الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

ولا رجل من أوساطها هنا وهناك ينصر المرسلين ، وقد يكون هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ...) (٤٠ : ٢٨)(١).

وقد يتعلق (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) بمقدر كما تتعلق ب «جاء» ف (رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) جاء من أقصى المدينة» ـ «يسعى» مسرعا إلى موسى (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) الفرعوني «يأتمرون» فرعون (بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) كما قتلت نفسا بالأمس وهممت اليوم بطشا بآخر «فأخرج» منها إلى مكان سحيق لا يعرفونه (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) وبالنتيجة :

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً) من ائتمارهم «يترقب» الفرج والنجاة الموعود حينما استغفر ربه فغفر له (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فهو المظلوم في ذلك المسرح وليس بظالم إلّا نفسه غير متقصد! وان موسى قتل منهم نفسا فخرج منها خائفا يترقب ، والحسين (عليه السلام) لم يقتل منهم نفسا وخرج من المدينة خائفا يترقب! واين خروج من خروج(٢)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١١٩ في تتمة القصة على طولها عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وكان خازن فرعون مؤمنا بموسى (عليه السلام) قد كتم إيمانه ستمائة سنة وهو الذي قال الله عز وجل : (وَقالَ رَجُلٌ ...) وبلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل فطلبه ليقتله فبعث المؤمن إلى موسى (عليه السّلام) (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْها) كما حكى الله عز وجل (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) قال : يلتفت يمنة ويسرة ويقول : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أقول : «فبعث ..» خلاف نص الآية انه (جاءَ ... يَسْعى) ثم ومجيئه بنفسه إلى موسى لا يناسب كونه خازن فرعون لأنه تهدير لدمه ، فقد يجوز انه قبطي مؤمن غير معروف في البلاط جاء بنفسه ليحذر موسى.

(٢) المصدر ٤ : ١٢٠ في ارشاد المفيد في مقتل الحسين (عليه السلام) فسار الحسين (عليه السلام) إلى مكة وهو يقرء (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ولزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق الأعظم كما صنع ابن ـ

٣٢١

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ

٣٢٢

الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

«مدين» هي مدينة شعيب ، المرسل إلى أهله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) (٧ : ٨٥) وقد جاء ذكرها عشر مرات في الذكر الحكيم ، وهي واقعة تجاه تبوك على بحر القلزم ، بينهما ست مراحل ، وهي اكبر من تبوك ، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب عليهما السلام ، وبينهما وبين مصر مسيرة ثمان وقد كانت خارجة من سلطان فرعون.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ٢٢.

تلقاء الشيء حذاءه وقباله حيث يلقى به ، من «لقى تلقية وتلقاء» ولكنه لقاء من بعيد يوصل إلى لقاء القريب ، فقد خرج من المدينة متوجها تلقاء مدين فريدا طريدا خائفا يترقب الفرج ، منزعجا بنذارة الرجل من أقصى المدينة دون تزود بزاد ولا ترحّل براحله ، راحلته رجلاه ، وزاده ترجي هدى الله (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) إلى مدين واردا سليما وإلى المدينة راجعا رسولا منذرا ، وبينهما السبيل إلى تشكيل العائلة.

فهنا نجد موسى بعد ردح من عمره منذ ولادته حتى رجولته في نعومة العيش في البلاط ، نجده في قلب المخافة ، يطارده فرعون وملأه ، لينالوا منه

__________________

ـ الزبير لئلا يلحق الطلب ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، ولما دخل الحسين (عليه السلام) مكة كان دخوله إليها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقول : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ).

٣٢٣

اليوم في رجولته ما لم ينالوه منه في طفولته ، ولكن اليد التي حمته هناك أحرى أن يحميه هنا : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)! وتراه كيف عرف الطريق إلى مدين ولم تسبق له سابقة منه وليس يكفيه سئوال الرجل الناصح لاهتدائه على طول الخط في الطريق؟.

