الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٢٨) في احتمال اتصال الاستثناء تعميما لضمير الجمع كافة العباد ، صحيح ان من الممتعين متاع الحياة الدنيا من يتذرّعها للحياة الأخرى ، إلّا ان التقابل بينهم ـ هنا ـ وبين «من متعناه متاعا حسنا» يختص هؤلاء الممتّعين بمن (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) فحتى إذا لم تخلف حياة المتاع عذابا في الأخرى ، فقد يكفي أنها محرمة لها ، وهل من عاقل يرجح هذه الفانية الهزيلة الرذيلة على تلك الباقية الفضيلة؟! فضلا عن انها تخلف العذاب الدائب فيها ، ذلك! وإلى سائر المفاصلات بين الفريقين في النشأتين ، ذكرى لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد! :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ٦٢.

وهؤلاء الشركاء المزعومون هم بين خيّرين كالملائكة والنبيين ، والشريرين كفرعون ونمرود وسائر الطاغين ، ثم عوان بينهما ككلّ الأصنام والأوثان إذ لا عقل لها حتى تكون لها خيرة خيّرة أم شرّيرة ، فالأولون ناكرون أنهم شركاء ، هناك كما هنا ، والأوسطون ينكرون حق الشركة ، معترفون بباطلها فهناك يستسلمون ، والآخرون لا عقل لهم فيصدقوا وينكروا ، والثلاثة شركاء في نكران شركهم مع الله إذ تزول الحجب فتظهر الحقائق : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١٠ : ٢٨).

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) ٦٣.

(الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) هنا هم الشركاء الطغاة بين داعية إلى نفسها ، أم إلى أصنامها ، دون الأولين الأكارم ، فهؤلاء هم حصب جهنم وأولاء من السابقة لهم الحسنى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ ..

٣٨١

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢١ : ١٠١).

قال الأولون (رَبَّنا هؤُلاءِ) المشركون الأتباع (الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) فطبيعة الغاوي هي الإغواء ، كما طبيعة المهتدي هي الإهداء ، مهما كانت باختيار دون إجبار كما هيه ، فكما غوينا دون قسر ، كذلك أغويناهم دون قسر ، فلا سلطان على القلوب في غواية (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) (١٢ : ٢٢) (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٧ : ٣٢).

(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أترى «ما» هنا موصوفة ، المتبرّء منه إلى الله هو عبادتهم إيانا ، وهو في معنى قول قائدهم الأوّل : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (١٤ : ٢٢)؟ وصيغته الصريحة «تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا»! أم موصولة ، فالمتبرء منه هو أنفسهم؟ وصيغته الصريحة «تبرأنا إليك منا حيث عبدنا»! أم هي نافية نكرانا لعبادتهم إياهم كما (قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١٠ : ٢٨)؟ وقد تكون «أغويناهم» تثبيتا لعبادتهم إياهم!

وعلّ الكل معنية فإن لكلّ شاهدا ، ف «أغويناهم» مهما كان تثبيتا لعبادتهم إياهم ، ولكنها في الأصل عبادتهم لأهوائهم ، فهي هي آلهتهم التي ألهتهم عن عبادة الله إلى ما تهواه أنفسهم من دون الله ، و (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) من عبادتهم إيانا ومن أنفسنا إذ عبدنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) عن عبادتهم إيانا إذ ما كانوا إيانا يعبدون ، وإنما يعبدون أهواءهم ، ام لم تنحصر عبادتكم بنا ، بل ومع اهوائكم وهي البادءة فيها ، كما يلمح تقديم «إيانا» فلم يقولوا : «ما كنتم تعبدوننا» فإنها كاذبة ، بل (ما كُنْتُمْ إِيَّانا ...) أي ما انحصرت عبادتكم

٣٨٢

فينا ، بل ومعنا غيرنا وهي اهوائكم التي دعتكم إليها! وهي الأصل في عبادتكم المتخلفة ، تبرأنا إليك من جريمة إغواءهم ، ومن عبادتهم لنا ، ومن ان يكونوا ـ في الحق ـ يعبدوننا فقط ، وإنما هي أهواءهم (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٤٥ : ٢٣) فانما عبدوا أهوائهم مبدئيا ، ولذلك أطاعونا فيما أغويناهم ، إذ وجدوا فينا أهواءهم ، وأما أنهم ما دعوهم إلى عبادتهم فلا تصريحة لها ولا لمحة ، بل و «أغويناهم» وأضرابها تصريحة لهذه الدعوة النكدة الناكبة.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) ٦٤.

(ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لينجوكم من عذاب الله كما وعدتم فيهم «فدعوهم» شاءوا أم أبوا إذ لا خيرة في أمر الله هناك (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فيما دعوهم إذ لا يستطيعون ، وهم من الذين حق عليهم القول ، وذلك عذاب نفسي فوق العذاب ، ثم (وَرَأَوُا الْعَذابَ) من فورهم متحسرين متمنين (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) فلا يرووا العذاب ، وقد تعني «لو» هنا استحالة ذلك المتمني فقد مضى يوم خلاص ولات حين مناص ، إذ يتمنون لو ردّوا فاهتدوا فلم يروا يومئذ لعذاب.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ٦٥.

هذا سئوال تأنيب وتهييب والله يعلم ماذا أجابوا المرسلين ، وكما المرسلون يسألون ، إلّا أن هناك تخجيلا وهنا تبجيل : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ..) (٥ : ١٠٩) ، لا جواب هنا ولا هناك ، فهنا (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) احتراما على علمهم بما علمهم الله ، وهناك تحيرا وانبهارا :

٣٨٣

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) ٦٦.

فرغم انهم على علم بأنباءهم في تكذيب المرسلين عميت عليهم حتى يزدادوا حيرة على حيرة ، فالذاكر لذنبه قد يعرضه اعتذارا ، وأخرى إنكارا ، وفي كلّ تخفيف وقتي ، فحتى لا يخفّف عنهم هول المطلع عميت عليهم الأنباء (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) بعضهم البعض عن أنباءهم لأنهم سواء في التعمية عليهم فهم حائرون مائرون ، و (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ) دون «عموا عنها» يلقي ظلام العمى عليهم ككل دونما منفذ ينفذون عنه ، فهم في ذهولهم صامتون لا يدرون من اي إلى ايّ يميلون!.

وذلك ـ فقط ـ للمكذبين دون المؤمنين على اختلاف درجاتهم في إجاباتهم المرسلين:

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) ٦٧.

هنا تقابل بين الصفحة المظلمة للكافرين ، والصفحة المشرقة للمؤمنين ، و «عسى» ترجّيهم بذلك المثلث البارع من الفلاح ، توبة وايمانا وعملا صالحا ، ان يكونوا من المفلحين ، إذ لا يضمن لهم ـ ككل ـ العاقبة الحسنى ، فقد يرجعون كفارا في العاقبة ، فليلجأوا إلى الله ملتمسين منه حسن العاقبة ، كما وان الايمان بزميليه ليس هو السبب التام للإفلاح لو لا رحمة من الله وفضل ، فعساه لهذا وذاك يأتي هنا بعسى.

وقد تكون (فَأَمَّا مَنْ تابَ ..) استثناء عن (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) تعميما للسؤال في «يناديهم» ، أن الكل يسأل عنهم» (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) بين تخجيل وتبجيل وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله

٣٨٤

وسلم) (١).

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ٦٨.

ذلك هو الجواب القاطع القاصع الأخير عن عاذرتهم ان لا مؤثر في الوجود إلّا الله ، فلا طاقة مستقلة تتخطفكم عن أرضكم ، مستغلة ذلك دون أن يشاء الله ، فان له الخلق والأمر دونما جبر ولا تفويض.

فعلى العبد أن يقدّم في الله ما في طوقه ووسعه ، ولله الخيرة في أمره أن يفعل ما يشاء كما يشاء ، دون اتكالية بلا سعي ولا عمل ، ولا استقلالية لهم فيما يشاءون ، بل «أمر بين أمرين» أن يسعى ويتوكل على الله فيما يسعاه.

