الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) ١٢٨

والريع هو المرتفع الرائع : فكانوا يبنون بكل مرتفع من الأتلال والجبال والغابات ، ام مرتفعات صناعية «آية» قصرا يشي بعظمهم وصغار الآخرين «تعبثون» بآية الريع مختلف العبث : إسرافا في زخرفات البنيان زيادة عن الحاجة الحيوية اللازمة بجنب الفقراء المعوزين ، الذين قد لا يجدون أكواخا فيها يسكنون ، وكما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ان كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه» (١).

__________________

ـ ابن علي الباقر (عليه السلام) في حديث وقال نوح ان الله تبارك وتعالى باعث نبيا يقال له هود وانه يدعو قومه إلى الله عز وجل فيكذبونه وإن الله عز وجل يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه فان الله تبارك وتعالى ينجيه من عذاب الريح ، وامر نوح ابنه سام ان يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة ويكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود وزمانه الذي يخرج فيه ، فلما بعث الله تبارك وتعالى هودا نظروا فيما عندهم من العلم والايمان وميراث العلم والاسم الأكبر وآثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا وقد بشرهم أبوهم نوح به فآمنوا به وصدقوه واتبعوه فنجوا من عذاب الريح وهو قول الله عز وجل : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) وقوله : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ).

(١) في المجمع ـ الخبر المأثور عن انس بن مالك ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج فرأى قبة فقال : ما هذه؟ فقالوا له أصحابه : هذا الرجل من الأنصار ، ، فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به والأعراض عنه فشكى ذلك إلى أصحابه وقال : والله إني لأنكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ادري ما حدث في وما صنعت؟ قالوا : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى قبتك فقال : لمن هذه فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالأرض فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال : ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ قالوا : شكى إلينا صاحبها اعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال : إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه.

٨١

وتظاهرا وتفاخرا في ذلك التكاثر حيث تبدوا هذه القصور من بعد كأنها علامات ، تعلم بها مكانة أصحابها تطاولا ومقدرة ومهارة.

فآية العبث بنيانا إمّا ذا هي آية الرعونة والترف واللّامبالات في الحياة ، وكأنهم خلقوا عبثا ليعيشوا عابثين.

فالعبث في أية ظاهرة من مظاهر الحياة هو آية التجاهل عن واقع الحياة ومسيرها ومصيرها ، والتغافل عن مسئولياتها تجاه الله وخلقه.

وكيف يسمح الثري لنفسه ان يعبث بالبنيان والملابس والمآكل والمناكح ، على عيون العزّل من ضروريات الحياة من البائسين المعدمين؟!

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ١٢٩.

المصنع من الصنع وهو إجادة الفعل ، فالمصانع هي المكانات الجيدة الحصينة حفاظا عن أية إصابة أرضية أو سماوية ، من قصور حجرية أمّاهيه ، كالمنحوتة في الجبال وكأنها تخلدهم في الحياة أكثر من آجالهم المقدرة لهم.

ذلك ، وإما اتخاذ المصانع لدفع كيد العدو ، أو السارق أمّاذا من مصالح حيوية عاقلة فليس بذلك الممنوع ، بل مسموح ممنوح.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) ١٣٠.

فالبطشة الجبارة هي الظالمة المستكبرة ، وأما المدافعة اعتداء بالمثل فهي الحق العدل لكل مهاجم عليه في أي ناموس من نواميسه الخمس أم نواميس الآخرين المحترمين ، ولكنهم غلاظ متجبرون دونما تحرّج في بطشتهم ، هجوما بدائيا أو دفاعيا.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ١٣١.

تقوى عن كل مظاهر الطغوى ومعالمها ، وطاعة لرسول الهدى فيما

٨٢

يفعله أو يقوله عن الله.

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ١٣٢ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ١٣٣ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ١٣٤ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ١٣٥.

إمدادات ربانية في تسهيل الحياة ، تقتضي شكورا ، فكيف تطغون فيما أمدّكم ، وتسطون بها على عباد الله ، فان لم تحذروا حاضر العذاب ف (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إذا متم بحالتكم البئيسة (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) برزخا ويوم الدين.

