الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

كما كانت وصدرت ، وكتاب النجاح او السقوط هو حصيلة الحساب في كتاب الأعمال.

فالطاهر يدعى بإمام طاهر والغادر بغادر «يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مايلا شدقه حتى يدخل النار» (١).

وهل الكتاب المؤتى هنا باليمين هو كتاب الأعمال؟ فيقرأه كل بصير وأعمى حجة له او عليه : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٤)؟ وهنا القراءة لمن يؤتاه بيمينه ، وغيره أعمى لا يستطيع قرائته!.

ام هو كتاب السقوط او النجاح؟ وليقرءه كلّ ساقط وناجح : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (٦٩ : ٢٦) وهنا الأعمى لا يقرء كتابه! او هو يقرء عذابا فوق العذاب.

او هو كتاب شرعته الإلهية حيث توجّب عليه اتباعها (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) يوم الاخرى كما قرءوه يوم الدنيا فهو هنا بصير كما كان هناك بصيرا ـ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) (لدنيا) «أعمى» لم ينظر الى كتاب شرعته ، او نظر وبسر وأدبر واستكبر ، ام اي نظر لم تلحقه عقيدة او عمل (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) لا ينظر الى كتاب شرعته مهما حاول (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) إذ كان له في الدنيا أن ينظر ولم ... وليس له هنا ان ينظر ولن (٢) وقد كان له في الدنيا توبة ما دام فيها أن ينظر بعد ما ترك،

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٩٢ ح ٣٣١ ـ الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

(٢) المصدر ح ٣٥٨ عن ثواب الأعمال باسناده الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال : ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله عز وجل يوم القيامة أعمى فيقول : ـ

٢٨١

ولا يفيده هنا النظر فلا ينظر ، ولا ينظر ولو نظر (١).

وقد تعني وحدة الكتاب «كتابه» وحدته الشخصية فإما كتاب الشرعة او كتاب النجاح ، ام وحدته في الحقيقة فيشملهما حيث النجاح او السقوط من مخلّفات تطبيق كتاب الشرعة وعدمه.

وترى إذا كان في الآخرة أعمى فكيف يقرء كتاب عمله او كتاب سقوطه ، او يترائى اهل النار واهل الجنة؟

الجواب ان العمى هنا لك نسبية وقتية ، فقد يعمى وقد يبصر وكلاهما عذاب فوق العذاب ، وهو فيها أعمى القلب مهما يبصر. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢٠ : ٩٧). (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١٧ : ٩٧).

فمهما هم يحشرون عميا وبكما وصما ، عميا ، عن كتاب الشرعة ، وبكما عن الحجاج واللجاج ، وصما عما يلذ ، ولكنهم يرون كتاب أعمالهم وسقوطهم عذابا فوق العذاب ، كما حشرهم عميا وبكما وصما عذاب فوق العذاب ، وسماعهم لما يسمعون ونطقهم بما يتكلمون عذاب فوق

__________________

ـ (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)فيؤمر به الى النار.

(١) المصدر ح ٣٤٠ في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه إذا كان يوم القيامة يدعى كل بإمامة الذي مات في عصره ، فان انتبه اعطى كتابه بيمينه لقوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) فان اوتي كتابه بيمينه (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ... إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) الآية والكتاب الامام فمن نبذة وراء ظهره كان كما قال نبذوه وراء ظهورهم ومن أنكره كان من اصحاب الشمال قال الله (ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ ـ

٢٨٢

العذاب ، فلا هم هناك صم بكم عمى ما هم هنالك ، ولا هم يسمعون ويتكلمون ويرون ما هم هناك ، فقد يعذبون عذابا فوق العذاب فقدانا لهذه ، وقد يعذبون وجدانا لها ، مهما كانوا عميا عن الحقائق الموجودة» (١).

