الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

هنا خلق اوّل بجزئيه من طين ثم نطفة فعلقة فمضغة فعظام مجردة ، فكسونا العظام لحما وفي كل هذه المراحل هو في خلقه الأوّل ، مهما كان روحه باجزاءه الأولية مندغما في جسمه ولمّا يظهر ويتبلور بآثاره ، فهناك في مراحله الأربع قبل كمال البدن ، ليس البدن والروح إلا بالقوة ومع اكتمال البدن يصبح البدن بالفعل والروح فيه بالقوة القريبة الى الفعل ، و (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) إظهار للروح الى الفعلية! (خَلْقاً آخَرَ) ليس هو الأول وإلّا فلما ذا الإنشاء بعد خلقه ، ولماذا الآخر بعد وجود الاول!

هذا الخلق الآخر ليس هو الاول بعينه ، ولكنه من الاول تبديلا له بعضا لا كلا الى خلق آخر ، حيث البدن الظاهر هو البدن ، فليكن الآخر شيئا منه غير مرئي ، كان كالأوّل ثم تبدّل بذلك الإنشاء سلالة لطيفة منه غير مرئية ، وكما انه في جسمه سلالة السلالات ، ترى وما هو الدليل أنه منه رغم أنه آخر؟.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا) تصريحة بإنشاء مركب ، فلم يقل «ثم انشأنا له خلقا آخر» حتى يكون الروح خلقا آخر يختلف عن البدن تماما ، بانفصال مطلق دون اتصال ذاتي ام ولادي ، حتى يحتمل كونه مجردا عن مادة!

ولا أن (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) بمعنى خلق البدن كما هو مرة اخرى تحصيلا للحاصل! وإنما إنشاء للبدن بعد تمامه ، خلقا آخر منه بعضا لا كلا ، فالخلق الآخر الروح او المركب منه والجسم ، منشأ بعد كمال البدن ، انتشاء كسلالة خاصة من البدن ، حتى يصح القول (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، فكما البدن هو سلالة السلالات ، كذلك الروح سلالة لطيفة من أجزاء بدنية لها صلاحية الإنشاء روحا دون سواها ، ولعله يعنيه الحديث «انه من الملكوت» : حقيقة غير مرئية وسلالة خفية من الجسم فهو من الملك والروح من الملكوت! حيث الملكوت هي حقيقة الملك ، ومنها ما

٣٢١

هي مع الملك كونا وكيانا ، وهو كل خلق لا يرى ومنه الروح أيا كان ، ومنها ما ينفصل عن الملك كونا وكيانا وهي ما عند الله من حقيقة الإرادة التكوينية ومنها.

فكما تتسلل سلالة من الوردة هي العطر ثم تمزج بالوردة غير المزج الاول ، فالعطر كان مع الوردة ما كانت وردة ، ثم أخذ عصرا عنها كسلالة ، ثم مزج بالوردة ، فالعطر أولا هو الوردة كجزء منها مزيجة ، وثانيا هو خلق آخر مزج في الوردة ، وهنا يصح القول في عطر الوردة : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وإن كان بين الوردة وعطرها ، والبدن وروحه بون ، حيث البدن ظاهرا هو البدن قبل تسلل الروح منه وبعده ، دون الوردة!

فآية الإنشاء تجعل الروح سلالة لطيفة من البدن بعد اكتماله ، كما تجعل النطفة سلالة من طين ، وبينهما عوان في السلالات التكاملات ، والروح بأصله مخلوق مع سلالة النطفة من طين ، ولكنما الفعلية الروحية الحيّة ليست إلّا بعد (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) بتراخ كما توحي به «ثم».

فكما «ثم» في تسلل النطفة من طين تتطلب تراخيا ، كذلك «ثم» في تسلل الروح من البدن ، ومن ثم التكاملات العوان بين ذلك متفرعة على بعض بالفاء ، لا للفصل الزمني فحسب ، بل والفصل في المكانة ، فأين طين ومني يمنى سلالة من طين ، ونطفة تجعل في قرار مكين ، ومن ثم أين الخلق الاوّل من الإنسان المكتمل في الهيكل البدني واين الخلق الآخر : روحه المتسلل من ذلك الهيكل؟

ومحتملات إنشاء الروح بعد اكتمال البدن كالتالي :

١ ـ انشأه الله لا من شيء كما المادة الاوّلية؟ ولا يناسبه «أنشأناه» فإنه إنشاء ثان للبدن ، وليس إنشاء بسيطا للروح لا من شيء!

٣٢٢

٢ ـ أنشأه الله من شيء غير البدن ، مجردا ام مادة؟ وكذلك الأمر! ٣ ـ أنشأه الله من شيء ذاته سبحانه؟ فكذلك! إضافة الى استحالته الذاتية وان (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) لا» «من شيئه الذاتي»!.

٤ ـ انشأه الله من شيء بدنه ، إنشاء مركبا يعني تبديل البدن بعد خلقه الاول خلقا آخر بتمامه؟ والبدن هو البدن فأين الآخر؟!