أتراهم اتعظوا بهذه العظات البالغة؟ وهي لا تصل إلى قلوب مقلوبة غليظة جاسية؟:

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) ١٣٦.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهنا (مِنَ الْواعِظِينَ) قد تلمح إلى أن الواعظين كانوا عدّة ، عرضيا يرأسهم هود؟ أم طوليا قبله وبعده في مثلث الزمان.

أم وحتى ان لم يبعث إليهم إلّا هود فهم بمقالهم هذا يكشفون عن حالهم تجاه الرسالات كلها : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ ..) فتكذيب هود بهذه المثابة هو تكذيب المرسلين أجمعين.

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ١٣٧.

«إن هذا» الذي تعظ به (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) من الواعظين ، أساطير مكرورة طوال الزمن ، وأكاذيب لصق بعض وتلو بعض.

أو «ان هذا» الذي نحن عليه «إلّا خلق» آباءنا «الأولين» فنحن على آثارهم مهتدون ، وما نحن بتاركي خلقنا وهي تراث الأولين.

٨٣

وقد يعنيهما «هذا» فإنهما من مقال الكافرين بالرسالات ، وبناء عليه :

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ١٣٨.

رغم ما تعدنا الوعود المكرورة من الواعظين الواعدين.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣٩ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ١٤٠.

عرض خاطف لمصيرهم الهالك في مسيرهم الحالك ، يطوى فيه أطغى طغاة التاريخ وتطوى آيات كلّ ريع لهم ومصانعهم وكل نعيم لهم ، إلى عذاب مقيم!

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما

٨٤

أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٥٩)

«ثمود» هم اخوان عاد في الطغيان ورعونة الحياة ، يتشابهان في دورهم اللعين وكورهم المهين ، ودعوة صالح الرسالية هي نفس الدعوات ثم التنديد :

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) ١٤٦.

«ما هاهنا» مشروح فيما هاهنا (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...) وقد اختص «ونخل» من بين شجرات الجنات لأنها أهمها ثمرة وإنتاجا ، وكانوا يهتمون بها أكثر من غيرها ، والطلع هو الطالع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ ، والهضيم هو اللطيف من قولهم فلان هضيم الحشا أي لطيف البطن وأصله النقصان من الشيء كأنه نقص من انتفاخ بطنه فلطفت معاقد خصره ومنه (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

وهو اليانع البالغ ، والذي إذا مسّ تهافت من كثرة مائه ورطوبة أجزائه.

٨٥

فهو النضيج الذي أرطب ثمره وهذه هي أفضل حالة لطلع النخل بدخول بعضه في بعض فكأن بعضه هضم بعضا لفرط تكاثفه وشدة تشابكه.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) ١٤٩.

الفره هو الأشر ، فالفاره هو الأشر البطر ، والبيوت الجبلية هي الفرهة المرحة ، يعبث بها لحياة الفرح والمرح.

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا) من متعة الحياة وشره اللّامبالاة ، في جنات وشهوات «آمنين» من بأس الله الذي هو لا محالة آت؟

أتظنون انكم (فِي ما هاهُنا) تتركون لحيونة الحياة ، في كل دعة ورخاء وكل متع الحيونات؟ «أتتركون» لا يردعكم فوت ، ولا يزعجكم موت.

لمسات موقظة تجذبهم إلى التقوى ، ابتعادا عن الطغوى ، ولكنها لا تلمس تلك القلوب المقلوبة ، الجافة الجاسية ، إذ لا تصغى لها ولا تلين بها.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ١٥٠ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ١٥١ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) ١٥٢.

فطاعة التقوى هي طاعة الله وطاعتي كرسول من الله ، وطاعة الطغوى هي طاعة من سوى الله ولا سيما المسرفين في التخلّف عن الله وعن شرعته (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ساعين في إفساد الحياة الأرضية في كل جنباتها الإنسانية بل والحيوانية ، (وَلا يُصْلِحُونَ) أبدا.

