الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

لَكَ .. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ..) (٢ : ١٢٩).

وقد يلمح (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أن من الأولين ومن بعدهم كاذبين بحقه ، كما اليهود والنصارى ينسبون إليه ما هم يعتقدون من ضلالات في حقل المعرفة والعمل ، وأما محمد (ص) فهو لسان صدق له في الآخرين ، استمرارية لدعوته الرسالية ، وإفصاحا بكيان ابراهيم كأفضل الموحدين.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)(٨٥).

وهم (مَنْ كانَ تَقِيًّا) : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (١٩ : ٦٣) و (٣٩ : ٧٤) والمؤمنون حقا : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا ... وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٣ : ٢ ـ ١١) والعاملون الصالحات بايمانهم : (.. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ... وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧ : ٤٣) و (٤٣ : ٧٢).

وهل هي ميراث عن الله (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣ : ١٨٠) يرث ولا يورث! أم ميراث عن صالحين؟ وهم أنفسهم من ورثة جنة النعيم!

إنها ميراث لهم عمن ليسوا بداخليها حيث طغوا وما اتقوا ، وابراهيم يستدعي بعد ما دعى أن يصبح من أهل الجنة ، وطبعا من أئمتهم وكما كان يوم الدنيا.

ويا للتواضع والإشفاق من التقصير ، ويا للخوف من تقلب المصير ،

٦١

ان مثل الخليل يطلب من الجليل ان يجعله من أهل الجنة ، على علو محتده!

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) ٨٦.

وقد يكون ذلك التطلّب من خطيئاته ، غير المحرمة في شرعة الله ، حيث لم يصب فيها واقع الأمر كما استدركه له ربه (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٩ : ١١٤) واستثني من الأسوة به ذلك الخطإ ، غير القاصد (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ ... إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ..) (٦٠ : ٤).

وعلّ الموعدة هي المفهومة من قول أبيه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) كما شرحناه في مريم ، وذلك الاستغفار كان في بداية عمره ومفتتح أمره قبل حكمه الموهوب ، ثم لم نسمعه يدعو في خاتمة أمره وعمره إلّا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) (١٤ : ٤١) دون ابوي ، وقد تبرء من أبيه منذ دحر طويل ، فوالده ـ إذا ـ غير أبيه كما فصلناه في محالّه.

وقد تلمح (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) الى ضلاله المحتوم قبل موعدته التي أخرجته عن حتمه ، والضال المتحري عن الحق ليس كالمتجري على الحق ، فيدعى للأوّل دون الأخير.

وذلك من حنانه في الدعوة لمن هو كوالده في شأنه التربوي ، مهما كان مشركا ولكنه (.. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أصبحت كوعد له بالإيمان فسلم عليه ووعده الاستغفار (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (١٩ : ٤٧).

وقد يبدو من (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) انه كان قبل موته ، وقد تبين له خلف وعده وأن لم يكن (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ليجد مجالا للتفكير ، وانما مجالا مليا كيلا يسمع دعوة الحق ثم لكل حادث حديث.

٦٢

فبطبيعة الحال لم يكن هذا الدعاء فور تركه أباه ، وانما بعد مليّ أم لمّا اوتي حكما فتبين له انه عدو الله.

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ٨٧ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ٨٩.

وكيف «لا تخزني» بعد (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)؟ إنه دعاء وليس هو في واقعه حتى يتقدم سلبه على إيجابه ، ثم هو مع إيجابه دعاء على تخوّف من سلبه ، وهذه قضية أدب العبودية حيث يحصر النصرة في الله ، فإذا لم ينصره في الدنيا أو الآخرة خزي ، وكما كان يدعو رسول الهدى (ص) في صلاته «اللهم لا تخزني يوم القيامة» (١).

وليس من الخزي المطلوب سلبه دخول آزر في الجحيم ، إذ لم يكن والده وقد تبرء منه قبل موته ، فرواية الخزي مخالفة لكتاب الله وساحة الرسول (ص) بريئة من أمثالها (٢).

ثم (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (١٦ : ٢٧) فكيف يستسلبه ابراهيم عن نفسه؟ ان الخزي ـ وهو عدم النصر ممن يؤمل منه النصر ـ قد يكون طاما في دركاته فهو للكافرين كما السوء ، وقد يكون جانبيا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٩٠ ـ اخرج احمد عن رجل من بني كنانة قال صليت خلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الفتح فسمعته يقول : ...