هكذا ولكنه تبديل لأجزاء لا نعلمها من البدن الى روح ، ثم نفخه فيه لا ككونه قبل إنشاءه الثاني فانه الخلق الاوّل ، وإنما تبديلا لألطف اجزاءه ، ام تلطيفا لما يصلح إنشاءه روحا ، ثم نفخه فيه ، فهو الإنسان المنشأ خلقا آخر حيا يعقل ، بعد ما انشأ خلقا اوّل ميتا لا يعقل ، اللهم إلّا في حياة نباتية وحيوانية جرثومية هما مع النطفة الى العظام وكسوها لحما ، فميزة الخلق الآخر ليست بذلك البدن بروحيه حيوانا جرثوميا ونباتيا ، وانما بالروح الإنساني عقلا والروح الحيواني للإنسان.

هذه آية محكمة بيانا مكينا متينا كما نفهم لكيان الروح ، أنه منشأ من البدن بعد اكتماله : فمنفوخ فيه بعد انفصاله ، كما تدل عليه آيات النفخ ، إذ يتطلب كونه خارج البدن حتى يصح نفخه فيه ، وآية الإنشاء تحكم بخلقه من البدن ، ونتيجة التجاوب بينا هي إنشاءه من البدن ثم نفخه فيه!

هذا ومن ثم آيات النفخ (١) والبعض من روايات الروح «انه جسم

__________________

(١). فالتي تقول «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» «وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» تدلنا على ان الروح تمكن في البدن ، لا خارجه ولا دون مكان ، والمجرد عن الجسم ليس له مكان ، حيث المكان أيا كان محدود والمجرد لا محدود ، ثم الروح الماكن في البدن له حدود وابعاد مثل ما للبدن ام اقل ولا حدود وابعاد للمجرد عن المادة.

٣٢٣

رقيق قد ألبس قالبا كثيفا» (١) «مادته من الدم» ... «ليس لها ثقل ولا وزن» (٢) : ودليل العقل (٣) شهود ثلاثة على عدم التجرد المطلق للروح الإنساني ، وانما تجرد نسبي يعني انه طاقة عاقلة تنبثق من الهيكل الانساني بعد اكتماله فهو مادي دون تجرد ، سلالة من البدن تدبره وهي حياته كسائر الحياة في نشأتي البرزخ والقيامة ، ثم لا نجد ولا إشارة او تلميحة عن عقل او كتاب او سنة أنه مجرد عن المادة إطلاقا ، بل هو طاقة مادية

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ : ٢١٧ ح ٤٣٣ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال السائل : اخبرني عن السراج ـ الى قوله ـ : والروح جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا ... قال : فأين الروح؟ قال : في بطن الأرض حيث مصرع البدن الى وقت البعث قال : فمن صلب اين روحه؟ قال : في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض ، قال : فاخبرني عن الروح أغير الدم؟ قال : نعم الروح على ما وصفت لك مادته من الدم ومن الدم رطوبة الجسم وصفاء اللون وحسن الصوت وكثرة الضحك ، فإذا جمد الدم فارق الروح البدن ، قال : فهل توصف بخفة وثقل ووزن؟ قال : الروح بمنزلة الريح في الزق إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ولا ينقصها خروجها منه كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن».

(٢). المجرد في ذاته غني عن موجد او محوّل ومبدّل فلا يخلق وإنما يخلق ، فلو أن الله خلق الروح مجردا عن المادة ، جاز ان يكون هو ايضا مخلوقا ، وعدم جواز الحدوث لذات الله ليس إلّا لتجرده عن مطلق المادة فأزلي غني عما سواه ، فحدوث الروح إذا يعني كونه ماديا ، كما أزليته تعني تجرده ، وتجرده يعني أزليته! ...

وضرورة مجانسة العلة والمعلول ليست الا في العلة الوالدة حيث تلد المعلول ، اما بتحولها تماما الى المعلول ام بعضا أما ذا ، واما العلة الخالقة فالضرورة فيها عدم المجانسة حتى يمكن إيجادها الشيء لا من شيء ، والضابطة القائلة «الفاقد للشيء لا يعطيه» ليست الا في العلة الوالدة ، واما الضابطة في العلة الخالقة فهي «ان تجد العلة القدرة على إيجاد المعلول لا من شيء او من شيء هو خلقه» واما ان تجد ذات المعلول في ذاتها فذلك يحيل خالقيها الى الوالدية!

٣٢٤

تساكن بدنا ما وبها حياته ، مادي الولادة ، ومادي البقاء ، ومادي التعلق في مثلث الحياة :

وترى هل للروح ثقل وأبعاد ولون أم ماذا كما للجسم؟ لا ريب في أن له كلما للجسم كجسم لا كأجسام خاصة ، فالروح تشارك سائر المادة في أصل المادية الطاقة ، وتخالفها في الحياة والتعقل أماذا من شؤون فلا هي مادة كسائر المواد ، ولا طاقة كسائر الطاقات ، بل هي طاقة خاصة حية شاعرة عاقلة ، وطبعا لها أبعاد وثقل وإن لم توزن بما عندنا من ميزان ، ولا تحدّ بما عندنا من مقياسات ، ولأنها لا تحس ولا تلمس ولا تدرك بالحواس الخمس.

