الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

الصحف المنشورة (إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (٨١ : ١٠) الصحيفة الذاتية المسجلة فيها اعماله!.

ان مثلث كتاب الأعمال هو كتاب الله بما استنسخه وسجله (هذا كِتابُنا ...) وهو كتاب الإنسان نفسه بما عمله : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) :

هذا كتاب نفسه إذ سجله الله في نفس عامله ، يقرئه كما هو حيث ينشر كما صدر حالا او مقالا او افعالا ، قراءة تفهم الحال فكريا وعقيديا كأنه فكره او اعتقده في الحال ، وقراءة سماع المقال كأنه قاله في الحال ، وقراءة رؤية الأعمال كأنه عملها في الحال (١) وأوراق الكتاب هي نفسه في مثلث الأسطر التي استنسخها الله ، وكفته نفسه حسيبا عليه حيث تكبتها بحجتها العينية الحاذرة الحاضرة : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) كما عملوا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) فلو كان هذا الكتاب ما يحبر بقلم ام ماذا؟ لم يكن نفس العامل ، فلم يكن نفسه فيه حسيبا ، ولا يكفي الكتاب المجر بقلم يحكي عن طائره حكاية وضعية ، لا يكفي عليه حسيبا إذ له نكرانه حيث لا يشهد شهادة عينية كافية وليس ليقرؤه إلا من تعلم القراءة قبلها.

وان كتاب النفس المنشور بما ينشره الله يقرأ بنفس اللغة التي صدرت لغة الحال والمقال والأفعال ، دون حاجة الى ثقافة اخرى سوى التفهم والسمع والبصر ، ثم هناك كتاب آخر يؤاتيه هو الأرض بفضائها (٢) وكتاب

__________________

(١) ف «نفسك» هنا مجموع الروح والجسم حيث هما يشهدان الشهادة العينية في المثلث المذكور.

(٢) كما تدل عليه آيات الزلزال «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ...» راجع ج ٣ من الفرقان تفسير الزلزال.

١٠١

ثالث هو ما يكتبه الكرام الكاتبون (١) ورابع هو ما يتلقاه الشهود (٢) اشهاد اربعة ومتوافقة (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وان كان (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(٣) : دون حاجة الى الثلاثة الآخرين ولكن لتحيط بك الشهود نفسيا وافقيا فلا تبقى لك أيّة عاذرة!.

في كتاب النفس نجد لسان المقال وجوارح الأفعال كما الجوانح تشهد بما كانوا يعملون إلقاء يوم يقوم الاشهاد كما شهدت تلقيا : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٤ : ٢٦) (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٣٦ : ٦٦) ختما على الأفواه صدا عن تكلم الألسن اختيارا كما تشاء نكرانا لما قالته او عملته الجوارح وتفتحا لأقوال الألسن المخرجة عنها يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، فالألسن المنفصلة عن ألسن القائلين تتكلم بما تكلمت طوال التكليف ، فشهادة الألسن على أصحابها قد تكون اختيارا ، ولا يختار المجرم كلاما على نفسه ، او اجبارا وهو بعيد غاية البعد عن الشهادة الحق من

__________________

(١) عله يدل عليه مثل قوله تعالى : «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ : كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» راجع نفس المصدر ويعني الكتاب هنا أيضا ما سجله الله بعماله الكرام الكاتبين في انفس المكلفين والجو الذي يعيشون فيه ، او ان كتابهم عنا علمهم بأعمالنا بما علمهم الله كما قد يوحى به «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ».

(٢) تدل عليه آيات شهادة الشهود المبعوثين يوم يقوم الاشهاد كقوله تعالى : «يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.» (١٦ : ٩٢) «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ : وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ» (٣٩ : ٧١).

(٣) قد تكون الباء في «بنفسك» زائدة للزينة كما يقال ، وقد تكون للتعدية السببية ان نفسك سبب الشهادة والحساب عليك.

١٠٢

القدير الرحيم ، على ان الأفواه مختوم عليها فلا كلام أيا كان من الألسن في الأفواه ، وانما الشاهد عليه هو لسانه المنفصل المخرج ، ان تنقل الألفاظ عن اللسان الى غير اللسان فيشهد بما قال : كمسجلات سجلت فيها ما قالت شهادة عليهم كما تشهد الايدي والأرجل شهادات عينية عادلة : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ... وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤١ : ٢٣).

فالجلود تعم جوارح الإنسان بما فيها سمع الأذن وبصر العين ، كما وقد تشمل كل جسم الإنسان حيث هو جلد لروحه ، والسمع هو سمع القلب كما البصر بصره وإن كانا يشملان سمع الأذن وبصر العين ، ومن الجلود الألسن كما هما منها ، فالإنسان بكله ، بروحه وجسمه كتاب لمثلث الأعمال ، شاهدة عليه يوم يقوم الاشهاد.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١٥).

