الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

تترى حتى هذه القيامة؟ قد تلمح او تصرح (إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) انه القبل الأوسع منذ البداية حتى النهاية ، حيث القرى كلها ليست عند قيامة الاماتة حتى يقضي عليها كلها ، وانما ما تبقت منها حيث تلحق ما سبق حتى يتم الهلاك ويطمّ.

فمثلث الاماتة مما لا محيد عنه قبل قيامة الاحياء ، بالنسبة للقرى الحية يوم الدنيا ومن الإهلاكات والعذابات الشديدة الجماهيرية ما يحصل (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٤ : ١١) ويوم (فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ...) (٢١ : ٩٧) (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ، وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) : (١٨ : ٩٩) وكما منها عذابات الاستئصال قبل هذه الأيام ، ام اهلاكات عذابا ودون عذاب!

فكل موتة جماهيرية قبل النفخ في الصور تشملها الآية دون إبقاء لأية قرية أيا كان وأيان!

واما اهل البرزخ فهل هم ممن يموتون عن الحياة البرزخية كما ماتوا من قبل عن الحياة الدنيوية ، للبحث عنه مجال آخر يأتي بطيات آياته كآية الصعقة واضرابها.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(٥٩).

هل الآيات هنا تعني آيات الرسالات ، أنها منعت في الرسالة الاخيرة أن كذب بها الأوّلون؟ وهذه الرسالة السامية تحمل أخلد الآيات وأبهرها طوال الرسالات! وليس تكذيب آية الرسالة ـ كما هو السنة السيئة من ناكريها ـ بالذي يمنع عن مواصلتها في الرسل تترى ، ولا سيما هامة

٢٤١

الرسالات وجوهرتها الاخيرة!

والآيات الممنوعة للرسالة الأخيرة هنا لا تعني كلّ الآيات ، وإنما التخويفية : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) واما آيات الرسالة الهادية غير التخويفية فهي لزام الرسالات كلها ولا سيما الاخيرة ، كما نجدها في الذكر الحكيم!

فمهما منع تكذيب الأوّلين الإرسال بتخويفية الآيات التي منها ما هي هامشية موكدة مزيدة على الأصلية لعلهم يرجعون ومنها مستأصلة ، فلا منع عن الإرسال بأصلية الآيات مهما كذب بها الآخرون.

وانه اجابة عما يهرفه المكذبون بالرسالة الأخيرة : لماذا لم يرسل بتلكم الآيات؟ وآية القرآن تمتاز عن سائر الآيات لأنها خالدة دونها ، ومن الآيات الاولى تخويفية دونها.

وترى إذا كان التكذيب بالآيات التخويفية ككل مانعا عن الإرسال بها ، فلتكن مانعة قبل الإرسال بها حيث يعلم الله قبل تكذيبها ، ثم ولا فائدة فيها بعد تكذيبها فلما ذا أرسل بها في الأولين؟.

إنها الآيات التخويفية المقترحة تعنتا كناقة ثمود وأضرابها ، حيث اقترحوها بعد ما تبين لهم الحق بغيرها ، فأرسل الله بها مزيدا في الحجة واستئصالا للأعذار ، فلما كذبوا بها أرسل عليهم عذاب الاستئصال ، وقد طلبها المكذبون في هذه الرسالة السامية (١) فلن يرسل الله بها ، إذ كذب بها الأولون واستأصلوا ، ومزيد الحجة الخالدة موجود في الرسالة الأخيرة ، ولا يريد الله عذاب الاستئصال للامة المرحومة (٢). ولا أن هناك عرض الإيمان

__________________

(١ ، ٢) نور الثقلين ٣ : ١٧٩ ح ٢٧٣ في تفسير علي بن ابراهيم وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) وذلك ان محمدا (ص) سئل قومه ان يأتيهم بآية فنزل جبرائيل فقال : ان الله يقول (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ ـ

٢٤٢

حتى يؤمنوا : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٢١ : ٦) :

إن آيات الرسالة اربع ، آية تخويفية ، واخرى ذات بعدين ، وثالثة دون تخويف وهي وقتية ، ورابعة آية باقية دون تخويف ولكنها أتم وأطم منها ، فإذا جاءت لم يبق مجال لغيرها :

وهكذا تكون آية القرآن ، فاقتراح آية دونه كما أرسل الأولون» اقتراح جاهل أو مكابد كما قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٢١ : ٥) فآية الآخرين : القرآن ـ تختلف عن آيات الاوّلين في صورتها ، وهي تزيد عليها في سيرتها وقضية الخلود في الرسالة الأخيرة هي الزيادة الخالدة سيرة مستمرة ، لا صورة مؤقتة تثبت رسالة مؤقتة ، فتطلّب آية وقتية بصرية تخويفية وسواها مع تلكم الآية الخالدة تطلّب هراء خواء.

