الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

ولا ما تصفها روايات في كتب إخواننا ان طولها ستون ذراعا ، ذات زغب وريش وحافر ، لها لحية ، رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن

__________________

ـ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال : لا والله ما هو إلّا له خاصة وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه فقال عز وجل : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ ..) ثم قال : يا علي! إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك .. ، وفيه قال ابو عبد الله (عليه السلام) قال رجل لعمار بن ياسر يا أبا اليقطان ان آية في كتاب الله أفسدت قلبي وشككتني؟ قال : وأيّة آية هي؟ قال : قوله عز وجل (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ ..) فأية دابة هذه؟ قال عمار : والله ما اجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل تمرا وزبدا فقال : يا أبا اليقظان هلم ، فاقبل عمار وجلس يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام الرجل قال : سبحان الله انك حلفت ان لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس حتى تريني الدابة؟ قال : أريتكها إن كنت تعقل ، وفيه عن المجمع عن العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر ايضا وروى محمد بن كعب القرظي قال سئل علي (عليه السلام) عن الدابة؟ فقال : اما والله ما لها ذنب وان لها للحية ، وفي تفسير البرهان ٣ : ٣١٠ محمد بن العباس بسند عن أبي عبد الله الجدلي قال دخلت على علي (عليه السلام) فقال : أنا دابة الأرض ، وفيه عنه بسند عن الأصبغ بن نباتة قال دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل خبزا وخلا وزيتا فقلت يا أمير المؤمنين قال الله ... فما هذه الدابة؟ قال : هي دابة تأكل خبزا وخلا وزيتا ، وفيه عنه عن الأصبغ بن نباتة قال : قال لي معاوية يا معاشر الشيعة تزعمون ان عليا دابة الأرض؟ فقلت : نحن نقوله واليهود يقولون ، قال : فأرسل إلى رأس الجالوت فقال له : ويحك تجدون دابة الأرض عندكم مكتوبة؟ فقال : نعم ، فقال : ما هي أتدري ما اسمها؟ قال : نعم اسمها إيليا ، قال : فالتفت الي فقال : ويحك يا أصبغ ما اقرب إيليا من علي! ، وفيه سعد بن عبد الله عن عبد الله بن يسار قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : في حديث قدسي يا محمد عليّ أوّل من أخذ ميثاقه من الأئمة عليهم السلام يا محمد علي آخر من اقبض روحه من الأئمة عليهم السلام وهو الدابة التي تكلم الناس.

٢٦١

فيل وقرنها قرن إبل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرّ وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير (١)!!!

فهذه تجمع لهذه الدابة مختلف هيئات لمختلف الدابة ، وتلك تقول انها مجمع فضائل الانسانية القمة ، فهي بين مفرطة ومفرّطة ، والنص (دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) لا هكذا إنسان ولا هكذا حيوان ، وبينهما أحاديث عن الفريقين عوان نصدق منها ما صادق القرآن (٢).

__________________

ـ أقول : هذه مختلقات زور على الله وعلى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلى علي (عليه السلام) وعلى بعض المعصومين من ذريته. إن عليا (عليه السلام) هو دابة الأرض ، والله والرسول والأئمة منه براء!.

(١) الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الزبير انه وصف الدابة فقال : رأسها ...

(٢) الدر المنثور ٥ : ١١٤ ـ اخرج نعيم بن حماد وابن مردويه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إذا كان الوعد الذي قال الله : أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ... فيكون خروجها من الصفا ليلة منى فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض داحض ولا يخرج خارج حتى إذا فرغت مما أمرها الله فهلك من هلك ونجا من نجى كان أول خطوة تضعها بانطاكية ، وفيه ١١٥ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : تخرج الدابة يوم تخرج وهي ذات عصب وريش .. وفيه ١١٦ ـ اخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الدابة فقال حذيفة يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من اين تخرج؟ قال : من أعظم المساجد حرمة على الله بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وتشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا أوّل ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب ...

وفي نور الثقلين ٤ : ٩٧ في كتاب كمال الدين وتمام النقمة باسناده الى النزال بن ـ

٢٦٢

وقول القائل تبريرا لكون المعني منها الإمام علي (عليه السلام) ـ ولا سمح الله ـ : إنّ الدابة جنس تشمل كل حيوان وإنسان أيا كان ، مردود إليه بان ذكر الجنس الشامل لسائر الحيوان قصدا إلى أفضل انسان ، هو من أسوء التعبير وأشنعه ، بل والتعريف له بمطلق الإنسان أن عليا (عليه السلام) كان إنسانا ، وصالح التعريف أيا كان هو التعريف بالفصل الخاص والصفة المتميزة الخاصة كما المؤمن ـ العادل ـ الامام ـ ولي الله أماذا من أخص الفصول القريبة المميزة له عن سواه.

