الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

وهي «له» حيث (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وان كانت عليه تكليفا ، ولأنه من أفضل الخاشعين وهو أوّل العابدين فليست العبادة له حملا وكبيرة (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

ولان الصلاة هي المذكورة مسبقا دون القرآن ، إذا فهي (نافِلَةً لَكَ) صلاة زائدة لك على فرضك ، مهما شملت قراءة القرآن في صلاة وسواها ، إلّا أن آيات المزمل بشأن ترتيله في قيام الليل تضم ترتيل القرآن إلى صلاة الليل ، قرآن الصلاة ام سواه : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) كما وأن القرآن هو روح الصلاة!

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ... بذلك التهجد الصارم ولأنك أفضل الخلق أجمعين وانك اوّل العابدين «عسى ...» فما هو ذلك المقام المحمود؟ هل إنه الرسالة الختمية؟ وقد بعث بها! ام إلقاء قول ثقيل (قُمِ اللَّيْلَ ... إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)؟ وذلك حتم في تلكم الرسالة موعود «سنلقي» ، و «عسى» موضع ترج دون حتم! أم إنه العصمة العليا والقمة الأعلى من مقامات الولاية؟ فما هي وانّى؟!

بما انه لا حمد إلّا لله ولا محمود إلّا الله ، اللهم إلّا ما عساه يبعثه الله (مَقاماً مَحْمُوداً) فليكن قمة في الاولى واخرى في الاخرى ليست لأحد من العالمين وهي الولاية الكبرى هنا والشفاعة الكبرى هناك ، حيث الحمد مطلق ، فلتشمل ولايته في الدنيا كل العالمين ، ان تشمل شرعته كل العالمين» (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤٨ : ٢٨) كما وأن ولايته الرسالية تشمل كافة المرسلين (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١) ثم سلطانه النصير في فتح العاصمة الرسالية بعد ما ضاقت

٣٠١

عليه بما رحبت وذاق منهم أشد الأذى في العهد المكي والمدني ، ومن ثم شفاعته الكبرى التي تشمل كل العالمين ، مزيدا على محتد النبيين ، وترفيعا للمؤمنين ، وغفرانا للفاسقين ، وتخفيفا عن الكافرين كما تظافرت به الروايات عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن عترته (عليهم السلام).

ولماذا «عسى» وليست إلا للترجي والله لا يترجى ما هو باعثه لا سواه؟ ... إنه ليس ترجيا من الله ، فعساه ليس إلا ترجيا لرسول الله ، دون تحتم على الله ، فالظروف الرسالية هذه ، وهجده أم ماذا من لياقته ولباقته ، هذه وتلك مواقع لترجي المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.

ولان «مقاما» مصدر ميمي واسم زمان ومكان ، فمقامه المحمود مجموعة من قيامه المحمود ، وزمن القيام ومكان القيام المحمود ، وقد قام قيامه المحمود في خير مكان «مكة المكرمة» وخير زمان ، وكما يقوم في شفاعته يوم القيامة قياما محمودا في خير زمان وخير مكان ، وقد يجمع ذلك كله محتده المحمود في كافة المجالات.

وبعثه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقاما محمودا لا يعني إلّا إرساله استجاشة ذلك المقام ، لا الى مقام محمود ، ولا جعله وإجلاسه مقاما ، خلاف ما يروى شاذا انه تعالى «يجلسه معه على السرير» (١) ولا ـ فقط ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٨ ـ اخرج الديلمي عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الآية : يجلسني معه على السرير.

٣٠٢

إنطاقه بما ينطق «لبيك وسعديك :» (١) وان كان هذا من مخلفات مقامه المحمود!

ومهما يكن من شيء فالمقام المحمود الذي عساه يبعث إياه أمر مستقبل تتبناه عصمة الرسالة الاخيرة والولاية العامة الإلهية على كونه دائبا قائم الليل سابح النهار سبحا طويلا.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً)(٨٠).

وسلطانه النصير هو من مقامه المحمود هنا ، كما شفاعته الكبرى من سلطانه النصير هناك! فقد جعل الله له سلطانا نصيرا في الأولى والأخرى!.

تلك دعاء يحتاجها الرسول ولكي يجتث ويحتاج كل عراقيل الدعوة ، يؤمر على طول خط الدعوة الرسالة إدخال صدق وإخراج صدق ، وسلطانا نصيرا حينهما وقبلهما وبعدهما ، دعاء مثلثة الزوايا تجمع مجامع الخيرات لصاحب هذه الرسالة السامية.