ثم وآية الرسالة لا تأتي إلّا حجة باهرة ، لا مزمجرة مهلكة ، اللهم إلّا حجة على حجة على المتخلفين عن المحجة ، وليست هذه الآية يملكها المرسلون بها ، وانما هو الذي يرسلهم بها تدليلا على رسالاتهم حيث تظهر على أيديهم افعال خاصة بالله ، فلو لا انهم مخصوصون بكرامة الله لم تظهر على أيديهم افعال الله.

فهنا لك آيات إلهية تدل على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وحكمته وقدرته ، وهي الكون بأسره ، وآيات اخرى رسالية تدل على رسالة من أرسل بها وهي الأفعال الخاصة بالله ، المستحيلة ممن سوى الله ، فإذا يأتي

__________________

ـ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وكنا إذا أرسلنا الى قرية آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الآيات.

وفي الدر المنثور ٤ : ١٩٠ ـ اخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن انس قال قال الناس لرسول الله (ص) لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون فقال رسول الله (ص) ان شئتم دعوت الله فانزلها عليكم وان عصيتم هلكتم فقالوا : لا نريدها.

٢٤٣

إنسان بواحدة منها ، تصبح دليلا لا مرد له على رسالته الإلهية ، كبيرة كانت ام صغيرة ما دامت هي آية رسالية.

ان آية الإسلام : القرآن ـ تعيش الفطر والفكر والعقول ، ترسم للاجيال منهجا للحياة لا حول عنها ولا محيد ، خارقة فكرية وعلمية لا تحمل مادية مقتصرة على الحواس ، محتصرة بجيل خاص ، وهم الذين يعيشونها ، وإنما تتخطى الأجيال ما طلعت الشمس وغربت ، دون غروب لشمسها ، او عزوب لنورها.

فهذه الرسالة الأخيرة لا تصحب ما صحبت الأولى من خوارق عابرة دائرة ، اللهم إلّا هامشية لا تعني إثبات هذه الرسالة عناية اصلية ، وإنما تعني فيما تعني إخراج هذه الرسالة من الشذوذ فيما يخيل الى ناس هم في الحق نسناس!

ثم الأولون في هذه الآية هم كلّ الأمم قبل الأخيرة الإسلامية ، وهؤلاء الآخرون ، فلا ضرورة ولا رجاحة في ابتعاث الرسول الأخير بمثل ما أرسل الأولون ، كما وان مادة الرسالة الاخيرة تختلف بشطر منها وخلودها عن سائر الرسالات.

ولو كانت هنا ضرورة او رجاحة في الإرسال بالآيات التخويفية لأرسل بها محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكنها كانت في الأوّلين.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً)(٦٠).

«و» اذكر (إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) قاله الرب تبارك وتعالى في آيات عدة بصيغ عديدة : (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (٤ : ١٠٨) (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤ : ١٢٦) حيطة العلم والقدرة ام

٢٤٤

ماذا؟ فلا يعزب عن حيطته شيء.

وترى ما هي الرؤيا الفتنة التي أريها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ هل هي الشجرة الملعونة في القرآن ام سواها؟ وما هي هذه الشجرة؟ وبماذا خوفهم ، بالرؤيا الشجرة؟ ام إحداهما؟ او سواهما؟.

أو هذه الرؤيا الفتنة مذكورة في القرآن فنفتش عنه فيه؟ ... هنا لك رؤيا صادقة بالحق تحمل بشارة لا تمت بصلة الفتنة : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٤٨ : ٢٧) ومن ثم أخرى كمثلها تقلل الكفار ، وتحمل الرحمة الروحية العالية لجنود الإسلام : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ٨ : ٤٣) ... ثم لا نجد ثالثة تحمل فتنة ولا رحمة ، أفلا ذكر عن هذه الرؤيا الفتنة في الذكر الحكيم؟

قد يعني الإجمال عنها هنا سياسة الحياد وجاه واقع الرؤيا الفتنة : بني امية أمن ذا؟ ولكي لا يعارضوا القرآن وجها بوجه إذا ما وجدوا فتنتهم اللعنة جلية في القرآن (١) ولكنما السنة المتظافرة كشفت عن وجهها النقاب ، انها رؤيا القردة ينزون على منبره (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

انها لا تعني ما أريه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سرية ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فكذبوا بها وعجبوا منه (٢) مهما كانت

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٨ في تفسير العياشي عن رسول الله (ص) انه قد رأى رجالا من نار على منابر من نار يردون الناس على اعقابهم القهقري ولسنا نسمي أحدا.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٩١ ـ اخرج ابن سعد وابو يعلى وابن عساكر عن ام هاني ان رسول الله (ص) لما اسرى به أصبح يحدث نفرا من قريش وهم يستهزئون به فطلبوا منه آية ـ

٢٤٥

منها ـ كآية ـ مثلما أرسل بها الاوّلون ، حيث الرؤيا هي في المنام ولقد كانت له هناك الرؤية دون الرؤيا.