(٢) في الدر المنثور ـ اخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة يقول له ابراهيم : الم اقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول ابراهيم : رب انك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزي من أبي الأبعد؟ فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا ابراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطخ فيوخذ بقوائمه فيلقى في النار.

٦٣

لتقصير أو قصور وهو يعم سائر المؤمنين ، (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وابراهيم يدعو بما يدعو ولمّا يؤت حكما ، وهو على تخوّف من عاقبة حاله يوم الدين ، فلأن (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) هو (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) فلا ناصر ـ إذا ـ إلّا الله.

وهل الآية (يَوْمَ لا يَنْفَعُ ..) إلى سبعة عشر آية هي من تتمة دعاء ابراهيم؟ وهو بعيد كل البعد عن حالة الدعاء ، ان تشمل على تفاصيل لا صلة لها بالدعاء إلّا تعريفا لمن لا يعرف! فهي ـ إذا ـ من كلام الجليل يلحّق بها دعاء الخليل ، تكملة للمعرفة في هذه الإذاعة القرآنية.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ) إذ ليس هنالك مال ، ولا ينفع يومئذ مال الدنيا بما هو مال لزوال المجال ، (وَلا بَنُونَ) حيث تنقطع هناك كل الصّلات : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢٣ : ١٠١) ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦ : ٩٤).

اجل انه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ ..) ـ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فينفعه ماله الذي قدمه في سبيل الله ، وبنوه الذين رباهم على شرعة الله ، فان كان له مال وبنون فاستثناء متصل ، وإن لم يكن له مال ولا بنون فقد يكفيه قلب سليم ، فاستثناء منقطع ، والجمع بينهما أجمل وأكمل ، حيث المال المصروف في الله ، والبنون الصالحون ، هما في الباقيات الصالحات : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١٨ : ٤٦) فهناك النفع ينحصر في قلب سليم بمخلفاته مهما لم يكن لصاحبه مال ولا بنون ، وينحسر عن قلب غير سليم مهما كانت لصاحبه اموال وبنون.

٦٤

اجل (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من كل نائبة وآئبة عائبة ، من كل مرض وغرض ، ومن كل حب وهوى إلّا الله ، وليس نفع الشفاعة أيضا إلّا لمن ارتضى الله ف (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢١ : ٢٨).

فالقلب «السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه ، وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط ، وانما أراد بالزهد في الدنيا لتفزع قلوبهم إلى الآخرة» (١).

«سليم من حب الدنيا» (٢) فان حب الدنيا رأس كل خطيئة ، ف «صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم لأن سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النية لله في الأمور كلها ..» (٣).

وان سلامة القلب يومئذ تنفع بقدرها فانها درجات ، كما ان عتامته تضر بقدرها فانها دركات ، والنيات والأعمال الصالحة هي من خلفيات سلامة القلب عما يرينه ، وتزيده سلامة ، كما الأعمال والنيات الطالحة تزيده عتامة ، فكل خير أو شر من الإنسان هي صادرة من قلبه ، فواردة إلى قلبه ، فهو مورد كما هو مصدر.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٨ في اصول الكافي القمي عن أبيه عن القاسم بن محمد عن المنقري عن سفيان بن عيينة قال سألته عن قول الله عز وجل : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؟ قال : السليم ..» وفيه في آخر قال قلت له : ما حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعا؟ فقال : التواضع درجات منها ان يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم لا يحب أن يأتي الى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه ، إن رأى سيئة درأها بالحسنة ، كاظم الغيظ عاف عن الناس والله يحب المحسنين».

(٢) المصدر مجمع البيان وروى عن الصادق (عليه السلام) : ...

(٣) المصدر عن مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): ... قال الله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

٦٥

فلأن «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء» فصاحب القلب المدعي سلامته ، غير الصالح في اعماله ، كاذب في دعواه ، وقلبه مقلوب عن الهدى ، مغلوب بطوع الهوى ، وليس الايمان ـ وهو حالة القلب ـ إلّا قرينا بصالح العمل ، وكما نرى قرنه لزاما في كلّ القرآن.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ٩٠ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) ٩١.