فأصحاب الأمر والإمرة على طوائف ثلاث ، مصلحون لا يفسدون وهم الدعاة إلى الله معصومين وسواهم ، إلا خطأ من سواهم ، ومصلحون قد يفسدون ، أو مفسدون قد يصلحون ، وهم نحسون حسب دركات

٨٦

إفسادهم ، ومفسدون لا يصلحون وهم المسرفون في إفسادهم ، و (أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) ليس ـ فقط ـ ما يقابل النهي ، حيث الطاعة المنهية لا تخص هذا الأمر ، بل والنهي المسرف أحرى ان تترك طاعته ، كما النهي عن المنكر يتقدم الأمر بالمعروف ، وانما الأمر هنا فعلهم وشأنهم وإمرتهم وأي أمر منهم بفعل أو ترك أم ماذا؟.

واختصاص ترك الطاعة هنا لا يحصر النهي في طاعة أمرهم ، فطاعة الأمر غير المعصوم صاحبه ، أو المأثوم ، هذه منهية على أية حال ، (وَلا تُطِيعُوا) هنا قضاء حاسم على الأمر الفادح الفاضح كأولى خطوة صالحة إلى الله ، ومن ثم الخطى الأخرى التي تتبنّى الخطوة الأولى! تركا لطاعة من سوى الله ككلّ ، إلّا رسول الله ، وكل من يحمل عنه ما حمّله حليما تقيا ، لحد يعتبر أمره أمر الله وكما عرّف به الله.

فليس من صالح الدعوة الرسالية حمل الشاردين كهؤلاء البعيدين على الشرعة ككل ، وانما يؤمرون في البداية وينهون ، في أوليات العقائد والأخلاق والأعمال ، (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) تكفل هذه البداية دونما إفراط ولا تفريط.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ١٥٣ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ١٥٤.

لقد حصروا كيانه الرسالي في السحر : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) ولماذا؟ لأنهم حصروا كيانهم أنفسهم في الشهوات المضللة ضد الرسالات ، وبطبيعة الحال ليست ردة الفعل ونبرة القول ل «إنما» الضلالة وجاه «إنما» الهدى إلا (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)!. إذ (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تريد أن تتفضل علينا ، وترى المماثلة في أصل البشرية مما يحيل الرسالة إلى البشرية

٨٧

لحد يجنّن رسول البشر ، أفليست هنالك تفاضلات بين قبيل البشر ، يجعل للفاضل جدارة في كيان يحلّق على المفضولين ، وأفضل التفاضلات هي الرباط الروحي بين الإنسان وربه ، علميا وتربويا لحد العصمة بمراتبها ، فهل المعصوم بعصمة إلهية لا تحق له الرسالة إلى البشر ، لحد يرمى إلى السحر والجنون ، ما هذا إلّا تذليلا لساحة الإنسانية وحطا من سماحته لحدّ لا تليق حمل رسالة إلهية إلى نفسها ، فليكن الرسول من غير جنسها أم تبقى ضالا بلا رسول!.

وإنها شبهة تخايل للبشرية المتفلتة الشريرة كلما جاءها رسول ، انها لا تستأهل ان يؤتى خبر السماء وهي عائشة الأرض ، تغافلا عن القيم المودوعة لخليفة الأرض ، وانها موهوبة القدرة على الاتصال بالملإ الأعلى وهي مقيمة الأرض.

تبقى هنا آية تدل على ذلك الاختصاص ، فليطلب بها مدعي الرسالة قبل رميه بالسحر ، ولكنهم عكسوا الأمر ، تقديما لتهمة السحر على (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) :

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ١٥٥ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ١٥٦.

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧ : ٧٣) (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ..) (١٧ : ٥٩) (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) (٥٤ : ٢٧) هذه الناقة نفسها آية إذ خلقت دون ولادة متعوّدة ، وكيف خلقت هي آية؟ أحرى بنا ألا نخوض فيه ، فنكتفي بما قاله الله (ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً).

ثم وتقاسم الشرب وهو نصيب الشرب سويا ، آية أخرى ، كيف

٨٨

تشرب ناقة بمفردها كشرب جمهرة الناس المرسل إليهم صالح؟! وقد تكون نبعة الشرب آية ثالثة كما يروى (١) وهل ان هذه الآية المبصرة ابصرتهم؟ كلّا وهم عمي لا يبصرون :

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) ١٥٧.

