الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

الملاهي التي تسمع ، من غناء ملهية وموسيقا اماهيه؟ وهي كلها صوت الشيطان وإن تسمعها عن انسان.

ولأن استفزازهم بصوته بحاجة الى تكريس القوات المضلّلة ، إذ ليس كل انسان بالذي يستفز بصوت الشيطان إلّا بمعدات ، فهنا لك خطوة اخرى.

(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) خطوة ثانية إبليسية لمن لا يحتنك بصوته : فالخيل والرجل هما الجند راكبا وماشيا ، وعلّهما كناية عن صورتي الجيش الشيطاني من راكب في نضاله الإضلال يسرع ، ومن ماش يبطئ ، فللشيطان جنود يحملون دعوته ودعايته من الجنة والناس الى الجنة والناس : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ : وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (٢٦ : ٩٧) من ذريته الجنة الشياطين : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (١٨ : ٥٠) ومن شياطين الإنس : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ...) (٦ : ١٢).

فالشيطان يستفزهم بصوته ويجلب عليهم بخيله ورجله من شياطينه ، والإجلاب هو الصيحة بقهر ، فمن لا يستفزه صوت دون صيحة ، يصيح عليه بقهر باذاعاته العدة التي يحملها خيله ورجله ، صيحات على مسامع آذانهم وعقولهم وقلوبهم ولحد الاستفزاز ، وهنا لك دركات لهذه الصيحات كما يقتضيها مختلف الاستفزازات على اختلاف الاستعدادات.

معركة صاخبة تتجسم فيها وسائل الغواية والسلطة الابليسية ، باستخدام مختلف الأصوات المستفزة جلية وخفية ، من أية إذاعة شيطانية ، إزعاجا للخصوم ، واستدراجا لهم للفخ المنصوب لهم ، فإذا استفزوا الى العراء أخذهم في احتناك واستحمرهم في ذالك العراك.

«فاحذروا عدو الله ان يعديكم بدائه وان يستفزكم بخيله ورجله ::

٢٦١

فلعمر الله فخر على أصلكم ووقع في حسبكم ودفع في نسبكم واجلب عليكم بخيله وقصد برجله سبيلكم يقتنصونكم بكل مكان ويضربون منكم كل بنان ، لا يمتنعون بحيلة ولا يدفعون بعزيمة في حومة ذل وحلقة ضيق وعرصة موت وجولة بلاء» (١) :

وفي ذلك الأمر الإمر استهانة بمكره ، وإقلال الحفل بخدائعه ، ثم وليس له ـ في الحق ـ خيل ورجل لا نراهما ، فانه خلاف العدل ، وخلاف الواقع الملموس ، فانما كل راكب في معصية الله ، مرّغب فيها سواه هو من خيله وعملائه ، وكل ماش فيها هكذا هو من رجله ، من شياطين الجن والإنس.

(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) خطوة ثالثة في احتناكهم باحتكاكهم في الأموال والأولاد ، فما ذا تعني مشاركتهم في الأموال والأولاد؟ ومن الأموال والأولاد ما تختص بالشيطان ومنها ما تشترك؟

هذه الشركة تتمثل في الأموال والأولاد التي تحصل بغير حق او تصرف في غير حق ، او يجمع فيها بينهما من باطل الى باطل ، ام تجمّد وتكتنز بباطل.

فأية حالة باطلة في مال او ولد ـ وهما قوام الحياة الإنسانية ـ إنها شركة شيطانية ، اختص بها الشيطان أم شارك فيها ، كما الشرك بالله ، إذ لا يعني ـ فقط ـ ان يعبد الله مع خلقه ، بل وان يعبد خلقه دونه كالكثيرين من المشركين.

إن مثلث التحصيل والصرف والكنز للمال حراما ، تماما او بعضا ، كلّه من شرك الشيطان ، فلشرك الشيطان ـ أيا كان ـ دركات كما لتوحيد

__________________

(١) نهج البلاغة السيد الشريف الرضي عن الامام علي (ع).

٢٦٢

الرحمن والايمان درجات ، فأسفل الدركات في الأموال ثالوث المحرّم تحصيلا وصرفا وكنزا دون حلّ فيه ، وأعلاها المحرم في واحد على حلّ فيه وبينهما متوسطات.

كما الأسفل في الأولاد هو الاستيلاد بالسفاح (١) ثم التربية الشيطانية ، ثم الاستعمال في مختلف الشيطنات ، والأعلى نكاح محرم على حلّ ، او تربية او استعمال فيه شرك شيطان وبينهما متوسطات ، وقد يشمل النكاح دون ذكر الله لكي يصبح الولد صالحا متحللا حياته عن شرك الشيطان (٢).