(يَوْمَ يُبْعَثُونَ ..) وأزلفت الجنة وقرّبت للمتقين ، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) حيث كانت كامنة في الغاوين ، فتبرز بما برز وليوم الدين ، واما الجنة فهي قضية فضل الله ، مخلوقة بأرضها قبل يوم الدين ، ولكن الجحيم تصلى بما يردها أهلوها من الغاوين ، فلذلك الجنة تزلف والجحيم تبرز : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (٨١ : ١٣) ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٥٠ : ٣١) فهنا إزلاف التقريب لغير بعيد ، وهنالك تبريز التسعير حيث يحشر كلّ بعيد.

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٩٢ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) ٩٣.

و «لقد (ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٠ : ٣٠) ـ (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤١ : ٤٨).

وذلك سئوال التقريع والتأنيب بما كانوا يعبدون ، وظلوا عليها عاكفين ، وهم ضلوا عنهم وقت الحاجة الحارقة ، ف (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) هناك؟ (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لأنفسهم حين يعذبون؟ لقد ضل عنهم كيانهم كآلهة ، وحين يبرز لهم كونهم فهم معهم معذبون ، اللهم إلّا الصالحون من الملائكة والنبيين (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ)

٦٦

(٢١ : ١٠١).

واما الطالحون ف (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٢١ : ٩٨) ـ (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٤٣ : ٣٩) :

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ٩٤ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) ٩٥.

ثالوث منحوس هم صلاء النار ، الأصلاء فيها : (١) إبليس بجنوده أجمعين (٢) الغاوون (٣) المعبودون من دون الله أصناما وسواها إلّا المتقين ، ومهما لم تشعر الأصنام عبادتها ولا عذابها ، ولكن الغاوون العابدون يضاعف لهم العذاب إذ يرون آلهتهم يعذبون.

والكبكبة هي الانكباب مرة بعد أخرى على الوجه ، و «هم» هم المعبودون ، «والغاوون» هم العابدون (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) هم المضلّلون من الجنة والناس ، لا فحسب «ذريته من الشياطين» (١) اللهم إلّا أن يعني ذرية الشيطنة ، فالشياطين ـ إذا ـ هم أعم من الإنس ، اجل! إنهم على كبكبتهم يوم الدنيا يلقون على وجوههم في النار يوم الدين ، ويكأننا نسمع الآن من جرس اللفظ هنا جرس الكبكبة هناك في النار ، لفظ يصور بجرسه لمعناه.

هنالك تبرز لهم آلهتهم التي ألهتهم بعد ما ضلوا عن ألوهتهم وإلى مسرح الحوار بين العابدين والمعبودين :

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ٩٦ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٩٧ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ٩٨.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٨ في أصول الكافي بسند متصل عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : جنود إبليس ذريته من الشياطين.

٦٧

«قالوا» الغاوون المشركون (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) مع بعض ، طواغيت وأصناما «تالله» الذي لا إله إلّا هو «إن كنا» بتأكيد أكيد (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) غارقين في خضمّه (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) تسوية جاهلة ، ظالمة قاحلة ، فانها في كل حقولها ضلال مبين يبين ضلاله.

فكل تسوية بالله ، في ذاته او صفاته أو أفعاله ، في عبوديته واحترامه كمعبود ، في حرمة قلبية أو طقوس قالبية ، كل ذلك ضلال مبين ، بين إشراك جلي أو خفي أو عصيان. ف «اعلم ان من شبه ربّنا الجليل بتباين أعضاء خلقه ، وبتلاحم أحقاق مفاصله ، المحتجبة بتدبير حكمته ، إنه لم يعقد غيب ضميره على معرفته ، ولم يا شهد قلبه اليقين بأنه لا ندّ له ، وكأنه لم يسمع بتبري التابعين من المتبوعين وهم يقولون : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) فمن ساوى ربنا بشيء فقد عدل به ، والعادل به كافر بما تنزلت به محكمات آياته ونطقت به شواهد بيناته ، لأنه الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهبّ فكرها مكيّفا ، وفي حواصل هويّات همم النفوس محدودا مصرّفا ، المنشئ اصناف الأشياء بلا رويّة احتاج إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من موجودات الدهور ، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور» (١).

وترى كيف (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وهم كانوا يعبدونهم دون الله؟ علّ القصد من التسوية في اصل العبادة ، فكما الله يعبد كذلك كنا نعبد أصناما كأنها الله.

ثم التسوية بين الله وخلقه محظور في كل الحقول المعرفية والعبودية والطاعة والاحترام ، إن كانت تسوية واقعية فضلال مبين ، وإن كانت

__________________

(١) التوحيد للصدوق خطبة لعلي (عليه السلام) يقول فيها : ايها السائل اعلم ...