(تَوَجَّهَ تِلْقاءَ) دون «توجه إلى» قد تلمح انه توجه تلقاءه تلقائيا وما يدري هو انه متوجه تلقاءه ، وإنما الله هو الذي يدله إلى مدين ، و (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي) دليل أنه ما كان يعرف الطريق ، و (تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) دليل واقع التلقاء بما لقّاه الله ، وغير صحيح أن يسأل الناس عن الطريق وهو في مفازة المخافة ، متسترا مقصده عنهم فرارا عن كيد المؤتمرين به ليقتلوه.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ٢٣.

لقد وصل إلى مدين وورد ماءه ، وهو بطبيعة الحال بداية ورده البلدة ، وصل مكدودا مجهودا وهو بحاجة إلى رياحة ف (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) جماعة من مختلف الرعاء وسواهم يسقون أنفسهم وأنعامهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أبعد منهم إلى الماء بفصل فاصل (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) والذود هو المنع ، ولأن المتعلق هنا مطلق فقد يعم ذودهما اغنامهما عن التفرق ، وعن الخلط بأغنام الناس ، وعن ورد الماء حتى يصدر الرعاء ، وذودهما الناس عن أغنامهما ، وذود أنفسهما عن الاختلاط بالرجال ، وعن الاستعجال لورد الماء حتى يصدر الرعاء ، والذود عن أن ينظر إليهما ، وكل ذود هو قضية الأدب في الشرعة الإلهية للنساء بين الرجال.

فهل من الوجدان في ذلك الوجدان ألّا يتأثر موسى من حالتهما

٣٢٤

الحرجة ، على كونه مكدودا؟ كلّا! وهو الرءوف الحنون حتى بشيعته الغوي المبين ، فكيف لا يرأف بامرأتين ضعيفتين في هذا البين ، فليسأل عنهما وقد سأل : (قالَ ما خَطْبُكُما) والخطب هو الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب والتساءل ، ولقد كان أمرهما ـ في أصل السقي وهما امرأتان ، وفي التأخر عن السقي ـ كان يبعث للتساؤل والتخاطب ، فجاء الجواب عن الأمرين في ذلك الخطب الجلل.

أما التأخر عن السقي ف (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) إنهاء لسقيهم وإخلاء للماء حتى نسقي ولا رعاء ، مهما جئنا قبلهم ام قبل بعضهم ، إذ نحتشم عن الخلط بالرجال الغرباء.

وأما أصل السقي لنا ولأنعامنا ونحن امرأتان؟ ف (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال ، فنحن على أنوثتنا وضعفنا أقوى منه ، وبطبيعة الحال ليس له أبناء حتى يكفوا عنه وعنّا ، فسقينا ـ إذا ـ ضرورة معيشية تسمح لهكذا كدّ وكدح للسقي.

هنا تثور الغيرة الموسوية للإقدام على السقي لهما رغم حالته المحرجة ، حيث لا تمنعه عن القيام بواجبه الحاضر ، فيصبح خير ناصر لمن لا يعرفهما ، ولكنه عارف عجزهما وحاجتهما إلى معين ، ويعرف مرضات الله في تلك الإعانة.

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ٢٤.

(فَسَقى لَهُما) وكيف سقى ، طبعا قبل ان يصدر الرعاء كلّا أو بعضا ، فإن سقيه لهما بعد إصدارهم عن آخرهم ليست فيه معونة زائدة على سقيهما بعد الإصدار.

٣٢٥

أتراه سقى لهما حسب النوبة؟ أم تطلّب منهم تقدم النوبة؟ كلّ محتمل ، ولكن القوة المعروضة في قالة إحداهما (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) إنها تخرج حالة السقي لهما عن العادة ، فلتكن قوة بارعة خارقة أقوى من كل الرعاع ، وهنا قد يصدق ما يروى انه كان يجتمع على الدلو رجال حتى يخرجوه من البئر لعظمه وثقله (١) فاستقل موسى بمفرده لإخراجه ، مما سمح له منهم ان يسقي لهما قبل النوبة.

وأضف إليها القوة النفسية التي أوقعت في قلوب الرعاة هالة الانجذاب إليه ، حيث الناس يتأثرون بالقوات النفسية اكثر من البدنية ، فمن الجائز أنهما لمستا منه القوتين فاعترفتا عند أبيهما انه «قوي».