والعقر هو إصابة الأصل والقعر ، وهو بالنسبة للناقة النحر المستأصل نحروها نحرا لآية الرسالة ، وأخذا لشربها ، وأكلا للحمها ، «فأصبحوا» بعد ذلك وحين رأو العذاب «نادمين» ولات حين مناص ، وتراهم عقروها كلّهم؟ وهذا خلاف النص في آية القمر (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٢٩)!.

مهما كانت الشمس تعمه وسواهم كسائر آيات العقر : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) (١٤) (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) (١١ : ٦٥) ـ وذلك بعد عقرهم الناقة وتحديهم صالحا بإتيان العذاب (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧ : ٧٨) ، ذلك لأنهم شاركوا عاقرها إذ نادوه فتعاطى منهم سيفا فعقرها كما في آية القمر ، فهم كلهم مشاركون في درك عن درك ، وقد عد عاقرها ـ فقط ـ أشقى الأولين (٢).

__________________

(١) مجمع البيان وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال : انه أوّل عين نبعت في الأرض هي التي فجرها الله عز وجل لصالح فقال : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٨٧ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) من أشقى الأولين؟ قال : عاقر الناقة قال : صدقت فمن أشقى ـ

٨٩

«ايها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة» (١).

وقد نستلهم من «عقروها» أن كلّ مشارك في ظلم أو معاون ظالما يجمع معه في إثمه ، كل حسب دوره الفعال في الجريمة ، وحتى في النيّة.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٥٨ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ١٥٩.

تعقيب مكرور بصيغة واحدة لمصير المكذبين ، وليعلم ان صيغة الرسالات واحدة كصيغة المكذبين بها ، سلسلتان متعارضتان في هذه المعركة المصيرية إلى يوم الدين.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٤) (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥)

__________________

ـ الآخرين؟ قال : قلت لا أعلم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الذي يضربك على هذه وأشار إلى يافوخه.

(١) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام).

٩٠

وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٧٥)

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) ١٦٥.

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ) تنديد شديد بإتيانهم ، و (مِنَ الْعالَمِينَ) قد تتعلق بالآتين ، أنكم أنتم المخصوصون بهذه العملية النكراء بين العالمين : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٧ : ٨٠) وأخرى بالماتيين ، فقد تلمح ـ إذا ـ (مِنَ الْعالَمِينَ) دون «الناس» لعالم الجن ، وان قومه منهم كانوا كما الإنس يأتون الذكران منهم ، والمعنيان ـ علّهما ـ معنيان ولكلّ وجه ، مهما كان الثاني أوجه.

(وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) ١٦٦.

٩١

وترى «من» هنا بيانية تبين (ما خَلَقَ لَكُمْ)؟ والصيغة الصالحة لها (أَزْواجِكُمْ) أو «المخلوقة لكم»!

أم تبعيضية تعني عضو الجنس من الأزواج؟ وصيغتها السائغة لها «فروج أزواجكم»! إنها قد تعنيهما بيانا وتبعيضا ، والثاني لا يخص القبل ، بل والدبر ايضا مهما كان الأصل الصالح هو الأوّل ، ولو كان إتيان أدبارهن محظورا لما اختص التنديد بإتيان الرجال ، وأما إذا اختص الرجل إتيان زوجه بدبرها تاركا للآخر ففيه بحث آخر قد نفتي بالتحريم لأنه خلاف مصلحة الولادة الخاصة بإتيان القبل.

وقد تلمح «ربكم» ان قضية الربوبية الخلّاقة ، المقتسمة الناس إلى قسمي الرجال والنساء ، اختصاص إتيان الجنس بالنساء ، وأما الرجال مع الرجال لواطا أمّا هو ، أو النساء مع النساء مساحقة أمّا هي ، فذلك تعد عن طور الخلقة وحكم الفطرة ومصلحة الولادة المقصودة بالزواج (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) صالح الربوبية ، عادون قضيته الفطرة السليمة ، عادون الحق المشترك بين الرجولة والأنوثة إلى المجانس.

فالخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط المجرمون هي الشذوذ الجنسي بإتيان الرجال شهوة من دون النساء : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٢٧ : ٥٥) ـ (.. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٧ : ٨١) (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ..) (٢٩ : ٢٩).

فذلك الإتيان المتخلف جهالة وإسراف وتعد عن طور الفطرة الإنسانية وخلقتها ، وقطع لسبيلها التناسلي أو العائلي!.