وتراهم يقرءون كتابهم إن كانوا من أصحاب اليمين ولا يظلمون فتيلا ، فهل يظلم اصحاب الشمال العمى كما لا يقرءون كتابهم؟

كلّا! (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤٠ : ١٧) وقد اختص هنا أصحاب اليمين بنفي الظلم لأنهم بذلك أحق وأحرى.

وقد لا يعني (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) عمى من قراءة كتابه ألّا يستطيعها ، وإنما عمى القلب عن الحقائق الموجودة (٢) مهما قرء كتاب شرعته وأعماله وسقوطه ، فالآخرة نسخة كاملة عن الدنيا باعمالها حيث تظهر فيها

__________________

ـ مِنْ يَحْمُومٍ) الى آخر الآية أقول : من استدلاله (عليه السلام) بقوله تعالى (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ...) يعرف أنه كتاب الشرعة ، وعلما مراد ان في الآية.

(١) نور الثقلين ٣ : ١٩٥ ح ٣٥٠ في عيون الاخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع اهل الأديان والمقالات في التوحيد كلام الرضا (عليه السلام) مع عمران وفيه : إياك وقول الجهال اهل العمى والضلال الذي يزعمون ان الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عز وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة ابدا ولكن القوم تاهوا وعموا عن الحق من حيث لا يعلمون وذلك قوله عز وجل : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) يعني أعمى عن الحقايق الموجودة.

(٢) المصدر ح ٣٥٢ في كتاب التوحيد باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) قال : من لم يدله خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات على ان وراء ذلك امر أعظم منه (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

٢٨٣

الحقائق ، و «أعمى العمى عمى الضلالة بعد الهدى وشر العمى عمى القلب» (١).

فلا بد لكل أناس من إمام يأتم به في حق ، و «من مات بغير امام مات ميتة جاهلية» (٢).

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(٧٤).

«وان كادوا (من كان في هذه أعمى) ليفتنوك (ايها الرسول) عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره (كما يشتهون) وإذا لاتخذوك خليلا (يتخللونك حبا ووفاقا بما تخللوا فيك فرية ونفاقا جزاء وفاقا)! (وَلَوْ لا ..).

«كادوا» من الكيد وهو هنا مقارفة الاحتيال المذموم ، ام الكود مقاربة للفعل المذموم ، وعلهما هنا معنيّان انهم احتالوا الفتنة واقتربوا لها لو لا ...

الفتنة الشيطانية مهما اتجهت الى الرسول بكل كيد وخدعة ، ولكنها لا تصله بما يحذره هو ويحذّره الله عصمة ذات بعدين : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ

__________________

(١) المصدر ح ٢٥٦ من خطبة للإمام علي (عليه السلام). ٣٥٦.

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٩٤ ح ٣٤٣ تفسير العياشي عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) لا تترك الأرض بغير امام يحل حلال الله ويحرم حرام الله وهو قول الله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ثم قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : من مات بغير امام مات ميتة جاهلية فمدوا أعناقهم وفتحوا أعينهم فقال ابو عبد الله (عليه السلام) أليست الجاهلية الجهلاء؟ فلما خرجنا من عنده قال لنا سليمان : هو والله الجاهلية الجهلاء ولكن لما رآكم مددتم أعناقكم وفتحتم أعينكم قال لكم كذلك.

٢٨٤

عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ : :) (٥ : ٤٩)(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ...)!

ولا سيما الفتنة التي تحمله على الفرية في رسالته الإلهية و (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) (١٦ : ١٠٥) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٠ : ١٥).

ومهما كانت الفتنة كيدا في استلامه آلهتهم سماحا في استلام الحجر الأسود (١) ام دخولا في دينه (٢) ام طردا للذين اتبعوه من سقاط الناس ومواليهم حتى يتبعوه (٣) ام ماذا من الفتنة المكيدة له القريبة اليه ... فكل ذلك بعيد عن ساحته بعصمته وما تحذّر بما حذره الله ، مهما كان قريبا اليه كبشر. (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ)!.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٤ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستلم الحجر فقالوا «ندعك تستلمه حتى تستلم آلهتنا فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما علي لو فعلت والله يعلم مني خلافه فانزل الله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...).