وما في الحديث ان «ليس لها ثقل ولا وزن» نفي لما عندنا من موازين الثقل والوزن ، فكما ان الريح في الزق لها وزن ، كذلك الروح في الجسم ، مهما لم نسطع على وزنه!.

وفي حديث مجانسة الروح للريح تصريح انهما مثلان في الطاقة المادية واللطافة ، مهما اختلفا في الطاقة العقلية والحيوية ككل! كما وتؤيده آيات النفخ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢١٦ ح ٤٢٩ في كتاب التوحيد باسناده الى عبد الحميد الطائي عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) كيف هذا النفخ؟ فقال : ان الروح متحرك كالريح وانما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وانما أخرجت على لفظ الروح لان الروح مجانس للريح ، وانما اضافه الى نفسه لأنه اصطفاها على سائر الأرواح. كما اصطفى بيتا من البيوت فقال : «بيتي» وقال لرسول من الرسل : «خليلي» وأشباه ذلك وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر.

وفيه ح (٢٣٤) في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده عن محمد بن علي الثاني (الامام الجواد (عليه السلام)) قال : اقبل امير المؤمنين ذات يوم ومعه الحسن بن ـ

٣٢٥

فالتجرد المطلق للروح هرطقة مطلقة ، ان تكون مجردة الذات ولادة او بقاء ومجردة التعلق ، كذلك وان الروح هي الهيكل الجسماني او الدم ام ماذا مما يرى ، ويتلوها تجرده في كونه وتعلقه في كيانه ، بل هو طاقة عاقلة متسللة عن البدن ، يدبر البدن ولا يعيش إلّا في بدن أيا كان من الثلاثة ، اللهم إلّا أرواح عالية لا تحتاج الى بدن إلّا تجربة وامتحانا.

و (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) بيان لكيان الروح أنه من فعل الله وإرادته في كلمة التكوين «كن» فهو حادث دون تجرد مطلق ، وأما ما هي حقيقته وملكوته فلا جواب إلّا انه «من الملكوت» فليس الروح إذا تجردي الحدوث والبقاء ، ولا مادي الحدوث تجردي البقاء ولا عكسه بل هو مادي

__________________

ـ علي وسلمان الفارسي وامير المؤمنين (عليه السلام) شك على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على امير المؤمنين (عليه السلام) فرد عليه السلام فجلس ثم قال : يا امير المؤمنين (عليه السلام)! اسألك مسائل الى ان قال في جواب السؤال : اخبرني عن الرجل إذا نام اين تذهب روحه ـ والمكلف في الجواب الحسن (عليه السلام) : اما ما سألت عنه من امر الإنسان إذا نام اين تذهب روحه؟ فان روحه معلقة بالريح والريح معلقة في الهوى الى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة فإذا اذن الله برد تلك الروح على صاحبها جذبت تلك الروح الريح وجذبت تلك الريح الهوى فرجعت الروح فأسكنت في بدن صاحبها وان لم يأذن الله عز وجل برد تلك الروح على صاحبها جذب الهوى الريح وجذبت الروح فلم ترد الى صاحبها إلّا الى وقت ما يبعث ...».

وفي الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل وفيه قال السائل : فاخبرني ما جوهر الريح؟ قال : الريح هواء إذا تحرك سمي ريحا فإذا سكن سمي هواء وبه قوام الدنيا ولو كفت الريح ثلاثة ايام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن وذلك ان الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن وتغير تبارك الله احسن الخالقين».

٣٢٦

الحدوث والبقاء (١).

فالقول ان لا جواب في الآية إلّا اللّاجواب ، فلأنكم ما أوتيتم من العلم إلّا قليلا ، إذ لا تتحملونه إلّا قليلا فلا جواب إذا عن الروح ، إنه ليس في شيء من الصواب ، فاللّاجواب يكفيه (ما أُوتِيتُمْ) و (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) جواب ، حيث ينفي كونه امرا مستقلا دون الرب فأزليا مجردا ، ام حادثا بغير امر الرب!.

كما القول : إنها جواب بتجرد الروح ، حيث الأمر يقابل الخلق ، كما (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٧ : ٥٤) فالأمر هو كلمة «كن» في إيجاد المجردات دون تدرج ، والخلق في إيجاد الماديات بتدرج ... ذلك ايضا تأويل عليل خال عن الدليل.

فالقرآن يعبر عن كل حادث بالخلق (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢٥ : ٢) فهل الروح لا شيء ، ام شيء ازلي إلهي ، ام شيء حادث ، والشيئية الحادثة مخلوقة دونما استثناء : (وَ (٢) خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦ : ١٠٢) (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ، وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) فكل شيء مخلوق لله ، وما أمره في خلق كلّ شيء إلّا واحدة. ارادة واحدة ـ كلمح بالبصر (٢) خلاف

__________________

(١). في الاحتمال الثاني وعكسه تناقض ، فمادية الحدوث تجعل كيانه طاقة مادية سلالة عن البدن ، فكيف إذا بالإمكان انتقاله عن ماديته الى تجرد ، تحولا لنقيض الى نقيض آخر ، ام ولأقل تقدير الآن المشترك بين المادية والتجرد وهو آن التحول هو مجمع النقيضين ، فمهما تكامل الروح ولا يصل الى حد التجرد وانما يرقّ ويتلطف أكثر مما كان تقدما في العلم والمعرفة دون طفرة وقفزة من نقيض الى نقيض!.