واما إتيان النساء شهوة قبلا أو دبرا أما ذا؟ فلا محظور فيه لأنهن خلقن

٩٢

للرجال : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٢ : ٢٢٣) مهما كان أصل الحرث هنا الولادة الحاصلة بالمقاربة العادية ، ولكن الأخرى ايضا هي على هامش الحرث ، كما التفرج في حرث الزرع هو على هامش الحرث ولكن الأشبه الحرمة.

فقد برأ «ربكم» الذكر للأنثى والأنثى للذكر ، وفطر كلا منهما على الميل إلى قسيمه الإنسان تحقيقا للحكمة العالية الربانية في امتداد الحياة الإنسانية من طريق التناسل ، فكلما يدفع لتعطيل التناسل كأصل ، هو خارج عن أصل الحل ، سواء أكان لواطا أم مساحقة ، أو عادة سرية ، أو إتيان حيوان أو إفراغا للمني أو استعمال واسطة أمّاهيه من السبل القاطعة للنسل ، اللهم إلّا في موارد استثنائية إلّا المنصوص على حرمته إطلاقا كالأربعة الأولى ، أم أحيانا كإفراغ المني عن الزوجة الدائمة دون رضاها ولا محظور ، أو الإفراغ دائما عن القبل ، ام إتيانها دبرا كذلك مهما كان برضاها ودون محظور ، فانها تخرج بذلك عن كونها حرثا عن بكرتها.

ومن المحظور تعقيم الرجل أو المرأة بالوسائل المصطنعة وسواها ، إلّا إذا لزم الأمر ترجيحا للأهم على المهم.

فكما ان إتيان الذكور لواطا لا يرمي لهدف صالح ، ولا يحقق غاية إنسانية ، كذلك إتيان النساء النساء ، والعادة السرية ككل ، وعلى الهامش منع التناسل بأية وسيلة كانت.

وهنا في (أَتَأْتُونَ .. وَتَذَرُونَ) لمحة لامعة لحرمة المذكورات على اختلاف دركاتها ، فمبادلة ترك الزوجة بإتيان غيرها محظور ، مهما كان المذكور هنا اللواط لشدة المحظور.

وفي إهلاكهم لفعلتهم لمحة إلى عذابهم المستحق بها وهو القتل كما هو الثابت في باب الحدود ، وما كان جوابهم عن ذلك التنديد الشديد القرين

٩٣

ببيان الحكمة إلّا أن :

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) ١٦٧.

إخراجا من قرية الدعوة بكل إحراج ، دون عودة إلا بانتهاء الدعوة : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٢٧ : ٥٦) ، ويتبين هنا ان آل لوط ـ وهم لوط والمؤمنون به أقارب وأغارب ـ كانوا يشاركونه في الدعوة ، وكما لمحت لها (مِنَ الْمُخْرَجِينَ) دون «مخرجا» تهديدا لاستئصال جذور الدعوة عن القرية بأصلها وفصلها ، ثم الجواب :

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) ١٦٨.

مقالة تظهر البراءة القاطعة عما كانوا يعملون ، أبراءة في القلب حيث هدّد بالإخرا؟ لو كانت هكذا لما (قالَ إِنِّي ..)! بل هي استمرارية لقالة النهي والتنديد ، ثم استنصار من الله تعالى :

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) ١٦٩.

و «اهلي» هنا ليسوا هم ـ فقط ـ أقاربه وأنسبائه بل هم الآهلون للنجاة من المؤمنين معه ، أقارب وأغارب ، ولذلك لم يستثن عجوزه في الغابرين! وليس (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٥١ : ٣٦) لتدل على أهلية النسب والسبب فحسب ، حيث الحالة الكارثة في القرية التي كانت تعمل الخبائث تقتضي جمعية المسلمين معه في بيت واحد وهم قلة قليلة ، ثم عجوز البيت ما كانت من المسلمين.

