيها لأنه فساد فإفساد فيها ، ويلات وويلات في دويلات مستعلية وسلطات متخلفة عن الحق ، وليس فاسد العلوّ في الأرض يختص بالفرعوني وأضرابه ، بل والدّينون ايضا لا يحق لهم أيّ علو ، فذلك علو أمام الله ، وهذا علو أمام خلق الله وكلاهما مرفوضان في شرعة الله : «تلك الدار

__________________

ـ بعض ما أنت تعلمه من علم ـ قال : إن الله تبارك وتعالى أدار في القائم منا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل ، قدر مولده تقدير مولد موسى (عليه السلام) وقدر غيبته تقدير غيبة عيسى (عليه السلام) وقدر إبطاءة تقدير إبطاء نوح (عليه السلام) وجعل من ذلك عمر العبد الصالح اعنى الخضر (عليه السلام) دليلا على عمره ـ فقلت : اكشف لنا يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وجوه هذه المعاني ـ قال : اما مولد موسى (عليه السلام) فإن الله لما وقف ... كذلك بنو امية وبنو العباس لما وقفوا على ان زوال ملكهم والأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منا ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابادة نسله طمعا منهم في الوصول إلى قتل القائم (عليه السلام) ويأبى الله ان يكشف امره لواحد من الظلمة إلا ان يتم نوره ولو كره المشركون ـ واما غيبة عيسى (عليه السلام) ...

وفي نور الثقلين ٤ : ١١٣ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان يوسف بن يعقوب عليهما السلام حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلا فقال : ان هؤلاء سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب وانما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران غلام طوال جعد آدم فجعل الرجل من بني إسرائيل يسمي ابنه عمران ويسمى عمران ابنه موسى ، فذكر ابان بن عثمان أبي الحصين عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال : ما خرج موسى حتى خرج قبله خمسون كذابا من بني إسرائيل كلهم يدعي انه موسى بن عمران فبلغ فرعون انهم يرجفون به ويطلبون هذا الغلام فقال له كهنته وسحرته ان هلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام يولد من بني إسرائيل فوضع القوابل على النساء وقال : لا يولد العام ولد إلا ذبح ووضع على ام موسى قابلة ..».

٢٩١

الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٢٨ : ٨٣) فإذا كانت ارادة العلو في الأرض تمانع الدار الآخرة ، فبأحرى نفس العلو فيها لأنه فساد فإفساد فيها ، فبمجرد ان الطاغية أحس ـ ولمّا يلمس ـ أن هناك خطرا يحدق بملكه من إسرائيل ، وهم مئات الألوف لا يمكن نفيهم عن البلاد ، ولا القضاء عليهم أجمع ، ابتكر حينذاك طريقة همجية جهنمية للقضاء على الخطر المحسوس من هذه الطائفة المنسجمة ، غير المعتقدة في ربوبيته الأعلى من نواحي أربع : أن (١ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) (٢ يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) ـ (٣ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) ـ (٤ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ومن خلفيات العلوّ النحسة جعل الآهلين في أرض شيعا متفرقين ليذوق بعضهم بأس بعض ، فهم (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (٣٠ : ٣٢) وبئس اللباس لباس الشيع للمجتمع : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (٦ : ٦٥) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (١٥ : ١٠) (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ٥١) ، فالشيع والأشياع في الدين والدينين ما يزيّغه الدين الحق ، اللهم إلّا شيعة الحق بلا أشياع متخلفين عنه أو مختلفين فيه ، وهذه شيطنة مدروسة من الطاغية في علوه ان (جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) متفرقين وهو من باب فرّق تسد ، وبالإمكان حينئذ أن يستضعف كلّ الشيع ، مهما كان استضعافهم دركات ، وقد كان من أسفلها استضعاف بني إسرائيل ، وكما «استخف (قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ).

فلقد فرق ـ فيمن فرق بينهم من القاطنين في مصر ـ شعب إسرائيل ، حيث استقدم يوسف من قبل أبويه وإخوته وأهله أجمعين من كنعان إلى مصر فتكاثروا وأصبحوا شعبا كبيرا ، فأخذت النعرة القومية والطائفية الفرعونية

٢٩٢

يجعلهم شيعا كما جعل الآخرين كذلك شيعا ، وكان أشد الاستضعاف على هؤلاء الذين كان يخافهم على عرشه ، فتفرقت كلمة بني إسرائيل أيادي سبا واستفاد الطاغية بشيعهم أن أخذ يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

تذبيح الأبناء كان يعم شق بطون الحوامل من بني إسرائيل أم ذبح الولائد بعد الولادة حيث ما ثقفوا ، واستحياء النساء من الحياة إبقاء لهن بشأن الخدمات الإجبارية منزلية وسواها ، ومن الحياء إزالة لحيائهن في الدعارات ، فقد كانت هذه لهن استحياء أشر من تذبيحهن ، ثم الرجال الذين فقدوا أبناءهم ونساءهم أمرهم أمرّ وأنكى ، وذلك ثالوث العذاب بحق الشعب الإسرائيلي بعد عذاب الشيع فيهم والعداء الشائع بينهم.