ضوابط ثلاث تضبطها هذه الآية لا محيد عنها ولا مناص :

١ ـ إن الاهتداء والضلالة تنحصران نفعا وضرا بأصحابهما وتنحسران عن سواهما ، ف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٧٤ : ٣٨) دون رهانة بما لم تكسب او كسبت غيرها ، فالعمل الطائر ـ رغم زعم الجاهلية ـ كما لا يطير عن عامله الى الفناء ، كذلك لا يطير عنه بتبعته الى سواه ، وإنما التبعة الفردية تربط كل انسان بنفسه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ

١٠٣

مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠ : ١٠٨).

ترى إذا اختصت الضلالة والهدى بمن ضل واهتدى ، فكيف يؤمر المهتدون أن يهدوا ، وينهى الضالون ان يضلوا؟

الجواب : أن الحصر هنا نسبي يعني ـ فقط ـ نفي انتقال الهدى والضلالة بآثارهما الى غير أصحابهما ، كما تعنيه آية الطائر ، ولا يعني عدم بث الهدى ام ماذا؟

٢ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) إن الهدى والضلالة هما لزام أصحابهما ، ما من احد يحمل او يتحمل حمل احد ولا يحمله ولو كان ذا قربى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) (٣٥ : ١٨) وإن وزرت كمثلها او تزيد إذا أضلت غيرها ، ولكنها ليست لتخفف في حمله حمل التي ضلت بإضلالها : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٩ : ١٣) فهؤلاء المضللون يحملون وزري ضلالهم وإضلالهم : أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم دون ان ينقص من أوزار من ضلوا بهم شيء : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (١٦ : ٢٥) (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ...) (٤ : ٨٥)(١) تعني هذه الضابطة فيما تعني أن أولاد الكفار ـ الصغار ـ لا يعذبون

__________________

(١) حديثه متظافر وراجع تفسير آية الوزر في ج ٢٧ ص ٤٥٠ ـ ٤٥٧ سورة النجم من الفرقان ، ترى فيه حوارين حول آية السعي والوزر جوابا عمار بما يسأل حولها.

١٠٤

بكفر آباءهم (١) كما أن أولاد المؤمنين لا يثابون بإيمانهم ، وان كانوا جميعا من اهل الجنة ، لطفا بهم حيث لم يذنبوا ، وعطفا زائدا بآباء مؤمنين. حيث الاجتماع لهم بأولادهم الصغار حظوة لهم ورحمة (٢) ومختلف الحديث حول العذاب (٣) واللّاعذاب معروض على الآيات الناكرة لعذابهم ، حيث

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٦٨ ـ اخرج قاسم بن اصبغ وابن عبد البر عن انس (رضي الله عنه) قال : سألنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أولاد المشركين قال : هم خدام اهل الجنة.

أقول : لماذا خدامهم وليسوا منهم كما هم؟ لأنهم لم يعملوا اعمالهم فليسوا في درجاتهم وخدمتهم لأهل الجنة لا تكلف فيها وهي رحمة لهم وأولاء.

وفيه واخرج ابن سعد واحمد وقاسم بن اصبغ وابن عبد البر عن خنساء بنت معاوية الضمرية عن عمها قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة.

(٢) راجع ج ٢٧ من الفرقان تفسير الآية (الحقنا بهم ذريتهم) تجد فيه بحثا فصلا حول الموضوع.

(٣) في الدر المنثور ٤ : ١٦٨ باسناده الى الصعب بن جثامة (رضي الله عنه) قال قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اني قضيت في البنات من ذراري المشركين؟ قال : هم منهم ـ أقول تطرده آية الوزر وأمثالها ، ولا يصلحه المروي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت سألت خديجة (رضي الله عنها) رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أولاد المشركين فقال : هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله اعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فقال : هم على الفطرة او قال : في الجنة.

أقول : وهذه فرية وقحة على الرسول انه حكم على خلاف العقل والعدل ان أولاد المشركين معهم ، دون سناد الى وحي ، ولم يكن الرسول يحكم الا بوحي ، ولا حتى بعقله المنير الذي فاق العقول فكيف يحكم بما يخالف العقل والوحي معا وحتى إذا كان السؤال قبل نزول آية الوزر فليصبر حتى يحكم الله ، او يحكم بما نزلت قبل من آيات تنص بعدل الله وفضله ام على اقل تقدير يحكم بعقله!.

١٠٥

(لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ثم وبالموت ينقطع التكليف فلا يكلفون بشيء في الأخرى (١).

وترى القاعدة الفقهية (الدية على العاقلة) هل تعرقل قطعية هذه الضابطة ، وهي من العمومات الآبية عن التخصيص؟.