(نَجِّنِي وَأَهْلِي) من مسئوليات وخلفيات ما (يَعْمَلُونَ) أداء لواجب الدعوة دون تساهل وتغافل ، ونجاة من أن يمسوا أهلي بسوء ما يعملون ، فإنهم هارعون إليه دونما تمييز كما هرعوا إلى ضيفه المكرمين زعما منهم أنهم

٩٤

غلمان ، ونجاة من ان يشملهم عذابهم بينهم

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) ١٧٠.

«نجينا ..» من ثالوث العذاب ، وقد صرح بثالث ثلاثة وهو استئصالهم عن بكرتهم و :

(إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ١٧١ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) ١٧٢.

دليل على أن النجاة ليست فقط عن التدمير ، بل وعن كلما كان يخاف منهم ، و «عجوزا» هي امرأته المتخلفة عن شرعته وهداه ، والغابر هو الماكث بعد مضي ما هو معه ، وكانت هذه العجوز ماكثة في كفرها بعد مضي ما معها من الدعوة الرسالية.

ف «الغابرين» هنا هم الماضون في كفرهم دون رجوع : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٢٧ : ٥٨) لأنها ـ رغم كونها امرأة لوط ـ كانت من الغابرين رغم ملاصقة الدعوة طيلة حياة الزوجية.

وترى كيف (دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) وهم غير أهله أجمعين وفيهم نساء لسن يقترفن ما اقترف الرجال ، وأطفال من القبليين غير مكلفين؟.

النساء البريئات من هذه الوصمة ما كنّ البريئات من الإدمان على الشرك والتكذيب بالرسالة ، فليشملهن مطر العذاب ، وأما الأطفال فليس تدميرهم مع الكبار ـ إن دمروا ـ عذابا وكما سائر العذاب استئصالا وتدميرا ، الشاملة للمذنبين والبريئين.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ١٧٣.

إنه مطر سوء وليس مطر الماء الخير ، لأنهم منذرون ومتصلبون على

٩٥

الكفر : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١٥ : ٧٤).

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ

٩٦

يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١)

تأتي (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) في أربع هذه منها ، و «الأيكة» شجر ملتف ، وأصحاب الأيكة نسبوا إليها وهي غيضة وريفة من الأشجار كانوا يسكنونها وهي بلدتهم ، ورسولهم شعيب فيمن أرسله إليهم من أهل مدين وهم الأصلاء وهؤلاء فروع ف (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (٧ : ٨٥) إذ كان منهم ، وهنا (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) دون «أخوهم» إذ لم يكن منهم (١) وموقع مدين بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة.

ولقد كانوا مخسرين الناس ، يبخسونهم أشيائهم ، عاثين في الأرض إفسادا ، فلذلك بزغت الدعوة الأصلاحية من صالح وفقا لحالتهم البئيسة كما هي سنة الرسالات المستمرة.

فهنا أوامر ونواهي ثلاث في ناحية هذه الدعوة المصلحة ، بعد ان طمأنهم برسالته الأمينة :

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) ١٨١.

فالكيل بين واف وطفيف وزائد ، إيفاءه واجب ، وطفيفه محرم ، وزائده راجح ، وهنا أمر بواجب الإيفاء ونهي عن محرم التطفيف والإخسار ، ولأن

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ : ١٦٣ وفي الحديث ان شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى اصحاب الأيكة.

٩٧

الكيل يخص المكيل فامر ثان يخص الموزون :

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) ١٨٢.

وهو الميزان أيا كان ، واستقامته هو اعتداله في الوزن ، وقد يكون القسطاس مستقيما والوزن غير مستقيم ، فليكن «المستقيم» وصفا لكلا الوزن والقسطاس ، ثم ونهي يحلّق على كل إخسار وبخس كيلا أو وزنا أم أيا كان في المعاملات الجماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية أمّاهيه :

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ١٨٣.

والبخس هو النقص ، و «أشياءهم» تعم كل أشياءهم في مخمّس النواميس وملحقاتها : نفسا ودينا وعقلا ومالا وعرضا ، فالبخس إياها محرم ، وتركها تخرم أيضا محرم ، ومحاولة التعاون في كمالها راجحة أم واجبة ، فإخسار الكيل واعوجاج القسطاس وبخس أشياء الناس إفساد ، والعبث في الأرض إفسادا وهو السعي فيه إفساد على إفساد ، في أية ناحية من واجب الصلاح والإصلاح من النواميس الخمس.