فالصدق هنا مطلق دون قيد ، صدقا في العلم والايمان ، وصدقا في

__________________

(١) المصدر اخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبزاز وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابو نعيم في الحلية وابن مردوية والبيهقي في البعث والخطيب في المتفق والمفترق عن حذيفة قال يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس الا باذنه ينادى يا محمد فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فهذا المقام المحمود.

٣٠٣

النية والعمل ، تطابقا في جنباته كلها ، دون نفاق وشقاق ، ودون اية كذبة ولا نقيرا!

صحيح أن على الإنسان أيا كان أن ينتظم دخوله في كل مدخل وخروجه عن كل مخرج بصدق صارم قاطع ، ولكنما هناك العراقيل التي تحول دونه وما يريد متغلّبة على ما يريد وإن قليلا ، فليطلب من الله أن يدخله ويخرجه بصدق ، عصمة عن المزالّ وحفاظا عن الضلال ، والعصمة القمة التي مالها من سباق هي العصمة المحمدية التي يطلها ربّه ليل نهار.

وإن ذلك استسلام تام للرب تبارك وتعالى ، أن يستضيف الى حوله حول الله ، والى قوته قوة الله ، والى ارادته ارادة الله ، بل يرى انه «لا حول ولا قوة إلا بالله» فيجعل نفسه مجالا لمشيئة الله ، فلا يشاء ألّا ما يشاء الله ، بعد ما يكرّس كل طاقاته في تحقيق وتطبيق مرضات الله ،

لقد كان للرسول خروج عن مكة هجرة الى المدينة دخولا فيها ، ومن ثم دخول في مكة يوم الفتح ثم خروج عنها منتصرا مظفرا (١) ، وبين ذلك دخولات وخروجات في مداخل ومخارج شتى لتحكيم الدعوة وتدعيم الرسالة ، وكل ذلك تشمله دعاءه (وَقُلْ رَبِّ ...) كما ادخله وأخرجه صدقا (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً (٢) نَصِيراً) سلطانا من لدن الرب

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٨ ـ اخرج احمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وبان مردوية وابو نعيم والبيهقي معا في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمكة ثم امر بالهجرة فأنزل الله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ...).

٣٠٤

تبارك وتعالى. نصيرا له في دعوته الرسالية العالمية في كل مدخل ومخرج وكل مقام ومقام (١).

ان السلطان النصير أيا كان يختص بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا نجد في سائر القرآن سلطانا نصيرا لمن سواه إلّا سلطانا مبينا هو معجزة الرسالة وهي لزام الرسالات كلها ، وقد بدء الرسول بها في قرآنه فإنه أفضل سلطان وأخلده.

ومن سلطانه النصير نظيره ووزيره علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فانه شاهد لبينة الرسالة حيث يتلوه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...) (١١ : ١٧)(٢).

كما وان من سلطانه النصير استقامته وهيبته وسيطرته ، فقد زوده الله بسلطات ربانية متصلة به ومنفصلة عنه ، ولأن هذه الرسالة السامية عالمية خالدة (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤٨ : ٢٨).

ومن سلطانه النصير في آخر الزمن القائم المهدي (عليه السلام) من

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٨ ـ اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن قتادة في الآية قال : أخرجه الله من مكة مخرج صدق وادخله المدينة مدخل صدق ـ قال : وعلم نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه لا طاقة له بهذا الأمر الا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه واقامة كتاب الله تعالى فان السلطان عزة من الله تعالى جعلها بين عباده ولو لا ذلك لغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.

(٢) ملحقات الاحقاق. اخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج ١ ص ٣٤٨ ط بيروت بإسناد متصل عن عبد الله بن عباس في الآية قال : والله لقد استجاب الله لنبينا دعاءه فأعطاه علي بن أبي طالب سلطانا ينصره على أعدائه.

٣٠٥

عترته المعصومين (عليهم السلام) : فبه ـ لا سواه ـ «يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا» ، وفي الحق إن هذه الدولة المباركة هي تحقيقة شاملة وتطبيقة كاملة لرسالته في العالمين ، كما تحققت على ضوءها كافة الرسالات الإلهية.