فلا إلغاء هنا للعقول والإرادات والنشاطات ، ولا تفويض لها في الحصول على كل المرادات ، بل عليهم ان يتقبلوا ما يقع ويرضوا بما وقع بعد ما بذلوا ـ دون تبذّل ـ ما في وسعهم من التفكير والإختيار والتدبير ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ف «وربك» الذي خلقك واختارك ورباك (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لا ما يشاءون «ويختار» فيما يخلق أو يشرع دونما إجبار له فيما يخلق ويختار ما يشاء لا كما يشاءون (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) لا في خلق ولا اختيار (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به في خلق أو اختيار.

إن «يخلق» هنا تعم كل خلق للمادة الأولية أماهيه من خلق ، لا شريك له في أيّ كان منه وأيان من اي كان ، وكذلك «يختار» في حقلي

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٣٥ ـ اخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد والنسائي والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «ما من احد الا سيخلو الله به كما يخلو أحدهم بالقمر ليلة البدر فيقول يا ابن آدم ما غرك بي يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين».

٣٨٥

التكوين والتشريع (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٣٣ : ٣٦) مع العلم أن خيرة الرسول إنما هي خيرة الله إذ لا يختار ما يختاره إلّا بوحي من الله ، و «ما كان» نهي وليس نفيا يسلب عنهم أي اختيار. ومن اختياره تعالى أمر التشريع أن يختار الرسول الحامل لشرعته ، وأوصياءه المحمّلين تبيين شرعته ، فكما له اختيار الرسول دون سواه ، كذلك له اختيار أوصياءه لا سواه ، وترى (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) تنفي عنهم الإختيار في الأفعال التكليفية؟ كلّا! والإختيار فيها ثابت بدليل العقل والكتاب والسنة ، والإختيار المنفي عنهم يختص بما يختص اختياره بالله ، كخيرة الخلق والأمر تشريعا وسواه من أمر الخلق ، وكذلك الاختيار المطلق في الأفعال الاختيارية ، فلله الإختيار المطلق في كل ما يختار ، وليس لنا مطلق الإختيار إذ قد تمنعنا موانع عما نختار ، ثم قد نختار صالحا أو طالحا لا يختاره الله تكوينا فهنالك يكلّ الإختيار كما في ذبح ابراهيم ولده ، وفي حرقه (عليه السلام) بالنار ، إذ لم يؤثر الإختيار هنا وهناك.

فالاختيار المنفي عنا في حقل التكوين هو الإختيار المطلق ، وفي حقل التشريع هو مطلق الإختيار ، فحين «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» لم يكن لنا في أفعالنا الاختيارية الإختيار المطلق ، فانه تفويض فإشراك بالله في ذلك الاختيار (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وحين لا شارع إلّا الله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢ : ٢١) فمطلق الإختيار لنا في التشريع ـ وإن في حكم واحد ـ إشراك بالله (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

كما وأن اختيار الرسل وأوصياءهم الحملة لرسالاتهم من غير الله إشراك

٣٨٦

بالله في حقل التشريع (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقد استدل الامام الرضا والقائم المهدي والإمام الصادق عليهم السلام بالآية وسواها على انحصار نصب الإمام بالله وانحساره عمن سواه (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٣٦ في أصول الكافي ابو القاسم بن العلا رفعه عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (عليه السلام) حديث طويل في فضل الإمام وصفاته يقول فيه : هل يعرفون قدر الامامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ـ إلى قوله (عليه السلام) ـ لقد راموا صعبا وقالوا إفكا وضلوا ضلالا بعيدا ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، زين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ، رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله الى اختيارهم والقرآن يناديهم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال عز وجل : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

