الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

شهر ، قادر على الإتيان به في ثوان.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ٤٠.

أترى من (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هنا؟ وما هو الكتاب؟ وما هو علمه؟ وكيف أتى بعرشها قبل أن يرتد اليه طرفه وهو بحاجة إلى سرعة هائلة ودون موانع في الطريق لا تناسب وجسم العرش بثقله؟

هل (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو من الجن ، عفريت أقوى من الأوّل؟ وتعبيره الصالح «عفريت آخر»! ثم تقابله لعفريت من الجن يحكم أنه من الإنس! وكيف يحرم مؤمنوا الإنس عما يقدر عليه عفاريت الجن ، والإنس أفضل من الجن ـ ككل ـ ولا سيما في المجال الرسالي أصالة ووصاية ..

أم هو سليمان نفسه مخاطبا عفريت الجن ، حيث «الذي» للإشارة إلى شخص معين معلوم ولا معلوم هنا إلّا سليمان نفسه وقد مضى دور العفريت ولا ثالث هنا معروفا في السياق ، وان القدسية الخاصة المتميزة لسليمان تقتضي ان تكون الخارقة بيده لا سواه؟.

لكنه لا يلائم السياق الفاصح الواضح ، حيث ان سليمان هو المتطلّب لإحضار العرش عنده ، فكما (أَنَا آتِيكَ) لعفريت الجن تعني إتيانه إلى سليمان ، كذلك (أَنَا آتِيكَ) للذي عنده علم من الكتاب ليس يعني إلّا سليمان ، كما «مقامك» و «رآه» و «عنده» و «قال ..» كلها تعني سليمان المحضر عنده العرش! وحين يأتيه بعرشها أحد من حواشيه ، لم يكن

٢٠١

هذا ليدل على أنه أقوى منه وأحرى (١) بل انما يدل على أن الآتي به بأمره يصلح أن ينوبه حيا وميتا! ثم «الذي» بوصفها تعرّف مكانة الآتي به مسنودا إلى لياقته ولباقته ، ومكانة سليمان عرفت من ذي قبل بأكثر من ذلك!

أم هو «خضر» (عليه السلام)؟ قد يجوز في نفسه ولكنه لا دليل عليه يتّبع ، مهما كانت لخضر مكانته العالية ، ثم لا رجاحة له على من سواه في ذلك المسرح مهما كان أرجح منهم في سواه ، حيث النص : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) ولم يكن خضر من ملئه وحواشيه وأعضاده الملكية.

إنه آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيه وخليفته كما في متظافر الأحاديث.

ومنها ما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ذاك وصي أخي سليمان بن داود (٢).

وأما الكتاب! فهل هو كتاب التشريع؟ وكثير هؤلاء الذين يعلمونه تماما وفوق (عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) اللامحة إلى بعض العلم ، ولا يقدرون على

__________________

(١) قد مضى رواية العياشي عن علي بن محمد الهادي عليهما السلام وفيه : وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته ..

(٢) نور الثقلين ٤ : ٨٨ في روضة الواعظين للمفيد قال ابو سعيد الخدري سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله جل ثناءه (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) قال ذاك ..

ومثله ما عن بصائر الدرجات عن جابر عن الباقر (عليه السلام) وعن عمر الحلال عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن عيون الأخبار عن عمر بن واقد عن موسى بن جعفر عليهما السلام ، وعن الكافي عن أبي الحسن صاحب العسكر علي الهادي (عليه السلام).

٢٠٢

ذلك ولا ما دونه من خارقة ربانية! وليس الإتيان به من الواقعات الشرعية المكلف بها مدراء الشرعة حتى يكفيهم علمهم بها لتحقيقها!.

أم هو كتاب التكوين ـ المعبر عنه في أحاديثنا بالاسم الأعظم وله ثلاثة وسبعون حرفا ، وقد أوتي الذي عنده علم من الكتاب حرفا منه وأوتي الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين ذلك الاسم إلا حرفا واحدا ـ؟

والتكوين والتشريع هما من مختصات الربوبية علما وقدرة ، وليست الآيات الرسالية مما يعلمها أو يقدر عليها الرسل ، والرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أول العابدين وأفضل العارفين لم يكن عنده هذه الآيات مخوّلة : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ١٠٩).

فإنما الرسل مجاري لتحقق الآيات الرسالية بإذن الله على أيديهم ، لتدل على اختصاصهم بالله ورسالتهم من الله ، فقد خاف موسى من حية تسعى محولة عن عصى (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فلو كانت آية بعلمه وقدرته لما خافها.

وفي عيسى (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) وهو القدرة الإلهية بعلم هما المصدر لآياته وسائر أفعاله الخاصة به.