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٢٠ القمي في تتمة القصة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) .. ومر نحو مدين وكان بينه وبين مدين مسيرة ثلاثة ايام فلما بلغ باب مدين رأى بئرا يستقي الناس منها لاغنامهم ودوابهم فقعدنا حية ولم يكن أكل منذ ثلاثة ايام شيئا فنظر إلى جاريتين في ناحية ومعهما غنيمات لا تدنوان من البئر فقال : ما لكما لا تسقيان فقالتا كما حكى الله عز وجل : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) فرحمهما موسى (عليه السلام) ودنا من البئر فقال لمن على البئر أسقي لي دلوا ولكم دلوا وكان الدلو يمده عشرة رجال فاستقى وحده دلوا لمن على البئر ودلوا لبنتي شعيب وسقى أغنامهما ثم تولى إلى الظل فقال : رب اني لما أنزلت الي من خير فقير ـ كان شديد الجوع.

وفيه عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) .. فانتهى إلى اصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر وإذا عندها امة من الناس يسقون وإذا جاريتان ضعيفتان وإذا معهما غنيمة لهما «قال ما خطبكما قالتا : أبونا شيخ كبير ونحن جاريتان صغيرتان لا نقدر ان نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما : قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها وقال «رب ..» فلما رجعت إلى أبيهما قال : ما أعجلكما في هذه الساعة؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا فقال لأحداهما اذهبي فأعديه لي فجاءته إحداهما ...».

٣٢٦

ثم الضعف الطارئ من أعباء السفر الشاق الطويل ، على تخوّف ، وحرّ الشمس كما «ثم تولى» منها «الى الظل» هذه مما ينهك القوي ، فما أقواه موسى ان تغامض عن كل ذلك وسقا لهما قبل أن يصدر الرعاء دونما أجر حاضر ولا موعود ، إلّا مرضات الله.

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى) عنهما «إلى الظل» ليستريح عن حرّ الشمس ووعثاء السفر ، «تولّى» دونما تساءل آخر عنهما كيلا يخيّل إليهما أنه يريد منهما أجرا ، أو يهواهما زواجا بديلا عما سقا لهما ، وذلك هو العفاف القاصد القاسط أمام المحاويج من النساء الأغارب ، أن تقضى حوائجهن ثم يتولّى عنهن ، وهذا أرغب لهن إلى الزواج إن أردنه ، حيث التأبي الظاهر من الرجل القوي الأمين مما يثير رغباتهن.

(تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وما هو ما أنزل اليه ربّه؟ أهو الحكم والعلم؟ وقد أوتيهما من قبل! أم هو طعام يطعمه إذ كان جائعا مدقعا (١) فقد «والله ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاف بطنه لهزاله وتشذب لحمه» (٢)؟

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٢٥ ـ اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلّى الله عليه السلام) لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب اني لما أنزلت إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ـ قال : انه يومئذ فقير إلى كف من تمر.

(٢) نهج البلاغة قال (عليه السلام) وان شئت ثنيت بموسى كليم الله صلوات الله عليه إذ يقول (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) والله ...

وفي نور الثقلين ٤ : ١٢١ في الكافي عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : سأل الطعام ، والعياشي عن حفص البختري عن أبي عبد ـ

٣٢٧

و (لِما أَنْزَلْتَ) تدل على خير منزل عليه ماض ، ولو كان هو الطعام الحاضر لم يكن بحاجة إلى دعاء الافتقار ، والصيغة الصالحة له «رب اني جائع» ام «فقير لما تنزله من طعام» ام ما شابه! اللهم إلا أن يعنى ب «من خير» القوة البدنية ـ اضافة إلى الروحية ـ التي استطاع بها ان يسقي لهما ، ففقره إلى هذه القوة يتطلب طعاما يتقوى به ليستمر في هكذا إعانات في وجه الله ، ام خير قضاء الحاجة حيث أنزله الله إليه فأدّى واجبه ، ثم يتطلب من ربه قضاء حاجة الجوع جزاء وفاقا ، و (لِما أَنْزَلْتَ) دون «إلى ما أنزلت» لمحة لطيفة إلى أنه يتسبب بما انزل إليه من خير لقضاء حاجته ، حيث اللام هي السببية.