وفيه عن كتاب كمال الدين وتمام النقمة باسناده إلى سعد بن عبد الله القمي عن الحجة القائم (عليه السلام) حديث طويل وفيه : قلت فأخبرني يا ابن مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الامام لأنفسهم؟ قال : مصلح ام مفسد؟ قلت : مصلح ، قال : فهل يجوز ان تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت : بلى ، قال (عليه السلام) : فهي العلة وأوردها لك ببرهان ينقاد لك عقلك ثم قال (عليه السلام) : اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله عز وجل وانزل عليهم الكتاب وأيدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأمم ، أهدى إلى الإختيار منهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام ، هل يجوز مع وفور عقلهما إذ هما بالاختيار ان تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان انه مؤمن؟ قلت : لا ـ قال : هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من اعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه عز وجل سبعين رجلا ممن لا يشك في ايمانهم وإخلاصهم فوقع خيرته على المنافقين قال الله عز وجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ـ الى قوله ـ (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله عز وجل للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه ـ

٣٨٧

وقد تحتمل «ما» هنا بجبب كونها نفيا ، أنها موصولة : (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) اختيارا فوق كل اختيار ، فلا يمضى اختيار ولا يمشّى إلّا ان يختاره الله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وهذا وإن كان في نفسه صحيحا ، وهو قضية الأمر بين أمرين ، إلّا أنه ليس يختار كلّ ما كان لهم الخيرة ، كما في قصتي إبراهيم الخليل وأضرابهما ، إلّا ان تختص (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بالبعض دونما استغراق ، لا سيما وأنه ضمن المعني من «ما» إذ تعنيهما كما هو الصالح لساحة الربوبية.

ومن الخيرة الإستخارة في مورد الحيرة ، حين لا تزول بتفكير ولا مشورة فيظل الإنسان حائرا لا يدري من أي إلى أي وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

__________________

ـ الأصلح دون الأفسد علمنا ان الاختيار لا يجوز أن يفعل إلا من يعلم ما تخفي الصدور وتكن الضمائر وتنصرف إليه السرائر وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح»! ، وفي تفسير الفخر الرازي ٢٥ : ١٤ روى ابو امامة الباهلي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى.

وفيه عن مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) في كلام طويل : وتعلم ان نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس ولا لحظة إلّا بقدرته ومشيته وهم عاجزون عن إتيان اقل شيء في مملكته إلا باذنه وارادته قال الله عز وجل : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ..).

(١) الدر المنثور ٥ : ١٣٥ ـ اخرج البخاري وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال كان يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك واسألك من فضلك العظيم فانك تقدر ولا اقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم ان هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة امري ـ

٣٨٨

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) ٦٩.

إذا فهو ـ لا سواه ـ الذي له الخيرة إذ يعلم كائنات الصدور وكناناتها ، فلا تخفى عليه خافية منها ، فهو الذي يعلم صالحهم من طالحهم ، تكوينا وتشريعا وانتصابا لرسل وأوصياء ، وانتخابا لآيات الرسالة وموادها كما يعلم بحكمته العالية ، فيختار كما يعلم دون اختيار من سواه إذ لا يعلمون كما (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ).

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ٧٠

(هُوَ اللهُ) لا سواه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا سواه (لَهُ الْحَمْدُ) كله لا لسواه ، (فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) فلا يحمد سواه إلّا من يحمل رضاه حمدا متجها في أصله إلى الله (وَلَهُ الْحُكْمُ) لا حكم بجنبه لسواه «واليه» لا سواه «ترجعون» كما منه تبدءون ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

وإنها كلمة التوحيد بأركانها الثلاثة بعد ركني السلب والإيجاب ، فلأنه (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذا (لَهُ الْحَمْدُ) في كل حقوله واتجاهاته ، في الدارين (وَلَهُ الْحُكْمُ) تكوينا وتشريعا» (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هنا في الخلق والأمر ، وهناك في الحساب فالثواب والعقاب ، ثم «هو» هنا كما ترجع إلى الذات المقدسة الغيبية ، كذلك راجعة إلى «ربك» السابق ذكره خلقا واختيارا وعلما بما تكن صدورهم ، ذلك «هو الله» دون من لا يخلق ولا يختار ولا يعلم كما هو ، ف (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الذات والصفات وكافة شئون الألوهية

__________________

ـ وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي وان كنت تعلم ان هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة امري وعاجل امري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ورضني به ويسمى حاجته باسمها.