(٢) راجع ج ٢٧ ص ٥٠٣ تفسير الآية «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».

٣٢٧

كل آمر ومريد سوى الله ، حيث يحتاج في تحقيق مراده الى مقدمات قد لا يقدر عليها ، او تحتاج الى مضي زمن ام ماذا ، ولكن الله ليس أمره إذا يأمر إلّا واحدة. ارادة واحدة لكل وحدة خلقية ، دون حاجة الى معدات اخرى.

ف (أَمْرِ رَبِّي) يعني فيما يعني : أن الروح «خلق من خلق الله ، وانه يزيد في الخلق ما يشاء» (١).

وآية الخلق والأمر لا تعني الا إيجاد الكون وتدبيره انهما من الله ، لا أنه الخالق والمدبر غيره ، او انه المدبر والخالق غيره وكما تبينه الآية نفسها.

فعالم الخلق هو الارادة التكوينية لاي شيء مكوّن ، وعالم الأمر هو الإرادة التدبيرية لاي مكون ، دون تفلت وتخلف هنا وهناك.

ان تفسير الأمر بإيجاد المجردات تنافي اللغة والآيات ، فالأمر شيء وفعل ومقابل النهي ، ف (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) لا يعني انه من شيء ربي ، انه جزء من الشيئية الربوبية ، وانما من فعل ربي وارادته ، كما ان العالم كله من فعله وارادته ، سواء كان متدرج الكون ام دفعي الكون ، فالمادة الاولية دفعية الوجود ، وغير الاولية منها دفعية ومنها تدريجية ، وتفسير الأمر التكوين لله بانه كلمح البصر او اقرب لا يعني إيجاد المجردات ، وانما الإيجاد اي إيجاد ، فلا تدرج في حصول مرادات الله ، مهما نرى تدرجا في خلق الله! ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ : فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٦ : ٨٣).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢١٥ ح ٤٢٥ في تفسير العياشي عن زرارة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» قال : خلق ...

٣٢٨

هنا ملك وهنا لك ملكوت ، والملك هو الظاهر من كل شيء ، والملكوت هي حقيقة ملكه وتعلقه بالله وهي كلمة «كن» التكوينية ، فكما ان لكل شيء ملكا كذلك له ملكوت ، ملكه ظاهر وملكوته باطن :

او ان الكون ينقسم الى ملك هو الظاهر كالجسم ، والى ملكوت هو الباطن كالروح.

ام ان المعنيين هما معنيان فالروح من عالم الملكوت أيا كان ، ولها ملكوت هو حقيقة التعلق بالله.

وهنا (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) تفسير «من روحي» في آياتها (١) أن «من» هنا لك نشوية لا جنسية ، فليست الروح جزء من ذات الرب ولا متولدة منها إذ ليس للرب روح وجسم حتى يكون الروح من روحه ، وانما (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : فعله وإنشاءه!

هذا روح الإنسان ومن ثم روح الايمان (٢) فإن كتبه وتأييده من الله مهما

__________________

(١) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) (٣٢ : ٩) (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٣٨ : ٧٢) و (١٥ : ٢٩) (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (٤ : ١٧١). فالروح أيا كان هو من امر الرب وليس من ذاته.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٢١٦ و ٤٢٦ تفسير العياشي حمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) عن قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قالا : ان الله تبارك وتعالى احد صمد والصمد الشيء الذي ليس له جوف ، فانما الروح خلق من خلقه بصر وقوة وتأييد يجعله في قلوب المؤمنين والرسل.

وفيه عن اصول الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب الخزاز عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل لم يكن مع احد ممن مضى غير محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو مع الائمة يسددهم وليس كلما طلب وجد.

٣٢٩

كانت عقيدته وعمله في البداية من الإنسان : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٥١ : ٢٢).

كذلك وروح العصمة القدسية (١) وروح الوحي : «وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا (٤٢ : ٥٢) (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١٦ : ٢) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (٤٠ : ١٥) (٢).

وكذلك الروح الأمين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢٦ : ١٩٤) وهو روح القدس (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (١٠٢ : ١٦) (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٩ : ١٧) ومن ثم «الروح» زعيم الملائكة وليس منهم : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٩٧ : ١٤) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٧) (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (٧٠ : ٤). وكل هذه (مِنْ أَمْرِ رَبِّي).