هذه هي خماسية المخططات الفرعونية الجهنمية تدميرا لهذا الشعب عن بكرته ولكيلا يطلع موسى من وسطهم ، كما أرادها فرعون بخيله ورجله تجنيدا لكل حيله ، ولكن الله يريد غير ما يريده الطاغية ولا يكون إلّا ما أراد الله مهما قويت الداهية الدهياء ، من الطاغية اللعناء :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ٦.

هؤلاء المستضعفون المضغوطون تحت أنيار الظلم وأنياب العضّ الفرعوني ، المرذّلون المعذبون بألوان العذاب (١) يريد الله أن يمن عليهم

__________________

(١) الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الآية : قال : يوسف وولده.

٢٩٣

ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ويمكن لهم في الأرض ويري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون من السلطة الموسوية ، أياد جليّة من فرعون وملإه ، ويد خفية من رب العالمين تتصارعان ، وبطبيعة الحال لا تصرع إلّا ايادي فرعون بجنوده حيث (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٥١ : ٤٠).

وهذه الإرادة المستمرة «ونريد» ليست لتختص مستضعفي بني إسرائيل ، بل هي متواصلة ـ قضية العدل والرحمة الربانية ـ على مدار الزمن غابرا وحاضرا وإلى يوم النشور ، مهما اختلفت درجاتها حسب مختلف الفاعليات والقابليات والظروف المقتضية لتحقيق إرادة الله ، فكما أن «نريد» هنا حكاية لحال ماضية ، كذلك هي إخبار للحال والأحوال المستقبلة بعد الماضية.

وأفضل المستضعفين هم أهل بيت الرسالة المحمدية عليهم آلاف سلام وتحية ، وكما

يروى عن الامام علي (عليه السلام): «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها» (١) ، ف «هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة .. وتلا عقيب ذلك «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» ورواه مثله السيد الرضي في الخصائص عن الصادق (عليه السلام) عنه (عليه السلام) ..

(٢) نور الثقلين ٤ : ١١٠ كتاب الغيبة للشيخ الطوسي باسناده الى محمد بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) في الآية قال : ... وفيه عن اصول الكافي عن أبي الصباح الكناني قال : نظر ابو جعفر إلى أبي عبد الله عليهما السلام يمشي فقال : ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عز وجل : ونريد ..

٢٩٤

اجل والقائم المهدي من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين هو آخر هؤلاء المستضعفين (١) وله المن الأوفر من الإمامة وخلافة الأرض اللهم عجّل فرجه وسهل مخرجه ..

__________________

(١) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى حكيمة قالت : لما كان اليوم السابع من مولد القائم (عليه السلام) جئت إلى أبي محمد (عليه السلام) فسلمت عليه وجلست فقال : هلمي إليّ ابني فجئت بسيدي وهو في الخرقة ففعل به كفعله الأول ثم ادلى لسانه في فيه كأنما يغذيه لبنا وعسلا ثم قال : تكلم يا بني قال : اشهد ان لا إله إلا الله وثنى بالصلاة على محمد وعلي وعلى الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حيث وقف على أبيه (عليه السلام) ثم تلا هذه : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. و (نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ...).

وفي تفسير البرهان ٣ : ٢١٩ روى العياشي عن علي بن الحسين عليهما السلام قال والذي بعث محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالحق بشيرا ونذيرا إن الأبرار من أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته وان عدونا وأشياعه بمنزلة فرعون وأشياعه. وفيه ابو جعفر محمد بن جرير الطبري في مسند فاطمة عليها السلام بسند متصل عن زادان عن سلمان قال قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ وفيه تفصيل اسماء الأئمة الاثنى عشر الى ان قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... ثم محمد بن الحسن الهادي المهدي الناطق القائم بحق الله ثم يا سلمان انك مدركه ومن كان مثلك ومن توالاه بحقيقة المعرفة ، قال سلمان فشكرت الله كثيرا ثم قلت يا رسول الله واني مؤجل الى عهده؟ قال يا سلمان اقرء : فإذا جاء وعد أولاهما ... قال سلمان فاشتد بكائي وشوقي ثم قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعهد منك؟ فقال : اي والله الذي أرسل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحق مني ومن علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة عليهم السلام وكل من هو منا ومضام فينا اي والله يا سلمان وليحضرن إبليس وجنوده وكل من محض الايمان محضا ومحض الكفر محضا حتى يؤخذ بالقصاص والأوتار والأثوار (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) وتحقق تأويل هذه الآية (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ .. يَحْذَرُونَ).