(٢) المصدر اخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : ان امية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالا من قريش أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا تعال استلم آلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرّق لهم فانزل الله (وَإِنْ كادُوا ... نَصِيراً).

(٣)المصدر اخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير ان قريشا أتوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا له : ان كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فركن إليهم فأوحى الله اليه (وَإِنْ كادُوا) ... أقول «فركن إليهم» خلاف نص الآية «لقد كدت تركن إليهم فليكن فكاد ان يركن إليهم ...».

٢٨٥

فما يروى من ركونه إليهم او افتراءه على الله في قصة الغرانيق (١) وأمثالها إنها مضروبة كلها عرض الجدار حيث العصمة الإلهية تسده عن هذه وتلك.

والشيطان أيا كان (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١٦ : ٩٩) فانى له ذلك السلطان على اوّل العابدين ورسول المؤمنين المتوكلين!.

فهنالك العصمة الربانية (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) عصمته عن وصمة مقاربة الركون إليهم وإن شيئا قليلا ، بعد ان عصمته العصمة البشرية ـ بعون الله ـ مقارفته وان (كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) دون اي ركون ام قربه شيئا كثيرا! (٢) :

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(٧٥).

ترى وماذا تعني «إذا» ظرفا لضعفي الحياة والممات؟ هل هو قرب الركون إليهم شيئا قليلا (لَقَدْ كِدْتَ ... قَلِيلاً)؟ وليس هذا تقصيرا منه

__________________

(١) المصدر واخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : انزل الله (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فقرأ عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الآية (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) فالقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى ـ فقرأ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما بقي من السورة وسجد فانزل الله : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...) فما زال مغموما حتى انزل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ...).

(٢) هذا التثبيت الإلهي ليس العصمة التي اوتى بداء رسالته ، إذ لا يوكل في العصمة ولا يخول فيها ، وانما هي تدريجية استمرارية بمشيئة الله ، فلئن وكله الى نفسه طرفة عين لركن إليهم!.

٢٨٦

(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى يستحق ضعفي العذاب! فانه حاول غايتها بشريا قدر المستطاع! وليس ـ إذا ـ الّا ترك التثبيت الإلهي وليس تركه من فعله ، ومن ثم فلا عذاب إلّا على واقع الركون ، وليس هنا إلّا قربه قليلا دون واقعه!.

ام هو الافتنان عما أوحي إليه ، فافتراؤه على الله غيره ، وهنالك الطامة الكبرى ، وهنالك ضعف الحياة وضعف الممات (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٦٩ : ٤٧) وكما هنا (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً).

أم إنه يعني الفرية والركون حيث ينبعان من نبعة واحدة هي التخلف عن الرسالة الإلهية ، وترى لماذا الضعفان وهما اربعة ، اثنان في الحياة وآخران في الممات؟ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٦ : ١٦٠) ثم وليست الدنيا دار جزاء!؟

الجواب : أن العذاب يقدّر بقدر العاصي والعصيان ، وهنا الرسول أعلى محتدا ممن سواه ، وعصيان الرسالة أخطر مما سواه ، فليكن العذاب ضعفا له عمن سواه ولا سمح الله! وإذا تجاوز العصيان حده ، جاوز الى الدنيا من الآخرة كما في قرون أهلكت.

ثم الضعف لا يعني ـ فقط ـ مرتين ، وانما المضاعف زيادة عن مرة والى عشرات وعشرات.

كل هذه التهديدات البعيدة المدى ، المستحيلة في واقعاتها لمكان عصمة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنها تنبيهات لعظيم الخطر في محتد الرسالات الإلهية ، حيث المحاولات بكلّ ألوان المكيدات تتربص دوائر السوء الانحراف والانحراف بالرسالات السامية!