إذا فهي حصالة غالية من كل سلطانه النصير ، المنقطع النظير في كل سلطان نصير ، فانها انتصارة صارمة لرسالة السماء في الأرض ، بعد كل تشرد له بتمرّد مارد من المرسل إليهم طوال التاريخ الرسالي ، والآية التالية تبشيرة لطيفة بحق ذلك السلطان النصير :

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٨١).

اجل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (٢١ : ١٨)! (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٣٤ : ٤٩).

«انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الأمثال» (١٣ : ١٧)! (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (١٤ : ٢٦).

لقد قال الرسول هذه الكلمة الطيبة فيما قال في سلطانه النصير عند ما فتح مكة وأخذ يكسر الأصنام (١) وإذا لم يزهق الباطل في صورته زهاقه في

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٩ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابو يعلى وابن المنذر عن جابر (رضي الله عنه) قال : دخلنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنما فامر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأكبت لوجهها ـ

٣٠٦

سيرته زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى الآن فسوف يزهق تماما زمن الدولة المباركة الاسلامية العالمية في قيام الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ف«إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل» (١) فان للحق دولة وللباطل صولة وجولة ، يتنفّخ ويتنفّج ولكنه هشّ سريع العطب كشعلة الهشيم!.

وقد كانت هذه الآية مكتوبة على ذراع المهدي (عليه السلام) الأيمن لما ولد (٢) حيث تعني أن مجيء الحق تماما وزهاق الباطل تماما ليس إلّا بيمين

__________________

ـ وقال : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) وأخرجه مثله الطبراني في الصغير وابن مردوية والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخرجه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية عن ابن مسعود عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بزيادة الآية (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) ومثله في امالي الطوسي باسناده الى سليمان بن خالد قال حدثنا علي بن موسى عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه قال : وفي كفاية الخصام ٥٣٦ ـ ان هبل وهو اكبر الأصنام التي كانت على جدران الكعبة انما نزلها وكسرها علي (عليه السلام) بأمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين وضع قدمه على ظهره الشريف ، رواه ابو بكر الشيرازي في كتاب نزول القرآن في شأن امير المؤمنين (عليه السلام) عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن جابر بن عبد الله الانصاري قال : كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين دخل الكعبة ...

ورواه مثله ابو المؤيد موفق بن احمد بسنده عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ...

(١) نور الثقلين ٣ : ٢١٢ عن روضة الكافي باسناده عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الآية قال : إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل.

(٢) المصدر ص ٢١٣ ح ٤١٠ في الخرائج والجرائح عن حكيمة في خبر طويل وفيه لما ولد القائم (عليه السلام) كان نظيفا مفروغا منه وعلى ذراعه الأيمن مكتوب (جاءَ الْحَقُّ ...).

٣٠٧

المهدي (عليه السلام) لا سواه ، مهما بذر بذوره الرسول البشير النذير ، حيث بذر بلا اي تبذير :

وفي الحق ان الحق كيانه الانجلاء والقرار ، والباطل كيانه الجلاء والاندحار! ... والحق وان كان جائيا قبل ذلك الحق ولكنه لم يكن بالذي لا ينسخ ولا يحرّف ، وأما ذلك الحق فكتابه حق لا ينسخ او يحرف (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) ورسوله لا يزول فان رسالته مؤبّدة ، ودولته سوف تفوق الدول وتشمل العالم أجمع ، إذا ف (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ) نفسه أن يبدأ حياته من جديد (وَما يُعِيدُ) ما كانت من حياته البائدة ، فلا بدء له بعد ولا عود ، وانما هما الآن وعلى مرّ الزمن والأجيال للحق!

الحق الخالص الصارم بمن له من أنصار صامدين ، ثابت لا حول عنه ، والباطل زاهق مهما كان له من أنصار ... فالباطل شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار حيث لا يطمئن الى حقيقة مهما تنفّج وتنفّخ فانه هش سريع العطب ... وهو زبد يطفو على الماء ويخيل الى من غربت عقولهم أنه عال ، ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.

في معترك الحق والباطل ، القوة كلها للحق حيث يضرب على الباطل فيدمغ (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ومهما انهزم أهل الحق أحيانا ولكن الحق لا ينهزم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤٢ : ٢٤).

إن الحق من الله وهو مع الله ومن ورائه الله ، والباطل من الشيطان ومن وراءه الشيطان (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)!