الجواب ان لا ذنب للقاصر حتى يؤخذ به عاقلته ، ثم وغض النظر عن الدية إجحاف على صاحب الحق ، والقاصر لا يملك الدية ، وإن ملكها فالعاقلة أحرى بتأدية الدية ، إذ كان عليه تربية القاصر والحفاظ عليه كيلا يجني جنايته ، فإذا وقعت الجناية كان أقل ما يؤخذ عليه العاقلة ـ الدية ، فالعاقلة إذا وازرة وزر نفسها!.

أو أن الدية ليست وزر الجناية ، إنما هي بحكم الله على العاقلة ـ كما عليه نفقة القاصر ، حفاظا على حق المجني عليه ، ولا أحق هنا من العاقلة ولاية له على القاصر.

او ان الدية جامعة الأمرين دون أن يكون هناك وزر على القاصر ، اللهم إلا وزرا على العاقلة بما له ولاية ، وهذا الجمع أجمل.

ثم ترى ان مواصفة النفس بالوازرة حيث لا تزر وزر اخرى هلّا تخرج نفسا غير وازرة وهي العادلة المعصومة عن الوزر وإذا لا فلما ذا «وازرة» وإذا بلى فلتكن غير الوازرة وازرة وزر اخرى او آهلة ان تتحمل حملها!

علّ الوازرة هي التي تحاول ان تزر وزر اخرى وان لم تكن وازرة لنفسها ، ثم إنّ المعصومة كيف تزر ولماذا؟ فهل تزر وزرا اخرى تبرءة لها بتحمل وزرها فتعصي بعصيانها وتعذّب بعذابها؟ وهذا خروج عن العصمة ثم وخروج عن حكم الآيات الناكرة لهذه النيابة النكدة (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ

__________________

(١) فالروآيات القائلة انهم يمتحنون بما يكلفون يوم القيامة مؤله او مضروبة عرض الحائط.

١٠٦

عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٢ : ٤٨).

ام تزر إبطالا لعقوبته عن الاخرى وعن نفسها ، وهذا غفران دون سبب وليس الغفران بسببه ايضا إلا لله «وهل يغفر الذنوب إلا الله» ثم وليس هذا حملا لحمل اخرى!

(... وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

ترى ما هو العذاب المنوط ببعث الرسول؟ وهل إن بعثه دون وصول بلاغه كاف في استحقاق العذاب؟

هل يعني هذا العذاب مطلق العذاب ، حتى المستحق بالتخلف عن وحي الفطرة والعقل ، او عن وحي الشعور لغير ذوي العقول؟ وإن عذاب ربك لواقع في اي تخلف! ف (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٦) ولا يعني حشرهم الى ربهم إلا جمعهم اجمع الى ربوبية الجزاء الثواب او العقاب ، لا سيما في العصيانات الظالمة الفاحشة ، فالله أعدل من ان يترك الظالم ولا يأخذه لا في الدنيا ولا في الآخرة (١) : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٩٢ عن الفقيه ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابصر ناقة معقولة وعليها جهازها فقال : اين صاحبها؟ مروة فليستعد للخصومة.

وفي المجمع عن أبي ذر قال : بينا انا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا انتطحت عنزان فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أتدرون فيما انتطحا ، فقالوا : لا ندري قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما.

وعن الكافي باسناده الى الكلبي النسابة قال قلت لجعفر بن محمد (عليه السلام) ما تقول في المسح على الخفين؟ فتبسم ثم قال : إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء الى شيئه ورد الجلد الى الغنم فترى اصحاب المسح اين يذهب وضوءهم!

١٠٧

تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ...) (١٤ : ٤٢) مهما كان الظلم يشعر بشعور ، ام بفطرة او عقل ، ام بوحي النبوة ، وان كانت تختلف بمختلف مراتب الإدراك.

والقاعدة الاصولية العقلية «قبح العقاب بلا بيان» لا يصح أن تعني خصوص بيان وحي النبوة ، فإن وحي الشعور بيان ، ووحي الفطرة بيان ، ووحي العقل بيان ، وإن كان بيان الشرع أشمل ، كما وان تكليفه أعضل.

والآيات التي تعذر العذاب لو لا بعث الرسل ، لا تعني إلا العذاب الناتج عن عصيان هؤلاء الرسل ، لا مطلق العذاب المستحق بعصيان سائر الرسل : شعورا وفطرة وعقلا! وإنما (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٤ : ١٦٥) حجة أننا كانت لنا هدى فوق ما تهدينا إليها عقولنا بالرسل فلما ذا لم تبعث إلينا رسولا ، ثم وحجة ألّا عقاب في عصيان الرسل ولم تبعث الرسل! بل ولا عصيان إذا في خلافهم قبل بعثهم ، بل لا يحصل إذا خلاف.

او تعذر عذاب الاستيصال الناتج عن التخلف الفاحش المتهدم للرسالات.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤).