وإنما هي ما يروى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) «يعني الحكم وولده» (١) رآهم ينزون ... فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات وأنزل الله ...» (٢) وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «رأيت بني امية على منابر الأرض وسيمتلكونكم فتجدونهم أرباب سوء ... فانزل الله!

...(٣)وبذلك وردت متظافرة الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم

__________________

ـ فوصف لهم بيت المقدس وذكر لهم قصة العير فقال الوليد بن المغيرة هذا لساحر فأنزل اليه (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا ...).

واخرج ابن جرير عن قتادة في الآية يقول : أراه من الآيات والعبر في مسيره الى بيت المقدس ذكر لنا ان أناسا ارتدوا بعد إسلامهم حين حدّثهم رسول الله (ص) بمسيرة أنكروا ذلك وكذبوا به وعجبوا عنه وقالوا : أتحدثنا انك سرت مسيرة شهرين في ليلة واحدة!

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩١ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر (رض) ان النبي (ص) قال ...

(٢) فيه اخرج ابن جرير عن سهل بن سعد (رض) ، قال : رأى رسول الله (ص) بني فلان ينزون ...

(٣) فيه اخرج ابن حاتم عن يعلى بن مرة (رض) قال قال رسول الله (ص) : ... وفيه اخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي (رض) ان رسول الله (ص) أصبح وهو مهموم فقيل له : ما لك يا رسول الله (ص)؟ فقال : اني رأيت في المنام كان بني امية يتعاورون منبري هذا فقيل : يا رسول الله! لا تهتم فانها دنيا تنالهم فانزل الله (وَما جَعَلْنَا ...) واخرج مثله ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب فيه بدل «فقيل» ـ فأوحى الله اليه» انما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وهي قوله : وما جعلنا ... «فتنة» يعني : بلاء للناس.

٢٤٦

السلام) (١).

ثم وما هي (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)؟ هل هي شجرة الزقوم؟ : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ : إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٣٧ : ٦٥) (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ : كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٤ : ٤٦) فكونها ملعونة لأنها طعام الملعونين :

ام هي الكلمة الخبيثة في مثل القرآن : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (١٤ : ٢٦) كلمة خبيثة في صيغة لفظية ام كونية في ذوات شريرة كبني امية ام من ذا ام في أعمال وأية دالة على ما لا يحمد :

ام لا تعني ـ فقط ـ هذه او تلك ، شجرة اللعنة او مثلها ، بل واللعنة المتشجرة ، المتدخلة المتخللة خلال المسلمين ، المتشاجرة الشجرة الطيبة الإسلامية ، المتربصة دوائر السوء بالإسلام ومن ألعنها شجرة امية ، كما يرويها الفريقان ، وقد سمعوا عائشة (٢) وغيرها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويرويها أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) (٣) :

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٧٩ في احتجاج للطبرسي عن رسول الله (ص) وعن امير المؤمنين (ع) حديث طويل وفيه : وجعل اهل الكتاب القائمين به والعاملين بظاهره وباطنه من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» أي يظهر مثل هذا العلم المحتملة في الوقت بعد الوقت وجعل اعدائها اهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم ، ويأبى الله الا ان يتم نوره ...

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٩١ ـ اخرج ابن مردويه عن عائشة انها قالت لمروان بن الحكم :

سمعت رسول الله (ص) يقول لأبيك وجدك : انكم الشجرة الملعونة في القرآن».

وعن علي (ع) كما يأتي : «الا فجر ان من قريش ومن بني امية».

(٣) نور الثقلين ٣ : ١٧٩ ح ٣٧٤ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن الحسن بن علي (ع) ـ

٢٤٧

واللعنة الدائمة في القرآن متجهة الى شجرات كهذه الملعونة ، حلقات تلو بعض يعّج منها تأريخ الإنسان وتاريخ الإسلام ، ولا سيما المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، المعارضين إياه ، كاتمين البينات والهدى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٣ : ١٥٩) ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٣٣ : ٥٧) أولئك الذين يلعنهم الله يجنب من يلعنهم من الكفار وهم أشد منهم لعنة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٤ : ١٤٥).

إن الشجرة الملعونة في القرآن «الزقوم» تخرج في الدرك الأسفل (فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) وهي صورة تمثّل سيرة المنافقين ومن أنحسهم بنو امية ، فهم زقوم في الدنيا وزقوم في الآخرة!