٣٠٨

الباطل كلما أرعد وأبرق وعربد لا يملك عقولا صافية وحقولا ضافية ، مهما ملك غاربة من سنخه وفي مجراه ، ولكنما الحق يملك عقولا وتنضج به عقول ، مهما عارضه من لا يعقلون!

لقد جاء الحق في القرآن (٢٥٤) مرة ولم يجيء الباطل إلّا (٢٦) مرة ، ولان دلائل الحق تحيط بنا وليس للباطل دلائل إلّا زورا وغرورا! (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (١٨ : ٥٦) (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (٢١ : ١) (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٤٠ : ٥٠)؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢١ : ٢٤) لذلك (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٢٣ : ٧٠) :

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ) ليحق ويبقى (وَزَهَقَ الْباطِلُ) لان حقه الزهاق (إِنَّ الْباطِلَ كانَ) منذ وجد وفي أعماق الزمان والمكان «زهوقا» لاثبات له فلا مساك له ولا سماك لبنائه وإنما يبقى امتحانا وبلاء في دار البلاء (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً)(٨٢).

القرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين ومزيد خسار للظالمين ، ولا تعني «من» تبعيضا في القرآن ، بل هو بيان لكيان القرآن أيا كان كما (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) فالرجس هو طبيعة الأوثان ، والشفاء والرحمة هما طبيعة القرآن ولكن لمن؟ «للمؤمنين»!

أترى إذا اختص القرآن في شفاءه ورحمته بالمؤمنين فما بال غيرهم يؤنّبون ويعذبون ولا يشملهم هدى القرآن؟ رغم انه (هُدىً لِلنَّاسِ

٣٠٩

وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)! ثم الشفاء والرحمة حاصلتان للمؤمنين بالايمان ، وغيرهم يحتاجونها حتى يحصل الايمان! والظلم داء عضال فكيف لا يشفيه القرآن.

«المؤمنين» هناك «المتقين» في (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) تعني من يبتغي الايمان أصلا او مزيدا ، ويتقى خلاف الايمان أصلا او مزيدا ، فالكافر أيا كان ـ إذا فتش عن الايمان ، وكفره قصور وشك مقدس ولمّا يصل الى برهان الايمان ـ هو هنا من «المؤمنين» فإنه : (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٠٣).

واما المتعنت المتعمد في كفره وظلمه فهو الظالم الذي لا يزيده القرآن إلّا خسارا ، وان كان منسلكا في سلك المسلمين كالمنافقين ، ام والمؤمنين الضعفاء (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦)

فالقرآن هو منبع الشفاء والرحمة بجاذب الإيمان ممن نظفت فطرته ولطفت سريرته ، وان لم يصل قبل الإمعان في القرآن الى واقع الايمان.

والظالم نفسه والظالم آيات ربه ، الذي غربت فطرته لا يزيده هذا القرآن إلّا خسارا (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) (٣ : ١٠)

ليست الشفاء إلّا عن مرض أيا كان في الروح ام في البدن ، ولا الرحمة إلّا مزيد قوة بعد نقاهة ، وليستا إلّا للذين يؤمنون : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) (٤١ : ٤٤) مهما خوطب بهما الناس أجمعون (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٠ : ٥٧) فالشفاء هنا وهناك هي الشفاء ، تخلية عن الأمراض ، والرحمة هي الموعظة والهدى تحلية وتجلية للأرواح ، وهي مزيد سلامة للأبدان!

إن القرآن شفاء ورحمة لحد سمي شفاء ورحمة ، شفاء في مثلث الآيات

٣١٠

ورحمة في عشرات : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٥٢) (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٠٣) (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٢ : ١١١)

ف «يؤمنون» هنا وهناك تلمح الى معنى «المؤمنين» في آية الشفاء والرحمة ، كما بيناه.

فهو «شفاء» عن أمراض الفطرة والعقل ، ومضايق الصدر وعمى القلب ، عن ظلمات الأفكار ام ماذا؟ وعن أمراض الأبدان ما كان لها شفاء (١) لمن دخل مستشفى القرآن ، فانه «الشفاء الأشفى» ... «من استشفى به شفاه الله» (٢) «شفاء لا تخشى اسقامه» (٣) : «شفاء» ومن ثم «رحمة» ف «إنه هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الأحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم» (٤).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣١٣ ح ٤١٥ طب الائمة قال ابو عبد الله (عليه السلام) ما اشتكى احد من المؤمنين شكاية قط وقال بإخلاص نية ومسح موضع العلة (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الا عوفي من تلك العلة اية علة كانت ومصداق ذلك في الآية حيث يقول (شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وباسناده الى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : يا بن سنان لا بأس بالرقية والعوذة والنشرة إذا كانت من القرآن ومن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله وهل شيء ابلغ في هذه الأشياء من القرآن أليس الله يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

(٢) اصول الكافي ج ٢ ص ٦٠٠ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبة مفصلة حول القرآن راجع ج ٣٠ المقدمة من الفرقان.