علّه أو انه المقصود هنا فحسب ، أو هو القدر المتيقن كما توحي له «ما كنا» ك (لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ) حيث تعطف الى العذاب الماضي وهو الاستئصال في الدنيا ، ايحاء برحمة رحيمية في سنة دائبة إلهية ألا عذاب في الأولى حتى يبعث رسولا ثم يعصى بما لا تتحملها رسالة ولا حياة انسانية ، وكما توحي له التالية المقررة لظرف هكذا عذاب : وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...) وَكَمْ أَهْلَكْنا ...) ان إهلاك القرى لا يراد إلا في هكذا عصيانات.

١٠٨

إذا ففي عصيان وحي الشعور ـ كما للطير والدواب ـ عذاب قدره يوم الحشر قليلا ، دون الدنيا والبرزخ إلا قليلا ، وفي عصيان وحي الفطرة والعقل كذلك واكثر قد يكفيه عذاب في البرزخ. وفي عصيان غير فاحش لوحي النبوة عذاب في البرزخ او في الحشر ، ثم وفي عصيان فاحش لوحي النبوة حيث يهدم أركان بناية المجتمع عذاب الاستئصال في الدنيا ثم وفي البرزخ والحشر عذاب دائب اليم ، فالمعذب في الدنيا للعصيان الطغيان يعذب بالأحرى في البرزخ والأخرى ، وليس كل معذب فيهما يعذب في الأولى.

وقد تشمل «ما كنا» عذابي الأولى والاخرى في نطاق التكاليف الرسالية ، لا مطلق العذاب وإن في نطاق التكاليف الثلاثة الاخرى (١) ولا خصوص الأولى ، فكما العذاب الأدنى في التخلف عن وحي الشعور ليس إلا في حاضر الشعور ، ثم أعلى منه في الفطرة ، فأعلى في العقل ، كذلك الأعلى تخلفا عن وحي الشريعة في العصيانات العادية ، ثم التخلف القمة في الأولى قبل الاخرى عذاب الاستئصال والتدمير ، وليس الا في حاضر الرسالة. للقاعدة العقلية «قبح العقاب بلا بيان» الشاملة له ولما قبله.

فلا تعني (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) إلا بيان الرسالة ببلاغها ، إن للمترفين الطاغين فعذاب الاستئصال هنا ام للناس أجمعين فعذاب في الاخرى ، وإن كان القدر المتيقن هو الأولى وفي هامشه الاخرى ،

ثم العصيان في أية رسالة من الرسالات الخمس يخلف وجوب العقاب إذا كان ظلما وتعديا على الخلق أيا كان ، أو جوازه إذا كان تقصيرا بحق الخالق دون خلقه ، ولم يكن في تركه تسوية ظالمة بين المطيع والعاصي ، فالسماح عن بعض المعاصي هو قضية الفضل والرحمة الواسعة كما في المستضعفين (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا

__________________

(١) شعورا وفطرت وعقلا.

١٠٩

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤ : ٩٩) هذا السماح ليس ظلما وتسوية ، واما السماح عن اي ظلم بالنسبة للخلق دونما أي مقابل فهو ظلم بعيد عن ساحة العدل الرباني.

و (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) تعني الرسالة البالغة الى المكلفين بأحد شطريها ، ثم الثلاث الاخرى كذلك البالغة الى مكلفيها ،

ففي كل رسالة بالغة على حدها حجة ، وفي التخلف عنها جواز او وجوب العذاب ، من دنيوي بسيط الى برزخي بمراتبه ، إلى أخروي كذلك ، والى عذاب الاستئصال في الدنيا اضافة الى الاخرى.

ثم وبعث الرسول يحمل أمرين : بلوغ المرسل إليهم وبلاغ الرسالة ، حيث الرسالة الى غير البالغ قاصرة المفعول ، والرسالة غير البالغة الى البالغين ليست رسالة ، وكما للبلوغ درجات كذلك للرسالة الى البالغين درجات ، والثواب والعقاب يقدران على قدر الدرجات : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٦ : ١٩) : بلغ هو وبلغته الرسالة.

والبلاغ يتطلب أمرين : بلوغ المبلّغ إليه عقلا فتكليفا ، ووصول الرسالة اليه واضحا وبليغا ، لذلك فمن الناس من ليس عليه اي تكليف كالمجانين ، ومنهم من يكلفون تكاليف حسية دنيوية كما يعقلون ، كالصغار العقلاء ، ومنهم من يكلفون كذلك وقسما من الأخروية دون إطلاق كالسفهاء وسائر المستضعفين ، والأخيران عسى الله ان يعفو عنهم إذا لم تكن السفاهة والاستضعاف بذات أيديهم وتقصير منهم ، حيث التقصير أيا كان يتطلب جزاء على قدره ف (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً

١١٠

فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤ : ٩٩).