وما علم آصف بن برخيا بجنب علم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالكتاب إلا كقطرة من يم (١) فهل هو بعد كان عنده علم من كتاب

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٢٠٤ عن الكافي عن ابراهيم بن هاشم عن سليمان عن سدير قال : كنت أنا وأبو بصير وميسر ويحيى البزاز وداود الرقي في مجلس أبي عبد الله (عليه السلام) إذ خرج إلينا وهو مغضب فلما أخذ مجلسه قال عجبا لا قوام يزعمون انا نعلم ـ

٢٠٣

تكوين لم يكن عند محمد؟!

قد يعني «الكتاب» هنا كتاب المعرفة الربانية ، فكلما كانت معرفة الله أكمل فآيات الله الجارية بإذنه على ايدي العارفين به اكثر وأكمل.

فعلم الكتاب كله يختص بالله ، إذ لا يعرف الله حق المعرفة إلّا هو ، ثم المعرفة القمة الممكنة لمن سوى الله هي التي كانت لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهليه المعصومين ، وهي تنقص حرفا واحدا من كتاب المعرفة الكاملة ، وهو حرف الذات القدسية ، ثم الاثنان والسبعون حرفا الباقية (١) من

__________________

ـ الغيب ما يعلم الغيب إلّا الله لقد هممت بضرب خادمتي فلانة فذهبت عني فما عرفتها في أي البيوت هي من الدار فلما ان قام من مجلسه وصار إلى منزله دخلت انا وأبو بصير وميسر على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلنا له جعلت فداك وسمعناك تقول في امر خادمك ونحن نعلم انك تعلم علما كثيرا لا ينسب إلى علم الغيب؟ فقال : يا سدير ما تقرأ القرآن؟ قلت : قد قرأناه جعلنا الله فداك فقال هل وجدت فيما قرأت من كتاب الله (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قلت جعلت فداك قد قرأته قال فهل عرفت الرجل وعرفت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال قلت فأخبرني حتى أعلم ، قال : قدر قطرة من المطر الجود في البحر الأخضر ما يكون ذلك من علم الكتاب ، قلت : جعلت فداك ما اقل هذا؟ قال يا سدير ما أكثره لمن لم ينسبه إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) والله عندنا ثلاثا.

(١) المصدر بصائر الدرجات محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل عن ضريس الوابشي عن جابر عن أبي جعفر عليهما السلام قال قلت : جعلت فداك قول العالم (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فقال : يا جابر ان الله جعل اسمه الأعظم ثلاثة وسبعين حرفا فكان عند العالم منها حرف فأخسفت الأرض ما بينه وبين السرير التفت القطعتان وحوّل من هذه على هذه وعندنا اسم الله الأعظم اثنان وسبعان حرفا وحرف في علم الغيب.

أقول : وبهذا المعنى استفاضت الأحاديث عنهم عليهم السلام.

٢٠٤

ذلك الكتاب تعني معرفة الله القمة لهم عليهم السلام إلّا معرفة الذات ، فهم مهما حرموا من حق معرفته الخاصة به «ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادك» ولكنهم زوّدوا المعرفة الحقة الممكنة في حقهم ، فهم يعرفون الله بكل حروف المعرفة وجوانبها إلّا حرف الذات وجانبها.

والحرف الواحد من هذا الاسم الأعظم المختص بالله ، هو جانب الذات وصفات الذات وحقيقة الصفات الفعلية ، وسائر الحروف وهي سائر الجوانب المعرفية ، مقسمة بين المخلصين من عباد الله ، وكلما ازدادت هذه الحروف المعرفية ، زاد الله صاحبها حملا لشرعته ، ومظهرا لآيات علمه وقدرته : «عبدي اطمعني حتى أجعلك مثلي انا أقول للشيء كن فيكون ، وأجعلك تقول للشيء كن فيكون» مهما اختلفت «كن» التكوينية من الرب ، عنها في المربوبين ، فانها فيهم بأمر الله دون توكيل ولا تخويل ، ف (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) دون سواه ، ف (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) المعرفي في الاسم الأعظم ، يأتي به قبل ان يرتد إليه طرفه ، فأوتي من فوق سليمان وآصفه ما فوقهما من الخوارق وكما يروى عن أئمتنا المعصومين عليهم السلام (١).

