الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

وقوامة واستقامة وقياما (١) منذ بزوغه ما طلعت الشمس وغربت ، فشمسه لا تغرب وما يحتاجه المهتدون به لا يعزب ، فلا يقعد عن هدايته ، ولا يفشل عن استقامته ولا ينقص عن قيمته وقوامته لأنه كتاب الزمن كله.

ف «هي أقوم» من غيرها على الإطلاق قواما وقياما : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً ...) (٦ : ١٦١) فيه كافة القوامات والقيامات لحد القيامة الكبرى ، لا أفول لشمسه ولا انقطاع لشرعته ، لا كتاب بعد كتابه ولا رسالة بعد رسالته ، حيث الأقوم يتطلب ختام الوحي بوحيه.

فهذه الآية إجمال عن مثلث الخاتمية : شريعة ورسالة وكتابا ، نجد تفاصيلها في آيات اخرى ، والتي هي أقوم يشمل هذا المثلث وما معها من ملة وطريقة وولاية ، والولاية المطلقة للقرآن ونبيه وأهل بيته هي أقوم الولايات طول الرسالات الالهية ، وهي كلها على هامش الولاية الالهية (٢).

__________________

(١) فالأقوم تتحمل كونها من القوام والقيامة والقيمة ، والقرآن يهدي للتي هي أقوم في مثلثه دون اختصاص بأحدها.

(٢) في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير الآية قال : يهدي الى الولاية» أقول : وهي تشمل الولايات كلها ومنها ولاية الائمة التي هي ثالث مراتبها بعد ولاية الله والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد يفسر بولاية الامام بيانا لثالث مصاديقها لأنه مختلف فيها حتى يلحق بولاية الرسول ، ومن ذلك ما في حديث سلسلة الذهب ، يرويه ابن بابويه باسناده عن عياش بن يزيد مولى زيد بن علي ، قال حدثني أبي قال حدثني موسى بن جعفر ... وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : الامام منا لا يكون الا معصوما وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها فلذلك لا يكون الا منصوصا فقيل له يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! فما معنى المعصوم؟ فقال : هو المعتصم بحبل الله وحبل الله هو القرآن لا يفترقان الى يوم القيامة فالإمام يهدي الى القرآن والقرآن يهدي الامام وذلك قول الله عز ـ

٨١

ثم القرآن ليس ليهدي للتي هي أقوم هداية المعرفة والإيصال الى الحق إلا لمن اتخذه دليلا بحق وكما عن الإمام علي (عليه السلام): «ايها الناس انه من استنصح الله وفق ، ومن اتخذ قوله دليلا هدي للتي هي أقوم» : دليل المعرفة والعمل الصالح ثم يبشره :

ومراتب الهدى القرآنية آخذة من العلمية الى العقيدية الى العملية التطبيقية. والاخيرة هي المبشر لها (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً).

ومراحل العلم القرآني «على أربعة أشياء على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء» (١).

ومراتب العقيدة اليقين ثلاث : علم اليقين ـ عين اليقين ـ حق اليقين.

ومراتب العمل تنحو مراتب العلم واليقين. كلما ازداد ازداد وكلما نقص نقص.

والدلالة القرآنية ثلاث : دلالة التعبير في مراتبها ، ثم دلالة الاهتداء ، ثم الإيصال الى المطلوب : الصراط المستقيم ... ومما توحيه آية الأقوم أن هذا القرآن هو المتن الأعلى للإسلام وما سواه من أحاديث ليست الا

__________________

ـ وجل : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وروي تفسيره بالإمام باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ايضا.

(١) سفينة البحار يرويه الامام الحسين عن أبيه علي امير المؤمنين (عليه السلام).

٨٢

على هامشه ان وافقه فليكن متنا متينا مكينا في الحوزات العلمية الإسلامية وفي كافة الحقول.

ومن التي هي أقوم في هدي القرآن إعجازها ، حيث الآية الرسالية فيه أقوم الآيات إذ تعيش الزمن ويعيشها الزمن دون حاجة إلى آية اخرى.

ومنها السياسة القرآنية التي تقود دولة عالمية على طول الزمن كما يقودها القائم المهدي (عليه السلام) في آخر الزمن.

ومنها الحقوق القرآنية التي تحلق على كافة الحقوق طول التاريخ ، وتكفي معونة الحياة المتوسعة المتداخلة المتشابكة المتشاكسة.