وفي هذا المجال المختلق ضد الامام علي (عليه السلام) قيل له ان ناسا يزعمون انك دابة الأرض؟ فقال : والله ان لدابة الأرض ريشا وزغبا

__________________

ـ سيارة عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل قال فيه ـ بعد ان ذكر الدجال ـ ومن يقتله واين يقتل؟ ألا ان بعد ذلك الطامة الكبرى ، قلنا : وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : خروج دابة الأرض من عند الصفا معها خاتم سليمان وعصى موسى عليهما السلام تضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع فيه هذا مؤمن حقا وتضعه على وجه كل كافر فيكتب هذا كافر حقا حتى ان المؤمن لينادي الويل لك حقا يا كافر وان الكافر ينادي : طوبى لك يا مؤمن وددت اني كنت مثلك فأفوز فوزا عظيما ، ترفع الدابة رأسها من بين الخافقين بإذن الله جل جلاله وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها فعند ذلك ترفع التوبة فلا تقبل توبة ولا عمل يرفع (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ثم قال : لا تسألوني عما يكون بعد هذا فانه عهد إليّ حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ألّا أخبر به غير عترتي.

أقول : من جملة ما يرد على هذه الرواية ـ اضافة الى قصة من هو الدابة ـ خروجها بعد الدجال ، والدجال يكون في زمن المهدي وبعد الرجعة وخروج الدابة هو قبلها فانه من أشراطها!.

٢٦٣

ومالي ريش ولا زغب وان لها لحافرا ومالي من حافر» (١) وهنا أصبحت رواية إخواننا السنّة بحق الإمام (عليه السلام) أرحم من رواية أصحابنا الشيعة! وهنا ندرك أبعاد الشكيمة اللئيمة على الإمام (عليه السلام) بلسان أشياعه المجاهيل دفعا لهم إليها من أعاديه ، فهم أولاء الحماقى يذيعون عليه (عليه السلام) هذه الواصفة النكدة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، رغم انهم من الأخسرين اعمالا!

ولماذا يفسّر (دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) بعلي (عليه السلام)؟ ألأن تكلم الدابة خارقة ربانية فلتكن له (عليه السلام)؟ وليس تكلم الإمام بخارقة ، بل الخارقة هي تكلم الدابة؟

ومن المظنون ان دابة ناصبة معاندة للإمام استغفل دابة ممن يدعي انه من أشياع الإمام فحملته على ذلك التأويل العليل ، إذ خيّل إليه انه غنيمة من التأويل حيث يختص الإمام بهذه الكرامة الغالية! وليس تكلم الإنسان كرامة لأي إنسان فضلا عن الإمام!

فما حديث دابة الأرض تفسيرا لها بالإمام إلّا تلقينا لعينا من دابة ناصبة إلى دابة راسبة في شعورها تدعى أنها من الشيعة ، مهما تظافر نقله في كتابات شيعية والامام علي (عليه السلام) براء من هكذا هتك وفرية.

وانها حسب الآية وروايات من الفريقين حيوان وليس أي إنسان ، (دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) هؤلاء الكفرة الأنكاد : «ان الناس» : وهم هؤلاء وأضرابهم (كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ).

إخراج دابة من الأرض تكلمهم هو من أشراط الساعة وليس فيها

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١١٧ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال قيل لعلي بن أبي طالب ...

٢٦٤
٢٦٥

كانوا بآياتنا لا يوقنون؟ والعبارة الصالحة له «انهم كانوا» لأنهم هنا الناس!

علّهم هم الحاضرون في ذلك المسرح ، و «الناس» هم كل الكافرين على مدار الزمن الرسالي ، فهي ـ إذا ـ تكلمهم هؤلاء الحضور ، «أن الناس» وهو يعمهم وكل اضرابهم ولمّا يحشروا «كانوا» على طول الخط الرسالي (بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) وهم المحشورون ككل بعد يوم الدابة (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ..). فقد تكون هذه الدابة إذاعة معلنة للذين كانوا بآياتنا لا يوقنون قبل حشرهم ، ولكي يعرفوا في مسرح الحشر أمام أنفسهم والذين هم كانوا بآياتنا يوقنون.