(٣ ، ٤). نهج البلاغة الخطبة ١٩٣ ص ٢٠٢ ـ راجع مقدمة الفرقان ج ٣٠.

٣١١

«وانما الشفاء في علم القرآن (١) «للأرواح والأبدان ، للمؤمنين بدرجاتهم ، عالية في أئمة الهدى (٢) ونازلة لمن ذاق طعما من الايمان (٣) ، فالشفاء والرحمة لكلّ قدر الايمان (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) :

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً)(٨٣).

تنديد بنسيان الإنسان نعمة ربه حين ينعم عليه ، ويأسه حين يمسّه الشر «والدهر لك يومان يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فبكلاهما ستختبر» ولكن (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)! فحين يترك الإنسان بلا شفاء ولا رحمة يعيش دهره خسارا في يوميه : حيث يبطر إذا أنعم الله عليه فاعرض ونئا بجانبه ، ويئيس حين يمسه الشر ، فمن طبيعة النعمة أنها تطغي وتبطر ما لم يذكر المنعم واهبها فيحمد ويشكر ، والشر والضر يقنط ويئيس ما لم يرجو الله ويأمل ، وهنا لك تتجلى القيمة القمة لشفاء القرآن ورحمته ، او خساره ونقمته ، وكل يعمل على بشاكلته.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٨٤) :

__________________

(١ ، ٢) نور الثقلين ٣ : ٢١٣ في ٤١٢ في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : وانما الشفاء في علم القرآن لقوله : تنزّل من القرآن ما هو شفاء ـ للناس ورحمة لأهله لا شك فيه ولا مرية واهله أئمة الهدى الذين قال الله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا).

(٣) المصدر بنفس السند عنه (عليه السلام) قال : انما الشفاء في علم القرآن لقوله (ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لأهله لا شك فيه ولا مرية آه.

٣١٢

«قل» يا رسول الهدى «كل» من المؤمن والظالم (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) متبنيا كلما يعمله من عمل الايمان واللّاإيمان على شاكلته الخاصة به «فربكم» : أنتم العاملون ، الخالق المدبر لكم (أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) حيث الرب يعلم عمل المربوب بشاكلته!

ترى وما هي شاكلة كل عامل يتبناها في عمله تقوى او طغوى؟ مع العلم انها ليست الشاكلة الصورية؟ الشاكلة صفة لموصوف محذوف فهل هي فطرته؟ وهي لا تختلف فيمن فطر عليها! ولا تتخلف عما هي عليها!

ولا تتبعها الأعمال إلّا لمن لم يحجب عنها! ثم ولا تكفي حكما لكل صغيرة وكبيرة ، فان لها احكاما عامة يشترك فيها كل المفطورين عليها! ام هي العقلية والفكرة؟ وهما على اختلافهما بين العاملين ، لا تكفيان تبنيا للأعمال ، فكثير هؤلاء الذين يعملون اعمالا خلاف فكرهم وعقلياتهم!

ام هي مطلق العقيدة التي تتبناها العقلية والفكرة؟ ورب معتقد بشيء يخالفه في قوله او عمله ام فيهما؟!

ام هي النية التي تتبنى العقيدة ، ان صالحة فصالحة وإن طالحة فطالحة؟ وكأنها هي «فالنية هي العمل» حيث العامل الأخير لكل عمل هو النية التي تستتبع الإرادة ثم العمل!