٦٨

ترجيحا لغيره عليه فإشراك إلحاد أم إلحاد.

والتسوية إن كانت قاصدة فإشراك أو إلحاد جلي ، وإن كانت جاهلة فإشراك خفي ، فمن يسجد أو يركع لغير الله معصوما وسواه ، كما يركع ويسجد لله ، فان كانت عبودية فإشراك جلي ، وإن كانت احتراما فخفي.

ومن يقول لو لا فلان لما نجحت ، فقد سوى بالله سواه ، أو قال إن شاء الله وشاء فلان فكذلك الأمر ، أو كتب اسم الله ردف اسماء من سواه ، قاصدا تسويتها به وغير قاصد ، فهو ـ على أية حال ـ في ضلال ، مهما اختلفت دركاته ، من فسوق ، إلى شرك خفي ، إلى شرك جلي ، وإلى الحاد في الله.

اجل وكل تسوية بالله قاصدا وسواه ، إنها ضلال مبين ، فإنها تسوية بين الفاضل والمفضول ، أم وانحس منها وأنكى ترجيح للمفضول على الفاضل.

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) ٩٩.

ويكأن المشركين الغاوين ليسوا هم من المجرمين ، ام يعنون بهم اصول الإجرام من جنود إبليس الذين أضلوهم.

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) ١٠٠.

عند الله ، لا المعبودون من دون الله ولا المجرمون ، و «شافعين» بديل «شافع» تلمح أنهم على علم من شافعين هناك يشفعون للبعض من أهل الجحيم وهم موحدون ، فيتحسرون على حرمانهم ووجد من سواه من المعذبين (١).

__________________

(١) في المجمع وفي الخبر المأثور عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي (صلى الله عليه ـ

٦٩

(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ١٠١

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧) وحتى لو كان هناك صديق فليس حميما ، ولو كان حميما فهنالك الصلات منقطعة ، فانه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ١٠٢.

«لو» تحسّر لما يرونه من المستحيل (أَنَّ لَنا كَرَّةً) إلى حياة التكليف (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٦ : ٢٨).

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٠٣ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ١٠٤.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) العرض الفسيح الفصيح لقصة ابراهيم وقومه «لآية» لهؤلاء المشركين زمنك يا رسول الهدى (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) مهما تواترت عليهم آياتنا البينات (وَإِنَّ رَبَّكَ) الذي رباك بخاصة الربانية (لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على الغادرين «الرحيم» بالمؤمنين ، فلا تأس على القوم الكافرين ، ولا تيأس من رحمة ربك العزيز الرحيم.

__________________

ـ وآله وسلم) يقول : إن الرجل يقول في الجنة : ما فعل صديقي؟ وصديقه في الجحيم ، فيقول الله : اخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ).

وروي بالإسناد عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : والله لنشفعن لشيعتنا ثلاث مرات حتى يقول : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ..).

٧٠

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٢٢)

٧١

ثمانية عشر آية تستعرض دعوة نوح الرسالية حوارا مع قومه بصورة خاطفة منذ البداية حتى غرقهم أجمعين :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ١٠٥.

«قوم» في لفظها مؤنث تصغيرها قويمة ، يجوز في فعلها المقدم الوجهان ومن الثاني : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) وهي كالظرف والمجرور ، تعم حين انفرادها القبيلين ، وحين تنضم إلى نساء تعني قبيل الرجال ، كما (قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) تلحقها (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ).

ف (قَوْمُ نُوحٍ) هم كل المرسل إليهم نوح ، وهو أوّل من دارت عليه الرحى من أولي العزم الخمسة ، وقصة نوح تقصّ في سور عدة (١) وتختص بها سورة واحدة ، مما يشي إلى بالغ الأهمية في عرضها في هذه الإذاعة العالمية القرآنية ، كقصة موسى وابراهيم والمسيح ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.

وترى كيف (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ)؟ ولم يأت في سائر القرآن إلّا تكذيبهم ـ فقط ـ نوحا لا سواه!

علّه لأنه تكذيب لسلسلة الرسالات ككل ، فان مقالهم هو مقال تكذيب الرسالة بأسرها ، وان تكذيب رسول واحد ثابت الرسالة بآياتها هو تكذيب للرسالات كلّها ، ولا سيما الرسالة الأولى وهي مفتتح ولاية العزم ، أم لأنه «مكث نوح ألف سنة إلا خمسين عاما لم يشاركه في نبوته أحد ، ولكنه قدم على قوم مكذبين للأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم ..» (٢).