ومنها الملاحم الغيبية والإنباءات المستقبلة التي توقظ النّوم وتنبه النابهين كي يكونوا على أهبة وحذر لبناء المستقبل المجيد للدولة الإسلامية.

ومنها الإقتصاد القرآني وقد تكفي حلا لمشكلة الإقتصاد العضال آية وحيدة منه (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ومنها ومنها وقد تحدى القرآن فيما تحدى الانس والجن (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) : طول الزمان وعرض المكان.

(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)(٩).

يبشر من آمن بالله واليوم الآخر وما بينهما على ضوء القرآن ، ويعملون الصالحات التي تصلح نتيجة للايمان وتصلح الحياة كل الحياة على ضوء القرآن ، يبشرهم قدر ما اهتدوا به وآمنوا وعملوا الصالحات (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) : لا ناقصا عما قدموا فانه عجز وبخل ، ولا مساويا مواتيا له فانه مثل بمثل ، وليس الله مثلا لنا حتى يؤاتينا في ثواب اعمالنا ، وانما فضلا

٨٣

وإحسانا : (أَجْراً كَبِيراً) اكبر مما قدموا وان كان تسمية الثواب أجرا فضلا عن «كبيرا» هو ايضا اجر كبير ولطف غزير ، حيث العبد لا يستحق بإيمانه وعمله الصالح اجرا من ربه ، إذ لا يعود نفعه الا اليه لا الى ربه ، إذا فاصل الثواب فضل وتسميته اجرا فضل وصفته كبيرا ، فضل ، مثلث الفضل في قول فصل.

ثم القرآن لمن لم يتخذه دليلا لا يزيده إلا خسارا ، ولا سيما الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وإن كانوا مؤمنين بالله ، حيث الايمان بالله دون الآخرة لا يلزم المؤمن به بما يلتزم به المؤمن بآخرته من عمل الصالحات ، ومجرد الأيمان بالله دون عمل لا ينفع حتى إذا كان ايمانا بالآخرة ايضا :

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٠).

لا يؤمنون بالحياة الآخرة ودلائلها في القرآن واضحة وفي الآفاق والأنفس لائحة!

والإعتاد هو التهيئة ، والعذاب الأليم يشمل ذوقه يوم الدنيا في المعيشة الضنك وفي البرزخ بوجه آكد ، ثم في القيامة واقع لأليم العذاب : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ...) (٢٠ : ١٢٤) : عذابات معتدة في مثلث الحياة بما قدمته أنفسهم.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(١١).

تأنيب بهوى الإنسان العجول الجهول التارك لهدي القرآن حيث يدعو بالشر دعاءه بالخير فشتان شتان بين هدي القرآن وهدي الإنسان ، حيث

٨٤

يهوى بعجلته فيهوي في هواة الضلال جهلا له او جهالة بمصادر الأمور ومصائرها ، فاستعجالا بالشر فيما يأتي خيره باستمهال!.

والدعاء هي الطلب في مقال او حال او فعال ، فقد يدعو ربه الشر (١) دعاءه بالخير: (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢) كنضر بن حرث وقد أجيبت دعاءه فضرب عنقه ، ولو كانت هذه سنة دائبة لقضي عليهم باستعجالهم : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) (١٠ : ١١).

او يدعو رسولا ـ يكذبه ـ بالشر لو انه صادق : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) (٢٣ : ٤٧) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) (١٣ : ٦) (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) (٢٧ : ٤٦).

ف «لا تدعو على أنفسكم لا تدعو على أولادكم لا تدعو على أموالكم لا توافقوا الله ساعة فيها اجابة فيستجيب لكم» (٢). و «اعرف طريق نجاتك وهلاكك كي لا تدعوا الله بشيء عسى فيه هلاكك وأنت تظن ان فيه نجاتك (٣).

وعلى الإنسان الذي يريد خيره أن يتطرق إليه بما يقدمه من خير على إمهال دون استعجال ، حيث الخير يخلف الخير كما الشر يأتي بالشر ، ولكنما

__________________

(١) الباء في هذا الاحتمال للتعدية حيث المفعول به فيه الله او الرسول ام غيرهما. ودعائه مفعول مطلق نوعي اي يدعو ... دعاءه بالخير بالشر. مدعوه الذي يحصل بسبب الخير يدعوه بالشر».

(٢) الدر المنثور ١٦٦ ـ اخرج ابو داود البزار عن جابر (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(٣) نور الثقلين ٣ : ١٤١ عن مصباح الشريعة قال الصادق عليه السلام : ...