فأية حالة شيطانية في الأموال والأولاد هي من شرك الشيطان أيا كان ، وقليل هؤلاء الذين يتخلصون عن أي شرك للشيطان ، وهم عباد الله المخلصون ثم المخلصون وهم قلة اللهم اجعلنا من هذه القلة.

ومن شرك الشيطان بغض الامام علي (عليه السلام) حسب المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث يقول : «والله يا علي لا يبغضك من قريش إلا سفاحيا ولا من الأنصار إلا يهوديا ولا من العرب إلا دعيا ولا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٨٤ ح ٢٩٥ تفسير العياشي عن عبد الملك بن اعني قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول : إذا زنى الرجل ادخل الشيطان ذكره ثم عملا جميعا ثم تختلط النطفتان فيخلق الله منهما فيكون شركة الشيطان.

(٢) المصدر ص ١٨٥ ح ٣٠٠ عن يونس بن أبي الربيع الشامي قال كنت عنده (الباقر ع) ليلة فذكر شرك الشيطان فعظمه حتى افزعني فقلت جعلت فداك فما المخرج منها وما نصنع؟ قال : إذا أردت المجامعة فقل بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا اله الا هو بديع السماوات والأرض اللهم ان قضيت مني في هذه الليلة خليفة فلا تجعل للشيطان فيه نصيبا ولا شركا ولا خطأ واجعله عبدا صالحا خالصا مخلصا مصغيا وذريته جل ثناءك.

٢٦٣

من سائر الناس إلا شقيا ولا من النساء إلا سلقلقية وهي التي تحيض في دبرها ... (١)».

(وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) ... خطوة رابعة من خطوات الشيطان الوعد الكذب الغرور ، فإنه كاذب غرور.

__________________

(١) ملحقات الأحقاق ج ١٤ : ٦٥٥ ـ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج ١ : ٣٤٣ ط بيروت بسند متصل الى جابر بن عبد الله الأنصاري عن علي (ع) قال : كنا مع النبي (ص) إذ أبصر برجل ساجد راكع متطوع متضرع فقلنا يا رسول الله (ص)! ما احسن صلاته؟ فقال : هذا الذي اخرج أباكم آدم من الجنة فمضى اليه علي غير مكترث فهزه هزا ادخل أضلاعه اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ثم قال : لأقتلنك ان شاء الله فقال : لن تقدر على ذلك ان لي أجلا معلوما من عند ربي ما لك تريد قتلي؟ فو الله ما أبغضك احد الا سبقت نطفتي في رحم امه قبل ان يسبق نطفة أبيه! ولقد شاركت مبغضك في الأموال والأولاد وهو قول الله في محكم كتابه (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) فقال النبي (ص) صدقك والله يا علي! الا يبغضك ... ثم اطرق مليا فقال : معاشر الأنصار! اعدوا أولادكم على محبة علي ، قال جابر : كنا نبور أولادنا في وقعة الحرة بحب علي فمن أحبه علمنا انه من أولادنا ومن أبغضه اشفينا منه.

وبإسناد متصل آخر من حبة العرفي ، قال سمعت علي بن أبي طالب يقول : دخلت على رسول الله (ص) في وقت كنت لا ادخل عليه فيه فوجدت رجلا جالسا عنده مشوه الخلقة لم أعرفه قبل ذلك فلما رآني خرج الرجل مبادرا قلت يا رسول الله (ص) : من ذا الذي لم أره قبل ذي؟ قال : هذا إبليس الابالسة سألت ربي ان يرينيه وما رآه احد قط في هذه الخلقة غيري وغيرك قال (ع) فعدوت في اثره فرأيته عند أحجار الزيت ، فأخذت بمجامعه وضربت به البلاط وقعدت على صدره فقال : ما تشاء يا علي؟ قلت : أقتلك قال : انك لن تسلط علي قلت : لم؟ قال : لأن ربك انظرني الى يوم الدين خل عني يا علي فان لك عندي وسيلة لك ولأولادك قلت : وما هي؟ قال : لا يبغضك ولا يبغض ولدك احد الا شاركته في رحم امه ليس الله يقول (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ)؟

وبإسناد متصل عن جعفر بن محمد في حديث عبد الرحمن بن كثير قلت جعلت فداك بأيش تعرف ذلك (يعني شرك الشيطان) قال : بحبنا وبغضنا ... قال الحسكاني : والرواية في هذا الباب كثيرة وهي في كتاب طيب الفطرة في حب العترة مشروحة.