وترى ما هو كلامها؟ هل هو كلمها ووسمها إيّاهم دون تكلم بلفظة؟ وهذا كلم وذلك تكليم ، والنص يرفض رواية الكلم مهما كثرت رواته ، ويرجّح روايات التكليم مهما قلت رواته (١) ورواية الكلم تكلم

__________________

(١) في الدر المنثور يروي الرواية الأولى عن رسول الله (صلّى الله عليه عن ابن عمران : ليس ذلك حديثا ولا كلما ولكنه سمة تسم من أمرها الله به ، وعن أبي هريرة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) .. فتنقط في وجه المؤمن نقطة بيضاء فيبيض وجهه وتنقط في وجه الكافر نقطة سوداء فيسود وجهه ، وعن حذيفة بن يمان عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) تسم الناس مؤمن وكافر .. وعن أبي هريرة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) فتجلو وجه المؤمن بالخاتم وتخطم أنف الكافر بالعصا.

وفيه يروى الرواية الثانية عن ابن عباس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) تخرج دابة الأرض .. وتنادي بأعلى صوتها ان الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون .. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات فيسمعها من بين الخافقين ، وفي نور الثقلين ٤ : ٩٨ عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ... فقال رجل له (عليه السلام) ان العامة يقولون ان هذه الآية انما تكلمهم؟ فقال : كلمهم الله في نار جهنم انما هو تكلمهم من الكلام ، وفيه جوامع الجامع عن الباقر (عليه السلام) :

٢٦٦

القرآن كلم الله راويها ومختلقها خلاف نص القرآن!.

والمكذبون هنا قد تعنيهم آية الأنبياء فيمن تعنيهم (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) (٢١ : ٩٧).

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ٨٣ حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٨٤ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) ٨٥.

(كُلِّ أُمَّةٍ) تعني كل الأمم الرسالية الموجهة إليهم الرسالات الخمس الإلهية ، وهذا الحشر لا يعمهم هنا كلهم ، وانما (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) ف «من» الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين ، إذا فكل المكذبين بآياتنا من كل أمة يحشرون في ذلك اليوم.

وكما (كُلِّ أُمَّةٍ) تعني الأمم الخمس بكل أنبياءها ورسلها ، كذلك «آياتنا» تعني كل الرسل أصولا وفروعا ، بآياتهم الرسالية معجزات وكتابات ، ف «آياتنا» إذا هي مثلث الآيات رسوليا ورساليا.

والحشر هو الجمع ، إن أحياء فأحياء وإن أمواتا فأموات ، وهنا الجمع بينهما فإنهم المكذّبون ـ ككل ـ من كل امة ، من الأحياء الحضور في ذلك اليوم والأموات قبله.

فهل إن ذلك اليوم بعد هو القيامة الكبرى ، حشرا خاصا لخصوص العذاب وكما في نظيرتها : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّ

__________________

ـ كلم الله من قرأ يكلمهم ولكن تكلّمه بالتشديد.

٢٦٧

(٤١ : ٢٠)؟

وهذه في الحشر إلى النار فطبعا هو خاص بأعداء الله بعد الحشر العام ليوم القيام ، وتلك حشر للاستجواب وهو يعم كل المحشورين مؤمنين وكافرين ، اللهم إلّا السابقين وأصحاب اليمين (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٧٤ : ٣٩)!

ذلك حشر خاص في يوم خاص لحياة التكليف ، فقد جاء بعد شرط من أشراط الساعة وهو خروج الدابة ، وقبل الساعة نفسها : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ..) وهو خاص بمن (يُكَذِّبُ بِآياتِنا) وهو من محض الكفر محضا وكما آية النور والوعد في الزبور (١) تختصان الحشر بمن محض الايمان محضا ، فالمستفيضة المروية عن أئمتنا عليهم السلام «لا يرجع إلا من محض الايمان محضا ومن محض الكفر محضا» (٢) مستضيئة من هذه الثلاث الدالة على الحشر الخاص.

فكما الذين آمنوا وعملوا الصالحات في النور ، وعبادي الصالحون في وعد الزبور محلّقان على كافة المؤمنين الصالحين لوراثة الأرض ، فهم محشورون لها في مستقبل منير ، كذلك (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)

__________________

(١) آية النور هي «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..» والثانية» «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ».