٢٩٥

وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم) مخاطبا إياهم عليهم السلام : أنتم المستضعفون بعدي ...» (١). وذلك الاستضعاف الذي يقتضي الرحمة الخاصة الإلهية بمنح الإمامة ووراثة الأرض ليس استضعافا روحيا عقائديا ، وإنما هو الضغط عليهم في تحقيق الشرعة الإلهية كيلا تتحقق كما تحق ، فلا تقصير منهم في هذا المجال ، فحياتهم الإيمانية هي حياة التقية حتى يأتي الفرج من الله بما قدموا من ظروفه المواتية له.

وهكذا يعلن ربنا في هذه الإذاعة القرآنية أن حياة الفرعنة الطاغية لا تدوم ، إعلانا صارخا بواقع الحال وما هو مقدر في المآل عاجلا أم آجلا ، أن تقف القوتان وجها لوجه ، فقوة الله هي التي تتهاوى دونها كل القوى فانه شديد القوى.

وترى (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) هنا هم كل المستضعفين في التاريخ الرسالي؟ ومنهم مقصرون ظالمون موعودون بالنار : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤ : ٩٧).

ومنهم قاصرون (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا

__________________

(١) المصدر في كتاب معاني الأخبار باسناده الى محمد بن سنان عن مفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى علي والحسن والحسين عليهم السلام فبكى وقال : أنتم المستضعفون بعدي ـ قال المفضل : فقلت له : ما معنى ذلك يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : معناه انكم الأئمة بعدي ان الله عز وجل يقول : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ...) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

٢٩٦

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤ : ٩٩) فمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا كيف يصبح من أئمة المؤمنين؟

انهم هم المظلومون تحت أنيار الظلامات والظلمات ، حيث يتبلور ايمانهم وتقوى هداهم وتقواهم ، مهما اختلفت درجاتهم ومن أدناهم القاصرون ، فالأئمة منهم هم القادة الهداة الى الله.

وكما الإمامة والوراثة للمستضعفين درجات حسب القابليات والمعطيات ، كذلك أرض التمكين لهم درجات ، من أرض مصر أو ما والاها للأئمة الإسرائيليين ، امّا هيه من أرض بعدها ، ومن كل الأرض كما في دولة الامام المهدي عجّل الله تعالى فرجه.

وقد دلت أية النور على ذلك التمكين المكين ، الرصين الأمين (... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ..).

وهم الورثة والذين يعيشون تحت إمرتهم أولاء ، وقد جمعت بينهما آية الأنبياء (١) والنور (٢) : أن ارادة المن المستمرة لهؤلاء المستضعفين تتمحور قواعد اربع هي (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) وهم الرعيل الأعلى منهم (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) وهي تجمع المأمومين الى هؤلاء الأئمة ، كما (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) حيث يرى كل فراعنة التاريخ وجنودهم من هؤلاء الأكارم «ما كانوا» هؤلاء الأنكاد «يحذرون» منهم ، وترى كيف يولد موسى وعيون المراقبات الفرعونية ترقب الحوامل ،

__________________

(١) «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...»

(٢) «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ».

٢٩٧

فتشق بطونها قبل الولادة ، إلّا أن تفلت عنهم فالتة؟

علّها من الفالتات القلة ، أم «انه لما حملت به امه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له» (١) وكما كان الحمل بصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه (٢) سترا ستيرا عن عيون المراقبات في الدولة العباسية ليقضي الله امرا كان مفعولا.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١١١ عن تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ... وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظونهن وذلك انه كان لما بلغه عن بني إسرائيل انهم يقولون انه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المجالس فلما وضعت ام موسى بموسى (عليه السلام) نظرت اليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت : يذبح الساعة؟ فعطف الله عز وجل قلب الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى : مالك قد اصفر لونك؟ فقالت : أخاف ان يذبح ولدي ، فقالت : لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه وهو قول الله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فأحبته القبطية الموكلة بها وانزل الله على أم موسى التابوت ونوديت امه ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم وهو البحر (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فوضعته في التابوت وأطبقته عليه وألقته في النيل.