__________________

(١) ومما ورد في علمهم عليهم السلام أفضل من آصف ما في عيون الأخبار باسناده إلى عمر بن واقد قال : إن هارون الرشيد لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر عليهما السلام وما كان يبلغه عنه من قول الشيعة بإمامته واختلافهم في السير اليه بالليل والنهار خشية على نفسه وملكه ففكر في قتله بالسم ـ الى ان قال ـ : ثم ان سيدنا موسى (عليه السلام) دعى بالمسيب وذلك قبل وفاته بثلاثة ايام وكان موكلا به فقال له يا مسيب! قال : لبيت يا مولاي ، قال : إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأعهد إلى ابني عليّ ما عهده إلي أبي وأجعله وصيي وخليفتي وآمره أمري ، قال المسيب : فقلت : يا مولاي كيف تأمرني ان افتح لك الأبواب ـ

٢٠٥

وهذه الحروف المعرفية من الاسم الأعظم يمنحها الله لمن يشاء ، فهي الكتاب المعني هنا ، فلا يعني الاسم الأعظم مقولة اللفظ ، إذ لا اسم لفظيا

__________________

ـ وأقفالها والحرس معي على الأبواب؟ فقال : يا مسيب ضعف يقينك بالله عز وجل وفينا؟ قلت : لا يا سيدي قال : فمه؟ قلت : يا سيدي ادع ان يثبتني فقال : اللهم ثبته ، ثم قال : إني ادعو الله عز وجل باسمه العظيم الذي دعا به آصف حتى جاء بسرير بلقيس ووضعه بين يدي سليمان (عليه السلام) قبل ارتداد طرفه اليه حتى يجمع بيني وبين ابني علي بالمدينة ، قال المسيب فسمعته (عليه السلام) يدعو ففقدته عن مصلاه فلم أزل قائما على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجله فخررت له ساجدا لوجهي شكرا على ما أنعم به عليّ من معرفته ...

أقول : وما أهم السرعة الهائلة الخارقة لإنسان دون تحوّل إلى طاقة فإنها الموت ـ من السرعة في جماد لا حياة له فلذلك يقول ابو عبد الله (عليه السلام) في رواية سدير عنه يا سدير الم تقرء القرآن؟ قلت : بلى ـ قال : فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ...) قال قلت : جعلت فداك قد قرأته ، قال فهل عرفت الرجل وهل عرفت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال : قلت اخبرني به ، قال : قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر ، فما يكون ذلك من علم ، قال قلت جعلت فداك ما اقل هذا؟!.

وفيه في الخرائج والجرائح روي ان خارجيا اختصم مع آخر إلى علي (عليه السلام) فحكم بينهما بحكم الله ورسوله فقال الخارجي : لا عدلت في القضية ، فقال (عليه السلام) اخسأ يا عدو الله ، فاستحال كلبا وطارت ثيابه في الهواء فجعل يبصبص وقد دمعت عيناه فرقّ له فدعا الله فأعاده إلى حال الإنسانية وتراجعت إليه ثيابه من الهواء ، فقال : آصف وصي سليمان قص الله عنه بقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ...) أيهما اكبر على الله؟ نبيكم ام سليمان؟ فقيل : ما حاجتك إلى قتال معاوية إلى الأنصار؟ قال : إنما ادعو على هؤلاء بثبوت الحجة وكمال المحنة ولو أذن لي في الدعاء لما تأخّر.

وفي البحار ١٤ : ١١٥ عن الاختصاص للمفيد بسند متصل عن ابان الأحمر ، قال قال الصادق (عليه السلام) يا ابان كيف تنكر الناس قول امير المؤمنين (عليه السلام) لمّا ـ

٢٠٦

له ثلاثة وسبعون حرفا! وحتى لو كان فلا أثر لما دون كل حروفه وان نقص حرفا واحدا فضلا عن حرف واحد منه! ثم ولا تأثير للعلم بالاسم اللفظي

__________________

ـ قال : لو شئت لرفعت رجلي هذه فضربت بها صدر ابن أبي سفيان بالشام فنكسته عن سريره ولا ينكرون تناول آصف وصيّ سليمان ، عرش بلقيس وإتيانه سليمان به قبل ان يرتد اليه طرفه؟ أليس نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) أفضل الأنبياء ووصيه أفضل الأوصياء؟ أفلا جعلوه كوصي سليمان (عليه السلام) حكم الله بيننا وبين من جحد حقنا وأنكر فضلنا.

أقول : وفي الأثر المستفيض ان من عنده علم الكتاب هو علي (عليه السلام) وبنوه المعصومون وممن

أخرجه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١ : ٣٣٦ عن عبد الله بن عطاء ما لفظه : قلت لأبي جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا ان الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام فقال : انا ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

والدشتكي الشيرازي في روضة الأحباب والسيوطي في الإتقان ١ : ١٣ حيث قال : وقال سعيد بن منصور في سننه حدثنا ابو عوانة عن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أهو عبد الله ابن سلام؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية ، ومنهم الكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي ٤٩ نقله عن المحدث الحنبلي انه روى عن أبي حنيفة انه قال (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو علي (عليه السلام) لشهادة قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): انا مدينة العلم وعلي بابها ونقل عن الثعلبي في تفسيره عن عبد الله بن سلام انه سئل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الآية؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : انما هو علي (عليه السلام) ، وسليمان القندوزي في ينابيع المودة ١٠٢ ، وروى الثعلبي وابن المغازلي بسنديهما عن عبد الله بن عطاء قال : كنت مع محمد الباقر رضي الله عنه في المسجد فرأيت عبد الله بن سلام فقلت هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال : إنما ذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وروى الثعلبي وأبو نعيم بسنديهما عن زادان عن محمد بن الحنفية قال (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) علي بن أبي طالب (عليه السلام) وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ ـ