(٢) نور الثقلين ٤ : ١٠٠ عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما يقول الناس في هذه الآية (يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً)؟ قلت يقولون انها في القيامة؟ قال : ليس كما يقولون ، انها في الرجعة ، أيحشر الله في القيامة من كلّ فوجا ويدع الباقين؟ انما آية القيامة (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

٢٦٨

منعا عن التفرق في موقف حشرهم ، فريقان متفارقان يحشران قبل (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧) لا فحسب (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) ولا فحسب المؤمنون الصالحون ، بل (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١٨ : ٤٧)(١).

فقد يرجعون لمّا يدعون ويستجابون ، وروايات الرجعة ـ ككل ـ هي فوق حد التواتر ، وهي معنويا اجماليا تدل على رجعة أموات قبل القيامة الكبرى (٢).

__________________

(١) المصدر عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : ليس احد من المؤمنين قتل إلا ويرجع حتى يموت ولا يرجع إلّا ... وفي البحار ٥٣ : ٣٩ عن أبي عبد الله (عليه السلام) .. وان الرجعة ليست بعامة وهي خاصة لا يرجع إلا من محض الايمان محضا أو محض الشرك محضا فهم يرجعون».

(٢) إليكم اسماء البعض من روات الرجعة عن المعصومين عليهم السلام :

بريد الأسلمي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكافة الأئمة الاثنى عشر ـ عباية الأسدى ـ مسعدة ـ الثمالي عن علي امير المؤمنين (عليه السلام). ابو خالد الكاهلي عن علي بن الحسين عليهما السلام ـ بكير بن أعين ـ ابو بصير ـ جابر بن يزيد الجعفي ـ ابن المغيرة ـ حمران ـ داود بن راشد ـ عاصم بن حميد ـ صالح بن ميثم ـ ابو حمزة الثمالي ـ ابن عيسى ـ عامر بن معقل ـ محمد بن مسلم ـ عبد الله بن عطا ـ سدير ـ زرارة ـ أبو الصباح ـ عبد الرحيم القصير عن الامام الباقر (عليه السلام).

حمران بن أعين ـ ابو الخطاب ـ زرارة ـ محمد بن مسلم ـ محمد بن الطيار ـ ابن بكير ـ فيض بن أبي شيبة ـ عبد الكريم بن عمرو الخثعمي ـ سليمان الديلمي عن أبيه ـ معلي بن خنيس ـ ابن مسكان ـ معاوية بن عمار ـ موسى الحناط ـ زيد الشحام ـ جميل بن دراج ـ سالم بن المستنير ـ صالح بن سهل ـ مفضل بن عمر ـ صفوان بن مهران ـ عبد الله بن القسم ـ عمار بن مروان ـ احمد بن عقبة عن الامام الصادق (عليه السلام).

القسم ـ محمد بن عبد الله الحسيني عن الامام الكاظم (عليه السلام).

موسى بن عبد الله الخثعمي عن الامام علي النقي (عليه السلام).

٢٦٩

(حَتَّى إِذا جاؤُ) الى حشر الرجعة الموزعة أحياء وأمواتا «قال» الله لهؤلاء المحشورين (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) والحال انكم (لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) تكذيبا جاهلا قاحلا عن تقصير «إمّا ذا» من اعمال في مسرح الآيات (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم بعدئذ :

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) عن بكرتهم بأسرهم (بِما ظَلَمُوا) من ذي قبل (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) إذ أصبحوا سكوتا بعد وقوع القول عليهم خامدين ، وكما كانوا سكوتا حين وقوع القول إذ لا يؤذن لهم في كلام ، لا اعتذارا ولا اعتراضا! ، وكما يوم القيامة (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٧٧ : ٣٩) وقد تتعلق ب (بِما ظَلَمُوا) ب (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) كما يتعلق ب (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) ـ (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) بما وقع القول عليهم وبما ظلموا.

فلقد نطقت الدابة بما ظلموا «فهم لا ينطقون بما ظلموا» فهم ساكتون واجمون ، من وطأة الموقف الرهيب ، والعذاب العسيب ، والله من ورائهم رقيب ، فكيف ينطقون؟!

ثم وبطبيعة الحال ليس لسؤال التهكم التأنيب «أكذبتم ...» جواب إلّا (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ).