فقد حاولوا مساومته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعبدوا إلهه قبال

٢٨٧

أن يترك التنديد بآلهتهم ، أو أن يجعل أرضهم حراما كالبيت الحرام ، او يطرد سقاط الناس حتى هم يؤمنوا به دونهم ، او يستلم آلهتهم حتى يسمحوا له باستلام الحجر ، أما ذا من أنصاف حلول التي تجمع بين الجانبين!

هذه وأمثالها هي محاولات أصحاب الشهوات مع اصحاب الدعوات ، لتنحرف الدعوة في بدايتها عن استقامتها ثم يهون أمر استئصالها ، فإنهم لا يتطلّبون من صاحب الدعوة أن يترك دعوته كلها ، وإنما تنازلا عن حدتها وشدتها لكي يتنازلوا هم أيضا عن معارضتها او علّهم يتقبلونها ، وهنا لك الشيطان يدخل على حامل الدعوة ـ ان استطاع ـ من هذه الثغرة المغرية : أن خير الدعوة وصالحها في كسب أصحاب السلطان وإن بالتنازل عن جانب منها!

ولكنها ثغرة رخيّة ، وإن كانت في البداية طفيفة خفيفة خفيّة حيث تنهار عند بزوغها ، فيبتدء غروبها في طلوعها ، إذ يشجع أعداءها على تفتح الثغرة ، فاستئصالها عن آخرها بالمرة!.

فأهم الفرائض على أصحاب الدعوة الإلهية الصمود الكامل والاستقامة الدائمة ، ولكي تتنسق في نهايتها على نسق بدايتها ، وحدة متناسقة دائبة.

كما أخطر التخلفات لأصحاب الدعوة التنازل وان كان طفيفا في طرف منها ، فكل أطرافها عظيمة عزيمة ، دون فرض فيها ونافلة ، حيث الكل فرض كوحدة متكاملة متناصرة ، لا يجوز الغض عن البعض بغية قبول البعض ، او تصديقهم للبعض ، وإلّا ف (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لا نقبل أنصاف حلول وتقسيم البلد بلدين!.

وأنت يا حامل الدعوة الأخيرة لست ممن يستفز عن دعوته ، وإنما الشيطان يستفز ويحتنك الغاوين ، وأنت اوّل المهتدين والعابدين لكن :

٢٨٨

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً)(٧٦).

(وَإِنْ كادُوا) كيدا وقربوا دنوا (لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) إذ لم يتمكنوا من استفزاز واستخفاف دعوتك ورسالتك ولا طرفا منها ، فيكيدون إذا كيدهم لاستفزازك عن أرض الوطن وعاصمة الدعوة (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) إخراجا للدعوة واستفزازا للرسالة عن عاصمتها «وإذا» حيث يخرجونك (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) بعدك وفي خلافك ، «إلا قليلا» كما لم يلبثوا إلّا عشرا ، وفي خلالها غزوات وانهزامات ام ماذا من معركات!.

ترى ولما إذ تأتي مكة هنا في صيغة عامة «الأرض» عله لأنها أصل الأرض حيث مكّت وبكّت من تحتها ، ولأنها عاصمة الرسالة الإسلامية فاستفزاز الرسول عنها استفزاز له عن الرسالة كلها ، او أن في تنحية له الرسول عن ارض الوطن العاصمة الى الغربة النائية عن العاصمة تنحية له عن دعوته ولكن : (إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٨ : ٣٠) مكرا في الحفاظ عليه إذ هو في الغار ، ومكرا في ارجاعه الى مكة بفتح مبين.