فالرسالة غير البالغة الى المكلفين دون تقصير منهم ، او البالغة الى غير البالغين كالمجانين ثم البله ثم المستضعفين القاصرين ، هذه الرسالة لا تحتم أي عذاب في نطاقها وكما لا تجوزه خلافا لما يروى (١).

كما وان البيان الرسالي كلما ازداد إزداد تحتم العقاب وقدره ، كالحاضرين بلاغ الرسالة ، والذين منحوا عقلا او علما زائدا «فإنما يداق الله العباد يوم القيامة على قدر عقولهم» (٢) : وعيهم للبلاغ ثم ويعاكسه كلما نقص البيان الرسالي او انتقصه المرسل إليهم قصورا ، كالغائبين البعيدين عن بلاغ الرسالة ، والذين لم يمنحوا عقلا راجحا او علما زائدا ،

__________________

(١) في الدر المنثور ٤ : ١٦٨ باسناده عن الأسود بن سريع ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : اربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في الفطرة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما اسمع شيئا واما الأحمق فيقول : رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر واما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما اعقل شيئا واما الذي مات في الفطرة فيقول : رب ما اتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطعنه ويرسل إليهم رسولا ان ادخلوا النار قال : فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما ومن لم يدخلها اسحب إليها.

وفيه عن انس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يؤتى يوم القيامة باربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفطرة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعتق من جهنم ابرزي ويقول لهم كنت ابعث عبادي رسلا من أنفسهم واني رسول نفسي إليكم فيقول لهم : ادخلوا هذه ، فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب أندخلها ومنها كنا نفر ، قال : واما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب قد عانيتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار.

(٢) الكافي باب العقل والجهل عن الإمام الصادق (عليه السلام).

١١١

فقضية العدل الرباني هو العقاب قدر التخلف وكيانه واثره ، مع ما تقتضيه الرحمة الالهية لانتقاص العذاب او تركه ما لم يخالف العدل ، فالثواب من آثار الفضل والرحمة والعقاب من آثار العدل والرحمة.

والأحاديث المروية عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن المعذورين هنا يكلفون يوم القيامة فيثابون إن أطاعوا ويعذبون إن عصوا ، إنها تخالف الضرورة الإسلامية القائلة : «إن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل» المستفاد من آيات بينات وتواتر الروايات.

ثم لو اعطوا هنا لك عقولا كافية لم يكونوا ليعصوا الله تعالى وهو رسول نفسه دون حجاب الرسالات الاخرى. وهو يوم تكشّف الحقائق وهم يرون مع ما يرون ـ الجنة والنار!.

ثم ان «وما كنا» (١) إنما تنفي عذاب الاستئصال (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ان جواب هكذا عذاب ليس الا في ظرف بعث رسول ، لا أن بعث رسول وعصيانه أيا كان يقتضي هكذا عذاب ، وإنما إذا أمر المترفون ففسقوا ، ف (إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ ...) بيان لنطرف عذاب الاستئصال

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١٦).

__________________

(١) قد تكون «كنا» هنا منسلخة عن اي زمان؟ والعذاب واللاعذاب وبعث الرسل زماني! ... او انها منسلخة عن مضيها فتشمل مثلث الزمان ، فهي إذا تنفي مربع العذاب في مثلث النشآت ، الناتج عن عصيان الرسل؟ وهذا اشمل الاحتمالات وأجملها! ... او انها تعني خصوص الماضي دون نفي للمستقبل ، ان السنة الإلهية مستقرة في اللاعذاب الاستئصال في ماضي الاولى او مستقبلها ، ثم الاخيرة هي القدر المتيقن والمورد للآيتين بعدها ، الا ان بعث الرسل بمجرده والتخلف عنهم أيا كان لا يقتضي عذاب الاستئصال ، اللهم الا ان يعنى ظرف الاستئصال انه بلاغ الرسل فعصيانهم المتهدم كما توحيه آية المترفين.

١١٢

أسئلة عدة تطرح حول مواضيع من هذه الآية إذ كثرت الأقاويل حول الاجابة عنها :

١ ـ كيف تتقدم ارادة الإهلاك على موجبه (فَفَسَقُوا فِيها) وموجب الإهلاك ليس إلا قبل إرادته ، فإن كانت متعلقة بعذاب مستحق بغير هذا الفسق لم تكن لها صلة بهذا الفسق ، وإن كانت به نفسه فكيف تتقدمه ، او انها إرادة لإهلاك قرية دون صلة لها بأي فسق؟ ثم كيف يتخلف مراد الله عن ارادته ـ وهي نافذة ـ بما يقدّمه من تقدير للفسق؟

أقول : إنها إرادة للإهلاك بفسوق القرية عامة ، حيث الآية السالفة بينت مورد استحقاق العذاب انه في ظرف بعث الرسول وعصيانه ، فهنا استحقاق قاطع لعذاب الاخرى ، واستحقاق جائز لعذاب الأولى لا يتطلب إلا ارادة الإهلاك دون إمضاءه فتحقيقه ، ومما يوحي بذلك واو العطف في (وَإِذا أَرَدْنا) حيث تعطف إرادة العذاب هذه الى بعث الرسول فعصيانه.