٣٨٩

والربوبية ، توحيد بيّنة الجهات ، محلّقة على كلّ النشآت ، في الذات وفي صفات الذات ، يزيل كل وحشة ودهشة عن المؤمنين به ، مطمئنا إياهم على أية حال ، في كل حلّ وترحال.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) ٧١.

سرمد الليل ـ وهو تداومة عذاب ـ كما سرمد النهار عذاب ، وقد تلمح له «عليكم» هنا وهناك ، و (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيها لاختلاف شروط الحياة في الدارين ، فليكن القياس في المعروف من الحياة الأولى ، وترى كيف يجتمع سرمد الليل وإتيان الضياء فيه وهما لا يجتمعان مهما كان هناك إله يأتي بضياء ، فالمحال محال سواء أكان لله ام لإله سواه؟

ليس القصد هنا إلى تحدّي الجمع ، بل هو نقض الإرادة الإلهية في سرمد الليل المعروض ، فلو كان هناك إله يريد ليرحمكم عن بأس الليل السرمد لقسم الزمان الى ليل ونهار كما قسمه الله ، أو (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) دون (نهار) هو من تعميم التنازل ، أنه إذا يأتي بنهار فليأت بضياء مهما كان بغير الشمس ، لأن سرمد الليل يقتضي تباعد الشمس لحد لا تضيء هذه الكرة ، وإذا أتي بالشمس فقد أتي ـ بطبيعة الحال ـ بكلا الليل والنهار قضية حراك الأرض الدورانية.

والقصد من ذلك التحدي ليس هو نقض الإرادة الإلهية ككل ، بل هو تتميمها لو أنه جعل عليكم الليل سرمدا ، فليكن الإتيان بضياء دون نهار فيه استئصال إرادته عن بكرتها.

فالناس متشوقون إلى فلق الصباح حين يطول بهم الليل أيام الشتاء ، أم لا يهنأ لهم الليل لعارض يعرضهم ، فيحنّون إلى ضياء الشمس ، فكيف بهم لو فقد الضياء عن بكرته ، فان سرمد الليل بظلامه يظلم الحياة

٣٩٠

ويكدّرها ، على فرض إمكانية الحياة إن جعل الليل سرمدا ، (أَفَلا تَسْمَعُونَ) إلى هذه الذكريات التي توقظكم من همود الإلف والعادة في تتابع الليل والنهار؟.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ٧٢.

فالليل سكن والنهار فيه ابتغاء فضل من الله وإبصار (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إلى ضوء النهار الذي هو فضل وإبصار كيف يصبح عذابا إن كان سرمدا ، فكلا الليل والنهار رحمة متعادلة معتدلة :

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ٧٣.

فلكلّ من الليل والنهار خاصة رحمته ، من سكن الليل وإبصار النهار : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (١٠ : ٦٧).

فأصل السكن وضابطته هو في الليل ، كما أصل الإبصار والابتغاء من فضل الله ضابطة في النهار ، مهما تبادلا فيهما أحيانا لضرورة معاكسة : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣٠ : ٢٣).

وآيتنا هنا عوان بين الآيتين ، فاللف والنشر المرتب بين (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وبين (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ينحو نحو الأولى ، وعدم ذكر كلّ بعد كلّ يلمح إلى الأول ، والأولى أولى لأولوية الترتيب ، والثانية هامشية إذا اقتضت الحال (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) في الترتيب الأصل ، وفي المعاكسة الفرع ، فإنهما على اختلافها نعمة ورحمة ، قبال الرحمة والنقمة في سرمد الليل أو النهار.

٣٩١

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ٧٤.

هذه تتكرر هنا بعد آيات ثمان في حجة متصلة متواصلة ، لأنها تجد بعدها ظرفا راجحا لتكرارها :

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ٧٥.