__________________

(١) كالأعراف ويونس وهود والمؤمنون ، والخاصة به سورة «نوح».

(٢) نور الثقلين ٤ : ٦٢ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى محمد بن الفضل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) حديث طويل يقول فيه ـ

٧٢

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) ١٠٦.

«إذ قال» هنا كظرف لذلك التكذيب الجماهيري ، تؤيد أن تكذيبه كان تكذيبا للمرسلين ، مهما سبقه تكذيبهم من قبل.

وتلك الأخوة هي الأخوة في الإنسانية وفي المواطنة ، فلا بد أن تنجر إلى الأخوة في حق الإنسانية من هداها ، طردا لرداها ، ومن حق الأخ على الأخ ان يحاول في هداه وقد فعل نوح وبلسان الأخوة الحانية (أَلا تَتَّقُونَ) الله فيما تبغون وأنتم تطغون؟ و (أَلا تَتَّقُونَ) في بزوغ الدعوة مما يزعزعهم عن تقاليدهم الجاهلة ، ويجعل إلى قلوبهم منفذا للاستماع إلى الدعوة الرسالية ، تخوّفا من الواقعة الموعودة ، إذ هم ليسوا على علم مما هم عليه.

ولأن تقوى الله لا بد لها من صورة كما لها من سيرة ، فوسيط الرسالة هو لزامها على أية حال ، وكأنه يجيب بعدئذ عن سئوال كيف نتقي الله؟

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ١٠٧.

أمين على رسالة الله إليكم ، فلا تجدون فيّ خيانة في تلك الأمانة حالا ومآلا وأفعالا ، وكما لمستموه مني حتى الآن ، إذ ما خنتكم كخلق الله ومرسلا إليكم من الله ، فكيف أخونكم في رسالتي لكم من الله؟ وهنا يعود مرة ثانية يأمرهم بتقوى الله بذريعة الرسالة :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ١٠٨.

«أطيعون» في : كيف يتقى الله ، فإني أحمل رسالة الله بكل امانة ،

__________________

ـ فمكث نوح ... وذلك قوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) يعني من كان بينه وبين آدم إلى ان انتهى إلى قوله : وان ربك لهو العزيز الرحيم ـ وقال فيه ايضا : فكان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة آباء كلهم أنبياء ، وفي روضة الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن محمد بن الفضل عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

٧٣

ثم ولا أكلفكم على رسالتي ـ بكل صعوباتها وملتوياتها ومنحنياتها ـ اجرا ، مما يزيد لي تصديقا :

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) ١٠٩.

وعدم سئوال الأجر أو قبوله سنة مستمرة طول خط الرسالات ، مما يسهّل الإقبال إليها دونما صعوبة وتكلف ، فالركن الأوّل لها هو الايجابي : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) والثاني هو السلبي : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) فالدافع لتصديقها واقع ، والمانع عنها غير واقع ، فما بقي هنا إلّا القبول ، وبطبيعة الحال لا يدعي الرسول ما يدعيه دون برهان مبين يقطع كل الأعذار ويقنع الأفكار.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ١١٠.

يكرر هنا الأمر بتقوى الله وطاعته هو كرسول الله ، لتكرار الدافع لها ، وهو السلب إلى الإيجاب ، وهذه ثالثة ثلاثة في أمر التقوى ، مما يدل على انها هي المحور الأصيل في كل شرعة إلهية ، حيث تجتمع فيها كل الأصول العقائدية والفروع العلمية ، من واجبات ومحرمات تجمعها تقوى الله وطاعة الرسول في الله.

وذلك خلاف ما عهده الناس من الكهّان وقسم من رجال الأديان من استغلال الدين لابتزاز الأموال بشتّى الأساليب ، فدعوة الله الحقة متجردة عن كل أجر إلّا من الله.

وخلاف عهد آخر لهم من النسناس المتزيين بزي الدعاة إلى الحق وهم في الحق على باطل نكد ، فلكي يلصقوا باطلهم إلى قلوب الناس لا يطلبون أجرا بل ويصرفون أموالا طائلة ويرخّصون الجنس ، ويقدمون كل ألوان المشتهيات الحيوانية ، لكي يجلبوا أنظار الناس إلى ما يدعون.