٢٠٧

أيا كان ، فاسم «الله» و «هو» هما أعظم الأسماء الإلهية على الإطلاق ، ولا تأثير لهما بمجرد العلم بهما ولقلقة اللسان فيهما فضلا عن اسماء سواهما وهي كلها دونهما!.

وفي الحق إن الاسم وهو الدال على مسمى ، هو واقعه بدلالة واقعية ، والاسم اللفظ هو المعرفة الكاملة بالله وهي الاسم الأعظم معنويا ، فالذي عنده علم من الكتاب منحه الله ما ياتي به العرش من مسافة شهر قبل ارتداد الطرف! وطبعا بدعائه ربه دونما استقلال ، فهل أتى به دون تغيير ولا تحوير فيه ولا في مسيره؟ وموانع الجدران والأتلال والأشجار تمنعه! وسرعة السير هكذا تحوّله ، فان لكل عنصر قابلية خاصة لسرعة مّا ، لو تجاوزها لتجاوز عن كيانه إلى ما يقبلها!.

قد يقال ان ذلك كله بسيط بجنب القدرة الإلهية ، ما لم يكن محالا ذاتيا ، وكما في السرعة المعراجية فوق الضوئية بملايين الأضعاف لاجتياز تلك المسافة الهائلة مرجّعا في سويعات؟ ولكن المركبة الفضائية المعدة للسفرة المعراجية كانت تحافظ على الحياة الروحية والبدنية لصاحب المعراج دونما تحويل (راجع تفسير سورة النجم من الفرقان).

__________________

ـ الكتاب» قال : ذلك اخي سليمان بن داود ، وسألته عن قول الله عز وجل : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : ذاك اخي علي بن أبي طالب (عليه السلام) وروى في المناقب عن احمد بن محمد عن موسى بن جعفر عليهما السلام وعن زيد بن علي (عليه السلام) ومحمد بن الحنفية وعن سلمان الفارسي وعن أبي سعيد الخدري وإسماعيل السدي انهم قالوا في الآية : هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ملحقات احقاق الحق للعلم الحجة السيد شهاب الدين الحسيني المرعشي ٣ : ٢٨٠ ـ ٢٨٢).

٢٠٨

وعلى أية حال فلا بد لهذه السرعة الهائلة للعرش من خارقة هي مصدّقة فلسفيا وعلميا ، وقد أثبت علم الفيزيا إمكانية تحول كلّ من المادة والطاقة إلى الأخرى ، وواقع التحويل معروف على ضوء المحاولات الجادة العلمية المتحضرة الحاضرة.

وقد اثبت العلم إمكانية تحويل المواد إلى طاقات وأمواج بالإمكان إرسالها سريعا كإرسال الصور التلفزيونية والأصوات الراديوئية أماهيه ، مهما لم يقدر العلم حتى الآن على تحقيقه.

فقد يجوز أن عملية الإتيان بالعرش في هذه السرعة الهائلة كانت بتحويلها إلى طاقة وأمواج ثم استجلابها بسرعة تناسب (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ثم رجعها إلى ما كانت عرشا كما هو ، إذا فهو مثلث من خوارق العادات دون محاولة علمية تجريبية ، وإنما بما أراد ابن برخيا بقدرة الله ، دون إرسالية للأمواج المحولة عن العرش في مكانه ، بل هو استرسال من مسافة شهر بارادة آصف مزودة بمشيئة الله!

وقد يعنيه المروي عن أئمتنا عليهم السلام «ان آصف بن برخيا قال لسليمان (عليه السلام) مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد عينيه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل ان يرد طرفه» (١)!.

فلا يعنى غوره ذهابه في الأرض كما هو مثل الماء الغائر ، حيث نبع ولا ينبع العرش بحاله كما لا يغور ، بل يلمح غوره إلى تحوّله إلى غيره من طاقة لطيفة ، فكما الماء يغور في جانب من الأرض ثم ينبع من جانب آخر ، كذلك

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٨٧ في جامع الجوامع وروى ان آصف بن برخيا ...

٢٠٩

غار العرش في الجو غور الطاقات الموجية ، ثم نبع عند مجلس سليمان كما كان.