وهم المثل الأسفل الأرذل من كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار! وهم الكاتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، المؤذون الله ورسوله فلعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ، واي عذاب

__________________

ـ حديث طويل يقول فيه لمروان بن الحكم : أما أنت يا مروان فلست أن سبيتك ولا سبيت أباك ولكن الله عز وجل لعنك ولعن أباك ولعن اهل بيتك وذريتك وما خرج من صلب أبيك الى يوم القيامة على لسان محمد (ص) والله يا مروان ما تنكر أنت ولا احد ممن حضر هذه اللعنة من رسول الله (ص) ولأبيك من قبلك وما زادك الله يا مروان بما فوقك الا طغيانا كبيرا وصدق الله وصدق رسوله يقول الله تبارك وتعالى (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) وأنت يا مروان وذريتك الشجرة الملعونة في القرآن ورواه مثله في تأويل الشجرة الملعونة ببني امية العياشي في تفسيره عن أبي جعفر الباقر (ع) وعن أبي الطفيل قال كنت في مسجد الكوفة فسمعت عليا (ع) يقول وهو على المنبر وناداه ابن الكوا وهو في مؤخر المسجد فقال يا امير المؤمنين اخبرني عن قول الله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فقال : «الا فجران من قريش ومن بني امية.

٢٤٨

أهون من تمثّلهم في شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رءوس الشياطين؟.

فهذه الشجرة الخبيثة تحمل مثلث اللعنات ، وعلّها أو أنها هي الرؤيا التي أريها الرسول فتنة للناس ، ويا لها من فتنة افتتن بها الكثير من الناس خيرا او شرا ، تمحيصا وتخليصا للمؤمنين ، وتلبيسا على الذين في قلوبهم مرض من المنافقين ، وقد يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) متظافرة ان الشجرة الملعونة في القرآن هي هي الرؤيا التي أريها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتنة للناس (١) وهكذا موقف (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) أدبيا حيث تردف بالرؤيا في جعل واحد ، قردة ينزون ويرقون منبره في منامه ، وشجرة ملعونة في قرآن! (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا ... وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٨٠ في تفسير العياشي عن الحلبي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم قالوا سألناه عن قوله «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا ...» قال : ان رسول الله (ص) أري رجالا على المنابر يردون الناس ضلالا زريق وزفر. وقوله: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» قال : هم بنو أمية.

ورواه مثله في تفسير الشجرة الملعونة ابو الطفيل سمعت عليا (ع) يقول ... وعبد الرحيم القصير وحريز عن أبي جعفر (ع) وعلي بن سعيد عن أبي عبد الله (ع) والطبرسي في الاحتجاج عن الحسن بن علي (ع) وقد مضى أمثال لها اخرى وفي كتاب الخصال عن أبي جعفر (ع) عن امير المؤمنين (ع) حديث طويل يقول فيه ـ وقد ذكر معاوية بن حرب ـ ويشترط علي شروطا لا يرضاها الله تعالى ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها ان ادفع اليه قوما من اصحاب محمد (ص) أبرارا فيهم عمار بن ياسر واين مثل عمار؟ والله لقد رأيتنا مع النبي (ص) وما بعد منا خمسة الا كان سادسهم ولا اربعة الا كان خامسهم.

اشترط دفعهم اليه ليقتلهم ويصلبهم وانتحل دم عثمان ولعمر الله ما ألبّ على عثمان ولا جمع الناس على قتله وأشباهه من اهل بيته إلّا أغصان الشجرة الملعونة في القرآن.

٢٤٩

وقد يقال إن الرؤيا هنا أخص من الشجرة الملعونة ، كما ويروى عن علي (عليه السلام): «انها الأفجران من قريش ومن بني امية» فذكرها بعدها ذكر للعام بعد الخاص ، ولكن الرؤيا تمثل ألعن المصاديق لهذه الشجرة! (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)(٦١).

حسد فاتك من إبليس في حماقة كبرى يجعله يذكر الطين ، غافلا متجاهلا عما نفخه الله في هذا الطين ، فلو أنه نظر الى نورية آدم ولم ينظر الى نارية نفسه لما كفر!.

قفزة الخلقة لآدم الاول من طين.

و «طينا» هنا ليس إلّا حالا ، خلقته حال كونه طينا ، فتصبح نصا على قفزة دون واسطة للطين الى آدم ، رغم تأويلات الداروينيين في سائر آيات الطين : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٣٨ : ٧١) في قولتهم إن «من» النشوية الابتدائية الجنسية لا تثبت إلّا بداية طينية ، أما أنها دون وسيط بقفزة ام بوسيط التكامل فلا تدل على شيء منهما ، وقد يلوح من آيات اخرى التكامل!