ولقد صرحت كتابات من العهدين بهذه الرجعة وراجعيها في الدولة المظفرة المهدوية عليه آلاف سلام وتحية وكما في دانيال ١٢ : ١ ـ ١٦ «وفي ذلك الزمان يقوم ميكائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك ويكون وقت ضيق لم يكن منذ كانت امة إلى ذلك الزمان ١ ، وفي ذلك الزمان ينجو شعبك

__________________

أبو القاسم بن العلاء عن الامام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).

الحسين بن روح عن الامام محمد بن الحسن المهدي (عج).

هذا شطر ممن روى حديث الرجعة من أصحابنا الإمامية ، وكذلك الرواة من إخواننا السنة كثير وأقل التقدير في رواة الرجعة من أصحابنا قرابة ٦٠٠ شخصا (المصدر البحار ج ١٣ القديم).

٢٧٠

كل من يوجد مكتوبا في الكتاب ٢ وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والرذل الأبدي ٣ ... سمعت ولم أفهم فقلت يا سيدي ما آخر هذه ٩ فقال اذهب يا دانيال فان الأقوال مغلقة ومختومة إلى وقت الانقضاء ١٠ إن كثيرين يتنعمون ويتبيضون ويمحصون والمنافقون ينافقون ولا أحد من المنافقين يفهم اما العقلاء فيفهمون ١٢ طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين يوما ١٣ وأنت اذهب إلى الانقضاء وستستريح وتقوم في قرعتك إلى انقضاء الأيام» ١٤!.

وقد يرجو زرد شت ان يكون ممن يحيى حياة جديدة في ذلك الزمان كما في «كاتها ـ يسناها ٣٠ : ٩» ترجمة حرفية عن الأصل الأوستائي البهلوي : «فحينئذ أي مزدا! يقيم بهمن ملكك في خاتمة الأيام لهؤلاء الذين يستبدلون الصدق بالكذب ٨ ونرجو ان نكون ممن يحيى حياة جديدة اي مزدا! ...» ٩ .. اجل وفي ذلك الزمان ينكسر عالم الكذب بفلاح الصدق وكذلك في عالم الخير (القيامة) ..» ١٠ «بهمن» هنا حسب اللغة الأوستائية هو الممثل العظيم للقدرة والمعرفة الربانية ، فهو زعيم الدولة (١) الأخيرة الامام المهدي عليه آلاف سلام وتحية!.

وقد يؤمر داود (عليه السلام) بعد آيات من الزبور بتبشيره بما بشرت آية الأنبياء : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) يؤمر في ختامها : «انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض. عند استئصال المنافقين تنظر» (مزمور ٣٧ : ١٣٤) فهو من الراجعين

__________________

(١) يراجع للتفصيل إلى كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ٢١١ ـ ٢١٤.

٢٧١

في رجعة أخص الخاص.

والرجعة ايام المهدي (عج) تحلق على أخص الخواص وهم المرسلون والأئمة المعصومون ، ثم الخواص وهم من محض الايمان محضا ـ احتراما ـ ومن محض الكفر محضا ـ اختراما ـ وهما رجعة بالاستعداد ، وثالثة هي الرجعة بالاستدعاء للمتوسطين في الإيمان.

وهنا نقلة من مشهد واقع القول على المكذبين الحائرين المائرين في حشر الرجعة ، إلى مشهدهم قبل حشرهم :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ٨٦.

فهذان المشهدان المتواتران طول الحياة حقيقان خليقان لإيقاظ الإنسان ان هناك يد الرحيم الرحمان تقلب الليل والنهار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٨ : ٧٣).

ففي سكن الليل وإبصار النهار (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) من عدة جهات ، منها الرحمة المتعالية باختلاف الليل والنهار ، والتدليل على أن وراءهما قدرة عالمة قاصدة ، لا ذات نسق واحد لمكان اختلاف الخلق ، ولا فوضى الشتات حيث الحكمة فيه باهرة ، كما ومنها إمكانية الحياة بعد الموت ، كما يقظة النهار حياة نسبية بعد نومة الليل.

٢٧٢

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) ٨٧.

الصور هو الناقور حيث ينفخ فيه مرة للإماتة واخرى للإحياء ، وليس جمع الصورة لمكان ضميره المفرد في آية الزمر : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى).

وتراها هنا الأولى؟ (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) لا تلائمها! أم هي الثانية؟ وقد لا تناسبها (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)! وكذلك (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الظاهرة في حياتهم دنيويا أو برزخيا ، ثم في الأولى الصعقة وليست فقط الفزعة : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨).