ثم ترى النية الحاصلة من عقيدة وهي حصيلة العقلية والفكرة ، هل تنتهي الى سجية علينية او سجينية هي لزام كل انسان ، إذا فهل الشاكلة الأصلية لكل عامل ، والنية وعواملها هي كلها حصيلة تلك السجية ، دون تدخل لإرادة العامل؟ وهو جبر في الأعمال التكليفية ويخالف العقل والنقل وحديث «الشقي من شقي في بطن امه والسعيد من سعد في بطن امه» مفسرا بعلم الله ، فانه يعلم من سوف يشقى ويسعد وهو في بطن امه ،

٣١٣

فليست السجية المسيّرة هي الشاكلة ، وإنما النية الميسرة وهي حصيلة شاكلة العقيدة الحاصلة عن العقلية والفكرة ، فان ابتدأت هذه من الفطرة غير المحجوبة وتمشت مع الوحي أنتجت الأعمال الصالحة ، وإن تخلّفت بداية في سيرها أنتجت الطالحة ، وإن كانت بين ذلك عوانا خلطت عملا صالحا وآخر سيئا.

فالنية الصالحة هي التي تنبع من الايمان وتوافق سنة الله كما يروى : «لا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بالنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باصابة السنة» (١).

فنية كل إنسان على جذورها وفروعها هي شاكلة الإنسان وماهيته حيث تشاكل عمله ويشاكلها عمله ، فانها حصيلة فعلية لطاقاته الروحية كلها ، إذا فالإنسان هو النية كما

«ان النية هي العمل» (٢) ف «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وقد عبرت عنها بالشاكلة لكي تشملها وكل ما تتبناه النية وتتبناها في العمل.

ولان النية هي النبعة الأصلية فالحق يقال «نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله» فللإنسان سبيلان سبيل الهدى وسبيل الردى (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) : شاكلة ، فالسبيل هي الطريقة الشاكلة هدى أو ضلالة ، وما العمل إلّا صورة بينّة عن سيرة وسريرة خفية ، وهي هي الصورة الانسانية او البهيمية! كما النية هي شاكلة العمل.

__________________

(١) الكافي باسناده الى الامام الصادق (عليه السلام).

(٢) نور الثقلين ٣ : ٢١٤ ح ٢١٧ في اصول الكافي باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : النية أفضل من العمل ألا وان النية هي العمل ثم تلا قوله عز وجل : «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ». يعني على نيته.

٣١٤

وليست الجزاء إلّا بالعمل اللهم إلّا في النية الحسنة ولمّا تصل الى العمل ام لا يصل عذرا ، فلا عقوبة على النية السيئة خلاف ما يروى (١) اللهم إلّا على العقائد السيئة فانها من اعمال القلوب.

ولان الآية تأتي بعد الايمان والظلم اللّاإيمان المختلفان فيمن وجّه إليهم القرآن ، فليكونا عملا يستتبع الشفاء والرحمة او الشقاء والخسار والزحمة ، عملا يتبنى السريرة النية.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٨٥).

نجد الروح في سائر القرآن ـ اي روح كان ـ تذكر في واحد وعشرين موضعا ، يجمعها معنويا : ما به الحياة ، على مختلف درجات الحياة ومجالاتها ، من روح الإنسان : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٣٢ : ٩٠)(٢) وروح الايمان : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٥٨ : ٢٢)

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢١٤ ح ٤١٨ علي بن ابراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن المنقري عن احمد بن يونس عن أبي هاشم قال : قال ابو عبد الله (عليه السلام): انما خلد اهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا ان لو خلدوا فيها ان يعصوا الله ابدا وانما خلد اهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا ان لو بقوا فيها ان يطيعوا الله ابدا فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء ثم تلا قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ).

أقول : قد فصلنا البحث عن الخلود وحدوده في بابه أوائل هذه السورة وفي النبأ ، وهنا أقول ليس المخلدون في النار كلهم على هذه النية ولا المخلدون في الجنة ، والآيات الحاصرة الجزاء بالعمل تنافي العقوبة على النية ، وإما الثواب على النية فمن فضل الله!.

(٢) كما وفي : «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (١٥ : ٢٩ و ٣٨ : ٧٢).

٣١٥

وروح الوحي أيا كان : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (٤٠ : ١٥) (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١٦ : ٢) من كتاب سماوي وروح قدسي وقد يخص روح القرآن والروح القدسي لرسول القرآن : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٤٢ : ٥٢) ام روح القدس بوجه عام : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ...) (١٠٢ : ١٦) (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢ : ٨٧) والروح المتنزل مع الملائكة ليلة القدر والقائم والعارج معهم يوم القيامة : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها ...) (٩٧ : ٤) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ...) (٧٨ : ٣٨) (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ...) (٧٠ : ٤).