٢٦٤

«عدهم» هنا يعم الوعد الخير والوعيد الشر ، وعدا يمنّيهم ترغيبا الى الشهوات : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٤ : ١٢٠) ووعيدا ترهيبا عن المكرمات : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً : :) (٢ : ٢٦٨).

ثم ولا يخص وعده ترغيبا وترهيبا يوم الدنيا ، بل وكذلك الأخرى ، وعدا يشككهم في الآخرة ، وآخر يرجيّهم رحمة الله فيها ام يغلّب رجاءهم على خوفهم ، وثالثا بمغفرة في شفاعة اماهيه ، وقد تعنيهما فيما تعنيه (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) (٧ : ١٧) حيث الآخرة هي (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) إذ يستقبلونها متجهين إليها ، والدنيا هي «من خلفهم» إذ يستدبرونها مولّين عنها.

ووعد الشيطان أيا كان ليس إلّا غرورا فانه غرور (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٥ : ٥) ـ (٣١ ـ ٣) ..

خطوات اربع كبريات تحمل كافة الشيطنات ، وهي هي مجالات واسعة النطاق للسلطات الشيطانية ، لا ينجو منها إلّا عباد الله الخصوص ، واما عباد الشيطان فلا عنت له في تمشيتهم فيها ، والعباد المشركون المشتركون يمشّيهم كما يتمشون فيأخذ نصيبه منهم كما يحتنكون ، ثم يتخلص العباد المخلصون بالله والمخلصون لله :

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٦٥) :

ولو لا الوكالة الربانية ل «عبادي» المخلصين المختصين بالله لم يتخلصوا عن خطوات الشيطان ، فلا كفاية للإنسان أيا كان إلّا بهذه الوكالة.

ف «عبادي» تلمح بذلك الإختصاص ، أنهم هم الذين وقفوا أنفسهم في الله

٢٦٥

لعبادة الله ، وطاوعوا في ذوات نفوسهم لطاعة الله ، واستعاذوا في كل ذلك بالله ، بعد ما قدموا طاقاتهم كلها لسلوك سبيل الله ، فمنهم من اصطفاهم الله برسالاته فعصمهم عن الأخطاء كلها ، تلقيا من الله وإلقاء وتطبيقا. فهم معصومون في هذا المثلث البارع ...

ومنهم من أيدهم وسدّدهم دون تلكم العصمة البارعة فخلصهم من سلطان الشيطان دون العصمة العلمية ، وقد يعنيهما «عبادي» هنا مهما اختص المعصومون في مجالات أخرى : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١٥ : ٤٠) كدرجة اولى ورتبة أعلى من «عبادي» ، ومن ثم درجة ثانية ليسوا من الغاوين مهما لم يكونوا من المخلصين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)

فعباد الله الخالصون لله مخلصين كانوا ام مخلصين ليسوا من الغاوين ، فلا سلطان عليهم من شيطان ، (١) ولا على غيرهم إلّا دعوة ودعاية متحللة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٨٥ ح ٣٠٢ في تفسير العياشي عن جعفر بن محمد الخزاعي عن أبيه قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يذكر في حديث غير خم انه لما قال النبي (ص) لعلي (ع) ما قال واقامه للناس صرخ إبليس صرخة فاجتمعت له العفاريت فقالوا : سيدنا ما هذه الصرخه؟ فقال : ويلكم يومكم كيوم عيسى والله لأضلن فيه الخلق ، قال : فنزل القرآن (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) «فقال : فصرخ إبليس صرخة فرجعت اليه العفاريت فقالوا : يا سيدنا ما هذه الصرخة الأخرى؟ فقال : ويحكم حكى الله والله كلامي قرآنا وانزل عليه (وَلَقَدْ صَدَّقَ ...) ثم رفع رأسه الى السماء ثم قال : وعزتك وجلالك لا لحقن الفريق بالجميع ، قال فقال النبي (ص) بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قال : فصرخ إبليس صرخة فرجعت اليه العفاريت فقالوا : يا سيدنا ما هذه الصرخة الثالثة؟ قال : والله من اصحاب علي ولكن وعزتك وجلالك لأزينن لهم المعاصي حتى ابغضهم إليك قال : فقال ابو ـ

٢٦٦

عن البرهان : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ...) (١٤ : ٢٢) فلأن دعوته توافق الشهوة لا يطلب منه عليها دليل.