أم يعني خير قضاء حاجتهما ، فهو مفتقر إلى مثله ، متأهب لقضاء كل حاجة نازلة اليه من عنده تعالى وذلك من شيم الخيّرين أن الحاجة المعروضة لديهم مهما كانت صعبة القضاء ، هي خير منزل من الرب.

كما ويعني الامرأتين ، أنني بحاجة إلى زواج إحداهما ، وقد تعني (لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) كلما ذكر من خير الوحي والقوة البدنية والروحية ، وخير قضاء الحاجات ، وخير حاجة البطن : الطعام ، وخير حاجة الجنس : الزواج ، إظهارا للافتقار إلى كل ذلك ، وقد ذكرت اللام في (لِما أَنْزَلْتَ) لتعم السبب والغاية ، لسبب ما أنزلت وإلى ما أنزلت الي من خير فقير ، وقد

__________________

ـ الله (عليه السلام) في قول موسى لفتاه : آتنا غداءنا وقوله (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قال : انما عنى الطعام فقال ابو عبد الله (عليه السلام) ان موسى لذو جوعات ، وعن ليث بن سليم عن أبي جعفر (عليه السلام) شكى موسى إلى ربه الجوع في ثلاثة مواضع : (آتِنا غَداءَنا ..) (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ـ (لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

٣٢٨

أجاب ربه دعاءه من فوره ، وقد يستبعد من ذلك المحتد الرسالي طلب الطعام وله من القوة ما يسقي لها و «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي» (١) اللهم إلّا ضمن طلباته ليقوى على ما أعان ، فعلى أية حال فليس يختص (لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ) بطعام يأكله ، إذ لم ينزل عليه بعد إلّا عند شعيب ، وقد أنزل عليه من قبل الجاريتين بحاجتهما ، ولذلك فرع مجيئهما بدعائه كإجابة عاجلة :

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ(٢) لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ٢٥.

لما «قال (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) دون فصل إلّا قدر السير المرجّع إلى أبيها ، حال انها (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) فان أمرها ظاهر ، ولا سيما أنها تجيء إليه وهو خلاف المتعود من خطبة النساء ، وقد تلمح «على» بتأكد الاستحياء وأنها علت عليه بما جاءته ، وإلا ما كانت لتجيئه ، وان «استحياء» منكرة تعظمه حيث المعرف «الاستحياء» هو المعروف المتعوّد من العفائف ، فقد كان استحياء عظيما منقطع النظير ، وبالفعل جاءته .... و (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ ..) جاءته جيئة جيّة في غير ما تبذّل ولا تبرّج أو إغراء ، وإنما للإيواء إلى كريم البواء ، جاءته يدعوه في أقصر لفظ واكثر معنى يحمل استدعاء إجزاء الجزاء دون لفظة أخرى تتغنج بها الفتاة بطبيعة الحال فيتهيج بها الفتى في نفس الحال ، كلّا وإنما (أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا)!.

وتراه كيف ساغ له اتباع امرأة في قولها ، ثم المشي معها وهي

__________________

(١). التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٤ : ٢٤٠ ـ أليس انه (عليه السلام) قال : ...

٣٢٩

أجنبية ، وذلك يورث عظيم التهمة؟ وكيف ساغ لشعيب (عليه السلام) ان يبعث بنته الشابة إلى شاب ولمّا يعرفه بالعفة؟ وكيف ساغ لموسى تقبّل أجر ـ كما قالت ـ وقد أعانهما لوجه الله ، وهذا خلاف المروءة بل وخلاف الشرعة الإلهية إذ لم يعمل ما عمله بجعالة ، لا سيما وانه عرف عجز أبيهما وفقر العائلة ، ولموسى من القوة ما يحصل بها على مال يحتاجه من غير فقير بمحاولة يسيرة؟.