٨٥

الإنسان العجول الجهول قد يطلب خيره بالشر طلبه بالخير فيما هو حقا خير ، او يطلب ما يظنه خيرا وهو شر بالشر : شرا على شر او يطلب ما يراه شرا بالشر فهو في مثلث الشر(١).

فالمستعجل برزقه الذي لا محالة آتيه بعمله قد يطلبه بالشر : سرقة او احتكارا او بخسا في المكيال ام ماذا؟ رغم أنه لا يصله إلا ما قدر له بعمله ، وإذا نا له زائد عليه بشره فلا يناله في فائدة له إلا فاسدة كاسدة.

ولكنما الإنسان المهدي بهدي القرآن كل دعاءه خير ويدعوه بخير ، وفيما يجهل خيره يحتاط مترويا مستشيرا عقله وعقلاء غيره ، متكلا الى ربه على كل حال ، في كل حل وتر حال ، وإذ يدعو ربه فيما يظنه أو يراه خيرا فانما يطلبه بتأديب دون إصرار وتأكيد.

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) فعجلة الإنسان بطبعه وخلقته ، دون ان يعدّ لها فيعدّ لها إلى الأصلح متأنيا ، هو الباعث الأهم لدعائه بالشر دعائه بالخير لحد كأن البواعث الاخرى لا موقع لها مع ما لها من مواقعها ، وما هي الصلة بين عجلة الإنسان ودعاءه بالشر دعاءه بالخير؟ إنها تسرّع الشر وسهولة الدعاء به ، وتأني الخير وصعوبة الدعاء به فبدل ان يطلب مطلوبه الخير بالخير يطلبه بالشر استعجالا.

وفي مربع الطلب : شرا بشر ـ خيرا بخير ـ خيرا بشر ـ شرا بخير نرى العجلة لائحة في مقدمات الشر إلى خير أم إلى شر (٢) وأما الخير الى الخير فلا

__________________

(١) الباء هنا للسببية اي يدعو بسبب الشر وواسطته دعاءه بسبب الخير او بدل دعاءه بالخير ، او كدعائه بالخير ف «دعاءه» هنا منصوب بنزع الخافض وفي الاحتمال الاول مفعول مطلق نوعي.

(٢) فالأول على كون دعاءه بالخير مفعولا مطلقا نوعيا والثاني منصوبا بنزع الخافض كدعائه ـ اي يطلب الشر بالشر كأنه يدعو بالخير.

٨٦

تأنيب فيه ، والخير الى شر كتظاهر المنافق بالزهادة حتى يكيد كيده ، ففيه أشد تأنيب ولكنه لا تشمله الآية حيث تعاكسها ولا استعجال فيه.

و «الإنسان» هنا هو نوعه : من آدم وذريته (١) «وكان» حالة هذا النوع في كينونته العجل : فقد (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٢١ : ٣٧) وعل العجل هنا لآدم «لما خلقه الله نفخ فيه من روحه وثب ليقوم قبل ان يتم خلقه فسقط فقال الله عز وجل : (كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(٢) ثم ولذريته منيّهم الذي يعجل حيث يدفق بعجل لحد سمي عجلا ، وهذه العجلة التي تتبنّى خلق الإنسان ليست الا لحكمة عجلة سيره في مسيرة كماله ، ولكنه يعكسها في دعاء شره او دعاءه بالشر دعاءه بالخير.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)(١٢).

الليل والنهار آيتان من آيات الله : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ...) (٤١ : ٣٧) حيث يدلان بتخالفهما واختلافهما تلو بعض دائبا دون تخلف ، يدلان على أن خلقهما مدبر باختيار وحكمة قاصدة ، كما وأن الليل في تحوله

__________________

(١) فلو كان المقصود هنا آدم لقال آدم فانه علم له ، ولو كان ذريته لقال بنو آدم ، وأما الإنسان او البشر فهو يشمل هذا الجنس من آدم أبي البشر ومن سائر البشر.

(٢) نور الثقلين ٢ : ١٤٢ عن تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ... وفي الدر المنثور : ١٦٦ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن عساكر عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال : أوّل ما خلق الله من آدم (عليه السلام) رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه فلما كان بعد العصر قال : يا رب! اعجل قبل الليل فذلك قوله «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً» وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد مثله.