ليست هناك آيات تلمح للتكامل إلّا القفزة ، وهنا الحال «طينا» تقطع المجال والآمال عما يهوون ، نصا في القفزة ، ف (خَلَقْتَ طِيناً) تعني خلقت آدم الاوّل حال كونه حين خلق طينا ثم (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٣٢ : ٧) مما تناصرها في هذه القفزة ، حيث البداية تختلف عن الاستمرارية التناسلية في خلق سائر الإنسان ، فلو عنت «من طين» فيما يعنون من النشوية البعيدة لم يكن فرق بين البداية وسواها ، حيث النطفة تبتدء من طين كما آدم في قولتهم.

٢٥٠

واما أن الجامد لا يأتي حالا ، فهو اجتهاد أدبي من استقراء ، ولا قرية أدبية أحرى من القرآن ، ولا يصح او يحسن هنا «طينا» إلّا حالا (١) :

خلقته طينا وخلقتني نارا والنار في أصلها وتبدلها التكامل خير من طين ، فلما ذا أسجد أنا النار لآدم الطين؟!.

وهنا لك آيات اخرى صريحة في القفزة الطينية لآدم ك (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩) ولزام الممثل به أن يكون أمثل وأفضل فيما يمثل ، ومادة المماثلة بين عيسى وآدم هي اختراق العادة في خلقهما فليكن آدم دون أبوين ليمثل به عيسى المخلوق من أم ، وليس ذلك إلا خلقه قفزة من تراب ، وأما الخلقة التكاملية فليست خارقة فلا مماثلة فضلا عن كون آدم أمثل ، فإنما (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (٥٥ : ١٤) وهل الفخار يصنع الفخار إلّا من طين ، فكذلك فخّار فخار الإنسان خلقه من طين.

واما آية الاصطفاء (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) فلا تدل على ما يهواه الهاوون الغاون ، ان آدم أبا هذا البشر كان بين أوادم فاصطفاه ربه لإنسان البشر ، وجعله رسولا إليهم ، حيث الاصطفاء يكفيه انه كان بين حواء وسائر الجن والشياطين ، فاصطفاه رسولا إليهم بعد العصيان والتوبة والاهتداء : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٣٠ : ١٢٢).

__________________

(١) فكونه مفعولا لخلقت وحيدا لا يصح حيث الصلة لا بد لها من ضمير الى الموصول ، او انه مفعول ثان اوله محذوف «خلقته طينا» هو عكس الواقع انه خلق طينا إياه ، لا خلقه طينا ، او انه مفعول أول تأخر «خلقت طينا إياه» ولو انه صحيح فغير فصيح ، او ان «طينا» منصوب بنزع الخافض ، وهنا موضع اللبس فلا ينزع الخافض فإن نزعه يخلف النزاع. فلا مجال في أدب القرآن إلا كونه حالا.

٢٥١

ومهما كانت في سائر القرآن آيات تتشابه احتمالا للتكامل ، فهي متشابهة ترجع الى أمثال هذه المحكمات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)!

فلا مجال لخلق آدم ـ على ضوء القرآن ـ إلّا القفزة الطينية ، اللهم إلا لمن يكفر بالقرآن ، ام لا يفكر فيه فيهرف بما لا يعرف ناسبا له الى القرآن! بما تأثر من تخيلات دارونية اماهيه ، تحميلا لها على متشابهات من الذكر الحكيم ، متغاضيا عن محكمات القفزة الطينية اليقينية.

ولئن قلت إن شيطنة العقيدة تضرب الى شيطنة التفهم عن خلق آدم ، و (خَلَقْتَ طِيناً) من اجتهاد الشيطان؟.

فالجواب : ان الرحمان ليس ليصدق الشيطان فيما يكذب وإلّا أصبح القرآن البيان كتاب الشيطان ، فلا تجد في القرآن استعراض ضلالة إلّا في إعراض وابطال كما هو قضية كتاب الهدى وإلّا أصبح من كتب الضلال ، فهنا السكوت عن إبطال (خَلَقْتَ طِيناً) ومن ثم في آيات تناظرها التصريح بطينية آدم برهان لا مردّ له على تصديق لقوله أكيد ، فليست كل مقالات الشيطان باطلة ، وانما يخلط حقا بباطل إضلالا ، وليس يستطيع الشيطان أن يكذب ربه فيما خلق وفي مواجهة خاصة (خَلَقْتَ طِيناً)!

ثم الله هو القائل (لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٣٨ : ٧١) لخصوص آدم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٢٣ : ١٢) له ولبنيه حيث النطفة سلالة من طين ، كما وأن طين آدم كان سلالة من طين.

ثم الشيطان وإن لم يكن من الملائكة إذ (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨ : ١٥) ولكنه كان في زمرتهم تقدسا وعبودية لله فشمله الأمر كيانا وإن لم يشمله كونا ، كما ولم يعترض هو بذلك على ربه فيما اعترض ،

٢٥٢

ثم و (إِذْ أَمَرْتُكَ) (٧ : ١٢١) دليل خاص على أمره و «قلنا للملائكة يدلنا انه كان ضمن الملائكة.