قد تعني النفخة هنا المرتين لمكان الإشارتين ، فالفزعة في الأولى تشملها والصعقة والموتة ، وفي الثانية فزعة الإحياء لأنهما بعد فزعة الموت ، ثم الفزعة يوم القيامة شاملة حيث يحشرون إلّا (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)(٨٩).

ف (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) في الصعقة للنفخة الأولى ، هم أخص «ممن شاء الله» في الفزعة للنفخة الثانية ، فالسابقون والمقربون أو وجمع من اصحاب اليمين لا يصعقون في الأولى لا موتا عن الحياة البرزخية ولا دون الموت من صعقة ، وكما لا يفزعون ، والباقون يصعقون موتا ام دونه ، ثم وفي الثانية يفزع المحشورون إلّا من جاء بالحسنة وهم أعم منهم بكثير حيث تشمل كل الصالحين على درجاتهم (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ).

ثم في الثانية (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) صاغرين ، مهما اختلف صغار الآمنين عن غير الآمنين ، فالآمنون صاغرون هناك كما هنا أمام العظمة الربانية بذلّ العبودية وصغارها امام المعبود ، وغيرهم صاغرون أذلّاء مهتكون

٢٧٣

بذل الاستكبار عن عبادته : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٤٠ : ٦٠) واين داخرين من داخرين؟.

و «أتوه» هنا تعني الرجوع إلى الله دون أن يملكوا لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلّا ما شاء الله حسب الأعمال صالحة وطالحة (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(١).

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) ٨٨.

الرؤية قد تكون بصرية مجردة ، ام ببصيرة حاصلة أم محصلة علمية ، أم ببصيرة الوحي ، أترى «وترى» هنا تعني الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ام وكل راء سواه؟ إنها تعني الرسول كمخاطب أوّل بوحي القرآن ، ثم سائر المكلفين بما يحمله الرسول إليهم ، اللهم إلّا بقرينة قاطعة تخص الخطاب به وليست هنا فليس.

ثم وحقل الرؤية من أيّ كان هل هو يوم الدنيا تدليلا على حركة الأرض غير المرئية بدائية بالبصر ، والوحي يري أنها (تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) كما العلم أرى في العصور المتاخرة عن وحي القرآن زاوية من مرّها.

فكل راء إلى الجبال كقواعد للأرض يحسبها بقواعدها جامدة لا حراك لها (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) خارجا عن الإحساس ، والرسول هنا كسائر الناس إلّا أن يوحى إليه بما يتجاوز الإحساس ، وقد اوحي إليه (وَهِيَ تَمُرُّ) وما أجمله تعبيرا وأمثله مثالا حيث السحاب المارة لا ترى بداية الرؤية أنها تمر ، إلّا بعد

__________________

(١) راجع آية الزمر تجد على ضوءها فصل القول حول النفخة والصعقة.

٢٧٤

رجوع البصر وقياس بعضها إلى بعض ، فهي متحركة يحسب انها جامدة كما كانت الأرض محسوبة على جمود ، ومن حراك الجبال ان قسما منها تتنقل من قواعدها إلى اخرى خلال ردح بعيد من الزمن كما كشف عنها علم معرفة الأرض.

وقد يقرب عناية الحركة الأرضية من الآية (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فمرور الجبال مرّ السحاب من الصنع المتقن للأرض في حركاتها المعتدلة المتعدّلة.

أم تعني الرؤية يوم قيامة الإماتة : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) إذ حفّت الآية بآيات القيامة؟ وترى كيف يراها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ فيمن يرى ـ جامدة ، وكل ناظر يرى حراكها؟

قد يحسبها حينذاك جامدة لأن حراكها لا تزعجه فإنه ممن شاء الله فلا ينصعق بالصعقة ولا ينفرع بالفزعة ، مشغولا بنفسه في ضيافة ربه ، ام ان «ترى» هنا تختص بغيره حيث (تَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢) فلا يشعرون حركات الجبال المسيّرة يوم القيامة لأنهم في شغل عنها إلى ما هو أفزع منها كزلزال الأرض.

أترى كيف تناسبها القيامة وهي يوم التدمير ، وتلك (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)؟ إن التدمير كما التعمير من الله إتقان من صنع الله ، لا سيما وان بعده تعمير الدار الآخرة ، فليس التدمير منه خلاف صنعه المتقن.