ولماذا خلافك ، تاتي هنا بمعنى بعدك وخلفك وقد تنافيه فصاحة التعبير؟ لان «خلافك» هنا تعني الخلف والخلاف! فهم خلف اخراجك من الأرض لا يلبثونه ولا خلافك إلّا قليلا ، وقد زالت هذه الخلفية بفتح مكة ان رجع إليها فاتحا ، ورجعوا هم عن خلافهم الى وفاقه طوعا او كرها ، وهذه من الإنباءات الغيبية القرآنية ، تبشرة برجوعه الى العاصمة بعد قليل ، وان المشركين المستفزين سوف يرجعون مسلمين او مستسلمين!

٢٨٩

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)(٧٧).

سنة إلهية سلبية للرسل على الذين يستفزونهم ليخرجوهم من أرض الدعوة ، أنهم لا يلبثون خلافهم إلّا قليلا ، كما حق عليهم في مكة ان رجع إليها محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد هجرته منها فاتحا ، وكذلك في المدينة. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ، مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً. سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٣٣ : ٦٢) (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٣ : ١٧).

ثم سنة ايجابية لهم ان الله يثبتهم ان كادوا ليفتنوهم عن الذي اوحي إليهم! وهذه السنة لن تتحول في أية رسالة مهما اختلفت عن بعض في درجاتها ومتطلباتها.

٢٩٠

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ

٢٩١

بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا

٢٩٢

عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٩٥)

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(٧٨).

الصلاة هنا تعني المفروضات اليومية الخمس ، فان دلوك الشمس وغسق الليل والفجر لا تناسب ساير المفروضات كصلاة الآيات والأموات واضرابها لأنها واجبة بأسبابها دون اوقات لها معينة كهذه!

الدلوك في الأصل هو الميل وهو الانخفاض بعد كمال الارتفاع ، فهل ان ميل الشمس هنا غروبها؟ (١) وليس غروبها ميلها ، بل هو نتاج الميل الأخير لها عن قرصها! ولو عني بدلوكها غروبها لكان الفصيح الصحيح «لغروب الشمس» لا لدلوكها!

ام هو زوالها عن كبد السماء (٢)؟ وهو بداية ميلها لا ميلها كلها! ولو كان فقط زوالها لكان الفصيح الصحيح «من زوالها» لا «لدلوكها» ولا «لزوالها» حيث اللام لا تعني البداية وجاه «إلى» النهاية ، وإنما تعني لزام وقت واسع كما بين زوالها وغروبها! ..

ام هو ميلها منذ زوالها الى غروبها؟ ويوافقه مطلق الميل الدلوك حيث يشمل دلوك الزوال ودلوك الغروب وما بينهما ، جمعا لاوقات الظهرين على درجاتها ، وملائمة لصيغة التعبير. «لدلوكها» حيث اللّام لزام والدلوك

__________________

(١) في مفردات القرآن للراغب ولسان العرب لابن منظور الافريقي انه غروبها وفي الدر المنثور ٤ : ١٩٤ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي (رضي الله عنه) قال : دلوكها غروبها.

(٢) لسان العرب انه زوالها ...

٢٩٣

تعم منذ زوالها الى غروبها ، وهو وقت الظهرين إجزاء ، وبذلك يجمع بين اللغة والرواية المفسرة لدلوكها بزوالها وغروبها ، بل هو لغة من لغاتها (١) والسنة القطعية تقول : انه زوالها (٢) وعلّها تعني مطلق زوالها منذ البداية عن كبد السماء ، وحتى النهاية في غروبها من قرصها ، وفيما تختص بالزوال الاوّل تعني اوّل وأفضل زوالها :

إذا فهذه الآية المكية تشمل الصلوات الخمس من بداية زوال الشمس

__________________

(١) لسان العرب وروى ابن هانئ عن الأخفش انه قال : دلوك الشمس من زوالها الى غروبها.