٧٤

ولكن رجالات الله ، الدعاة إلى الله ، هم متجردون عن كل هوى إلّا هوى الله ، وعن كل أجر إلّا من الله ، متزودين بآيات الله البينات ، واقعيين متصلبين في وجهاتهم الدعائية لا تحركهم العواصف ولا تزيلهم القواصف.

والمهم في دعامتي الرسالة الحقة الأمانة ثم الأمانة ، وليس عدم سئوال الأجر إلّا قاطعا للأعذار المادية بعد قطع الأعذار المعنوية ، فليس ـ إذا ـ مستقلا بجنب الأمانة ، ولذلك تأخر عنها تأكيدا للتصديق.

فالرسول الأمين الذي يطلب أجرا لا يتوفّق في دعوته لا سيما والأكثرية الساحقة من المهتدين فقراء ، وغير الأمين وإن دفع أجرا بديل طلبه إياه لا يدعو إلّا إلى النار ، فليكن الرسول جامعا بين الأمرين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ١١١.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (١١ : ٢٧).

نعم «الأرذلون» (أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) المعروفون عندهم بحساب الهوى وقيم الدنيا الرذيلة ، ألّا مال لهم ولا منال ، فلو كانت دعوتك حقة لاتبعك الأعلون ، ذوو الحنكة المتحضّرون ، فلمّا اتّبعك الأرذلون عرفنا أن دعوتك رذيلة لا تحمل أية فضيلة.

أم إن كانت دعوتك حقة فلتطرد التابعين الأرذلين حتى يفسح لنا مجال اتباعك ، حيث التسوية بيننا وبينهم ضلال مبين.

لكن «الأرذلون» في ميزانهم المتأرجف اللعين هم السابقون دوما إلى الرسل ، أخفاء في قبول الحق لا تثقلهم وتقعدهم عنها أغلال الثروات والطنطنات والكبرياءات والمصلحيات القائمة على الأوضاع المزيفة.

٧٥

فإيمانهم الموعود شريطة طرد المؤمنين : «الأرذلون» في حسابهم هو خلاف متن الايمان وقضيته ، حيث يوحّد بين قبيل المؤمنين ، فلا أكرم عند الله منهم إلّا أتقاهم ، ولا فوارق بينهم إلّا تقواهم ، فهي التي توحّد صفوفهم ، وهي التي تميز بينهم بفاضلها.

هنا نجد الجواب الحاسم من نوح في حلقات أربع كل واحدة تكفي حسما لعذرهم الغادر :

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ١١٢.

فإن كانت «الأرذلون» حالتهم السابقة على الايمان ، فما علمي بأعمالهم السابقة؟ وإنما المعلوم عندي حالتهم الحالية وهي الايمان ، وذلك هو المطلوب منهم الآن أيا كانت أعمالهم السابقة.

وحتى لو كانوا محاسبين برذالة سابقة ـ ولا يحاسبون ـ «يغفر لهم ما سلف» بايمانهم الخلف ، ف :

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) ١١٣.

ولست أنا المحاسب ، فما أنا إلّا رسول الإيمان إلى أيّ كان ، فحين تؤمن جماعة مهما كانت حالتهم السابقة رذيلة ، كيف أطردهم ، وما حسابهم عند الله إلا حسنا يسيرا فليس ـ إذا ـ (وَما عِلْمِي ... إِنْ حِسابُهُمْ) إلّا تنازلا في الحوار ، أن ليس عليّ حساب لو أنهم محاسبون بما كانوا يعملون ولن! ثم وما عليّ إلّا البلاغ المبين فقبولا لايمان من أقبل دون أية محاسبة.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) ١١٤.

فبأية حجة أطرد المؤمنين وما أحمل إلّا رسالة الايمان (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) .. وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي

٧٦

أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١١ : ٣١).

وهذه سنّة رسالية دائبة : جذب المؤمنين وطرد المعاندين ، فكيف ـ إذا ـ أطرد المؤمنين؟ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦ : ٥٢) أطردهم ثم أطري الكافرين المتطاولين المستكبرين؟!.

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ١١٥.