٨٧

الى نهار آية للحياة بعد الموت : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٦ : ٣٧) فان سلخ النهار من الليل يواطي سلخ الروح من البدن ، ثم رجع النهار خلفه كرجع الروح الى البدن حذوا النعل بالنعل ، إذا فالليل والنهار آيتان تدلان على المبدإ والمعاد ، وفي كل حكمة تقتضيه الحياة سكنا وابتغاء من فضل الله فالليل للراحة والسكون الجمام ، والنهار للسعي والكسب والقيام (١).

وترى ان آية الليل الممحوة وآية النهار المبصرة هما الشمس والقمر ، فإنهما آيتان في هاتين الآيتين : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ...) (٤١ : ٣٧) كما وأن اضافة الآية إليهما تقتضي اختلافها عنهما وأنهما آيتان فيهما؟ فالمذكور هنا كالمذكور هناك آيات أربع!

ام ترى انهما الليل والنهار أنفسهما ، فان آية الليل القمر ليست ممحوة دائبا ، وانما عند الخسوف المطلق وآخر الشهر ، وآية النهار الشمس هي مبصرة بجعلها شمسا لا أن الشمس جعلت مبصرة : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ...) (١٠ : ٥) على أن الشمس ايضا تكسف كما القمر يخسف ، فلا يختصه المحو ويختصها الأبصار ، وان المذكور في الآية : (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) آية الليل هي الليل وآية النهار النهار!.

او يقال إن آية الليل كلا القمر والليل ، وآية النهار كلا الشمس والنهار (٢) فالليل ممحو مظلم ، وقمره لا يكفي نورا وان كان نورا ، على أن

__________________

(١) راجع ج ٣٠ : ١٨ من الفرقان تفسير الآية ٩ ـ ١١ من سورة النبأ.

(٢) فالمراد ـ إذا ـ من الآية جنسها ليلا ونهارا حتى تشمل الآيتين في كل منهما ، او ان آية الليل تعني كلا على حدة واستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد سائع في القرآن حيث المشكلة الفعلية فيه ليس لله الذي له مقام جمع الجمع في العلم والقدرة.

٨٨

نوره ليس نورا إلا زهاء ثلث الشهر مع ما يمحوه خسفا مطلقا.

ولكن آية النهار بشمسها ونفس النهار مبصرة وإن أظلته السحاب فانمحى قرصها ، فالنهار لا ينمحي ، إلا إذا كسفت وما أقله كما الخسف للقمر فليعن ـ إذا ـ من كل آية مجموع الآيتين : الليل والقمر ـ الشمس والنهار.

او يقال : لأن الآية هي العلامة فالمراد بمحو آية الليل جعل ظلمتها مشكلة لا يفهم معناها ولا يعلم فحواها لما استأثر الله تعالى بعلمه عن المصلحة المستسرة في ذلك ، وحقيقة المحو طمس اثر الشيء من قولهم : محوت الكتاب إذا طمست سطوره حتى يشكل على القارئ ويخفى على الرائي.

ثم وإبصار آية النهار أن جعلها مكشوفة القناع مبينة الأبصار على خلاف آية الليل إذ جعلها مشرجة الغلاف بهيمة الأطراف.

وقد يعنى الجميع بتأويل ان القمر جعل ممحوا بالنسبة للشمس لا مطلقا ، فالشمس تبصر وهي ايضا تبصر بضوئها ، والقمر يبصر ولا يبصر فانه نور وليس ضوء وقد يعنيه ما تظافر في الاخبار (١) ثم الليل ممحو بظلامه

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ : ٤١٠ ـ العلل ابن بابويه بإسناد متصل الى يزيد بن سلام انه سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ... فما بال الشمس والقمر لا يستويان في الضوء والنور؟ قال : لما خلقهما الله عز وجل أطاعا ولم يعصيا شيئا فامر الله عز وجل جبرئيل ان يمحو القمر فمحاه فأثر المحو في القمر خطوطا سوداء ولو ان القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس لم يمح ولما عرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا علم الصائم كم يصوم ولا عرف الناس عدد السنين والحساب وذلك قول الله عز وجل (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...).

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) فمحونا آية الليل قال ـ

٨٩

وعدم ضوء الشمس ، والنهار مبصر بضوئها : «وجعل شمسها آية مبصرة

__________________

ـ هو السواد الذي في جوف القمر ورواه مثله عن أبي الطفيل عن الامام علي (عليه السلام) فقال له ابن الكوا فما هذا السواد في القمر؟ قال : أعمى سأل عن عمياء أما سمعت الله يقول (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) فذلك محوها.