والسجود هنا كما فصلناه في البقرة والجن ويوسف كان سجود شكر ولم يكن المسجود آدم ، وإنما (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجودا لله لما أنعم عليهم من آدم معلما (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ، فلا أن آدم كان قبلة لهم حيث السجود هو الى القبلة لا لها وهنا «لآدم» ولا أنه مسجود فانما هو الله وآدم مسجود له : ولأجله ، فالسجود له قد يعني أنه مسجود كما الله ، أو انه سبب للسجود كالشكر لله بما أنعم ورزق كما تقول : سجدت لرزقي ـ لولدي إمّا ذا.

(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً)(٦٢).

هنا يتهدد إبليس ربه في ذرية آدم باحتناك ذريته فتزول هذه الكرامة حيث يجعلهم في احتناكهم كمثله ام هم أضل سبيلا ، فينقض في زعمه الكرامة الربانية لآدم حيث ينتقص من تلكم الكرامة ... وكما انتقض فترة في عصيان آدم.

«قال» إبليس مخاطبا ربه : «أرأيتك» أرأيت نفسك «هذا» الطين الحقير الهزيل الذليل (الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) وقد (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)! أرأيتك تبقى هذه الكرامة؟ (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)؟ كلّا فانني إن أخرت وأمهلت (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) :

أنت كرمته عليّ لأنه يعبدك اكثر مني ، وانا اكرّم نفسي عليه حيث احتنك ذريته ... فيعبدونني أنا تاركين عبادتك!

نرى قصة إبليس في آيات سبع ، تشترك في أمر الملائكة بالسجود لآدم

٢٥٣

وإبلاس إبليس ، حيث استقل كيان آدم المخلوق من طين ، واستغل ناريته في إبلاسه عن السجود له ، ثم تأتي بما تهدّد إبليس ذرية آدم باحتناك ذريته إلّا قليلا ، وان (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ، قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (٧ : ١٨) و (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٣).

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فيما هدد ذريته (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٤ : ٢٠)! لا لأنه أقوى منهم ف (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) بل لأنهم اغوى منه رغم انهم أقوى حجة وأحجى!.

إنه طالب ربه إنظاره الى يوم يبعثون (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٧ : ١٥) فهل إلى يوم يبعثون؟ و (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) يلمح إلى أنهم عدة ، فمن هم؟ وحتى متى؟ وفي (ص) (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ : قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ : إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(٨١).

وقد تلمح لعنته الى يوم الدين أنه الوقت المعلوم (١) وقد يبعده ألّا تصريحه في سائر القرآن بإجابته الى يوم الدين ، وإنما (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ام و (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وعلّه لان إنظاره له مرحلتان ، إنظار اوّل الى يوم يقوم القائم (عليه السلام) حيث يأخذ حريته في مجاله الأوسع

__________________

(١) حيث اللعنة الى يوم الدين هي جزاء الشيطنة الى يوم الدين وقد تحققت اللعنة فلتتحقق كذلك الشيطنة الى يوم الدين ، مهما خفت منذ قيام القائم لقوة في دولة الايمان وللمؤمنين.

٢٥٤

احتناكا لذرية آدم ، وانظار ثان منه الى يوم القيامة الكبرى ولا يحسب له حساب ، حيث الدولة الحقة الإلهية لا تفسح له مجالا فسيحا ولان الشيطان ربط احتناكهم إلا قليلا بإنظاره الى يوم الدين ، و (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فهذه تلميحة اخرى انه منظر الى يوم الدين.

ولماذا يربط احتناكه إلّا قليلا بذلك الإنظار وهو محتنك ذريته وان انظر ساعة؟ ... لأنّ «الا قليلا» لا يتحقق في حسابه الا في إنظاره إلى يوم الدين ، فلو انظر أقل منه فقد يتفلت كثير عن سلطانه فيما ليس له سلطان ، فهو بحساب كل زمان ومكان يحتنك ذريته إلّا قليلا حسب هذا المجموع ، فلو خرج شطر من زمان او مكان لاختل ميزان الشيطان ولم ينضبط في المجموعة «إلا قليلا» مهما انضبط بالنسبة للشطر الذي انظر فيه.

وقد ينصدم «إلّا قليلا» بزمن القائم المهدي (عليه السلام) والله العالم!

ثم الاحتناك قد يعني افتعالا من الحنك : لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها ، غير ممتنعة على قائدها ، استيلاء عليهم وملكة لتصرفهم كما يملك الراكب الحمار حماره ، بثني العنان تارة وبكبح اللجام أخرى.

أم يعني : لألقين في إحناكهم حلاوة المعاصي حتى يستلذوها ويرغبوا فيها ويطلبوها.