«نذير» من عذاب أليم «مبين» سبب النذارة ومادتها ، فكيف أطرد المنذرين المؤمنين لرغبة المتأنفين المستكبرين ، فان هي ـ إذا ـ إلّا رسالة الظلم والاستكبار!. ولقد قلت لكم من ذي بدء (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) وتلك ـ إذا ـ خيانة في الرسالة أن أطرد المؤمنين ، ونقضا لصالحها إلى مصلحية الجمع لجم غفير من المستكبرين وهم كاذبون ، بذلك يثبت نوح جدارة هذه الرسالة الأمينة أنها لا تخضع لرغبات الأقوياء الأغوياء ، وإنما لحكم الله جذبا للأبرياء الأتقياء.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ١١٦.

هذا جواب العاجز اللعين إذ يتنقّل من الحجة ـ إذ يراها عليه لجة ـ إلى التهديد (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عن دعوتك ودعايتك (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) وقد كان الرجم أشد عقوبة للمتخلفين ، فقد بدأوا بحوار ، ثم تطلّبوا منه أن يأتيهم بما يعدهم : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١١ : ٣٢) وآخر المطاف (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)!

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ١١٧ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ

٧٧

مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ١١٨.

عرض لحال معلومة عند الله ، ولكنها موقف الدعاء تعرض فيه كل حالة بقالة متواضعة ، ولأن تكذيب الرسالة راجع إلى تكذيب المرسل فنوح هنا في ذلك العرض يتطلب إلى ربه ان يعالج موقفه الرسالي بفتح منه ونجاة له ولمن معه من المؤمنين ، مما يلمح أنهم هدّدوا بالرجم كما هو ، وقد يشير إليه (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ممن رجم أو يحكم له بالرجم. «فافتح ..» احكم بيني وبينهم حكما قاطعا وأمرا فاصلا ، يفتح الباب المبهم بعد ما استصعب رتاجه ، وأعضل علاجه ، ويقال للحاكم : الفتّاح ، لأنه يفتح وجه الأمر بعد اشتباهه واستبهام أبوابه (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) يفتح بعلم ويغلق ما انغلق ويفتق ما ارتتق.

وهذا الفتح هو بطبيعة الحال واقعه المميّز بين الفريقين وفيه نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين دونما اقتراح لنوعية الفتح استسلاما لأمر ربه ، فليس فتحا في حكمه شرعة لأنه كان واقعا منذ الدعوة ، بل ومنذ بزغت شرعة في هذه البسيطة.

وقد فتح الله بينه وبينهم بعد ردح بعيد من الزمن ، حيث الدعوة كانت ألف سنة إلّا خمسين عاما :

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ١١٩ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) ١٢٠.

ولقد كان فلكه مشحونا بشحنات الحيوان من مختلف أجناسها ، ومن الذين آمنوا معه و «المجهز الذي قد فرغ منه ولم يبق إلا دفعه» (١).

__________________

(١) في كتاب كمال الدين وروضة الكافي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في «الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ».

٧٨

وهذا إجمال جميل سريع يصور النهاية الأخيرة للمعركة المصيرية بين ضفة الايمان والكفر في فجر البشرية تقريرا غريرا غزيرا لمصائر المعارك التالية للبشرية إلى يوم الدين ، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٢١ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ١٢٢.

تلحيق مكرور في ختام العرض لهذه الدعوات الرسالية ، بنفس الصيغة السابقة في عرض خاطف لمقابلة الكفار للرسالة الإسلامية ، ولموسى وابراهيم من قبل ، ثم لهود وصالح ولوط وشعيب ، آيات مكررات تعرض لهؤلاء المناكيد الأوغاد (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) هنا وعبر التأريخ الرسالي (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره غير مغلوب «الرحيم» بالمؤمنين.

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ

٧٩

بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٤٠)

تأتي قصة عاد اربع وعشرين مرة في سور عدة ، في نجمها توصف بالأولى (٥٠) مما يدل على انه اثنان ، ولا خبر لنا عن الثانية ، حيث الآيات كلها تتحدث عن الأولى ، مما يدل على أنهم كانوا اظلم واطغى ، لحد أنسوها الأخرى.

وهنا تكرر المقالة البازغة بداية الدعوة الرسالية مرات خمس ، تدليلا على وحدة الرسالات دعوة ومغزى ، مهما اختلفت في أحكام جزئية حسب المصالح الوقتية أما هيه ، وهنا بعد عرض الرسالة ـ كما أسلفنا تفسيرها ـ يندّد هود بقومه في نبرات (١) :

__________________

(١) في كتاب كمال الدين وروضة الكافي مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد ـ

٨٠