فالروح ـ إذا ـ هو ما به حياة انسانية ـ ايمانية ـ حياة الوحي والروح القدسي ، ام حياة منفصلة كالروح الأمين والروح زعيم الملائكة ، فالروح القدسي والوحي هما روح الأرواح المتصلة كما الأخيران همان روح الأرواح المنفصلة ، مهما كان قبل الخمسة روح النبات وروح الحيوان.

وآية الروح ـ هذه ـ أعم آياتها تجردا عن قيود ، وأهمها جوابا عن كيانه أيا كان ، فهي الآية الأم دلالة ومدلولا ، وإن كان الروح القدسي وروح القرآن هما القدر المعلوم المتيقن هنا حيث احتفت ب (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ...) و : (لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)! ولكنه لا يخص روح القرآن حيث الفصيح إذا «عن روح القرآن ـ او عن وحي القرآن» وإنما عناه كما عنى سائر الأرواح من نباتية وإلى قدسية في القمة ، متصلة ومنفصلة!

(وَيَسْئَلُونَكَ) المضارع ، رغم مضي السؤال تلمح بالاسئلة المستقبلة

٣١٦

طول سني الرسالة الإسلامية ، إضافة الى الاسئلة الماضية (١) ، من اي كان في اي زمان وعن اي من الأرواح (عَنِ الرُّوحِ) كجنس يستغرق الأرواح كلها ، ومن أية ناحية حول الروح.

فكل سؤال في العهدين : المكي والمدني حول الروح أيا كان في الفترة الرسالية زمن الرسول ، وكل سؤال يطرح في عهد الإمامة او يطرح زمن الغيبة الكبرى والى يوم الدين ، تشمله (وَيَسْئَلُونَكَ) كما و (عَنِ الرُّوحِ) تشمل الأرواح بجنباتها ، اسئلة تضرب إلى اعماق الماضي الرسالي ومستقبله ، فليكن الجواب : (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) جوابا عن كل سؤال طرح او يطرح حول اي من الأرواح : هل هي مادية ام مجردة؟ أزلية أم حادثة؟ وعلى حدوثها فمن ذا الذي أحدثها وما هي ذاتها وكنهها؟

و (أَمْرِ رَبِّي) هو بين الشيء والفعل ومقابل النهي تكوينيا او تشريعيا ، ولا معنى ل «من شيء ربي»! فهل شيء ذاته؟ فإشراك! ام من شيء غيره؟ فلما ذا الشيء بدل الفعل! :

ولا يعني «من فعل ربي» حيث الفعل قد يكون بحاجة الى تدرّج

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٩ ـ اخرج احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وابن مردوية وابو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال : كنت امشي مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم لا تسألوه فسألوه فقالوا : يا محمد! ما الروح؟ فما زال يتوكأ على العسيب وطننت انه يوحى اليه فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وأخرجه مثله جماعة من هؤلاء عن ابن عباس عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بزيادة قالوا : أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن اوتي التوراة فقد اوتي خيرا كثيرا فأنزل الله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

٣١٧

ومعدات قد لا تحصل وليس هكذا فعل ربي ، ولا من أمره التشريعي وان كان هو الوحي ، إذ يصدر بأمر تكويني مهما حمل تشريعا أم سواه ، إذا فهو الأمر التكويني بمجرد الإرادة بتدرّج ام دون تدرج ، فمن أفعاله تعالى ما فيه تدرّج لحكمة تتطلبه كتبديل مادة الى اخرى ، ومنها ما لا تدرّج فيه كخلق المادة الأولية لا من شيء ، ولا يتصور في إبداعها التدرج ، وكخلق الروح الانساني إذ يخلق بعد كمال البدن حصيلة وسلالة عن البدن دون تدرج ، مهما كان من الأرواح الأخرى ما فيها التدرج كروح القرآن المفصل ، واما روح العصمة القدسية وروح الايمان فلا تدرج فيها إلّا في مراتبها ، و (أَمْرِ رَبِّي) الارادة التكوينية تشمل المتدرجة وغيرها سواء ، فبأمره وإرادته تحصل الأرواح نباتية وحيوانية وانسانية وايمانية وقدسية متصلة ومنفصلة وروح الوحي ، دون ان يكون للخلق شأن فيها إلا ظرفا يقبل منزلا لهذا الأمر ، دون ان يكون الأمر لزامه إلّا (مِنْ أَمْرِ رَبِّي)!