ففي وحي الرسالة المحمدية يتنزل الروح الأمين من أمر الله بأمر الله ، وعلى روح الرسول الأمين من أمر الله بأمر الله ، بالروح القدسي الرسالي من أمر الله بأمر الله ، وبالروح الوحي القرآني من أمر الله بأمر الله ، أرواح اربع كلها «من امر ربي وبأمر ربي» كونا وكيانا ونزولا ونازلا ومنزلا :

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) راجع لتفصيل آخر عن الروحين وسواهما الى سورة الشورى عند الآية «وَكَذلِكَ. أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» وكذلك سورة القدر.

٣٣٠

فالروح القدسي الرسالي المحمدي بوحيها هي روح الأرواح كلها ، وسائر الأرواح أبدان لها ، من سفلي هو روح الإنسان ومن علوي هو روح الرسالات غيرها وبينهما متوسطات عوان.

تلكم الروح القدسية في محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمحمديين من عترته أعظم من جبريل وميكال ومن الروح زعيم الملائكة وهي كسائر الأرواح من أمر الله دون سواه.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

هنا مثلث من الاحتمالات في مخاطب (ما أُوتِيتُمْ) انهم هم المشركون ام السائلون عن الروح أم العقلاء اجمع ، ثم العلم قد يعني العلم المطلق ، واخرى مطلق العلم وحيا او سواه. وثالثة العلم بحقائق الأشياء ، ثم قليلا قد يعني قليلا من العلم واخرى قليلا منكم ، فمجموعة المحتملات ثمانية عشر ، قد تعنيها الآية كلها ، على مراتبها في درجاتها ادبيا ومعنويا! وقد تصدق بعضها روائيا.

فهم «الذين لم يؤتوا من الله فوائد العلم فوصفوا ربهم بأدنى الأمثال وشبهوه بالمشابهة فيما جهلوا به فلذلك قال (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فليس له شبه ولا مثل ولا عدل» (١) فتعالى ان تكون الروح شيئا من ذاته المقدسة كما يهرفه الخارقون ويكذبه العارفون.

وهم الخلق أجمعون ف «لم يؤت من العلم إلّا أناس يسير فقال (وَما

__________________

(١) نور الثقلين ح ٤٣٩ كتاب التوحيد باسناده الى حنان بن سدير عن أبي عبد الله (ع) حديث طويل يقول فيه «ووصف الذين لم يؤتوا من الله فوائد العلم منهم.

٣٣١

أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(١).

ف «قليلا» من العلم قلة في قلة في قلة أوتيها العالمون اجمع مهما كان نصيب اصحاب الوحي على مراتبهم أوفر ثم من يليهم ، و «قليل» أوتوا قلة واحدة هي «من العلم المطلق» هم رجالات الوحي وأضرابهم ، إذ لم يؤتوا على علّاتهم إلّا قليلا من علم الغيب ، مهما كان كثيرا وجاه الآخرين ، فانه قليل وجاه رب العالمين «وما أوتيتم كثير فيكم قليل عند الله» (٢).

فأين هذه القلة القليلة من العلم والنيل من حقيقة الروح كما الله يعلم ، وقد يعلم من حقيقتها أولياءه الخصوص بعضا لا كلا ، حيث العلم المطلق بحقيقة شيء هو القدرة المطلقة على إبداعها ، و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)؟ ثم لا يعلم هذه القلة سائر الخلق ، وإنما يعلمون بما

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢١٩ ح ٤٣٨ تفسير العياشي عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (ع) في قول الله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قال : تفسيرها في الباطن انه لم يؤت العلم الا أناس يسير فقال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) «منكم» أقول وقليلا في نصبها استثناء عن العلم ورفعها استثناء عن ضمير الجمع في (ما أُوتِيتُمْ) ويجوز ان يرادا معا واللفظ منصوب لرجاحة احتماله على الآخر.

(٢) المصدر ح ٤٣٧ تفسير القمي ان اليهود سألوا رسول الله (ص) عن الروح فقال (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالوا : نحن خاصة؟ قال : بل الناس عامة ، قالوا : فكيف يجتمع هذان يا محمد! تزعم انك لم تؤت من العلم الا قليلا ولقد أوتيت القرآن وأوتينا التورية وقد قرأت (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) وهي التورات (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) فأنزل الله تبارك وتعالى (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) يقول : علم الله اكبر من ذلك وما أوتيتم كثير فيكم قليل عند الله.

٣٣٢

اوحى الله مثلثا من علم الروح كما تفيده (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) حدوثا ومادية في كونه وانه (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) في كيانه.

فإذ لا علم بالروح إلا قليلا للأقلين ثم القليلين فبأحرى لا طاقة لخلقه وتحصيله لأحد من العالمين! فما الروح أيا كان (مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)! ويروى «لقد قبض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم» وما يعلم الروح» (١) بحقيقته أيا كان ، اللهم إلّا قليلا ، وله في وحيه مثلث الروح : منزلا هو روح العصمة في قلبه ، ومنزلا به هو روح القدس جبريل ام الروح عظيم الملائكة ، ونازلا هو روح الوحي قرآنا وسواه من وحي.