والجواب ان موسى انما استجابها إذ عرف من قبل عفافهما ، فلمحة الصدق من قولها ، وهو غريب في مدين يفتش عن قريب في العقيدة والمأمن.

ثم ولم يستجبها طلب الأجرة ، وهي جائزة دون طلب ، مهما كانت مطالبتها غير جائزة دون جعل ، وانما استجابها إذ تلمّح منها ومن مجيئها كأنها تعني تحقيق دعائه في الزواج بها ، وليس هو في الحق أجرا مهما سمته أجرا ، إذ أنكحها بثماني حجج أو عشر ، وقد ينقل متظافرا أنها لما قالت ليجزيك كرهه (١) ولما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء فقال له كل ، قال موسى (عليه السلام) أعوذ بالله ، قال : ولم ، ألست جائعا؟ قال : بلى ولكن أخاف ان يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبتغي شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا! قال : لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى (عليه السلام) فأكل (٢).

وهذه طبيعة الحال في كل التحيات ، فقد حياه موسى ان سقى

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٤ : ٢٤١ وروي انها قالت : ...

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٢٥ ـ اخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال لما دخل موسى على شعيب ...

٣٣٠

لابنتيه ، فحيّاه بأحسن منها أن أطعمه وأنكحه إحدى ابنتيه ، وقبول التحية المردودة من آداب الايمان : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (٤ : ٨٦) ، وقد ساغ لشعيب أن يبعثها إليه لما عرف من قوته وأمانته ، وذلك أحرى من بعثهما لسقى الغنم ، (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) السابق ذكره «قال» : شعيب (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إذ ليس مدين داخلا في سلطان فرعون ولا أنه عارف بمكانك ، وتراه كيف مشى معهما ابتعادا عن التهمة ، وعن النظر إليها؟ لقد تقدمها لكي يأمن عن النظر إليها (١) وبذلك عرفت أمانته إذ قالت : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) :

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ٢٦.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٢٢ عن تفسير القمي من حديث القصة الطويلة عن الباقر (عليه السلام) .. فقام موسى معها ومشت امامه فسفقتها الرياح فبان عجزها فقال لها موسى : تأخري ودليني على الطريق بحصاة تلقيها امامي اتبعها فانا من قوم لا ينظرون في ادبار النساء ..

وعن كتاب كمال الدين وتمام النعمة عنه (عليه السلام) قال لها : وجهيني إلى الطريق وامشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في اعجاز النساء ..

وعن من لا يحضره الفقيه روى صفوان بن يحيى عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) قال قال لها شعيب يا بنية هذا قوي قد عرفتيه برفع الصخرة ، الأمين من اين عرفتيه؟ قالت يا أبه اني مشيت قدامه فقال : امشي من خلفي فان ضللت فأرشديني إلى الطريق فانا قوم لا ننظر في ادبار النساء وعن المجمع قال امير المؤمنين (عليه السلام) لما قالت المرأة هذا قال شعيب : وما علمك بأمانته وقوته؟ قالت : أما قوته فانه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا بكذا ، واما أمانته فانه قال لي : امشي خلفي فأنا اكره ان تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك.

٣٣١

قد تكون «إحداهما» ـ هذه ـ هي التي جاءته فزوجه شعيب إياها (١) وعلّها أصغرهما (٢) لا ندري ، حيث العادة جارية على تقديم الكبرى على الصغرى إلّا إذا كانت هي الأولى والأحرى بمن يريدها ، ثم ولا مزرئة على الأخرى.