(٢) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النعمة وباسناده الى حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عمة أبي محمد الحسن (عليه السلام) انها قالت : كنت عند أبي محمد (عليه السلام) فقال : بيتي الليلة عندنا فانه سيلد الليلة المولود الكريم على الله عز وجل الذي يحيي به الله عز وجل الأرض بعد موتها ، فقلت : ممن يا سيدي؟ ولست أدري بنرجس شيئا من اثر الحمل؟ فقال : من نرجس لا من غيرها قالت : فوثبت إليها فقبلتها ظهر بطن فلم أر بها اثر الحبل فعدت اليه فأخبرته بما فعلت فتبسم ثم قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك الحبل لأن مثلها مثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم أحد إلى إلّا وقت ولادتها لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى وهذا نظير موسى ...».

٢٩٨

موسى الرسول (عليه السلام) يولد في تلك الضغطة الفرعونية الوحشية ، وأمه حائرة ، تخشى أن يصل نبأ هذه الولادة المباركة إلى الجلادين فيذبحوه ، وهي عاجزة عن حمايته وإخفاءه فإذا الوحي الحنون يتلقف قلبها الرنون :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ٧.

(أَوْحَيْنا) هنا تعني وحي الإلهام دون وحي النبوءة والرسالة ، وادنى منه الوحي إلى النحل وللأرض ، وأعلى منه ومن كل وحي إلّا الأخير وحي الإلهام إلى قلوب الأئمة المعصومين المحمديين صلوات الله عليهم أجمعين.

(أَنْ أَرْضِعِيهِ) ليس عليك فيه أمر إلّا الرضاعة : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ..) (٢٠ : ٤٠).

(أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما لم يهجس هاجس أو يحدث حادث (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ..) وهو النيل فإنه في عظمه كأنه البحر ، واليم يشمل البحر والنهر الكبير كالنيل ، أتراها ما كانت خائفة عليه ، وهي خائفة منذ حبلت حتى وضعت؟

الخوف له مراحل ، فقد يتحمل إذ لا يعدو الخيال ولمّا تقع واقعة ، وذلك خوفها من قبل ، أم لا يتحمل حين تشرف الواقعة لتقع فلا بد من محاولة قاطعة للفرار عنها ، وقد تعنيه (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) خوفا شديدا لا قبل لها به بعد المتعوّد في ذلك الجوّ المخيف.

أمّ حنونة ترضع ولدها خائفة عليه ، فكيف تسمح لنفسها أن تلقيها في

٢٩٩

اليم فرارا عن حفرة إلى بئر؟ لكن (وَلا تَخافِي) من غرقه أو قتله (وَلا تَحْزَنِي) من فراقه ل (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) لترضعيه (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) لما بلغ أشده.

وهذه طمأنة ربانية وربطة إلهية على قلبها أن تلقي وليدها الرضيع بيدها إلى اليم! ، أجل «لا تخافي» من غرقه فان عين الله ترعاه ، ويده تراعيه حين تخفيه عن بأس فرعون ، تلك القدرة التي تجعل النار لجده ابراهيم بردا وسلاما ، وتجعل له البحر ملجأ ومناما! (وَلا تَحْزَنِي) حيث الفراق لا يدوم (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) ٨.

هنا بين الوحي إليها والالتقاط فجوة مذكورة في طه : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أمرا تكوينيا لليم بإلقاء ما تلقّاه بالساحل ، ثم (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أمر ثان لعدوه فرعون تكوينيا ، وبالنتيجة (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) ـ إذ (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)! ، وهنا أصبح موسى لقطة يلتقطها آل فرعون ، قصدا إلى (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ولكن الواقع المجهول لديهم (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) فاللام هنا تعني واقع الغاية ، و (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) تعني ظاهرها وهم خاطئون واقع الأمر (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) : خطأ عارما في كل حياتهم الجهنمية الطاغية حيث ذبح آلافا للحصول على موسى (عليه السلام) ، وهنا خطأ عما يرام للعرش الفرعوني حيث استقدموا بذات أيديهم بوارهم ودمارهم ، وهذا خطأ منهم لصالح الرسالة الموسوية ، وكل حياتهم خطأ لطالحها وصالح موسى ، وقد جمعهما (كانُوا خاطِئِينَ).

٣٠٠