__________________

ـ عبد الله (ع) : والذي بعث بالحق محمدا للعفاريت والأبالسة على المؤمن اكثر من الزنابير على اللحم والمؤمن أشد من الجبل والجبل تدنوا اليه بالفأس فتنحت منه والمؤمن لا يستقل عنه دينه.

٢٦٧

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ

٢٦٨

وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)(٧٧)

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(٦٦).

الرب الوكيل الكافي هو (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) والإزجاء هو الدفع للانسياق ، ف «ربكم» يدفع الفلك لصالح الناس ابتغاء فضله ، دفعا بالرياح قوات اخرى بترولية اماهيه ل «انه كان» قبل

٢٦٩

خلقكم (بِكُمْ رَحِيماً) وإزجاء الفلك هو من مظاهر الرحمة الرحيمية الربانية.

أنتم تنساقون على الفلك بتنسيق الرب ، فكونوا في الحياة كلّها على النسق الذي يسوقكم الرب ، ولا تدعوا من دونه أربابا ، لكنكم توحدونه عند الضر وتشركون به حين النجاة.! (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)(٦٧).

هنا لك إزجاء رخي بغية الرحمة ، وهنا اضطراب عتي ، مشهد لطيف عطيف يجمع بين الرخاء الرجاء ، ومكابدة العناء ، حيث تحس القلوب الواجفة المتعلقة بكل رجفة وهزة كالريشة الصغيرة الهزيلة في مهب الرياح القاصفة على ثبج البحار والموج الجبار! (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) في خضمّ هذه الرحمة المزجية «ضل» عن قلوبكم ونفوسكم وتعلقاتكم (مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) حيث القلوب حالة الرخاء متعلقة بالله وسواه ، تحسب أن لمن سوى الله دخلا في نجاة ونجاح ، فإذا وقع في واقع منقطع عمن سوى الله كالبحر الملتطم ، ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وسناد إلّا الله ، إذ لا يرى إلّا الأمواج ، وحينذاك تظهر بارقة الفطرة المتعلقة في عمقها بالله ، ويبرز رجاء واحد ليس إلّا بالله ، رغم خفاءه عن الأبصار ، وجلاء سواه للأبصار ، فهنا تتفتح البصيرة المغشية وتغمض الأبصار ، ويظهر الرب للبصائر كالشمس في رايعة النهار!.

(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) ... فحين تنجلي الغمرة ينمحي نور الفطرة حيث الإنسان هو الإنسان كأن كيانه النسيان ، يضل هنا عنه الله ، كما ضل عنه قبله من سواه ، حيث تتقاذفه الأهواء ، وتتجاذبه الى غير الله

٢٧٠

فيعرض عن الله.

(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كأنه يضرب الى عمق الماضي في عمق الذات ، رغم أن الذات الفطرة متجهة الى الله ، ولكنما اللّذات والشهوات تحول دون المقام في مقام الذات! ..

وهكذا يكون الإنسان النسيان ، يذكر ربه وحده حين البأساء والضراء ، وينساه حين النعماء ، فليذكر أنه هو ربه لا سواه ، حين يضل من يدعوه إلّا إياه.

هذا البحر الملتطم نجوتم من ضره الى بره ثم أعرضتم ، فهل أنتم آمنون من ضر البرّ؟! (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً)(٦٨).

فأين الأمن (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) (٢٩ : ٤٠) وكما في قارون : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) (٢٨ : ٨١).

ليس هول الغرق منحصرا في البحر منحسرا عن جانب البر ، فأنتم الآن نجوتم عن البحر الى البر فما ذا يأمنكم (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) فلما ذا أعرضتم عن الله وأنتم بعد عرضة الخسف وهو أشد وأنكى؟ ... أنتم في قبضة الله في البحر والبرّ ، ولا أمن عن غرق في البحر أم خسف بزلزال وبركان في البرّ (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) : ريحا مهلكة ترمي بالحصباء والحصا ، عاصفة بركانية ام ماذا؟ تقذفكم بالحمم والماء والطين والأحجار!فأنتم الهزالى الأذلّاء في مثلث الغرق بحرا وبرا ام جوا (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) ينجيكم عن غرقكم.

٢٧١

هب إنكم أمنتم البرّ حالا كما امنتم البحر ترحالا فما ذا يامنكم ان يعيدكم الى ضر البحر؟.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٦٩).