وارادة الله منها حتم ومنها دون ذلك ، فحتمها لا مردّ لها (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) (١٣ : ١١) ودونه فيه مرد وبداء وهي التي لم تكمل بعد معداتها ، ولا مرد في إرادة التكوين حيث هي حتم (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢) وقد يكون مرد منه او تصبر حتى يحصل منجزاتها فيما دون هكذا تكوين كإهلاك قرية فاسقة لم تتم منجزات استئصالها كفسوق مترفيها عما أمروا به فيها.

فهنا إرادة للإهلاك بعدها تقدير لتحقيقها : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) فقضاء : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) فإمضاء : (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) كما وقبلها مشية وعلم ، وقبل هذه المشية ايضا تقدير لها هو عصيان القرية للرسول حيث يتطلب عذابا محتوما في الأخرى وآخر غير محتوم في الأولى.

فقد علم الله ان اهل هذه القرية فسقت ومن ثم يفسق مترفوها إذا أمروا

١١٣

فيها ، فشاء أن يهلكهم فأراده ، فقدر ما أراد بما أمر مترفيها ففسقوا فيها ، فقضى ما قدر بما حق عليها القول ، فأمضى ما قضى (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١).

وكما سئل الإمام الباقر «عليه السلام» كيف علم الله؟ قال : علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى ، فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد ، فبعلمه كانت المشية ، وبمشيته كانت الإرادة وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء ، فالعلم متقدم على المشية والمشية ثانية ، والارادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء (٢).

إنّ مشيته تعالى هي همه بالشيء وهي ابتداء الفعل ، وإرادته هي إتمامه على المشية والثبوت عليها ، وتقديره هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ، وكما يروى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام (٣) فلكل ارادة

__________________

(١) فلمشية العذاب وارادته تقدير هو عصيان عامة القرية ، ولتحقق كلمة العذاب. تقدير هو ان يؤمر مترفوها فيفسقوا فيها.

(٢) التوحيد للصدوق رحمه الله.

(٣) محاسن البرقي عن أبي الحسن (عليه السلام) ليونس : لا تتكلم بالقدر ، قال : اني لا أتكلم بالقدر ولكن أقول : لا يكون الا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر فقال : ليس هكذا أقول ولكن أقول : لا يكون الا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى ثم قال : أتدري ما المشيئة فقال : لا ـ فقال : همه بالشيء (ابتداء الفعل) او تدري ما أراد؟ قال : لا قال : إتمامه على المشيئة (الثبوت عليه) فقال او تدري ما قدر؟ قال : لا قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ثم قال : ان الله إذا شاء شيئا اراده وإذا أراد قدره وإذا قدره قضاه وإذا قضاه أمضاه الحديث. ورواه مثله من «ان الله» في محاسن البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وفي اصول الكافي ١ : ٤٨ ح ٣ عن صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن (عليه ـ

١١٤

تقدير حتى تنتهي إلى إرادة محتومة فقضاء وإمضاء والقضاء هو حق القول : تحتم كلمة العذاب ولم تكن قبل هذا التقدير محتومة وإنما جائزة (١).

ثم الإرادة حتما ودونه هي صفة فعل حادثة وليست أزلية وكما في حوار الإمام الرضا (عليه السلام) مع سليمان المروزي قال (عليه السلام): الا تخبرني عن قول الله عز وجل : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...) يعني بذلك أنه يحدث ارادة؟ قال : نعم ـ قال : فإذا أحدث إرادة كان قولك : إن الإرادة هي هو او شيء منه باطلا ، لأنه لا يكون ان يحدث نفسه ، ولا يتغير عن حاله تعالى الله عن ذلك! قال سليمان : إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة قال (عليه السلام) : فما عنى به؟ قال : عنى فعل الشيء ، قال (عليه السّلام) : ويلك كم تردد في هذه المسألة وقد أخبرتك أن الارادة محدثة لأن فعل الشيء محدث ، قال : فليس لها معنى! قال (عليه السلام) : قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له؟! فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم : إن الله عز وجل لم يزل مريدا! قال : إنما عنيت انها فعل من الله تعالى لم يزل ، قال (عليه السلام) : ألا تعلم ان ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما وحديثا

__________________

ـ السلام) اخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق؟ قال فقال : الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل واما من الله تعالى فإرادته احداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق فارادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له : كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما انه لا كيف له.

أقول : يعني (عليه السلام) كما انه لا كيف لذاته كذلك لا كيف لفاعليته وان كان مفعوله مكيّفا بكيف فانه فعله ، فإرادته من حيث هي لا كيف له كذاته ولكن مراده مكيّف فافهم.