وقد يعنيه ايضا انخساف الأرض وانخراقها بينه وبين العرش تأويلا له بانخراق جو الأرض ، إذ لا يكفي في تخطي هذه السرعة الهائلة ـ فقط ـ تحويل العرش إلى الأمواج ، فلا بد لها من تعبيد المسيرة الجوية خرقا وخسفا حتى تتم الخارقة الربانية كما تمت وهذه خارقة رابعة.

والظاهر من ارتداد الطرف هو التقاء الجفنتين بعد افتراقهما ، فجفن العين هو دائم الانطباق والافتتاح كعملية أوتوماتيكية دون ارادة ، كما تلمح لها «يرتد» دون «يرد» وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة ، وقد يعنيها (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) بعد (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) ف (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ) أقل من طرفه إلى أن يبلغ إلى واحد الزمان الأم (١).

فليكن غور العرش تحولا له إلى ابسط طاقة موجية كأخفها وزنا وأسرعها قابلية للحركة لكي تجتاز مسيرة شهر في واحد من الزمان أم يزيد لأقل من ارتداد الطرف.

ومهما استطاع العلم في مستقبل ان يحوّل ـ حسب المحاولات والمعادلات الفيزاوية ـ مادة إلى طاقة موجية ولمّا ، فليس بمستطاعه ـ وإن بلغ القمة المستطاعة لمن سوى الله ـ ذلك المربع البارع من خرق العادة بمجرد المشيئة ودون محاولة عملية إلّا دعاء (٢) فتلك ـ إذا ـ هي من آيات الرسالة

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٨٨ بصائر الدرجات عن أبي عبد الله (عليه السلام) ... ثم عادت الأرض كما كانت اسرع من طرفة عين ..

(٢) نور الثقلين ٤ : ٩٢ عن مهج الدعوات في دعاء العلوي المصري عن علي (عليه السلام): الهي واسألك باسمك الذي دعاك به آصف بن برخيا على عرش ملكة ـ

٢١٠

الربانية ، وهي هنا كحجة ثانية لاهتداء الملكة إلى الله كما اهتدت فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

كلام حول تبدل المادة طاقة وموجة

فالذرة هي طاقة متكاثفة معقّدة كما الطاقة هي ذرة منطلقة متحررة ، ولا اختلاف بينهما إلّا بالتكاثف والانتشار ، والعلم الحديث بدء بمحاولة تبديل المادة إلى طاقة خالصة ، أي نزع الصفة المادية للعنصر بصورة نهائية ، وذلك على ضوء جانب من النظرية النسبية ل «البرت انيشتاين» إذ تقرر أن كتلة الجسم نسبية وليست ثابتة ، فهي تزيد بزيادة السرعة ، كما تؤكد التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرية على الإلكترونات التي تتحرك في مجال كهربائي قوي ، ودقائق (بيتا) المنطلقة من نويّات الأجسام المشعّة (١).

ولما كانت كتلة الجسم المتحرك تزداد بازدياد حركته ، وليست الحركة إلّا مظهرا من مظاهر الطاقة ، فالكتلة المتزايدة في الجسم هي إذن طاقته المتزايدة.

فلم يعد في الكون عنصران متمايزان أحدهما المادة التي يمكن مسّها ،

__________________

ـ سبأ فكان اقل من لحظ الطرف حتى كان مصورا بين يديه ..» وفيه (٩٠) عن الامام علي الهادي (عليه السلام) كان عند آصف حرف فتكلم به فانحرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ .. ومثله في سائر روايات القصة انه دعا ، فلم تكن منه المشية دون دعاء ، أو عملية علمية تجريبية.

(١) يقال اولى الاستحالات التي حصلت لعنصر ثابت كانت في ١٩١٩ م بواسطة راذفورد بآلية ساذجة جدا وقد فصل في كتاب الطاقة الذرية من السلسلة العلمية : ماذا أدرى ص ٦١.

٢١١

وتتمثل لنا في كتلة ، والآخر الطاقة التي لا ترى وليست لها كتلة ، كما كان يعتقد العلماء سابقا ، بل أصبح العلم يعرف أن الكتلة ليست إلّا طاقة مركزة.

ويقول انيشتاين في معادلته ان : «الطاقة كتلة المادة* مربع سرعة الضوء ، وسرعة الضوء ٨١٦٠٠٠ ميلا في الثانية» كما ان الكتلة الطاقة / مربع سرعة الضوء ، وبذلك ثبت ان الذرة بما فيها من بروتونات والكترونات ليست في الحقيقة إلّا طاقة متكاثفة ، بالإمكان تحليلها وإرجاعها إلى حالتها الأولى.