وقال الزجاج : دلوك الشمس زوالها في وقت الظهر وذلك ميلها للغروب وهو دلوكها ايضا ، ومثله قال الزجاج والقفال : اصل الدلوك الميل يقال مالت الشمس للزوال ومالت للغروب ويقال للشمس دالكة إذا زالت نصف النهار وإذا أفلت.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٩٥ ـ اخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس قال : لزوال الشمس» أقول : علّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعني مطلق الزوال ، وان كان يعني بداية الزوال في لفظ آخر كما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اتاني جبرئيل (عليه السلام) لدلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهر واخرج ابن مردويه عن انس (رضي الله عنه) قال : كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلي الظهر عند دلوك الشمس وروى الواحدي في البسيط عن جابر انه قال : طعم عندي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا حين دلكت الشمس» وروى في الكشاف عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال : اتاني جبرئيل (عليهم السلام) لدلوك الشمس حين زالت فصلي بي الظهر.

أقول : واتفقت رواية اهل البيت (عليهم السلام) ايضا انه زوالها ، كما اتفقت الرواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما رووه عن علي (عليه السلام) لا يعني الا الدلوك الأخير للشمس لا دلوكها كله.

٢٩٤

الى فجرها : فالظهران (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ولو كان الدلوك خصوص البداية لما شملت العصر ، ولا الظهر بعد الظهر ، والعشاءان (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) و (قُرْآنَ الْفَجْرِ) فجرا وكما في أحاديثنا.

وغسق الليل غاية ظلامه في منتصفه ومنحدره كما الليل الغاسق هو المظلم ، ولأن بداية الليل هي مغرب الشمس دقائق بعد غروبها ، ونهايته بدقائق قبل طلوعها ما صدق الليل بداية ونهاية ، فمنتصف الليل هو الوسط بينهما ، لا بين المغرب وطلوع الفجر ، فانه ليس غسق اللّيل مهما كان وسطا لما يسمى ليلا شرعيا ، وتفسير غسق الليل بمنتصفه في أحاديثه تفسير لغوي دون اصطلاح شرعي خاص (١) :

فغسق الليل هو بداية زواله وانحداه كزوال الشمس ، كما يروى عن الامام الصادق (عليه السلام) في جواب السائل : «زوال الشمس نعرفه بالنهار فكيف لنا بالليل؟ ـ قال (عليه السلام) : لليل زوال كزوال الشمس ، قال فباي شيء نعرفه؟ قال. بالنجوم إذا انحدرت» (٢) وعن

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٠٠ ح ٣٧٠ عن تهذيب الأحكام باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عما فرض الله من الصلاة؟ فقال : خمس صلوات في الليل والنهار فقلت : هل سماهن وبينهن في كتابه؟ فقال : نعم قال الله عز وجل لنبيه (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ودلوكها زوالها ففي ما بين دلوك الشمس الى غسق الليل اربع صلوات سماهن وبينهن ووقتهن وغسق الليل انتصافه ثم قال : وقرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهودا فهذه الخامسة.

أقول : وفي تفسير العياشي يروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) تفسير الغسق بالانتصاف ، ومثله فيه عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(٢) وسائل الشيعة باب ٥٥ من أبواب المواقيت ح ١ و (٢) ح ٢.

أقول : وليس انحدار النجوم الا في غاية الظلام وهي وسط بني غروب الشمس وطلوعها لا فجرها ، وكذلك زوال الليل ، وليس انحساب بين الطلوعين في باب ـ

٢٩٥

الامام الباقر (عليه السلام): «دلوك الشمس زوالها وغسق الليل بمنزلة الزوال من النهار» إذا فالأشبه الأقوى اعتبار الغسق وسطا بين بداية الظلام ونهايتها.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) عطف على الصلاة فتعني : وأقم قرآن الفجر : الفجر الصادق للشمس ، لا كاذبه ولا طلوعها ، وإنما فجرها حيث يشق ضوءها ظلام الليل فيتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

قرآن الفجر هي صلاته صلاة الصبح حيث تبتدء من فجر الشمس الى ما قبل طلوعها ، وكما صلاة العصر الى ما قبل غروبها : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) (٢٠ : ١٣٠) :

وكما دلوك الشمس يشمل بين الوقتين كذلك فجرها فإنها تشق وتفجر ظلام الليل شيئا فشيئا حتى تطلع فيتم الفجر ، فالظهران هما صلاة الدلوك والصبح هي صلاة الفجر حيث يتنفس حتى يزيل آخر رمق من الليل.