(١) ان كلمة العذاب هنا جائزة حين أراد الله إهلاك القرية ولكنها حقت حين فسق مترفوها.

١١٥

في حالة واحدة؟ فلم يحر جوابا» (١).

٢ ـ وترى ما هو الأمر هنا؟ وبماذا؟ ولماذا يخص مترفيها؟ : فان كان هناك شرع عم المترفين وسواهم وإلا فلا أمر شرعيا للمترفين؟! الأمر هنا كما في أضرابه تشريعي لا تكويني كما يهرفه من لا يعرف مواضيع الكلام (٢) وهو أمر بالتقوى وترك الطغوى للمترفين (فَفَسَقُوا فِيها) : خرجوا عن الطاعة وخالفوا أمرنا ، فالنص «أمرنا ففسقوا» لا «أمرناهم بالفسق ففسقوا» وفسق الأمر هو عصيانه والتخلف عنه ، و (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ...) (١٦ : ٩٠) (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٧ : ٢٩) فإنما ذلكم الشيطان (يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢ : ١٦٩) وما اقبحه واهرفه فرية على الرحمان بما يأمر به الشيطان (٣)! وثم إذا كان أمرا بالفسق ـ عوذا بالله ـ فليكن تطبيقه طاعة تستحق الثواب ، فلما ذا (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)؟ إذا فليس إلا فسقا عن أمر هام يتطلب هكذا تدمير!.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٤٥ في عيون اخبار الرضا في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع سليمان المروزي بعد كلام طول قال الرضا (عليه السلام) : ...

(٢) في امر التكوين تسييرا إجبار بالفسق وما أظلمه إذا تعذيب المترفين بفسق اضطرهم الله فيه ، وامره تخييرا وهو الاذن في حصول الفسق كجزء أخير للعلة التامة الحاصل بعد ما قدم المختار كل اختياراته في عملية الفسق ، هذا وان كان صحيحا في نفسه ولكنه هنا لا يصح حيث يعم الفساق مترفين وسواهم دون اختصاص بالمترفين.

(٣) وكيف يأمر الله بالفسق ، وثم إذا أطيع في امر الفسق يدمر ، وما ربك بظلام للعبيد.

١١٦

وأما اختصاصه بالمترفين؟ فلان الأوامر تختلف حسب الظروف والقابليات والمتطلبات فردية وجماهيرية ، والمترفون وهم المتوسعون في نعمة حيث يبدلونها نعمة ونقمة ، في دولة او دولة ، في مال او منال في أنفس أو أموال أو احوال ، هؤلاء هم البغاة الطغاة في الأغلبية الساحقة ، فالأوامر المتجهة إليهم هي غير ما يوجه إلى غيرهم ، إذ لا يؤمر بشيء إلا من عنده ذلك الشيء وليس لغير المترفين ترف حتى يؤمروا في ترفهم سلبا لطغوى الترف وإيجابا لتقواه ، ففي ائتمارهم اعتمار القرى وتعميرها ، وفي فسقهم اضطرارها وتدميرها.

فالمترفون هم الذين وسع الله عليهم في نعم امتحانا وامتهانا إذ كذبوا بلقاء الآخرة : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢٣ : ٣٣) فلا يترف في نعمة إلا من يتطرف في اللامبالات ثم يزداد عتوا ونفورا : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١ : ١١٦) كانوا قبل ان يترفوا مجرمين ، مجتنين ثمرات الحياة الى الحيونات فاتبعوا ما أترفوا فيه فكانوا أظلم وأطغى ، فهم الناكرون دوما للرسالات : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٣٤ : ٣٤) (... إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣ : ٢٤) (.... حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) (٢٣ : ٦٤) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسا)كِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (٢١ : ١٥).

٣ ـ وترى هؤلاء المترفون يستحقون بفسقهم التدمير ، فما ذنب سائر اهل القرية يشملهم عذاب التدمير ، وهناك قرى يخص تدميرها بمترفيها : (... وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١ : ١١٦)؟.

١١٧

إن عذاب التدمير الاستئصال لا يشمل إلا الظالمين ، فإن كانوا مترفين فحق لهم أصليا ، وإن كانوا مستضعفين يفسحون مجالات لفسوق المترفين ، متخاذلين أمامهم ، لا يدافعون عن حقوقهم ولا يمسكون على أيديهم ، وبذلك يعم الفسق ، تحللا للقرية الظالمة بمترفيها وسائر من فيها ، وترهلا لها فتأهلا لعذاب شامل ، فليس المسؤول فيها هنا فقط المترفون ، بل والمستضعفون المتخاذلون حيث فسحوا مجالات لهم وتسامحوا عما أترفوا وأفسدوا ... (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٨ : ٥٣) وليس الله ليمنع المجرمين عما يجرمون والمستضعفون يسمحون لهم ويتسامحون : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٢٨ : ٥٩) سواء أكانوا من أصول الظلم الطواغيت والأكابر المجرمين ، ام من فروعه المستضعفين ، حيث يتقبلون فيستقبلون الظلم فهم إذا ظالمو أنفسهم وسواهم : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٤٣ : ٨) (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٧ : ٥) (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ...) (٢٢ : ٤٥) : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦ : ٦) (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤).