وهب إنه أمهلكم في البحر فما أغرقكم ، ثم أمهلكم في البر فما خسف بكم ولا أرسل عليكم حاصبا ، فكيف تأمنون ان يعيدكم في البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح تقصف الصواري وتحطّم السفن ، ثم لا تجدوا لكم علينا بقاصف البحر تبيعا يلاحق في نجاتكم؟

أيتها الحشرة الهزيلة الذليلة ، العائشة بين أخطار الغرق والخسف والحاصب والقاصف ، بحرا وبرا وجوا ، لماذا هذه الغفلة الحمقاء ، هذا الكفران المتواصل في النكران والعصيان ، وهنا لك القدرة الإلهية تتصدى لك ثم لا تجد عليه وكيلا ولا تبيعا؟!

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠).

آية عديمة النظير في صيغة التعبير ، إذ تحمل بعدين بعيدين للمحتد الإنساني ومنزلته على «من خلق» ككل : (كَرَّمْنا ... (فَضَّلْناهُمْ ...)!.

كرامة مطلقة بين «من خلق» في تأكيدات ثلاث : «ل» «قد» ـ «كرمنّا» : فالتكريم يفوق الإكرام عدة وعدة ، ثم «ولقد» يؤكده مرتين ، بينها الملائكة المعصومون (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢١ : ٢٦) خلوا عن هذه الثلاث ، ومن ثم «نا» في كرمنا هذه حيث تعني جمعية الصفات.

وفي سائر القرآن تصريحات وتلميحات بهذه الكرامة العليا للإنسان ، فانه في التين (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وفي الأنبياء (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)

٢٧٢

وفي آيات عدة مسجود الملائكة أجمعين ، ثم لا نجد للملائكة ولا تلميحة على هذه الكرامة المطلقة! أليس لأنه في أعلى قمم القوامة وأحسنها بكلّه وجزئيه ، وان خلقه في سائر الخلق استوجب توصيف الخالق ب (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وكما هو أحسن من سائر الخالقين في خلقه أجمعين.

ولو لم يكن مفضلا على الملائكة أجمعين لما أمروا ان يسجدوا له أجمعين ، وقد أمروا! ولان في صلبه أهل بيت الرسالة المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن حذى حذوهم من المؤمنين (١).

ذلك التكريم الرباني لبني آدم كما يشمل جزئيهم قلبا وقالبا في أصل الخلق ، كذلك في كرامة التقوى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فلو لم يكن فيهم الأتقى لم يكن ذلك التكريم : «والملائكة خدام المؤمنين» (٢) ثم

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٨٨ ح ٣١٧ علل الشرايع عن الامام علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب (ع) عن النبي (ص) حديث طويل يقول فيه «فإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا. يا علي! الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا. يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ولا حوا ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض وكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم الى معرفة ربنا وتسبيحه وتقديسه ان الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وامر الملائكة بالسجود تعظيما لنا وإكراما وكان سجودهم من الله عز وجل عبودية ولآدم إكراما وطاعة لكوننا في صلبه فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون؟

(٢) المصدر ١٨٩ ح ٣٢٠ في اصول الكافي عن أبي جعفر (ع) قال : ما خلق الله عز وجل خلقا أكرم على الله عز وجل من مؤمن لأن الملائكة خدام المؤمنين وان جوار الله للمؤمنين وان الجنة للمؤمنين وان الحور العين للمؤمنين ...» وفي الاحتجاج عن النبي (ص) يا رسول الله (ص) أخبرنا عن علي هو أفضل ام ملائكة الله المقربون؟ فقال رسول الله (ص) : وهل شرفت الملائكة الا بحبها لمحمد وعلي وقبول ولايتهما؟ انه لا احد من محبي علي (ع) نظف قلبه من الغش والدغل والعلل ونجاسة الذنوب الا كان اطهر وأفضل من الملائكة.

٢٧٣

ويشمل النشأتين الدنيا والآخرة ، تكريما في مثلث قاعدته التقوى ، وهي تتبنى تكريمه تكوينا ، وتنتج تكريمه في ميزان الله دنيا وعقبى!.

وأهمّ المظاهر في هذا التكريم نراه في «حملناهم ـ رزقناهم ـ فضلناهم» وإن كان الأخير يحمل حملهم ورزقهم أم ماذا؟.

(وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) حملا فيهما مع بعض على سفينتنا الفضائية في خضمّ البحر : الفضاء المحيط : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٧٧ : ٢٥)!