وفي الاحتجاج للطبرسي رواه مثل الأخير عن الأصبغ بن نباتة قال قال ابن الكوا لأمير المؤمنين :

وفي الدر المنثور ٣ : ١٦٦ ـ اخرج ابن حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس (رضي الله عنه) عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث فأرسل جبرئيل فامر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أقول : نتفهم هذا الحديث الا ـ وهو يومئذ شمس ثلاث مرات ـ وفيه اخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد المقبري ان عبد الله بن سلام (رضي الله عنه) سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن السواد الذي في القمر فقال : كانا شمسين فقال : قال الله (... فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ...) فالسواد الذي رأيت هو المحو واخرج مثله ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أب يحاتم وابن الأنباري في المصاحف عن علي (عليه السلام) في الآية : قال : هو السواد الذي في القمر واخرج ابن مردويه عن علي (عليه السّلام) في الآية قال : كان الليل والنهار سواء فمحى الله آية الليل فجعلها مظلمة وترك آية النهار كما هي واخرج ابن عساكر عن علي بن زيد (رضي الله عنه) قال : سأل ابن الكوا عليّا (رضي الله عنه) عن السواد الذي في القمر قال : هو قول الله تعالى: (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ).

أقول : حاصل ما قد يصدق من هذه المجموعة ان الشمس والقمر في بادية خلقهما كانا نيرين كبعض مع اختلافهما في الحجم ـ حيث المحو هو محور النور لا الجرم ـ فمحي الله القمر من ضوءه حتى أصبح نورا وجعل الشمس ضياء : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (١٠ : ٥) فقد كانت شمسا دون هذه الضياء وكان قمرا دون هذا النور ، فضياء الشمس ونور القمر مجعولان.

وقد ينافي محو القمر هكذا ان نوره مكتسب من ضوء الشمس ولا نور له من نفسه كما ـ

٩٠

لنهارها وقمرها آية ممحوة من ليلها وأجراهما في مناقل مجراهما وقدر مسيرهما في مدارج درجهما ليميز بين الليل والنهار بهما وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما» (١).

(... لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ).

كأن ابتغاء فضل من الله ، ومعرفة عدد السنين والحساب كلاهما من مخلفات آية الليل والنهار وان كان فضل الله يبتغى في الأكثر نهارا ، ولكنه لا يخص المادي منه حتى يختص النهار ، فالمعنوي منه أهم وأكثره بالليل ، وان كان الليل حسب الأصل وأكثريا للسكن والنهار للنشور ولكن : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٣٠ : ٢٢) (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٨ : ٧٣) وهذا جعل ثان ينوب الأول شيئا ما عند الحاجة وفيما لزم عكس الأمر وان كان الالتزام بالأول أحرى وأصلح لراحة الإنسان ، اللهم إلا في تهجد الليل فضلا روحيا.

__________________

ـ يقول العلم ، الا ان جعل القمر نورا منيرا ينافيه : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢٥ : ٦١) (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٧٢١ : ١٦) ولم يثبت اكتساب نور القمر من ضوء الشمس علميا قانونيا لا يتخلف ولئن ثبت كان معنى محو القمر محو الأكثر من نوره الآن اكتسابا من الشمس إذ كان بالإمكان ان يجعله الله بحيث يكتسب من الشمس نورا تواطى نور الشمس ، الا ان هذا لا يسمى محوا اللهم الا إذا كان القمر بحيث يكتسب نورا من الشمس تواطيها ثم الله محاه ، اللهم لا علم لنا الا ما علمتنا ، وقد يكون كيان نور القمر مما سكت الله عنه حيث احتمال هكذا محو في آية المحو لا يعد والاحتمال حيث الظاهر ان آية الليل هي الليل وآية النهار النهار ، وكون القمر نورا لا ينافي في انه يكسبه من الشمس ام ماذا؟.

(١) في نهج البلاغة عن علي امير المؤمنين (عليه السلام) ...

٩١

كذلك ومعرفة السنين والحساب من مخلفات آية الليل والنهار ، لا إحداهما ولا النهار فحسب ، بل قد يكون الليل بآيته أحرى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠ : ٤) (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) (٦ : ٩٦) (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥٥ : ٥) أترى بعد ان الليل بآيته لا حساب له ولا حسبان ، وهما زميلان متضائفان في الحسبان؟!