فمشهد نزع شهيد من كل أمة هو رسولها الذي يشهد بما جاء به واجابته فصدقته أو كذبته ، ذلك المشهد يتقاضى الشركاء الشهداء المزيفين ، ليكون الشهيد ان بمعرض العرصات بين ضفتي الإيمان والكفر ، فيقضي الله امرا كان مفعولا «فقلنا» للضفة الكافرة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) وهم خواء خلاء عن كل برهان «فعلموا» علم اليقين بعد ما تجاهلوا «أن الحق» كله «لله» دون من سواه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من شركائهم ، فالشهداء الحق يشهدون عليهم كما يشهدون لمن سواهم أو عليهم ، ثم لا شهداء لهم من شركاءهم ، إلّا شركاء في جحيم النار وبئس القرار ولات حين فرار.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ

٣٩٢

مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ

٣٩٣

الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٨)

الآيات السبع الأولى عرض عريض عن سيرة أثرى الأثرياء في تاريخ الإنسان ومسيرته ومصيرته ، وهي تصوّر الدركات السبع الجهنمية له ولأضرابه

٣٩٤

من الطغاة البغات.

ولا تهمنا في ذلك العرض معرفة من هو قارون؟ إلّا أنه (كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) ولا يستفاد منه إلّا أنه كان من بني إسرائيل دون القبط الفرعونيين ، تأشيرا عشيرا إلى أن القومية لا تفيد الإنسان ما لم يتخلق بأخلاق القائد الروحي للقوم ، فقد يتخلف عنها ـ على ايمانه المدعى ـ لحد يصبح انحس واتعس من قوم فرعون ، وقد كان قارون هكذا ، إذ جاء ذكره الفصل كأصل بين الطغاة بعد فرعون وقومه والألدّاء الأشداء من المشركين على مدار الزمن حتى مشركي قريش ، وقد نصحه قومه بإيحاء من الشرعة التوراتية بخمس هي سلبيات ثلاث وايجابيتان :

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ٧٦.

إن قلة الايمان وضآلته ، بكثرة الكنوز وقد فرح بها ومرح ، هي السبب لبغيه ما بغى ، في حين أن فرعون وقومه يبغون عليهم ، وما أنحسه بغيا عليهم وهو من قوم موسى؟

وقد ودعت (فَبَغى عَلَيْهِمْ) كمجهل يعلم أنه يحلّق على كل دركات البغي ، عرضا ونفسا ومالا وعقلا وعقيدة الايمان ، وهي النواميس الخمسة التي يجب الحفاظ عليها ، ولكنه بغى عليهم ككل وفي كل هذه ، ولو كان بغيا دون الجميع لأتى بما يدل عليه ، فالإطلاق يلمح إلى طليق البغي ، وهكذا يصنع المال بوفره في قلب مقلوب عن الهدى ، مليء من الردى ، فيبغي صاحبه بماله وماله على كل المستضعفين كما يهواه ويستطيع ، و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٩٦ : ٧).

والكنوز هي الجواهر الثمينة ذهبا وفضة أماهيه ، المخبوءة تحت

٣٩٥

الأرض ، الفاضية عن الاستعمال وتداول الأيدى ، «وآتيناه» دليل انه ظفر بها بإشارة إلهية دون علم من عنده ، ويكفي بيانا لعظم هذه الكنوز وكثرتها «ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة» وهنا بطبيعة الحال تحل المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) محلها من الواقع أن «كانت أرض دار قارون من فضة وأساسها من ذهب» (١).

وما هي «مفاتحه»؟ أهي «مفاتيحه» جمع مفتاح : ما يفتح به القفل؟ ولا مفاتيح للكنوز ككنور إلّا إذا استخرجت الى غير مخابئها الكانزة ، وإذا لا تسمى كنوزا! وحتى إذا سميت بها ، ام بقيت في مخابئها وأقفلت ، فلا تصل مفاتيحها لحدّ «لتنوء بالعصبة أولى القوى»! وأقل العصبة ـ علّها ـ عشرة ام تزيد كما في اخوة يوسف (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) وإذا كانت العصبة اولي قوة ، فكل واحد منها يحمل لا قل تقدير مائة كيلو غراما ، فحمل الكلّ لأقل تقدير الف كيلو غرام! وذلك ـ علّه ـ أثقل من كل مفاتيح الكنوز في الأرض كلها! فيا ويلاه إن كانت العصبة أو ألو القوة عشرة آلاف كما في رواية (٢).