وقد تجمع الرؤية النشأتين ، في الأولى وفي الأخرى أيا كان الرائي ، ولكلّ كما يناسبه ، فالأرض هي راجفة على طول الخط ، قبل ذلها وبعده ، في قيامة الإماتة والإحياء و (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) (٦٧ : ١٥) تدل على حركتها المضطربة قبل ذلها ، ثم المعتدلة بذلها : «وعدل حركاتها

٢٧٥

بالراسيات من جلاميدها .. فسكنت على حركتها من ان تميد باهلها أو ان تسيخ بحملها ..».

ثم و (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) تثبت لها ـ على ضوء آية الذلول ـ أربع رجفات أولاها رجفة شماشها قبل ذلها ، والثانية رجفة ذلها بعد شماسها وهي بهما سميت «الراجفة» ، ثم و (يَوْمَ تَرْجُفُ) هي الرجفة الثالثة : الإماتة ، و «الرادفة» هي الرابعة : رجفة الإحياء ، فقد تمت لها اربع رجفات اثنتان في الأولى والأخريان في الأخرى ، وآية الرؤية قد تعني مرّ الأرض مر السحاب في النشأتين ، وكل ذلك (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).

وقد تعني «جامدة» ـ فيما عنت ـ الوقوف عن كل حركة داخلية وخارجية (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) مرا داخليا وآخر خارجيا ، فالحركة الداخلية تعني الجوهرية الشاملة كل شيء ، حيث الوقوف عن مطلق الحراك في اي كائن هو وقوف له عن كونه ، لا فحسب عن كيانه الحركي.

ام وتعني تتابع الإيجاد لكلّ كائن ، وهو تجدد الأمثال بنحو الاتصال ، حيث يراه الرائي استمرارا للكون الأوّل ، كالشعلة الجوالة التي تخيّل انها دائرة نارية وليست هيه.

فالأشياء ـ وقد مثل بالجبال لظهورها لكل راء ـ كلها متجددة الأمثال في كونها وكيانها ، ام ـ وباحرى ـ هي متجددة الحراك في أخذ الكون والكيان من الرب المنان ، ف (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

وذلك كل آن كأصغر أبعاد الزمان ، هو تبارك وتعالى في شأن من إبقاء ما أحدث ، وإحداث ما لم يحدث ، حركة دائبة في الخلق والتدبير دونما غفلة ولا فتور!

٢٧٦

فقد تعني الآية كل هذه المعاني ما صلحت لفظيا ومعنويا تحليقا على النشأتين!

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) ٨٩.

«الحسنة» هنا هي الحياة الحسنة (١) وكما تستدعيها قضية الايمان : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) وخير الحسنات في الحياة ولاية الله وعلى ضوءها ولاية أولياء الله (٢) ، ولأن ولاية علي (عليه السلام) هي خاتمة الولايات فقد تفسر الحسنة انها ولاية علي (٣) كمصداق مختلف فيه يصدّق حق الولاية لله والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) و (خَيْرٌ مِنْها) هو الصورة الوضاءة من الولاية ـ كيفما كانت ـ في الأخرى ، فانها تبرز بحقها وحقيقتها ما لم تكن تبرز يوم الدنيا.

فمن جاء ربه بالحياة الحسنة وهي الإيمانية الصالحة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) حياة حسنة حيث ان (لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) ـ (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ) يعم اهل الحشر ويطم (يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) ـ (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٠٣ معاني الأخبار عن أبي أيوب الخزاز قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لما نزلت هذه الآية على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اللهم زدني فانزل الله عز وجل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ..) فعلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى.

(٢) نور الثقلين ٤ : ١٠٣ في كتاب سعد السعود لابن طاوس وقد نقل عن الفرار في قوله «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» لا إله إلّا الله ـ والسيئة الشرك أقول ، تعني الحياة التوحيدية والشركة وهما الحياة الحسنة والسيئة.

(٣) نور الثقلين ٤ : ١٠٢ في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) فالحسنة والله ولاية علي (عليه السلام).

٢٧٧

الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٢١ : ١٠٣).

و «فزع» المنفي هنا عن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) يخص نفخة الإحياء وفي الحياة الأخرى ، وأمّا النفخة الأولى فهي مصعقة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهم الخصوص من عباد الله ، من السابقين والمقربين ، فلا يعم كلّ من جاء بالحسنة ، فلهم فزع الصعقة موتا وسواها لأقل تقدير ، ثم إن زلزلة الساعة تفزع الكل دون إبقاء ، وتصعق (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

و «فزع» منكرا قد تعني الفزع الأكبر ، لا أي فزع كان ، حيث الحياة الإيمانية ليس لزامها العصمة ، فهناك معاص كبيرة قد يجزون بها حين لا تشملها شفاعة ، فلا يأمنون كل الأفزاع إلّا (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وهو دخول النار أم خلودها.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ٩٠.