او : لأستأصلن ذريته بالإغواء ، ولأستقصين إهلاكهم بالإضلال ، حيث اتباعهم غيّه ، وطاعتهم امره يؤولان بهم الى موارد الهلاك وعواقب البوار.

٢٥٥

او : لأضيقن عليهم مجاري الأنفاس من إحناكهم بإيصال الوسوسة لهم ، وتضاعف الإغواء عليهم ، يقال : احتنك فلان فلانا إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه فكان كالشبا في مقلته ، والشجا في مسعله» (١).

او أنها كلها معنية تجمعها احتناكه لهم كالحمار حيث يؤخذ بحنكه فينقاد حيث يقاد احتناكا فطريا ـ عقليا ـ فكريا ـ عقيديا ـ عمليا ـ سياسيا ـ اقتصاديا إمّا ذا حيث الشيطان يحتنك كلّا حسب المكنة والاستطاعة بما عنده من هذه وتلك ، وعلى أية حال إنه يحقق نصيبه في كلّ باستحمار يناسبه بعلم او مال او مقال أمّاذا ، و «قليلا» يعني المنحسرين عن احتناك الشيطان ، المنحصرين بالله وفي الله فلا ينجو عن ذلك الاحتناك ـ قلّ او كثر ـ إلا القليل.

وترى من القليل المستثنى من احتناك الشيطان؟ هناك قلة مخلصة لا تشملهم أية غواية علمية او عملية او عقائدية أماهيه (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ : ٨٣) ثم له سلطان أيا كان على غير المخلصين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢) ففي كل غواية سلطان للشيطان من سيئة صغيرة الى كبيرة والى كفر مطلق ، مهما اختلف سلطان عن سلطان ، فمن يتبع الشيطان كان للشيطان عليه قدر اتباعه سلطان ، فمنهم من ينجو بتوبة او شفاعة او رجاحة الحسنات او ترك كبائر السيآت ، ومنهم من لا ينجو إلا دخولا في النار لفترة طالت ام قصرت ثم يخرج الى الجنة ، ومنهم من يخلد بخلود النار ثم يفنى بفناء النار (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

فلا ينجو من سلطان الشيطان ككل إلّا فريق من المؤمنين لا كلهم :(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٤ :

__________________

(١) بين القوسين منقول عن مجازات القرآن للسيد الشريف الرضي ص ٣٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٥٦

٢٠) فلم يقل «إلا المؤمنين» وهذه الفرقة من المؤمنين هم المعنيون بآية النحل (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١٦ : ٩٩) إيمانا يتوكل فيه على الله ، فبالإيمان يخلص وبالتوكل يصبح من العباد المخلصين فليست هذه القلة إلّا المعصومين! وهم عباد الله حقا إذ لا نصيب منهم للشيطان (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (١٧ : ٦٥).

فالشيطان بين سلطان مطلق واحتناك لبني الإنسان ، وبين عباد مخلصين ليس له عليهم سلطان ، ثم بينهما عوان للشيطان عليهم سلطان قل او كثر.

وترى ذلك الاحتناك يخص بني آدم دون سواهم من المكلفين حيث النص : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً)؟ ... ان الشيطان يطمح في احتناك ذريته كأصول لدعوته ، انتقاما من تكريم آدم عليه ولأنه شيطان ، فهو شيطان بالنسبة للمكلفين كافة كما الآيات الأخرى تشملهم ف (إِنَّ عِبادِي ...) لا يخص بني آدم!

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً)(٦٣).

«اذهب» أمر ليس دفعا الى الإضلال لا تكوينا ولا تشريعا ، بل هو سماح وإنظار يتبعه إنذار (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ...) فهو امر تهديدي في معنى أشد النهي تشريعيا لمن لا يحن الى هدى ولا يرجى منه الاهتداء فيطرد تحديا ، وتهديدا ، مهما يحمل إمهالا تكوينيا كما في نظائره : (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) (٢٠ : ٩٧).

والجزاء الموفور هو الوفاق وفر العدل ، دون أن ينقص ما يستحقونه شيئا أو يزيد ، وقد يعني أنهم مهما كثروا فجهنم لهم جزاء موفور لا تضيق

٢٥٧

بهم (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).

وترى إن جهنم جزاء لكل من تبعه في أية تبعة؟ وهنا لك غفرانات بتوبات ام شفاعات او ترك كبائر السيآت او فعل الحسنات ام ماذا! الجواب أن هؤلاء ليسوا أتباع الشيطان ، وإنما هم من كانت حياته حياة التبعية للشيطان مهما كانت له حسنات ام ماذا ، فرجاحة السيآت جزاءها جهنم مهما خرج عنها باستحقاق ام خلد فيها باستحقاق.