وحملا في البحر لبني آدم كلهم في الفلك المشحون : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٦ : ٤١) حملناهم وهم ذرية في تلكم الأصلاب : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (٦٩ : ١١).

وحملا فيه لركاب البحر على مرّ الزمن على السفن فوق البحرية وتحت البحرية ، وحملا في البر بمختلف الحمولة الحيوانية وسواها (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦ : ٨) فهم في رباعية الحمل برا وبحرا ام ماذا؟.

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ما تستطيبه النفس السليمة الإنسانية مأكلا ومشربا ومسكنا ومنكحا إمّا ذا من متطلبات الحياة ، أو أنها ككلّ حياة طيبة في كافة جنباتها : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (١٦ : ٩٧) ومن أفضلها طيبة النفس ، وطيبة الذرية : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) (٣ : ٣٨) وأن يصبح الإنسان كلمة طيبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (١٤ : ٢٤) : فمن أفضل الرزق الطيب العلم (١) وقد فضل فيه الإنسان على

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٧٨ ح ٣٠٧ تفسير القمي عن أبي جعفر (ع) ان الله لا يكرم روح ـ

٢٧٤

الملائكة كما في آدم ، فرزق الإنسان كحيوان مفضل على سائر الحيوان ، ورزقه كإنسان مفضل على من في عالم الإمكان ، اللهم إلّا من يوازيه من القلة في هذه الكرامة.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)

هنا تفضيل لبني آدم على كثير ، فهناك قليل لم يفضّلوا عليهم ، فمن هم ، وهل هم أمثالهم في الفضل ام هم مفضّلون عليهم؟ ...

آية التين حيث تجعل خلق الإنسان في أحسن تقوم ، وهي تصريحة قيّمة انه لا أحسن منه ، ولو لا آية التفضيل لكان الإنسان في قمة لا توازى ، ولكنها تستثني قليلا ، فهم كالإنسان في أحسن تقويم ، ولا نعرفهم حتى الآن من هم.

ويكفي أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وأن في ذريته آل بيت الرسالة المحمدية ، أنهم ككلّ أفضل من الملائكة.

ولاننا لا نجد هذه القلة هنا فهم من ساكني سائر الأرضين ام سائر الكرات كما لمحت لهم آية الشورى (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٤٥ : ٢٩).

ذلك التكريم وهذا التفضيل يجعلان الإنسان في قمة التكوين بأحسن تقويم في صورته وسيرته ، لو تبنّاه بطاقاته وإمكانياته لأصبح في أحسن تقويم ثان ، كما أنه في تغافله وتجاهله عن أحسنه في التكوين يرد إلى أسفل سافلين ، فلا أحسن منه إن أحسن ، ولا أسفل منه ان سفل! «فمن

__________________

ـ الكافر ولكن كرم أرواح المؤمنين وانما كرامة النفس والدم بالروح والرزق الطيب هو العلم.

٢٧٥

غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم» (١).

فالصورة الانسانية ككلّ بجزئيه «هي أكرم الصور على الله» (٢) ف «الحمد لله الذي خلقني فأحسن خلقي وصورني فأحسن صورتي وزان مني ما شان من غيري واكرمني بالإسلام» (٣).

وكونها أكرم الصور تلمح أن القليل الموازي للإنسان هو ايضا في تقويم الإنسان مهما سمي باسم الإنسان ام سواه ، إلّا ان لأهل بيت الرسالة المحمدية فضيلة تفوق الفضائل ، فلا أحد يساويهم أو يساميهم في العالمين.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢).

تلكم الكرامة والفضيلة سلبا وإيجابا في تبني العقائد والأعمال تسرح في مسرح القيامة ، مشهد يشهد فيه كل أناس ما قدم وما أخر ، فانه يوم الطامّة التامة.

__________________

(١) المصدر ح ٣١١ : في علل الشرايع باسناده عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله (ع) فقلت : الملائكة أفضل ام بنو آدم؟ فقال قال امير المؤمنين (ع) : ان الله عز وجل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة وركب في البهائم شهوة بلا عقل وركب في بني آدم كليهما فمن غلب عقله ...».

(٢) المصدر ح ٣١١ في كتاب الخصال فيما علم امير المؤمنين (ع) أصحابه : إذا نظر أحدكم في المرآة فليقل ...

(٣) نور الثقلين ٣ : ١٨٧ ح ٣٠٨ تفسير القمي عن علي (ع) في حديث «... فاما ملك منهم ففي صورة الآدميين وهي أكرم الصور على الله ...».