ولماذا (قُرْآنَ الْفَجْرِ) دون صلاته وجاه الصلوات الأربع (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)؟ تلميحا لمزيد الأهمية فالاهتمام بصلاة الفجر : انها قرآن وان كانت كل صلاة قرآنا واجبة القراءة والمتابعة ، إلّا ان قرآنها أهم وأتم من قرآنها ، ل (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) دون سائر القرآن ، فمهما تشهد قرآن الدلوك ملائكة النهار ، وتشهد قرآن الليل الى غسقه ملائكة الليل (١) فقرآن الفجر تشهده ملائكة الليل والنهار ، فبين

__________________

ـ الصلاة والصوم من النهار دليلا على كونه منه في كافة الأبواب وحتى فيما يخالف الحس من كون غسق الليل قبل غسقه إذ تحسب نهايته بداية الفجر.

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٦ ـ اخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم يقول ابو هريرة : اقرؤا ان شئتم ـ

٢٩٦

الطلوعين لا هو من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ، أم هو من ساعات الليل والنهار ، ولذلك تجمع لشهودها ملائكة الليل والنهار!

وقد تكون صلاة الفجر هي الصلاة الوسطى المأمور بها خاصة في آيت (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢ : ٣٣٨) لأهميتها المصرح بها هنا بين الخمس وأنها الوسطى بين الصلوات الليل والنهارية ، وأنها من الصلاة الوسطى حيث الظهر ايضا وسطى ب الصلوات النهارية ، فلا تعني الوسطى إلّا وقتيا لا في الفضيلة فانها

__________________

ـ (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) واخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار ، أقول : شهادة الله تعمها وسائر الصلوات الا ان يعنى بها هنا شهادة تخصها بما كرمها فضّلها على سواها.

ثم أقول : ورواها أئمة اهل البيت (عليه السلام) دون خلاف واختلاف كما رواه في الكافي باسناده عن يزيد بن خليفة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وباسناده عن إسحاق بن عمار عنه (عليه السلام) وباسناده عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عنهما (عليهما السلام) ... وفي علل الشرائع باسناده الى سعيد بن المسيب قال سألت علي بن الحسين (عليه السلام) ... واقرّ الفجر على ما فرضت بمكة لتعليل عروج ملائكة الليل الى السماء ولتعجيل ملائكة النهار الى الأرض فكانت ملائكة النهار وملائكة الليل يشهدون مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلاة الفجر فلذلك قال عز وجل : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) يشهده المسلمون ويشهده ملائكة النهار وملائكة الليل.

وفي العلل ايضا باسناده الى الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : جاء نفر من اليهود الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى ان قال : وهي الصلاة التي يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.

٢٩٧

الكبرى ، ولا وقتية وسطى إلّا صلاة الظهر وهي وسطى النهارية ، والفجر وهي الوسطى المطلقة بين الليلية والنهارية! كما وان صلاة الجمعة من الوسطى فانها مكان الظهر والجمعة هي قلب الأسبوع فهي إذا وسطى من جهتين.

هنا صرحت بصلاة الفجر وأجملت عن الأربع الاخرى ، وفي سائر القرآن تصريحات او تلميحات بالأخرى الا المغرب : (... مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ...) (٢٤ : ٥٨) (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٣ : ٤١) (١).