«اذهب» وحاول ما استطعت في احتناكهم فلا تملك منهم إلا كيدا ، وقد ملّكوا عقولا وزوّدوا بآيات الحق صدقا ، برسالات دواخل الذوات وخوارجها ، فهم أقوى منك في هذا الميدان ، إلّا من تغافل عن طاقاته ، وتجاهل عن بيناته (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) هذه النعمة القوة بسوء اختيارهم.

وترى لماذا «جزاءكم» خطاب الحاضرين وهم غيّب وحاضر الخطاب هو إبليس؟ ... لأنهم أيا كانوا وأيان فهم حضور عند الله دون غياب ، قبل أن يوجدوا وبعده ، أحياء وأمواتا ، وان غائب الصيغة لا يشمله وهو حاضر «جزاءهم» وحاضرها تشمله وإياهم ، ثم وحاضر الإنذار أوقع من غائبه.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً)(٦٤).

آية عديمة النظير تحمل فيما تحمل افتعالات الشيطان في أوامر اربعة لا تعني إلّا ما عناه «اذهب» دون دفع تكويني او تشريعي ، وإنما سماح وإنظار وأنه لا يمنع تكوينا مهما منع تشريعا : «فان جهنم جزاءكم»

٢٥٨

وترى إن الله يدله على موارد إضلاله؟ كلا! وإنما يدلنا على مجاري ضلاله ومناهل اعتقاله.

وتحتصر الآية فيما تختصر قدر المستطاع من كيد الشيطان ، ولكي نكون على نبهة واهبة في مواجهته بما زودنا من طاقات ، وتزيدنا نجاحا في هذا النضال مواعيد ربنا (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (١٩ : ٦٣) (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

فهناك خطوة إبليسية اولى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) : فما هو صوته وما هو استفزازه بصوته؟.

الاستفزاز هو الاستخفاف الإزعاج من الفز : ولد البقرة لما تصور فيه من الخفة كما يسمى عجلا لما تصور فيه من العجلة ، ولا يحمل على العصيان ولا يحتنك للشيطان إلّا من يستفز استخفافا عن ثقله ، وكما ان فرعون (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) (٤٣ : ٥٤) وأراد ان يستفز بني إسرائيل فثبتّهم موسى (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (١٧ : ١٠٣) وكادوا ليستفزوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكن (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٧٦).

ليس للشيطان ان يستفز عباد الرحمن بعقلية راجحة او بحجة ووعد الصدق ، وانما بما يزين لهم في الأرض : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١٥ : ٤٠).

وللشيطان صوتان يستفزان ، صوت يلهي بما يشهيّ من غنى وموسيقا

٢٥٩

ام ماذا؟ (١) ، فمهما لا يسمع منه نفسه ، يحمل من يحتنكه على صوته استفزازا لنا.

ثم وصوت يحمل وعودا في غرّة ومكيدة ، ولا يستفز بهما إلّا الأخفّاء في عقولهم وايمانهم وفي اي حقل من حقولهم المستخفة المتخاذلة ، والصوت قد يلهي بنفسه سواء بلفظ له معنى حق أو باطل ، أو لا يعني ايّ معنى ، كالأصوات الخاصة بالمراقص وسائر اللهو ، فلهو الثالث ذو بعد واحد والثاني اثنين وفي الاول بعد بعيد فان فيه مهانة للحق كأن يقرء القرآن بصوت يناسب الرقص ، وامّا الصوت غير الخاص باللهو ، فقد يعني معاني واعظة ومذكرة فأحسن ، او معاني مضللة وباطلة ملهية فقبيح ، او معان عوان فعوان لا ممدوحة ولا مذمومة.

ثم المعنى المضلّل الملهي بصوت لا يلهي هو ذو بعد واحد بلهو المعنى ، فاللهو عما يعنيه الإنسان في دينه ودنياه الى ما لا يعنيه او يعني ضلاله ويلهيه عن الله ، إنه محرم أيا كان ، لفظا ومعنى او هما معا ، وتختلف دركاته باختلاف دركات اللهو.

والاستفزازات الشيطانية كلها محرمة ، سواء أكانت شهوانية ام عقائدية ـ ثقافية ـ اجتماعية ـ سياسية ـ اقتصادية وحربية إمّا ذا من استفزاز الاستخفاف للثقالة الإنسانية فاحتناك واستحمار وهنالك تقع الطامة الكبرى!

إذا فكل صوت مستفز عما يعنيه الإنسان في مفترضاته الإنسانية والإسلامية الى ما يعني ضلاله او ما لا يعنيه ، تشمله «صوتك» وهي كافة

__________________

(١) الدرر المنثور ٤ : ١٩٣ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...» قال : استنزل من استطعت منهم بالغناء والمزامير واللهو والباطل ..

٢٦٠