وكمثال على عدم استقلاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مكانته العليا ، في تحصيل الروح أيا كان ، من وحي وروح العصمة القدسية ، يتهدده ربّه خطابا بإياك اعني واسمعي يا جارة ، ان ليس الوحي ومثيله حصيلة كمال العقل ونبوغه (وحي العقل) ولا ان ذلك علة تامة في حصوله لكي تقتضي بقاءه على اية حال ، وإنما هو أمر من أمر الرب يهبه لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء : ولئن ...

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً)(٨٦).

لو ان هذه الروح او تلك كان من أمرك ككل أمر منك ، فلا تذهب إذا عنك ، حيث الاستقلال في الحصول على شيء يمنع الاستغلال في الذهاب به دون خيره المستقل ـ رغم أننا (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من روح قدسية ومن وحي ...

لقد شاء الله ان يحتبس الوحي عن رسوله لفترة قصيرة لحكم شتى ،

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٠٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابو الشيخ عن عبد الله بن بريدة قال.

٣٣٣

منها التبيين انه من امر الله لا من أمره دون ودع ولا قلى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ...) ولئن شاء لذهب بكل الذي اوحى اليه من روح النبوة والوحي ولكنه لا يشاء حيث اصطفاه برسالته على علم.

فربه هو يقرءه وحيه وهو الذي يبقيه ولا ينسيه (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وهو الذي يسدده دوما حتى لا يكاد يركن الى غيره ولو شيئا قليلا (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) إذا ف (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) لا أمري فضلا عن غيري!.

إن الروح الأمين هو من أمره وينزّل بالروح إليك من أمره ، فليس هنا وهناك في امر الوحي إلّا أمره لا سواه.

إنه تعالى لا يريد ولن ان يذهب بالذي أوحى اليه «وقد يعلم ما لا يريده ابدا» (١) «وان كان قادرا على ما لا يريده ابدا» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢١٩ ح ٤٤٠ في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا (ع) مع سليمان المروزي حديث طويل وفيه قال الرضا (ع): يا جاهل فإذا علم الشيء فقد اراده؟ قال سليمان : اجل ـ قال : فإذا لم يرده لم يعلمه؟ قال سليمان : اجل ، قال : من اين قلت ذاك وما الدليل ان ارادته علمه وقد يعلم ما لا يريده ابدا وذلك قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فهو يعلم كيف يذهب ولا يذهب به ابدا؟ قال سليمان : لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئا ، قال الرضا (ع) : هذا قول اليهود فكيف قال : ادعوني استجب لكم «قال سليمان : انما عنى بذلك انه قادر عليه ، قال : أفيعد ما لا يفي به؟ قال (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) وقال عز وجل : يمحو الله ما يشاء ويثبت عنده علم الكتاب وقد فرغ من الأمر؟ فلم يحر جوابا وفي كتاب التوحيد مثله سواء.

(٢) المصدر ح ٤٤١ في كتاب الاجتماع للطبرسي عن الرضا (ع) حديث طويل وفي آخره قال سليمان ان الارادة هي القدرة ، قال الرضا (ع) وهو يقدر على ما لا يريد ابدا لا بد من ذلك لأنه قال تبارك وتعالى (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فلو كانت الارادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به بقدرته ، فانقطع سليمان ...

٣٣٤

وفيما لو ذهب بالذي اوحي اليه من روح النبوة او روح الوحي (لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) توكله او يتوكل عنك في استرجاعه (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) هي الوكيل لك لا سواها ف «إن الله غالب على امره» والروح من أمره! (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) كما استمر في وحيه عليك بعد انقطاعه ردحا من الزمن دون ودع ولا قلى.

واما انقطاعه لودع او قلى حيث هما في خيانة الرسالة لا سواها : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) فانه انقطاع دائب لا رجوع فيه ولا رحمة تعتريه : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ...) (٦٩ : ٤٦)!

ولكنه ليس بالذي يخون في رسالته او يزيغ (١) او يخطر بخلده ، وليس الله ليبعث من يخون.

وحين يتهدد ربّنا رسوله بذهاب ما اوحى إليه لو زاغ ، فهل يشمل ذلك التهديد الأمة الاسلامية ان يذهب بالقرآن من بينهم وحتى من صدورهم إذا خانوا وزاغوا وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٠٠ ـ اخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس قال لما قدم وفد اليمن على رسول الله (ص) فقالوا : أبيت اللعن؟ فقال رسول الله (ص) سبحان الله انما يقال هذا للملك ولست ملكا أنا محمد بن عبد الله! فقالوا : انا لا ندعوك باسمك ـ قال : فانا ابو القاسم ، فقالوا : يا أبا القاسم انا قد خبأنا لك خبيئا ـ فقال : سبحان الله انما يفعل هذا بالكاهن والكاهن والمكتهن والكهانة في النار فقال أحدهم فمن يشهد لك انك رسول الله فضرب بيده الى حفنته حصا فأخذها فقال : هذا يشهد اني رسول الله ، فسبّحن في يده فقلن نشهد انك رسول الله فقالوا : أسمعنا بعض ما انزل عليك فقرء والصافات صفا حتى انتهى الى قوله : فاتبعه شهاب ثاقب ، فانه لساكن ما ينبض منه عرق وان دموعه لتسبقه الى لحيته فقالوا : انا نراك تبكي امن خوف الذي بعثك تبكي؟ قال : بل من خوف الذي بعثني ابكي ، انه بعثني على طريق مثل حد السيف ان زغت عنه هلكت ثم قرأ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً).