فهذه الطاقة هي الأصل العميم للعالم في التحليل الحديث وهي التي تظهر في اشكال مختلفة وصور متعددة : صوتية ومغناطيسية وكهربائية وكيماوية وميكانيكية أمّاهيه؟ ، وعلى هذا الضوء لم يعد الازدواج بين المادة والإشعاع بين الجسمانيات والموجات ، أو بين ظهور الكهرب على صورة مادة أحيانا ، وظهوره على صورة كهرباء أحيانا أخرى ، لم يعد ذلك غريبا ، بل أصبح مفهوما بمقدار ، ما دامت كل هذه المظاهر صورا لحقيقة واحدة هي الطاقة.

ولقد أثبتت التجارب علميا صحة هذه النظريات ، إذ أمكن للعلماء ان يحوّلوا المادة إلى طاقة والطاقة إلى مادة.

فالمادة تتحول إلى الطاقة عن طريق التوحيد بين نواة ذرة الهيدروجين ونواة ذرة ليثيوم ، فتنتج عن ذلك نواتان من ذرات الهليوم ، وطاقة هي في الحقيقة الفارق بين الوزن الذري لنواتين من الهليوم ، والوزن الذري لنواة هيدروجين ونواة ليثيوم.

والطاقة تتحول إلى المادة عن طريق تحويل أشعة «جاما» وهي أشعة لها

٢١٢

طاقة دون وزن ، تتحول إلى دقائق مادية من الإلكترونات السالبة والإلكترونات الموجبة ، التي تتحول بدورها إلى طاقة ، إذا اصطدم الموجب منها بالسالب.

ومن أعظم التفجيرات للمادة الذي توصّل إليها العلم ، هو التفجير الذي يمكن للقنبلة الذرية والهيدروجنية أن تحققه ، إذ يتحول بسببها جزء من المادة إلى طاقة هائلة.

وتقوم الفكرة في القنبلة الذرية على إمكانية تحطيم نواة ذرة ثقيلة بحيث تنقسم الى نواتين أو اكثر من عناصر أخف ، وقد تحقق ذلك بتحطيم النواة في بعض اقسام عنصر اليورانيوم ، الذي يطلق عليه اسم اليورانيوم ٢٣٥ نتيجة لاصطدام النيوترون بها.

وتقوم الفكرة في القنبلة الهيدروجينية على ضم نوى ذرات خفيفة إلى بعضها ، لتكون بعد اتحادها نوى ذرات أثقل منها ، بحيث تكون كتلة النواة الجديدة أقل من كتلة المكونات الأصلية.

وهذا الفرق في الكتلة هو الذي يظهر في صورة طاقة ، ومن أساليب ذلك دمج أربع ذرات هيدروجين بتأثير الضغط والحرارة الشديدين ، وإنتاج ذرة من عنصر الهليوم ، مع طاقة هي الفارق الوزني بين الذرة الناتجة والذرات المندمجة وهو كسر ضئيل جدا في حساب الوزن الذري.

رجوع إلى الآية بتكملتها :

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) استقرارا عن تلك السرعة الهائلة ، واستقرارا إلى أصله عن الموجة المحول إليها ، فقد تمت في ذلك الاستقراء خوارق اربع تكفي كل واحدة حجة بارعة.

(قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ليس من فضلي أنا ولا آصف (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) بلوى حسنة تبرز شكرانا أم كفرانا بهذه

٢١٣

النعمة السابغة الفائقة وسواها مما أنعم به عليّ ، ولقد استشعر أن النعمة كهذه الخارقة البارقة ابتلاء مخيف ضخم ، أمامها مسئولية هامة خطرة ، فالمنعم بحاجة إلى يقظة ليجتازها سليما مسلما شاكرا ، فان زهرة الحياة وزهوة النعمة قد تدفع الإنسان إلى الكفران ، بل هو طبيعة الحال إلّا لمن اعتصم بالله فعصمه الله.

(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) دون ربه (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) غني عن ان يشكر ، وغني عن ألّا يكفر ، فإنما الشكران والكفران راجعان إلى الشاكر والكافر.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) ٤١.

(نَكِّرُوا لَها) غيروا معالمه المميزة له بحيث لا يعرف لأوّل وهلة (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى عرشها المستأنس لها طيلة ملكتها ، وكان من حقها في نظرتها البدائية ألّا تعرفه لتنكّره واستبعادها الإتيان به بهذه السرعة.

ومن خلال ذلك الهدي «تهتدي» إلى ربها حيث تجوزّ خارقة السرعة ، اهتداء ذا بعدين في ذلك المضمار (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) كملإها الذين كانوا معها ، إذ لم يهتدوا لا إلى معرفة العرش ، ولا بمعرفته إلى معرفة الله ، وهنا تعرّف سليمان إلى ذكائها وإسلامها بذلك الاختبار والاعتبار.

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) ٤٢.