٢٧٦

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أناس الخير الناس يدعون بإمام الخير ، وأناس الشر النسناس يدعون بإمام الشر!

ففي واجهة الخير رسول كل أناس إمامهم ، وخلفائه أئمتهم ، وكتاب شرعتهم إمامهم ، وكتاب اعمالهم إمامهم وكما يروى عن إمام الأئمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم» (١) وكذلك واجهة الشر ، حيث الإمام هو من يؤتم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

فكلّ رسول من اولي العزم الخمس يدعى به اناسه ، وكلّ إمام من خلفاء الرسول (عليهم السلام) يدعى به قرنه كما يدعى الكل برسولهم (٢) ، وكل كتاب من الخمس يدعى به أتباعه ، كما وكل كتاب من كتب الأعمال يدعى به ناسه واناسه وكتاب السقوط والنجاح نتيجة حساب الأعمال.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٤ ـ اخرج ابن مردويه عن علي (ع) قال قال رسول الله (ص) (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) قال : يدعي ... وأخرجه في عيون الأخبار عن الرضا (ع) عنه (ص) ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٩٠ ح ٣٢٥ في محاسن البرقي ... عن يعقوب بن شعيب قال : قلت لأبي عبد الله (ع) (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) فقال : يدعوا كل قرن من هذه الأمة بإمامهم. قلت : فيجيء رسول الله (ص) في قرنه وعلي (ع) في قرنه والحسن في قرنه والحسين في قرنه الذي هلك بين أظهرهم به قال : نعم.

أقول : ولكن قرن الرسول يعم القرون كلها وهم الأمة الاسلامية اجمع كما في ٣٢٩ عن عبد الله بن غالب عن أبي جعفر (ع) قال : لما نزلت هذه الآية (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) قال المسلمون يا رسول الله (ص) الست امام الناس كلهم أجمعين! قال : فقال رسول الله (ص) انا رسول الله الى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من اهل بيتي يقومون في الناس فيكذبون وتظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وانا منه برىء.

٢٧٧

أئمة خمس لمن هي له ، واربعة لمن عاش رسوله دون خلفائه.

الرسول لكل ناس هو الإمام الناطق الأصيل وكتابه هو الإمام الصامت الأصيل ثم خلفاء كل رسول هم الفرع الناطق (١) ، وسنته هي الفرع الصامت ، ومن ثم كتاب الأعمال إمام صاحبه حيث يأتم به يوم الجزاء ، فالأعمال أئمة تقود أصحابها بخيرها وشرها في الآخرة الأوفى وفي الدنيا أحيانا ، كما كتب النجاح والسقوط أئمة.

وقد نطق القرآن بامامة كلّ من الخمسة ، فكتاب الأعمال من إمام مبين : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٣٦ : ١٢) وكتاب النجاح او السقوط : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٦٩ : ١٩ و ٢٥).

وكتاب الوحي إمام : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) (٤٦ : ١٢) فباحرى القرآن إمام بل هو إمام الأئمة من سائر الوحي.

ورسول الوحي امام : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٢ : ١٢٤)

__________________

(١) ملحقات الأحقاق ١٤ : ٦٣٧ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج ١ ص ٤١٦ ط بيروت عن الحسين بن سعيد عن الحسن بن سماعة عن حبان عن ابان بن تغلب سألت جعفر بن محمد (ع) عن قول الله تعالى (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قال : نحن اهل البيت وبسند آخر عن أبي هارون عن أبي سعيد في قوله (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قال : علي (ع).

وفيه قدم ورد (توصيفه (ص) عليا بالإمامة بعناوين مختلفة وقد تقدم نقل الأحاديث المأثورة عنه (ص) في انه الامام بعده في ٤ : ٨٦ وامام كل مسلم ٤ : ٣٣١ وامام الأمة ٤ : ٩٣ ، ١٤٩ ، ١٦١ ، ٣٣٠ وامام الأتقياء ٤ : ١١٨ وامام كل مؤمن ومؤمنة ٤ : ١٣٩ وامام من أطاع الله : ١٦٧ وامام القوم ٤ : ٢٨٤ وامام المسلمين (٤) : ٢٨٤ وامام من يدخل الجنة ٤ : ٢٨٩ وامام الأولين والآخرين ٤ : ٣٦٢ وامام المتقين ٤ : ١١ ـ ٢٠ و ٩٩ و ٢٨٤ و ٣٣٤ و ٣٨١.