ثم التبعثر في الكنوز خلاف الحيطة للحفاظ عليها فلتجمع في مكانات عدة شاسعة واسعة ، تكفيها لأكثر تقدير كيلو غرام من المفاتيح! ثم «مفاتح» هي جمع مفتح دون المفتاح!

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٣٦ ـ اخرج ابن مردويه عن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) نور الثقلين ٤ : ١٣٨ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام): وما يكون أولوا قوة إلا عشرة آلاف.

٣٩٦

أم إنها الكنوز نفسها؟ وليست هي مفاتح ، ولا أنها مفاتيح لنفسها! ولا أن حمل العصبة العشرة أولي القوة ، ثروة منقطعة النظير!.

إنها «مفاتحه» جمع مفتح ، وهو مكان فتح الكنز وهو بابه ، والضمير المفرد الغائب راجع إلى «ما» فقد كانت أبوابها كبيرة وثقيلة لحد (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) والنوء هو النهوض بالحمل على ثقل للحامل ، والعصبة من يتعصّب بعضهم لبعض متضامنين في قواتهم كرجل واحد ، ولو كانت هي المفاتيح لكانت المفاتيح دون المفاتح ، ولكانت تناء بالعصبة لا «تنوء» فهي ـ إذا ـ أبوابها العريضة الثقيلة التي تنهض بالعصبة أولي القوة ، كما وأن باب خيبر كانت لتنوء بالعصبة ونهض الإمام علي (عليه السلام) بفتحها شخصيا دون حاجة إلى سواه! ... ولقد كان مرحا فرحا بما أوتي من الكنوز جامحا شرها في بغيته بما أوتيه ، فوجد من قومه من يحاول رده من بغيه باستئصال سببه وهو فرحه بكنوزه : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) بما لك فيلهيك عما يعينك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) بأموالهم وعلى أية حال ، إلا فرحا بالفوز عند الله ، ولحدّ يشجع صاحبه إلى ما يرضاه الله ، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ ..) (٣٠ : ٤) ومن سواهم يفرحون بالحياة الدنيا بغير الحق : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (١٣ : ٤٦) ـ (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٤٠ : ٧٥) ـ (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) (٦ : ٤٤).

ف «لا يحب» يختص بهؤلاء الفرحين دون أولئك المؤمنين ، ولأن الله يحب فريقا ويبغض آخرين ، ف «لا يحب» عبارة اخرى عن «يبغض» ، وكما «لا يبغض» هي الأخرى عن «يحب» ، وذلك لأن الله عالم الغيب والشهادة وبيده ناصية كل شيء ، لا انعزالية له عن أيّ من المخلوقين ، فلا ثالث عنده ألّا يحب ولا يبغض ، فإنه إما لجهل بمادة الحب والبغض ، أم جهل بمن

٣٩٧

يحملهما! ففرح الزّهو الذي هو من مخلّفات الاعتزار بالمال ، والاحتفال بالثراء وحسن الحال ، إنه بطر يلهي عما يعنى ، وينسي النعمة والمنعم وما يتوجب على المنعم.

كما أن فرح الشكر بما أنعم الله ، مستخدما في سبيل مرضات الله ، تفريحا للمؤمنين بالله وتفريجا عن عباد الله ، إن ذلك فرح الإيمان كما نراه من أهل الله ، هنا وفي يوم لقاء الله : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣ : ١٧٠) ف «لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال فان كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري ينسي القلوب» (١) ، وذلك نهي صارم عن فرح عارم ، ومن ثم أمر ثم نهي ثم أمر ثم نهي ، فإنهما القائمان بالإصلاح في المفسدين.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ٧٧.

الابتغاء هو التطلّب ، فهم يأمرونه أن يتطلب فيما آتاه الله من الكنوز

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٣٨ في كتاب الخصال عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال : أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى (عليه السلام) : لا تفرح .. وفيه عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه : والفرح مكروه عند الله عز وجل ، وفيه عن كتاب التوحيد باسناده إلى أبان الأحمر عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام انه جاء اليه رجل فقال له : بأبي. وامي عظني موعظة فقال (عليه السلام) : إن كانت العقوبة من الله عز وجل حقا فالفرح لماذا؟

وفي الدر المنثور ٥ : ١٣٧ عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فانه معالج جسد خاو وموعظة بليغة وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فان الحزين في ظل الله يوم القيامة.