«ومن جاء» بالحياة «السيئة» وهم الكافرون واضرابهم (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ويقال لهم هناك كما هنا (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فما الجزاء النار إلّا نفس العمل حيث يظهر بملكوته (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

فالحياة الحسنة الايمانية مصيرها إلى الجنة مهما كانت درجات ، والحياة السيئة اللاإيمانية مصيرها إلى النار مهما كانت دركات : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً .. وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ٩١.

٢٧٨

لقد كانت العرب تدين بحرمة (هذِهِ الْبَلْدَةِ) وهي مكة المكرمة (١) ، وكانت تستمد سيادتها على من سواها منها ، وتعلّق آمالها وأصنامها على كعبتها تقربا إلى الله زلفى ، ف (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) تعريضة عريضة على هؤلاء الذين يعظمون البلدة والبيت ويحترمون ، ثم لا يعظمون صاحب البيت بل ويخترمون ، إذ يعبدون أصناما يظلون عليها عاكفين ، وما أظلمهم عبادة وأضلهم!

و «حرمها» لحرمتها سلبيا وايجابيا فوق كل بلدة حيث يحج بيتها ويصلى إلى قبلتها ، وهو الملجأ للخائفين ، وقد حرّمت فيها ـ لا سيما حالة الإحرام ـ من الشهوات المباحة في غيرها.

ثم وليس فقط : رب هذه البلدة ، بل (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) سواها ، وانما لها نصيب زائد على غيرها من كائنات العالم فانها أم القرى تكوينيا حيث دحيت الأرض من تحتها ، وتشريعيا إذ بعثت فيها أم الرسالات بخاتم المرسلين وسيد الخلق أجمعين (صلّى الله عليه وآله وسلم).

إنه تعالى (رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) لا سواه فلم تعبدون سواه ، (وَلَهُ كُلُّ

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٠٥ في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما قال : ان قريشا لما هدموا الكعبة وجدوا في قواعده حجرا فيه كتاب لم يحسنوا قراءته حتى دعوا رجلا فقرأه فإذا فيه : أنا الله ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض ووضعتها بين هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك.

وفيه عن زرارة قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : حرم الله حرمه ان يختلى خلاه ويعضه شجره إلا الأذخر أو يصاد طيره.

وفيه عن معاوية بن عمار قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة : إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام إلى ان تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي الا ساعة من نهار.

٢٧٩

شَيْءٍ) لا فحسب هذه البلدة كالأصنام التي تختص كلّ جانبا من الكون بزعمكم ، فلم تعبدون سواه.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) له لا سواه ، امرا بوحي كما أمرت فطريا وعقليا ، فما أمر توحيد العبادة والتسليم لله ـ فقط ـ امرا تعبديا ، بل والآيات الآفاقية والأنفسية متجاوبة في إيجاب هذه الفريضة الربانية ، والإسلام هنا هو فوق الايمان خالصا لرب العالمين ، وهو أوّل من أسلم كما هو أوّل العابدين.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ٩٢.

التلاوة بجامع معناها هي الإتمام ، وقد اختصرت وانحصرت رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه التلاوة المباركة طول حياته الرسالية في بعدين : ان يأتم بالقرآن وقد فعل لحد أصبح نفسه القرآن وأفضل منه وكما سمي به في يس (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) فقد أصبح تجسيدا لواقع القرآن وتفسيرا وتأويلا ككل دونما إبقاء ، وتطبيقا له في نفسه ورساليا ، فهو ـ إذا ـ أفضل من القرآن.

وبعد ثان أن يتلوه عليهم كما يتلوا نفسه عليهم ليتأتم به الناس في كل أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم ، فما لم تكمل تلاوته في نفسه لم يأهل أن يكون تاليا له عليهم ، فهو ـ إذا ـ (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وان سنته السنية قولية وعملية وتقريرية هي تلاوة للقرآن ، فانه الإمام في كل حلقات رسالته (فَمَنِ اهْتَدى) بتلك التلاوة المباركة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لا لربه ولا لمن سواه (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) فلست

٢٨٠