والرأس الرئيس في معارك الدمار هو فسق المترفين المبطرين : تكذيبا للرسل : (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١٢٩) والإجرام الفاحش المتهدم : (أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٤٤ : ٣٧) ولا سيما المتمكنين المسرفين : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) (٦ : ٦) (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ

١١٨

وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٢١ : ٩).

إذا فعذاب الاستئصال إنما يخص المترفين المبطرين إذا لم يسايرهم المستضعفون حيث يتشاركون أصلا وهامشا في التخلف عن مواضيع من أوامر الرسالات الإلهية ، ما تتهدم به بنايات المجتمع وتنفصم به عراه ، فتدمر به قراه.

هذه سنة الله الدائبة السارية لسائر القرى أنها هالكة بما تهلك نفسها بالسبعة أبواب الجحيم التي يتفتحها المترفون : استكبارا واستعمارا واستثمارا واستحمارا واستبدادا واستخفافا واستضعافا! ثم المستضعفون المترذلون يدخلون هذه الأبواب تخاذلا وتكاسلا فيحنون ظهورهم لهم ليحتنكوهم فيركبوهم والى جهنم وبئس المصير.

هكذا نتمشى في تفسير هذه الآية الغرة واضرابها كما تعنيها ، دونما تحميل عليها ما لا تتحملها من احتمالات : معنويا او قراءة تختلف عن هذه المتواترة في كتب القرآن ، كأن يبدل أمرها بتأميرها «أمرنا» (١) فرارا عن أمره تعالى ـ في زعمهم ـ بالفسق الى تأميره الفساق ، ك (كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦ : ١٢٣).

ام ان (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) هي صفة القرية وصلتها ، لا جوابا ل (إِذا

__________________

(١) كما في نور الثقلين ٣ : ١٤٥ ـ العياشي عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية : أمرنا مترفيها مشددة منصوبة تفسيرها كثرنا وقال : لا قرأتها مخففة وفي روآية اخرى عنه (عليه السلام) قال : تفسيرها أمرنا أكابرها ، وفيه عن المجمع آمرنا بالمد عن علي (عليه السلام).

أقول : في تعارض الروايتين تساقطهما ، وفي إرجاعهما الى كتاب الله تصديق للثانية ثم وتكذيب للثالثة ، اضافة الى ان التأمير جعل للأمير وليس التكثير!.

١١٩

أَرَدْنا) كما مضى ، فتبقى «إذا» إذن بلا جواب حاضر ، لأنه ظاهر بنفس الكلام : (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١).

او ان «أمرنا» تكويني بحيث لا ينافي الاختيار ، إذنا وإرادة من الله في فسق المترفين كجزء أخير للعلة التامة بعد توفر الإختيار لمعدات الفسق المختار (٢).

وهذه كلها من غثها وسمينها في نفسها ليست الآية لتعنيها ، فالقرآن حمال ذو وجوه فاحملوها الى احسن الوجوه ، وأحسنها ما يحملها دون تحميل كما أحسناه ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ، دون الأمر التكوين الذي يسير المترفين الى الفسوق دونما اختيار ، ولكن الأول هو الأول فانه احسن الوجوه لفظيا ومعنويا.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(١٧).

القرن زمنيا أجزاء من الزمان مقترنة ببعض اعتبارا كمائة سنة ، وحقيقة كسائر الزمن يوم الدنيا ثم البرزخ ثم الاخرة ، ومن حيث الأنفس : القوم المقترنون في زمن واحد ، وعل وحدة الزمن هنا تعني الوحدة النوعية ، وقرن زمني هو الأكثر لبقاء نسل يخلفه آخرون.

وهنا قرون هالكة بما أهلكت حيويتها ، وفسحت مجالات المترفين المترهلين فيها ، هلكة عن هلكة طبقا عن طبق (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)! سنة مضت في الأولين من بعد نوح قرونا تترى ، في ذنوب وتبعات لتخلفاتهم التي

__________________

(١) والمعنى إذا : إذا أردنا ان نهلك قرية من صفتها وحالتها انا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ـ فدمرناها تدميرا ، والجواب المدلول عليه هذه دون «فاء» : دمرناها تدميرا.

(٢) حيث الأمر ظاهر في التشريعي وهكذا تكويني وان كان في نفسه صحيحا ولكنه يعم عموم الأفعال خيرا وشرا دون خصوص الأشرار المترفين.

١٢٠