٣٩٨

وسواها من النعم آفاقية وانفسية (الدَّارَ الْآخِرَةَ) لا فحسب هذه الأدنى ، إخلادا إليها ، ومشية المكبّ عليها ، (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ) الحياة «الدنيا» فلا نصيب لك أخيرا فيها إلا الكفن ، إذ لا تسحب معك غيره فتصحبه في الأخرى ، ولا في الأخرى إلّا متاعها أن تشري ذلك الأركس الأدنى بالحياة العليا ، ولا لك قبلهما إلا قدر الحل من الحاجة المعيشية والزائد عليها وبال هنا وفي الأخرى ، فلتغتنم الفرصة السليمة لك فيها قبل فوات الأوان ، فما لك نصيب من الدنيا فيها وفي الأخرى إلّا هذه الأربع ، من ينساها أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان امره فرطا ، و (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) لا «فيها» مما يدل على ان النصيب منها يعني صالح الدارين ، فالحياة الدنيا لكلّ على قصرها هي بكل جنباتها نصيب المتاع للأخرى ، فليتزوّد منها لها ، من نسي النصيب المتاع أقبل إليها مبصرا إليها فيعمى ، ومن تمتع بها للأخرى مبصرا بها أبصرته.

فالذاكر نصيب الحاجة من الدنيا يوسع على خلق الله فيما زاد عنها (١) والذاكر نصيب رأس المال فيها مالا وحالا يتجر بها للأخرى (٢) والذاكر نصيب الكفن منها لا يطمئن ويركن إليها ، «وأحسن» إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) «وأحسن» في نفسك أعمالك لله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٣٩ في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤتى يوم القيامة برجل فيقال : احتج ، فيقول : يا رب خلقتني وهديتني وأوسعت عليّ فلم أزل أوسع على خلقك وأيسّر عليهم لكي تنشر عليّ هذا اليوم رحمتك وتيسره فيقول الرب جل ثناءه وتعالى : صدق عبدي أدخلوه الجنة.

(٢) المصدر عن معاني الأخبار باسناده الى موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر قال حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الآية قال : لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك ان تطلب بها الآخرة.

٣٩٩

إحسانا بإحسان واين احسان من إحسان.

ف «أحسن» حالا ومالا واعمالا ، كما وكل ذلك مما (أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) وذلك تمثيل المجاراة ، وإلّا فما احسان العبد بجنب إحسان الله بشيء يذكر!

(وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ)(١) بما أحسن الله إليك ، جزاء الإحسان بالإساءة ، ولا تبدل نعمة الله كفرا تحلّ بها نفسك وذويك دار البوار. جهنم يصلونها وبئس القرار (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وهو يبغضهم ، فالمال والثراء ذريعة ضارعة هارعة إلى كل إفساد في الأرض عرضا وعقلا وعقيدة ونفسا ومالا ، لا سيما إذا كان بأيدي مردة الشياطين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

ولأن هذه النصائح كانت مستأصلة لزهوة الثراء ، والالتهاء بالنعماء ، فهو بزعمه يستأصل ان تكون كنوزه مما آتاه الله ، قائلا في جوابهم قولته النكدة الجاهلة :

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ

__________________

(١) المصدر في مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام) فساد الظاهر من فساد الباطن ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية ، وأعظم الفساد أن يرضى العبد بالغفلة عن الله تعالى وهذا الفساد يتولد من طول الأمل والحرص والكبر كما اخبر الله تعالى في قصة قارون : ولا تبغ الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين وكانت هذه الخصال من صنع قارون واعتقاده ، وأصلها من حب الدنيا وجمعها ومتابعة النفس وهواها وإقامة شهواتها وحب المحمدة وموافقة الشيطان واتباع خطواته وكل ذلك مجتمع تحت الغفلة عن الله ونسيان مننه.

٤٠٠