وعلى أية حال (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) إذ نحن بحاجة إلى رجل يعيننا و (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وقد جرّبنا قوته وأمانته (٣) فلتكن القائلة هذه القولة هي التي جاءته إذ جرّبت أمانته ، مهما كانت تجربة القوة لهما معا ، وكيف تجرأت ان تقول (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) واستيجار مثل هذا الرجل القوي الأمين مهانة؟ علّها لأنها لم تجد صيغة أخرى أحرى منها لاستجلابه لزواجها عرضا على أبيها ، فقد لمحت إلى مهرها

__________________

(١) بحار الأنوار ١٣ : ٢٩ عن أبي عبد الله (عليه السلام) سئل أيتهما زوجة شعيب من بناته؟ قال : التي ذهبت إليه وقالت لأبيها : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ..) وفيه (عليه السلام) بسند عن البزنطي قال سألت الرضا (عليه السلام) عن قوله تعالى : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ..) أهي التي تزوج بها؟ قال : نعم. وفي نور الثقلين ٤ : ١٢٣ مثلهما في التي تزوج بها.

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٢٧ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي جبريل يا محمد ان سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما ، وان سألوك أيهما تزوج فقل : الصغرى وفيه اخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذر قال قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا سئلت اي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما ، وإذا سئلت أي المرأتين تزوج ، فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يأبت استأجره ..

(٣) في أحاديث متظافرة مضت أن شعيب سألها دليل قوته وأمانته فقالت ، قوته أن سقى لنا ما لم يقدر عليه احد من الرعاء وأمانته انه مشى امامي تحرزا عن النظر إلى خلفي.

٣٣٢

باجرة الاستئجار ، وإلى زواجها باستدعائه أن يظل عندهم ، وذلك لا يناسب إلّا بزواج ، والقوة والأمانة هما الدعامتان في صالح الحياة الجماعية ، ولا سيما تأسيس الأسرة. ف (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كانت خطوة أولى تطمئنه نفسيا ، ثم (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) خطوة ثانية فيها حظوة الجنس ورياحة الجسم من صوت الأنوثة الأنيسة ، وما ألطفه دعاء للزواج.

وهنا يحس الأب الشيخ الكبير تجاذبا بين الجانبين وثقة متبادلة بين الطرفين ، بعد ما تأكد صلوحا في موسى قوة وأمانة ، فاستجاب من فوره لاقتراح ابنته :

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ٢٧.

وترى (إِحْدَى ابْنَتَيَّ) هي التي قالت يأبت استأجره؟ وصيغته الصالحة الصريحة «اني أريد ان أنكحك إياها»! ، أم هي الأخرى؟ فالأخرى!

إن التعمية هنا هي أولا ستار على موقف الأولى ابعادا عن رخاصتها ، وهي ثانيا تخيير له في اختيار أيتهما شاء دونما تسيير عليه بحصر على الأولى.

وقد نتعرف هنا إلى الصيغة الصالحة للنكاح (أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ) حيث المفعول الأوّل المنكح هو الزوج ، والثاني المنكح له الزوجة وكما في اخرى (زَوَّجْناكَها) (٣٣ : ٣٧) (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٤٤ : ٥٤) فلا معاكسة في صيغة النكاح ك «زوجتك نفسي» أمّا شابه.

وهكذا عرضت إحدى ابنتيه ان يأجره أبوها ، ثم عرض الأب عليه بكل بساطة زواجه بها لما عرف الكفائة من الجانبين ، عرضاه في غير التواء

٣٣٣

ولا تحرّج ، خلاف التقاليد المصطنعة الباطلة التي أصبحت سنة الزواج ، إذ تحتم خطبة النساء على الرجال وأوليائهم أو وكلائهم ، دون جانب المرأة ، رغم المخالطة والمكاشفة أحيانا بين بعضهم لبعض دونما خطبة ولا نكاح ، فأما إذا حان حين الزواج فلتكن الخطبة من جانب الزوج ، وإلّا فهي رخيصة بخيسة إذ عرضت نفسها للزواج أو عرضت له!

ولقد كانت النساء يعرضهن انفسهن على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء ، فيعرضها على من يستصلحه لها ، مزودا لهن بترغيب ودونما تعييب أو تأنيب ، ونموذجا من ذلك نص الأحزاب (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٠).

وترى كيف يصح كون الصداق لصالح ولي البنت وبقراره : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ..) والصدقات تخص البنات دون الأولياء؟.