فلو كان الليل والنهار بآيتيهما سرمدين لم يعلم عدد السنين والحساب ، ولكن خلفة الليل والنهار علم لهما ولليوم ، وسبعة اليوم للأسبوع ، ومنازل القمر لايام الشهر ، واثني عشر الشهر للسنة ، فمحو آية الليل تدريجيا حيث قدره منازل هلالا وبدرا ومحاقا ، وابصار آية النهار ، انهما متعاونان في معرفة عدد السنين والحساب ، كما ان محو القمر حيث لا يضيء كالشمس يميّز الليل عن النهار.

وترى ما هو الفارق بين علم عدد السنين والحساب ، وعدد السنين من الحساب؟

عل الفرق بالعموم المطلق فان عدد السنين حساب وليس كل حساب عدد السنين ، فانه هنا عدد في السنة شهورا وفصولا وأسابيع وأياما وساعات ، فالحساب لما دون السنة فعلم عدد السنين ـ وطبعا القمرية ـ والحساب في أجزائها من مخلفات محو آية الليل وإبصار آية النهار.

فالليل والنهار بآيتيهما آيتان كونيتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه خلل بأية علل فهما دائبتان حتى القيامة الكبرى (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) ـ

٩٢

(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) في كتابي التكوين والتدوين ، دون إجمال او تعطيل.

فكل شيء هو من خلق الله فهو من آيات الله ، والله (يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٣ : ٢) (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٦ : ٥٥) (... وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ٧٤) (نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٠ : ٢٤) (... لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٠ : ٢٨) (... لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠ : ٥).

والشيء في (وَكُلَّ شَيْءٍ) هو كل شيء تكوينا او تشريعا ومن الأشياء المفصلة أعمال الإنسان وأقواله وعقائده ونياته ، حيث هي مفصلة في عنقه (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١٨ : ٤٨).

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها

٩٣

فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)(٢١)

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ...).

«الطائر» هو كل ما يطير أيا كان من شخص او شيء او عمل او تفكير ام ماذا؟ ثم الطائر البخت والحظ والنصيب ، والجاهلية كانت ولحد الآن تهرف بما لا تعرف أن الذي قدّر لكل انسان هو تقديره وبخته الذي قدره الله له يطير إليه دون رباط له بعمله ، او يستطير اليه خير او شر من عمل غيره ، او انه يشارك في حظه عمله وعمل غيره ، ام ماذا مما يلحق الإنسان

٩٤

نصيبا من خير او شر يطير اليه من غيره ، ربه او خلقه ، او وأخيرا ، إذا كان عمل كل إنسان له خيرا وعليه شرا ، فعمله أيا كان يطير عنه الى الفناء فلا حجة تبقى عليه حتى تلزمه وتلجمه يوم القيامة.

والقرآن يطارد في طيات آيات هذه الغلطة الماردة ويلزم عمل كل انسان في عنقه كما هنا (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

يحصر الطائر مبدئيا بما مع الإنسان : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨) : تفألنا بكم شرا يطير منكم إلينا فأنتم شؤمنا وبؤسنا! (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٣٦ : ١٩).

ومن ثم يحصره جزاء بما عند الله : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٢٧ : ٤٧) (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧ : ١٣١) ثم لا حالة ثالثة للطائر رغم ما يزعم!

فالعمل أيا كان ومن اي انسان إنما طائره معه وعند الله ، لا يجاوزه الى من سواه ولا اليه من سواه ولا انه مقدر مسير عليه ، ولا انه يطير عنه الى الفناء دون ان يبقى حجة له او عليه ، فانما طائره في عنقه ثم عند الله.

إذا فتسميته العمل طائرا ليست الا مسايرة التعبير عن العمل (١) بما يطير الى غير العامل ، او استطارة من تقدير مسيّر من الله! او استطارة عن

__________________

(١) وكان العرب يتيمنون بطيران الطائر الى اليمين ويتشأمون بطيرانه الى اليسار ، ولذلك جعل الطائر اسما لمطلق ما يتمنى به ويتشأم ثم استعمل في مطلق سبب الخير والشر من الأعمال والأقوال والعقائد.

٩٥

العامل الى الفناء!