٣٣٥

وسلم): «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا اله إلا الله. فنحن نقولها» (١). او يأتي «على الناس زمان يرسل الى القرآن ويرفع من الأرض» (٢) او «ينسج من القلوب والمصاحف» (٣) «فيصبح الناس ليس في الأرض ولا في جوف مسلم منه آية» (٤) او «لا تقوم الساعة حتى يرفع الذكر والقرآن» (٥).

وترى ما هو الذنب الذي به يرفع القرآن؟ هل هو الكتب التي يكتبونها مع كتاب الله (٦) ومؤيد القرآن منه وشارحه من سنة ام ماذا يسانده ، ومخالفه منه يعرض على الحائط وكما في أحاديث العرض ، اللهم إلّا ان يعنى الكتب التي تجعل القرآن منسيا!

__________________

(١) المصدر ١ ـ ٢ ـ اخرج الحاكم وصححه البيهقي عن حذيفة قال قال رسول الله (ص) ...

(٢) المصدر اخرج ابن عدي عن أبي هريرة عن النبي (ص) ...

(٣) المصدر ـ اخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل قال : خرج علينا رسول الله (ص) فقال : اطيعوني ما دمت بين أظهركم فإذا ذهبت فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه فانه سيأتي على الناس زمان ...

(٤) المصدر ـ اخرج ابو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن حذيفة وأبي هريرة قالا قال رسول الله (ص) يسرى على كتاب الله ليلا فيصبح.

(٥) المصدر اخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (ص) لا تقوم الساعة.

(٦) المصدر اخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا خطب رسول الله (ص) فقال : ايها الناس ما هذه الكتب التي بلغني انكم تكتبونها مع كتاب الله يوشك ان يغضب الله لكتابه فيسري عليه ليلا لا يترك في قلب لا ورق منه حرفا الا ذهب به فقيل يا رسول الله (ص) فكيف بالمؤمنين والمؤمنات قال : من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

٣٣٦

أم إن رفعه يعني رفع علومه وتطبيق احكامه؟ (١) وهو واقع في امة اتخذت هذا القرآن مهجورا ، وقد يعنيه انسباخه عن القلوب حيث تنقلب عنه وعن المصاحف حين تهجر تفقها وتعلما أم وقراءة.

وفي الحق ان القرآن منذ بعيد زمن منسبخ مرفوع عن ارض الإسلام وعن القلوب وحتى عن الحوزات العلمية ، فدرسه مندرس ، وآياته لا تدرس ، ومن أقبل الى درسه يرفض او يتهم بالجهالة والباطلة وإلا فلما ذا القرآن؟ وهنا لك كتب علمية عميقة هي التي تشكل علوم الحوزات وتنصب أعلامها! كما يهرفه الهارفون!

وأما ان يرفع القرآن عن بكرته. فلا يوجد لمتحري الحق ، فهذا رفع للحجة عن المؤمنين به والكافرين ، وثم إذا استحق العصاة رفعه فما ذنب المؤمنين ألّا يبقى لهم منه إلّا (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)؟! ولا تتهدد الآية برفع القرآن إلّا الرسول تدليلا على ان الروح : القرآن وسواه ، إنما هو من امر الله لا سواه ، وفي التي تتهدد الرسول أخذا باليمين لو تقول على الله بعض الأقاويل ، تدليل على عصمة القرآن وانه حجة بالغة على المكلفين ، ثم لا تجد تصريحة ولا تلويحة تهدد العصاة برفع القرآن. إلّا ان هذه الشفاء والرحمة للمؤمنين لا تزيد الظالمين إلّا خسارا ، ومن ثم فالفضل الكبير للرسول هو للمؤمنين دونما انقطاع : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٣٣ : ٤٧) او يعقل انقسام القرآن في كونه بين المؤمنين فكائن وبين غير المؤمنين فغير كائن ، اللهم إلّا في شفاءه ورحمته.

ذلك الروح القرآن كسواه من أرواح «من امر بي» لا سواه ، فلو تعاضد الانس والجن ـ وأنت معهم دون وحي ـ لن يأتوا بمثل هذا القرآن!

__________________

(١) كما أخرجه محمد بن نصر عن الليث بن سعد قال : انما يرفع القرآن حين يقبل الناس على الكتب ويكتبون عليها ويتركون القرآن.

٣٣٧

كما لن يحيط بعلمه روحا ظاهرة كالقرآن ام خفية كروح الإنسان او القدسي الرسالي ام ماذا؟ :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(١). (٨٨)

والمثل المتحدى فيه ليس فقط القرآن كله ، وإن كان أعضله ، بل وبأبعاضه ما يسمى قرآنا كسورة مثل الكوثر ، ام وآية تامة ، حيث الآية الإلهية هي الدالة بنفسها على أنها إلهية ، وكل جملة من القرآن آية فالتحدي بإتيان المثل تشمله كما تشمل سورة وعشرا والى كله.