فالروح أيا كان هو من شؤون ربوبيته الخاصة ، مهما كان الجسم متطورا بفعل الخلق حسب طاقته!

وتلكم الأسئلة الاربعة مضروبة في الأرواح السبعة تصبح ثمانية وعشرين سؤالا ثم و (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) اجابة جازمة عما سوى اسئلة الكنه والذات ، (ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) يعمها وعدم الاجابة عن الذات.

فعن روح القرآن : الوحي ـ هل إن كلام الله حادث او قديم؟ انه (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وكل امر ربي حادث فإنّه فعله دون ذاته وصفاته.

وهل إنه نتيجة تكامل العقل ، فهو ـ إذا ـ يوحي الى صاحبه؟ ام هو عند تمامه وكماله يوحى اليه من ربه ، فهو هناك «من أمرنا» وهنا نتيجة حاصلة عن «أمرنا» وفيهما هو من امر الإنسان مهما اختلفا ، والجواب (مِنْ

٣١٨

أَمْرِ رَبِّي) من فعله وارادته مهما يطلب ظرفا يناسبه هو كمال العقل وتخلص القلب عن كل كدرة وظلمة ، فهو من فضل ربي بداية وعلى كدح مني ، ثم (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) نهاية :

ثم وروح الإنسان حادث بارادة ربي ـ إذا ـ فمادية ، حيث الأمر الفعل من ربي ـ وهو خلقه ـ لا يشبهه تجردا إلهيا ، فليس إلّا ماديا مهما كان رقيقا كأنه تجردي.

الروح مخلوق كما الجسم مخلوق وهما من أصل المادة على اختلافها في الشفافيّة والكدرة ، ولكنما الجسم في غير المادة الأوّلية يخلق تبدّلا على تدرّج اللهم إلّا في خوارق العادات كقلب العصى حية تسعى ، وأما الروح فهو مخلوق كلمح البصر ، اللهم إلّا في روح الوحي المفصل كتفصيل الكتاب ، وسائر الأرواح مخلوقة لمح البصر أو هو أقرب ، ولذلك يقيد إلقاءه ب «من أمره» ووحيه كروح القدس المتصل بقلوب المعصومين «من أمرنا».

لا يعني الأمر في الروح إيجاد المجرد مقابل الخلق إيجادا للمادة وكما تقوّلوا في (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤) فانه أمر التدبير بعد الخلق ، فكما له خلق الكون بروحه وجسمه ، كذلك أمر الكون بتدبيره ، ويشهد لذلك الآية نفسها (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فان استواءه على عرش الخلق بروحه وجسمه هو أمر التدبير ، فكما له امر التكوين كذلك له التدبير دونما ندّ له في اي الأمرين.

ولو كان الأمر هو إيجاد المجردات لم يخص تدبيره بالأمر في (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣) (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ)

٣١٩

(١٠ : ٣١) بل عمّه والخلق!.

ثم (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٤) ٥٠) قد يعني أمر القيامة (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١٦ : ٧٧) أم إذا شملت الإرادات التكوينية الإلهية ف «واحدة» تفسرها على سبيل البدل ، فكل خلق لنا واحد حقيقي دونما حاجة إلى معدات مركبات ، وانما كلمة «كن» التكوينية!

لنا ادلة من القرآن والسنة والعقل على ان الروح مادية الحدوث والبقاء ، فلا هو مجرد حدوثا وبقاء ، ولا مجرد بقاء على ماديته في الحدوث ، واما القرآن.

فقد توحي لكون الروح الانساني من عالم المادة ، مهما لطفت لحد لا تبصر ولن ـ آية الإنشاء : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤).

ف «الإنسان» لا جسمه فقط او روحه فقط ـ تلمح كتصريحه أنه مجموعة الإنسان ، وأحرى بروحه ان يعنيه فانه ما به الإنسان انسان!

هذا الإنسان مخلوق بجزئيه من سلالة من طين كأصل (ثُمَّ جَعَلْناهُ) في أنساله ، وكما بدء في أصله الاول. آدم (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ٨) ومفترق الطريق بين الإنسان الاول ونسله (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) و (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ... ف َكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) تبيينا لمراتب خلقه التكاملي في جسمه لائحا ، وأما الروح المزيج في أصله مع جسمه فلا يلوح منه شيء حتى الآن وإلى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

٣٢٠