اللهم الا استطارة الى الآفاق من ارضها واعماق فضائها ، حيث الأمواج الصوتية والصورية طائرة عن الإنسان الى الافاق وهي على ما هي عليه ملزمة في عنقه ، نسختان عينيتان من مربع الأعمال يستنسخها الله في الآفاق وفي الأنفس ، وسيريهما الله يوم يقوم الاشهاد : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤١ : ٥٣) فمن هذه الآيات الآيات العينية من الأعمال المسجلة في الأنفس والآفاق وشره علّه هو الشر المستطير : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (٧٦ : ٧) فان شر الآخرة المستقبل هو استمرار لشر الدنيا المستطير الماضي ، فشر الآخرة ثابت حيث ينتج عن شر الأولى المستطير. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة : البعثة على الطيران ، فشر الدنيا منبعث من قبل الله للطيران الى مسجلات الكون آفاقية وانفسية ، تيارات الشر وطياراته يوم الدنيا وإلى اعماق البرزخ والقيامة.

فالقرآن يصدق من صيغة الطائر هذه السائغة التي صاغها الله ، ويكذب ذلك الثالوث الخاطئ من استطارة الأعمال : من الله تقدير التسيير الى العمال ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) او منه إطارة منك الى سواك ، او منه إليك بنفسه او انتاجه ، او من الإنسان ككل الى الفناء ، كلا ثم كلا إلا إلزاما للعمل وعهدته في عنقه (١) ثم اطارة الى كتاب الآفاق ،

فآية الطائر تصريحة بما بعدها أن الأعمال ملزمة في ذوات العمال وعهدتهم : «في عنقه» ايحاء ثنائيا يكسح خرافات الأوهام ، ثانيهما أن كل

__________________

(١) فان قال : في ذاته ـ لم يدل على عهدته ـ وان قال : في عهدته لم يدل على تسجيله في ذاته بصوريته.

٩٦

عمل فإنما هو على عهدة عامله بخيره وشره في عاجله وآجله ، كما وأنه مسجل بصورته الصوتية والصورية في ذاته ، فالعنق عبارة عن الذات حيث الكيان الحيوي للإنسان به اكثر مما سواه ، وعبارة عن العهدة ، فإلزام طائر الإنسان في عنقه ايحاء بهما جميعا ، فالعمل الزائن في العنق كالقلائد والاطواق ، كما العمل الشائن كالاغلال والأوهاق هما لزام عنقه مهما كانا خفيين يوم الدنيا ، فان الله يخرجهما يوم الاخرى كتابا يلقاه منشورا.

ثم والطائر تلويحة باستطارة نسخة عينية من الأعمال الى كتاب الآفاق ثم نجد تصريحتها في آيات تحدث الأرض اخبارها.

(أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وعل إلزامه طائره يوحي بكون طائره لزام ذاته ككل ، و (فِي عُنُقِهِ) بان ما يلزم ذاته هو على عهدته ، فهو لازمه لا يفارقه ، لا يمكنه ان يتخلص عنه او يتملص منه ، لا نفس العمل ولا مخلفاته ، فهو كالطوق في عنقه بالزامه إياه والحكم عليه به.

فلئن اختص هذا الإلزام بعهدة العمل دون نفسه لكان التعبير «الزمنا طائره» دون «ألزمناه» ولو اختص بإلزام العمل دون عهدته لقال : «في ذاته» دون «في عنقه» فثنائية الإلزام لا محيد عنها في هذا الإجمال ، وكما تفصلها : (وَنُخْرِجُ لَهُ ... اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ ... (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) حيث الأولى لزام عمله ، والأخيرة لزام عهدته يجمعهما : «خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه يوم القيامة بما عمل» (١) ف «يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٤٤ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الثاني وأبي عبد الله (عليهم السلام).

٩٧

الساعة» (١) ف «اعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في أجلهم» (٢). وفي القرآن آيات مفصلات في بقاء العمل وعهدته (٣) وفي الحديث تفسيرات وتأويلات للطائر (٤).

فلا تعني «طائره» سعادته وشقاوته ، فإنهما ليستا بمقدرتين إلا حسب سعيه ، تقدير اختيار دون اجبارا (٥) كما لا تعنى انعدام عمله ولا سواه مما

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٤٤ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الثاني وأبي عبد الله (عليه السلام) في الآية : : الى ان قال : فلذلك (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) :

(٢) نهج البلاغة عن الامام علي (عليه السلام) من كلماته القصار (٦) :

(٣) فالآيات في (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) لا لزام العهدة ، والآيات في انعكاس الأعمال في نفس الإنسان وفي الآفاق لا لزام نفس العمل في الآفاق والأنفس (راجع سورة الزلزال والقارعة من الفرقان) :

(٤) نور الثقلين ٣ : ١١٤ في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلّم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) عن قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال : قدره الذي قدر عليه أقول : يعني قدر الاختيار حسب ما اختار من اعمال لا قدر الإجبار حتى يسير على قدره :