كما المماثلة المتحدى فيها تعم جانبي اللفظ والمعنى ، فانه القرآن فيهما ، وليس كلهم عربا يتحدون به لفظيا!.

وطالما حاول الناكرون ان يأتوا بمثله فرجعوا خاسرين ، (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) بعض من الإنس مع أنسه (٢) ، وبعض من الجن مع جنه ، ام انس مع جن ، ولو تظاهروا طول الزمان وعرض

__________________

(١) راجع تفسير الآية (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ...) في البقرة. تجد فيه بحثا فصلا عن اعجاز القرآن.

(٢) نور الثقلين ٣ : ٣٢٠ ح ٤٤٤ في الخرائج والجرائح في أعلام أبي عبد الله (ع) ان ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدهرية اتفقوا على ان يعارض كل واحد منهم ربع القرآن وكانوا بمكة وعاهدوا على ان يجيئوا بمعارضة في العام القابل فلما حال الحول واجتمعوا في مقام ابراهيم قال أحدهم : اني لما رأيت قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ) كنفت عن المعارضة ، وقال الآخر : وكذا انا لما وجدت قوله : فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا «أيست من المعارضة ، وكانوا يسترون ذلك إذ مر عليهم الصادق (ع) فالتفت إليهم وقرأ عليهم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) فبهتوا.

٣٣٨

المكان ، ولو كرسوا طاقاتهم كلها (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أفليس إذا الروح القرآن من امر الله لا سواه (١).

وقد تلمح الآية بامكانية اجتماع الانس والجن ، وإن أحالت ان يأتوا بنتيجة الاجتماع بمثله ، فلو استحال الاجتماع لم يكن هناك تحدّ ، وإنما تحيل ما بالإمكان توفر وسائله لا المستحيل بداية ونهاية!

وترى هذا الانس عرفنا عيّهم عن الإتيان بمثله حتى الآن ، فكيف لنا التعرف الى عي الجن في هكذا إتيان؟.

نقول : لأن الإنسان مخلوق في احسن تقويم فلا احسن منه أيا كان ، فعدم إتيانه بمثله دليل على عدم الإتيان ممن في مستواه ، فضلا عن الجان الذي هو ادنى من الإنسان! ثم لو كان للجن مثله لعارضوا القرآن بواسطة إخوانهم من الانس ولمّا ولن! ثم والحكمة الهداية الإلهية قاضية ان لو كان بإمكان الجن الإتيان بمثله لوجب إظهاره للإنسان كما للجان حتى يتبين التدجيل في هذا القيل ، ولمّا ولن!

ان معجزة القرآن كافية لكل انس وجان في اي حقل من الحقول واي عقل من العقول لمن القى السمع وهو شهيد (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٩ : ٥٢) والشهادة الإلهية ظاهرة في

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٣ ـ اخرج ابن إسحاق وابن جريرة ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال أتى رسول الله (ص) محمود بن سيحان ونعيمان بن اصماد ومجزئ بن عمرو سلام بن مشكم فقالوا : يا محمد! هذا الذي جئت به حق من عند الله فانا لا نراه متناسقا كما تتناسق التوراة فقال لهم : اما والله لتعرفون انه من عند الله قالوا : انا نجيئك بمثل ما تأتي به فانزل الله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) الآية»

٣٣٩

آياته ، باهرة في بيناته ، دون حاجة ضرورية الى غيرها وهم يطالبون الرسول غيرها وهو دونها خلوا من الخلود في حجتها ، ام خلوا من حجة :

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٨٩).

التصريف هو التكرار والمثل هو مواصفة المقصود بما يمثله ويقرّبه من الأفهام ، والله يكرر الأمثال في ضربها دون تضارب ، يضرب الأمثال تصريفا لمزيد الانتباه ، دون إبقاء على مثل لتمثيل الحق المرام تقريبا للأفهام إلّا وهو ضاربها مصرّفا إياها (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) : كفرانا بالأمثال وكفرا بالممثلات (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)! والاكثرية الكفور في مثلث الكفران بعد ايمان في ترك من شروط الايمان ، ام نكران بعد ايقان (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) وهو اعمق الكفر ، أم تباعد عن ايات الايمان كمن (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) كيلا يثبت لهم الحق مخافة ان يؤمنوا به وهو أحمق الكفر (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) عن اتجاه الى الحقائق القرآنية بأمثالها «إلا كفورا» في زاوية من هذه الثلاث :

هكذا قصّروا في إدراكهم فقصرت عن التطلع الى آفاق الاعجاز القرآنية تعندا وتعنتا. فأخذوا يتطلبون خوارق مادية في حسبانهم ، متعنتين في اقتراحاتهم بكل طفولة ما لا يعنيهم. ام ويغويهم ، او يتبجحون في ذات الألوهية دون ادب ولا تحرج ، لم ينفعهم او يكفهم تصريف القرآن من كل الأمثال ـ :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢). أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ

٣٤٠