فالإفساد الاقتصادي له دور هام بين سائر الإفساد ، ينهى عنه كما ينهى عنها في سائر الشرائع الإلهية ، إصلاحا للحالة المعيشية التي تلعب دورا عظيما في صالح الناس ، وإبعادهم عن شر النسناس الخناس.

وأخيرا يستجيش شعيب مشاعر التقوى في نفوسهم كما بدأ ، تذكيرا لهم بخالق الخلق أجمعين :

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) ١٨٤.

«الجبلة» هي الخليقة المجبولة المطبوعة بطابع الفطرة التي فطر الناس عليها ، فهي كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ، فمهما تحرك

٩٨

من الإنسان أيّ من أشياءه عقلا وعلما وجسما ، فالفطرة الإنسانية ثابتة كحجة بالغة لا تزول.

فالمؤمنون من الأوّلين كانوا يتقون ، والمتخلفون منهم عن شرعة الله هم المتخلفون عن جبلتهم فلما ذا قفوا آثارهم ، فأنتم على آثارهم تهرعون؟! (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ١٨٥ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) ١٨٦.

صيغة مطردة مكرورة بين المكذبين برسالات الله ، كأنهم تواصوا به! شيطنة مدروسة مدسوسة بينهم كشريطة تدار على أسماع الدعاة إلى الله.

ولا فحسب التكذيب ، بل والتحدي بأن يأتوا بعذاب الله إن كانوا صادقين :

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ١٨٧ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ١٨٨.

(رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فلست أنا ولا أنتم ، وهو أقدر أن يأتيكم بعذاب ، وما أنا إلّا رسول لا أقترح على ربي أصل العذاب ولا كمّه ولا كيفه (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) (٤٦ : ٢٣).

فحتى إن لم يأتكم عذاب لم يدل ذلك على كذبي في رسالتي ، فانها رسالة وليست ألوهية تقتضي القدرة على إتيان العذاب ، ولا وكالة عن الرب أو نيابة تستدعي استجلاب العذاب.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ١٨٩.

هنا عذاب يوم الظلة ولمدين الصيحة : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ

٩٩

جاثمين) (١١ : ٩٤).

إذا فيوم الظلة هي غير يوم الصيحة كما أن اصحاب الأيكة هم غير أهل مدين مهما كانت الرسالة إليهم واحدة فما هي ـ إذا ـ الظلة؟.

يقال هي السحابة المطلّة عليهم المظلة ، وهم يحسبونها مظلّة حيث أخذهم حرّ خانق حانق يكتم الأنفاس ويثقل الصدور (١) ، ثم تراءت لهم هذه السحابة الظلّة فاستظلوا بها فوجدوا لها بردا ، فإذا هي تمطر عليهم نارا ، أم صاعقة مجلجلة تفزعهم فدمرتهم تدميرا (٢) ، وعلى أية حال ليس هنا في النص إلا (يَوْمِ الظُّلَّةِ) ولا بد انها ظلة سماوية كما (نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (٧ : ١٧١) ولكنها ظلة تدمير وذلة و (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) توحي بانه كان شعبة من عذاب الجحيم (٣).

ذلك شطر من قصص الرسل والمرسل إليهم ، السبعة ، وما واجهوهم من التكذيب ، وقبلها كلها (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) وهنا في الختام :

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٦٤ عن تفسير القمي «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» قال : يوم حر وكائم.

(٢) المصدر في «يَوْمِ الظُّلَّةِ» بلغنا والله اعلم انه أصابهم حرّ وهم في بيوتهم فخرجوا يلتمسون الروح من قبل السحابة التي بعث الله عز وجل فيها العذاب فلما غشيهم اخذتهم الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين وهم قوم شعيب.

(٣) في الدر المنثور ٥ : ٩٣ عن ابن عباس في تفسير يوم الظلة : أرسل الله عليهم سموما من جهنم فأطاف بهم سبعة ايام حتى أنضجهم الحر فحميت بيوتهم وغلت مياههم في الآبار والعيون فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين والسموم معهم فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤسهم فتغشتهم حتى تقلقلت في جماجم وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ثم انشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا تحتها جميعا أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه.

١٠٠