(٥) في الدر المنثور ٤ : ١٦٧ ـ اخرج ابن مردويه عن حذيفة بن السيد (رضي الله عنه) سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول في حديث تفصيل خلق الإنسان في الرحم :: ثم يقول الملك يا رب أشقي ام سعيد فان كان سعيدا نفخ فيه بالسعادة في آخر اجله وان كان شقيا نفخ فيه بالشقاوة في آخر اجله ثم يقول : اكتب اثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره الله به ثم يقول الملك يا رب ما اصنع بهذا الكتاب فيقول : علقه في عنقه الى قضائي عليه فذلك قوله (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ـ

أقول : «أشقي : : وان كان شقيا» يوحي بالشقاوة الآجلة بعد التكليف بالاختيار كما في السعادة ، وكتابة الشقاوة والسعادة هي كتابة التقدير لما يتقدره المكلف ، وكتابة عمل الطاعة والمعصية تعني تقديريهما كذلك ، وانهما سيلزمان في عنقه إبقاء لهما وعهدة عليه :

٩٨

خرفوا له او هرفوه ، اللهم إلا (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)!

وما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان طائره هو سعادته او شقاوته باعمالهما ليس ليعني إلا ما تعنيه الآية من إلزام العمل الملتزم بالاختيار دون إلزام الإجبار ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا قضاء أزليا يحتم على الإنسان سعادة او شقاء الا بما يحتّمه الإنسان على نفسه كما يحتمه اختيارا دون إجبار.

وترى ان «طائره» يختص عمله بجوارحه؟ ام وقوله فانه من عمله الطائر ، ام وعقيدته ونيته فإنهما من اعمال الجوانح كما تلكما من الجوارح؟ وهما ايضا طائرتان؟

إن الطائر كطائر يعمها كلها (١) فانه يحاسب بها كلها ولا سيما طائر العقيدة فانها تحصّل يوم يقوم الاشهاد كما يحصّل غيرها : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (١٠٠ : ١٠).

ولا يعني التحصيل هنا إلا تكريس ما في الصدور كتابا يقرأ تفهما دون سماع او إبصار ، تحصيلا لعقائد أو أفكار ونيات هي من طائر الصدور : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠) : فيا للإنسان من نفسه مسجلة تسجل مثلث القول والفعل والسريرة كما قال او فعل او أسر ، ومهما غفل ـ لطول الأمد ـ عما نوى او اعتقد او قال او اعتمل كشف عنه غطاءه يومئذ

__________________

(١) فالعمل إذا قورن بالقول والعقيدة دلت قرينته على ان العمل بالأركان فقط ، وإذا اطلق دون قرينة شمل قرينيه ، واما الطائر الموحي الى كيان العمل اثباتا مصدقا ، او نفيا في مثلثته ، فهو طائر اللسان والجوارح ، والفكر والعقيدة دون إبقاء :

٩٩

ليرى ما فعل : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) : بصر العين للمعاينة ، وبصر السمع للاستماع ، وبصر البصيرة لدرك ما نوى او اعتقد!.

فإنسان القرآن شاشة تلفزيونية ومسجلة للصوت والصورة والسيرة والسريرة وكتاب للصور والأصوات والسريرات :

(... وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً).

ولماذا «نخرج له» لا نخرجه؟ إن «له» هنا توحي بأن هذا الإخراج ليس إلا لعامله شهادة عينيه فجزاء وليس لله فانه يعلمه قبل الإخراج وهو الذي الزمه في عنقه! ولماذا «نخرج ... كتابا» دون «نخرجه كتابا» عله كيلا يتوهم ان الطائر يجعل كتابا يوم القيامة ولم يكن (١) فانما الكتاب هو الطائر والفرق بين نشأتيه انه في الأولى خفية مغفول عنها ، وفي الاخرى ظاهرة محتج بها : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢).

نخرج ما ألزمناه من طائره في عنقه ، نخرجه عنه يوم القيامة كتابا ... لم يكن ليمحى بما اندرست أوراقه حيث بلت ورمدت أعضاء الإنسان وهي أوراق هذا الكتاب! حيث استنسخه العلي القدير : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) كتاب يحير عقول المجرمين : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٨) وهو من أظهر

__________________

(١) فان الإخراج المركب يوحي بأن الحالة الثانية تختلف عن الاولى ، والإخراج غير المركب دليل الوحدة الحقيقية بين الطائر والكتاب.

١٠٠