علّه لأنه كان مؤذونا في الأمرين كما تطلّبت اليه : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) فاستأجره كما استصلح لصالح العائلة عامة وللبنت خاصة ، إذ هي من ضمن من يستفيدون من ذلك الايجار ، ام انه يحق لولي (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢ : ٢٣٧) مهما كان موردها العفو عن نصف الصداق بطلاق قبل وقاع ، إذ لو لم يكن له حق في صداقها لما حق له العفو عنه نصفا أمّاذا ، وكيف يصح هكذا قرار للصداق حيث لا يعلم الوفاء به إذ ما تدري نفس متى تموت؟ إنه قد لا يصح هكذا ، إلّا «أن موسى علم أنه سيتم له شرطه» (١) فحين لا يعلم الوفاء كان الصداق معلقا غير مقطوع به

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٢٣ عن المجمع روى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ـ لما قيل له : فدخل بها قبل ان بمضي الشرط أو بعد انقضاءه؟ ـ

٣٣٤

فغير صالح للنكاح ، أم إن له بديلا مما ترك بعد موته إن كانت له تركة ، وحتى إذا لم تكن فالتصميم على الوفاء مع إمكانيته في ظاهر الحال يكفي صدقا للصداق ، فمن هذا الذي يعلم بيقين أنه يوفي بما وعد في أية معاملة من المعاملات ، ومنها الصداقات المؤجلة ، بل والمعجلة بعد هنيئة من عقد النكاح إذ من الجائز عدم قدرته على الإنجاز لموت أو فقد مال ، وهنا (ثَمانِيَ حِجَجٍ) وهي ثماني سنين ، تصريحة على سابق الفرض في حج البيت ، لحدّ كانت تسمى كل سنة حجة (١) والحجج الثمان هي الصداق الأصيل ، والإتمام عشرا نافلة هو بالخيار فيها ، وقضية الكرم من مثل موسى إتمامها عشرا وقد أتم وكما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعن اهل بيته الكرام عليهم السلام (٢).

__________________

ـ قال : قبل ان ينقضي ، قبل له : فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين أيجوز ذلك؟ قال : ان موسى علم انه سيتم له شرطه ، قيل : كيف؟ قال : علم انه سيبقى حتى يفي.

(١) في تفسير العياشي قال الحلبي سئل ابو عبد الله (عليه السلام) عن البيت أكان يحج قبل ان يبعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قال : نعم وتصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى عليهما السلام حيث تزوج (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ولم يقل ثماني سنين.

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٢٦ ـ اخرج ابن ماجه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عقبة بن المنذر السلمي قال : كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقرأ طس حتى بلغ قصته موسى (عليه السلام) قال : ان موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه فلما وفي الأجل قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أي الأجلين وفي موسى؟ قال : أبرهما وأوفاهما فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته ان تسأل أباها ان يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت من غنمه ... ورواه مثله في أبر الأجلين وأوفاهما أبو هريرة عن أبي سعيد الخدري عنه (صلّى الله عليه ـ

٣٣٥

أو ليس شاقا على موسى على محتده وعلو مقامه وواجب تحضيره للرسالة المستقبلة أن يؤاجر نفسه ثماني حجج أو عشرا؟ حسب الظاهر نعم ، وفي الحق لا كما وضحه أبوها (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في أصل الثمان ولا في التكملة ، وإنما هي مصلحة ككلّ من صالح إلى صالح (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ..)

ومن الصالح في هذه الحجج أن يصبح موسى من رعاة الأغنام قبل ان يرسل رسولا إلى الأنام ، فلقد لبثت من عمره ردحا في بلاط النعمة والنعومة ، فليعش ـ ما بينه وبين الرسالة إلى فرعون وملإه وسائر المكلفين ـ راعيا لأغنام وذلك قدره الذي قدّره له ربه (.. وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).