هنا ينكّر السئوال (أَهكَذا عَرْشُكِ) دون «أهذا» كما نكّر عرشها ، فهو بين مثلث من التنكير ثالثه بعد المسافة وسرعة السير ، وانها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال ، فأين عرشها في سبإ وعليها أقفالها

٢١٤

وحرّاسها ، واين بيت المقدس بمسيرة شهر ، وكيف جيء به ومن ذا الذي جاء به؟ ولكن العرش رغم كل ذلك التنكير هو عرشها ، وهي تعرفه ، فانتهت إلى جواب محتاط أريب أديب : (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) فروسية بارعة في مواجهة هذه الظاهرة المريبة العجيبة ، وما قولة «كأنه هو» في هذه المجالة المريبة إلّا تصديقا لأنه هو وكما يؤيده (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) فانه في ظاهر السياق من قولها تثيبتا ل «كأنه هو» وانها بعد ليست بحاجة إلى آية للإسلام.

وقد يعني الضمير المؤنث في «قبلها» آية العرش ، فقد علمنا من إلقاء الكتاب إلينا ومن مضمونها أنك على حق (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) وما قصة الهدية إلّا تأكّدة لما علمنا أنك لست من أهل المتع الدنيوية ، ويا للعرش آية مؤكدة لآيات سبقته ، وقد كان من قبل عرشا للسلطة المشركة ، وهكذا يبدل الله آية الضلال آية الهدى.

وقد يعني (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) أن عرشها أتي به قبل ارتداد طرف وهي بعد في قصرها ، حيث فقدته بأسره دون ان تفتح الأبواب أو ترى حملة يحملونه ، وصالح الآية البينة يقتضيه حتى تعزم على الرحيل إلى سليمان مسلمة عارفة بالقضية ، مهما كان إسلام التسليم أم إسلام الاستسلام ، ولكنها أسلمت بعد مع سليمان لله رب العالمين.

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) ٤٣.

الصد ، بمعنى الفصل المانع ، يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد وهو هنا «ها» الملكة ، و (ما كانَتْ ..) فاعله ـ بطبيعة الحال ـ فالواو ـ إذا ـ حالية ، والمصدود عنه هو سبيل الله ، فهي تقول هنا (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) حال انها قبل استسلامها وإسلامها صدها ما كانت تعبد من دون الله عن عبادة

٢١٥

الله ، فانها كانت من قوم كافرين ، وقد زال ذلك الصد ـ منذ بلوغها كتاب سليمان إلقاء إليها ، ورجوع المرسلين بهديتها بما حملوه من تهديد ـ زال لحد الاستسلام ، ثم هنا الإسلام «وأسلمت ..» ، واحتمال ان فاعل الصد هو سليمان بما فعل ، أو العرش بما تحول وارد ، مهما لا يحتمل كلّ بمفرده إذ يقتضي تقدير «عن» ل «ما» تعدية إلى ثاني المفعولين ، والجمع بينهما أحلى وأحرى ، فكما صدها ما كانت تعبد من دون الله ، عن الله ، كذلك وبالمآل صدها سليمان والعرش عما كانت تعبد من دون الله (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) إذا ف «ما كانت» فاعل ومفعول ، ويصح الثاني ضمن الأوّل حذفا للجار فيه ودون حذف في فاعله.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ٤٤.

«الصرح» هو القصر العالي ، ثم (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) و (مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ترفعانه على أرضية قارورية فوق الماء ، لذلك حسبته في تلك المفاجأة البديعة لجة الماء ، و (كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) دليل على عمق طفيف للماء خفيف ، لا يخاف منه الغرق.

فقد (كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) كيلا تبتلّ ، وبعد خوض المفاجئة كشف لها سليمان عن سرّ الصرح (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) وهو المملّس منها ، لا فقط تملّسا أرضيا إذ ليس إلّا أرضه ، والنص «صرح» فليكن كله مملسا من قوارير ، ومنه أرضه القائمة قواريرها على الماء ، لحد يحسبه غير العارف بحاله أنه لجة.

وهنا تقف الملكة مفجوءة مندهشة أمام هذه العظمة المنقطعة النظير

٢١٦

للملك النبيّ (١) فترجع عقليتها متصاغرة أمام العظمة الرسالية ، معترفة أنها كانت ظالمة نفسها ف (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) في سابق حالي لحد الآن (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) دون ارباب مختلفة مختلقة سواه ، والتعويض عن «رب» ب (رَبِّ الْعالَمِينَ) للإفصاح الصريح عن رفضها لسائر الأرباب شمسا وسواها.

ومعية الإسلام هنا تصريحة أخرى بخالص الإسلام ، فليس إسلامي لسليمان لأنه وسيط ، وانما (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) تذرعا برسالته الربانية (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وذلك بعد إسلامها له بمعنى التسليم والاستسلام قبل بلوغ الحجة واتضاح المحجة.