٢٧٨

فباحرى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فانه إمام الأئمة من سائر حملة الوحي : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٢١ : ٧٣).

وورثة الرسل أئمة بعدهم بالوراثة النيابية : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥ : ٣٢)(١).

ولا يخلو أي زمان من إمام ناطق بالحق إما ظاهرا او غائبا : «اللهم انك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علما لعبادك ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك وجعلته الذريعة الى رضوانك وافترضت طاعته وحذرت معصيته ، وأمرت بامتثال امره والانتهاء عند نهيه ولا يتقدمه متقدم ولا يتأخر عنه متأخر» (٢).

وترى ان إمام كل أناس هو كل من افترض عليهم طاعته وإن لم يطيعوه؟ فلا يدعى إذا باي امام ضال؟ والدعوة تعم أئمة الهدى وأئمة الضلال! ام يدعى كل أناس بمن اعتقدوه لهم إماما وان لم يعتمدوه عمليا؟ والائتمام لا يخص جانب العقيدة ، فانه الايمان والعمل الصالح (٣)! فالإمام الناطق والصامت من هاد او مضل هو المقتدى عقيديا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٩٤ ح ٣٤٤ عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : أنتم والله على دين الله ثم تلا (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ثم قال : علي امامنا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) امامنا. كم من امام يجيء يوم القيامة يلعن أصحابه ويلعنونه ونحن ذرية محمد وامنا فاطمة.

(٢) عن الصحيفة السجادية عن الامام السجاد (عليه السّلام).

(٣) المصدر ح ٣٢٧ في كتاب الخصال باسناده الى الأصبغ بن نباتة قال : أمرنا امير المؤمنين (عليه السّلام) بالمسير الى المدائن من الكوفة فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر فخرجوا الى مكان بالحيرة يسمى الخورنق فقالوا : نتنزه فإذا كان الأربعاء خرجنا فلحقنا عليا قبل ان يجمع ، فبينا هم يتغذون إذ خرج عليهم ضب ـ

٢٧٩

وعمليا بدرجاتهما ، وكتاب الأعمال هو مسجلة الصور والعقائد والأصوات

__________________

ـ فصادوه فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه وقال : بايعوا هذا امير المؤمنين فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم وارتحلوا ليلة الأربعاء فقدموا المدائن يوم الجمعة وامير المؤمنين (عليه السلام) يخطب ولم يفارق بعضهم بعضا وكانوا جميعا حتى نزلوا على باب المسجد فلما دخلوا نظر إليهم امير المؤمنين (عليه السلام) فقال : ايها الناس ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسر الي الف حديث في كل حديث الف باب لكل باب الف مفتاح واني سمعت الله جل جلاله يقول (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) واني اقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب ولو شئت ان اسميهم لفعلت قال : فلقد رأيت عمرو بن حريث سقط كما تسقط السقفة حياء ولوما.

وفي مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): قال الله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) اي من اقتدى بمحق قبل وزكى.

وفي الخرائج والجرايح في أعلام أبي محمد العسكري قال ابو هاشم بعد ان روى كرامة له (عليه السلام) فجعلت أفكر في نفسي عظم ما اعطى الله آل محمد وبكيت فنظر الي وقال : الأمر أعظم مما حدثت به في نفسك من عظم شأن آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاحمد الله أن يجعلك متمسكا بحبلهم تدعى القيامة بهم إذا دعي كل أناس بإمامهم إنك على خير» وح ٣٣١ في رجال الكشي عن حمزة بن الطيار قلت لابي عبد الله جعلني الله فداك لو فلقت رمانة فاحللت بعضها وحرمت بعضها لشهدت ان ما حرمت حرام وما أحللت حلال فقال : حسبك ان تقول بقوله وما انا الا مثلهم لي ما لهم وعلي ما عليهم فان أردت ان تجيء مع الذين قال الله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) فقل بقوله. وح ٣٤٥ عن إسماعيل بن همام قال الرضا (عليه السلام) في الآية إذا كان يوم القيامة قال الله : أليس عدل من ربكم ان تولوا كل قوم من تولوا؟ قالوا بلى قال : فيقول : تميزوا فيتميزون و ٣٤٦ عن محمد بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان كنتم تريدون ان تكونوا معنا يوم القيامة لا يلعن بعضنا بعضا فاتقوا الله وأطيعوا فان الله يقول : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ).

أقول : هذه الأحاديث كلها دليل على أن إمام كل أناس هو من يأتمون به عقائديا وعمليا دونما ادعاء خاو!

٢٨٠