ويا له من اصطناع بارع ليصنع بعد أمة صارمة ضد الفراعنة المجرمين ، فقد نقلته يد القدرة الرقيبة الربانية منذ رضاعته إلى طفولته وإلى رجولته وحتى ذلك الحين وقد حان حين الوحي الحبيب ، وفي هذا الخط الطويل قبل الرسالة وبعدها تجارب منقطعة النظير ـ إلّا لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ من تجربة الحياة في جو الفرعنة ، ثم الخوف والفزع والمطاردة ، وتجربة الجوع والوحدة والغربة ، وتجربة رعي الغنم والخدمة بعد حياة القصر.

__________________

ـ وآله وسلم) وأبو هريرة نفسه عنه.

وفي نور الثقلين ٤ : ١٢٥ عن المجمع روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وابطأهما ، وفيه مثله عن أبي ذر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعن تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) لما قيل له : اي الأجلين قضى؟ قال : أتمهما عشر حجج ...

٣٣٦

وهكذا تكون الرسالة الإلهية ضخمة الجوانب والتبعات في مقدمات ومؤخرات ، يحتاج صاحبها إلى عظيم الزاد في سفرته الشاقة الطويلة المليئة بالأشلاء والدماء والحرمانات عن المشتهيات في هذه الأدنى ليجتاح دون عبأه كل العرقلات ، والرسالة الموسوية هي اضخم الرسالات ـ بعد الرسالة الختمية ـ فليستعد موساها لكل إعداداتها حتى يجيء على قدر فيها.

وعرض قصص موسى في معرض القرآن أكثر من سائر القصص ، لأنه أعرض القصص الرسالية ، وأشبهها بقصص الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وليستأنس به في هذا السبيل الشاق الطويل.

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ٢٨.

«ذلك» الميعاد (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) مخيرا بين الأجلين لا مسيّرا (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) في شرط الزواج «وكيل» دونما حاجة إلى شهود آخرين ، مما يدل على أن الإشهاد في النكاح غير واجب ، مهما كان واجبا في الطلاق.

فقد تمت هنا مواضع العقد بشروطه بلا مجال فيها لغموض ، وهنا التعمية من موسى (عليه السلام) (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) تأكيدا للتخيير ، وفسحا لمجال الإكرام بأوفاهما ، وذلك مما ندب إليه في الشرعة الإلهية ، أن يزاد في الأجر مهما كانت مماكسة فيه في البداية.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ

٣٣٧

تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا

٣٣٨

الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(٤٢)

(قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) المعروف بينهما وهو آجل الأجلين دون الأعجل ، إكراما لشعيب ومعاملة بمعروف مع أهله كما هو المأمور به في الشرعة الإلهية ، وكما يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «تزوج

٣٣٩

صغراهما وقضى أوفاهما» (١).

وبالفعل (قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) ومضى ما مضى حيث أمضاه ، ولا إشارة هنا إلى كيف مضت العشر إذ لا تدخل في صميم القصص الرسالي ، مهما أجمله في (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) مما يلمّح إلى الصالح الرسالي المستقبل في هذه العشر العشيرة مع الأهل ، (وَسارَ بِأَهْلِهِ) مسيره المترقّب المعهود إلى مصر (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ..) وقد شرحناه في طه والنمل فلا نعيد إلّا ما أعيد هنا تكرارا يناسب تفصيل القصص ، و «اهله» هنا هم زوجته وولده (٢) وهم ذكور أو بينهم ذكور لمكان الجمع المذكر «امكثوا».

مسير الإياب هنا هو مسير الذهاب نفسه واين مسير من مسير ، فهناك كان فريدا شريدا خائفا يترقب ، وهنا (سارَ بِأَهْلِهِ) مستأنسا بهم وبالنار التي آنسها من جانب الطور وارفا يتأهب ، ليناديه به ويناجيه بما ينجيه وسائر المستضعفين فيرثوا الأرض (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)!

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ٣٠.

وهذه إجمال عما فصل في «طه» : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) مما يلمح أن هذه الأصول الثلاثة مستفادة من كلمة التوحيد بإجمال.

__________________

(١). تفسير الفخر الرازي ٢٤ : ٢٢٤ ـ اعلم انه روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ...

(٢). في سفر الخروج من التوراة ٤ : ٢٠ ـ انه حمل معه إلى مصر امرأته وبنيه.

٣٤٠