اجل وان رسل الله لا يدعون إلى أنفسهم ، وإنما إلى الله ، فكل من أسلم لله كان معهم كإخوة في الله ، فأين سليمان النبي بأعلى درجات التوحيد ، وملكة سبإ بأسفل دركات الشرك ، بون بعيد لا صلة فيه بينهما ، ولكنما الإسلام لله يرفعها إلى درجة الأخوة مع سليمان (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ)!

وتراه تزوج بها؟ قد يلمح له (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) فما أمرها بدخول الصرح وهو يعلم انها تكشف عن ساقيها ، إلّا قاصدا زواجها فلينظر إلى ساقيها كما نظر إليها ، ولو كان القصد مجرد اظهار العزة لكان يكفي البيان

__________________

(١) ومن طريف ما يروى في ذلك المضمار ما في الدر المنثور ٥ : ١١٢ ـ اخرج ابو نعيم في الحلية عن مجاهد قال لما قدمت ملكة سبأ على سليمان رأت حطبا جزلا فقالت لغلام سليمان هل يعرف مولاك كم وزن هذا الدخان؟ فقال : أنا اعلم فكيف مولاي؟ قالت : فكم وزنه؟ فقال الغلام : يوزن الحطب ثم يحرق ثم يوزن الرماد فما نقص منه فهو دخانه!.

٢١٧

قبل كشفها ، وطبيعة الحال في هذه الحالة العجيبة من تحولها إلى الإسلام ، أن يتزوجها سليمان إكراما لها لكي تملك مؤمنة بعد ما ملكت كافرة ، فلا يحسب إسلامها خسارا لها حتى في ملكها (١).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١١٢ ـ اخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال كسر برج من أبراج تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كان اعطافها طي الطوامير ، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب : بسم الله الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود ملكت الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طلاب الدنيا ، وفيه اخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي قال : لما أسلمت بلقيس تزوجها سليمان وأمهرها باعلبك أقول كأنها بعلبك في لبنان.

وفي نور الثقلين ٤ : ٩٢ عن تفسير القمي وكان سليمان (عليه السلام) قد أمر أن يتخذ لها بيتا من قوارير وضعه على الماء ـ إلى قوله ـ : فتزوجها سليمان وهي بلقيس بنت الشرح الحميرية ...

٢١٨

يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٣)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) ٤٥.

تلخيصة لهذه الدعوة الرسالية ككلّ ـ مثل سائر الدعاة إلى الله ـ فى توحيد العبادة لله ، و «أخاهم» مما يشدد عليهم الحجة أنه كان يعاشرهم طيلة حياته ، معروفا لديهم غير منكر ، دون أن تسبق منه سابقة سوء وضلال ، فلم يكن غريبا عنهم مجهولا لديهم حتى يشتبه أمره ، «فإذا هم» إثر الدعوة «فريقان» بعد وحدتهم فى الضلال «يختصمون» مع بعض تصديقا لصالح وتكذيبا ، والجمع هنا اعتبارا بالجمعين فى فريقين ، فرقة مستكبرة كافرة ، وأخرى مستضعفة مؤمنة ، ومن اختصامهم : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ

٢١٩

مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٧ : ٧٦).

و (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) هنا دليل ان آخرين منهم ظلوا ضالين تحت نير المستكبرين ، فالمختصمون ضد الرسالة كانوا هم الأكثرية الساحقة ، والاختصام هنا ذو بعدين ، اختصا ما لهم مع الفرقة المؤمنة ، وآخر مع صاحب الرسالة ، مهما كانت فجوته متروكة لآية أخرى لا تذكر هنا ان (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩ : ٢٩) ـ :

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)٤٦.

فالعاقل اللبيب يستعجل الحسنة دون السيئة ، والمتنازل عن عقله كعادة للطائشين يستعجل الحسنة قبل السيئة ، خلطا بينهما ، والنازل إلى أسفل الدركات يستعجل السيئة قبل الحسنة ، فبدلا من الايمان ولو تجربة ، يكفر ويجرب العذاب المهلك حتى لا يبقى ظرف لحسنة الإيمان ، إذ لا إيمان بعد نزول العذاب ، والمؤمن اللبيب يعيش حياة الاستعجال للحنسة ابتعادا عن أية سيئة ، مستغفرا ربه عما أساء لعلّه يرحم.

فحتى لو كان الايمان بالله ضلالا فهو خير من عذاب الله القاضي على أصل الحياة ، فيا لهم ضلالا ما أبعده ان يستعجلوا السيئة : العذاب قبل الحسنة : الايمان الصواب فالثواب ، كفرقة أمثالهم من كفار قريش القائلة : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢) ويا للهول من هؤلاء الأوغاد الأنكاد حيث يحملون الجحيم فى أنفسهم نفسها ولمّا يدخلوها!.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ

٢٢٠