إذا فصلوات الفجر والظهيرة والعصر والعشاء مذكورة ، ثم لا تجد تصريحة بالمغرب اللهم إلا تلميحة في آية الدلوك ، والصلاة الوسطى منها كما بينا هي الفجر ثم الظهيرة ـ وآية الزلف (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ :) (١١ : ١١٤).

هذه ، إلّا أننا لا نجد آية تشمل الخمس إلّا آية الدلوك وان كانت لا تصرح إلّا بقرآن الفجر ، وقد نلمس الفضيلة الكبرى بين الخمس لقرآن الفجر ، حيث تختص بالذكر هنا وفي سبع اخرى : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) (٢٠ : ١٣٠ و ٥٠ : ٣٩) و (صَلاةِ الْفَجْرِ) (٢٤ : ٥٨) والإبكار (٢) عدد أبواب الجنة.

ومن ثم الظهيرة فانها من الصلاة الوسطى ، وتلمح لها او تصرح بها آيات عدة كالدلوك والظهيرة (٢٤ : ٥٨).

__________________

(١). نجد التسبيح والدعاء بالعشي والابكار في ٦ : ٥٢ و ١٨ : ٢٨ و ٤٠ : ٥٥ ـ ايضا.

(٢). كما في ٣ : ٤١ و ٦ : ٥٢ و ١٨ : ٢٨ وو ٤٠ : ٥٥.

٢٩٨

ثم العصر كما في آية الدلوك وآيتي «قبل غروبها وقبل الغروب» وآيات العشي الخمس ، وطرفي النهار.

ثم العشاء كما في آية الدلوك الغسق ، وآية العشاء (مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) (٢٤ : ٥٨) وآيات العشي.

ومن ثم المغرب داخلة في تلميحات كآية الدلوك وزلفا من الليل :

آيات بينات تبين موقف كل صلاة وصلاة تلو الاخرى وكما الروايات على أضوائها.

وقد تدلنا او تلمح لنا آية قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وآيات العشي والإبكار أن الفرض كان في البداية ثنتين : صلاة الفجر والعصر ، ثم آية الزلف والظهيرة أنه تحوّل الى ثلاث او اربع ، ثم آية الدلوك وآية العشاء والظهيرة الى خمس ، وهي مكية فلتكمل الفرائض الخمس في مكة على فترات.

وإذا كان البعض من آيات العشي والإبكار مدنية فقد تعني البعض من المفروضات لا كلها ، وإن كانت (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) المكية تعني كلها لمكان القرينة في المدنية دون المكية.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٧٩).

الهجود هو النوم كما الهاجد النائم ، والتهجد إزالة النوم كالإطاقة ازالة الطاقة والتمريض ازالة المرض بمراقبة المريض.

ولان التفعل تكلّف فقد تعني هنا التكلف في التيقّظ ، ومن الصعب التيقظ بعد النوم في بدايته كما يصعب في نهايته او وسطه هو درجات حسب الصعوبات.

٢٩٩

هنا يؤمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شخصيا بالتهجد فاختصاص الأمر به إضافة الى صيغته يدلان على وجوب (نافِلَةً لَكَ) و (مِنَ اللَّيْلِ) يعني بعضه ، اقتسام له الى ثلاثة ابعاض : فبعض للعشائين وسائر الحاجيات ، ومن ثم النوم بين العشائين ام بعدهما ، ثم التهجد المقدر في أكثره ثلثي الليل وفي اقله ثلثه ، وفي متوسطه بنصفه (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٧٣ : ٤) ولان «من الليل» تعني بعضه المفسّر في المزّمّل ف «به» تعني هذا البعض تهجدا به ، قياما في عبادته ، صلاة وقراءة للقرآن ام ماذا؟

ثم (نافِلَةً لَكَ) حيث تعني زائدة خاصة بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلاة او طاعة نافلة على فرضه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دون الامة في فرض صلاة ام وقراءة ، لا زائدة على فرض الأمة حتى تعني مقابل الفريضة ، حيث النافلة المستحبة على فرضهم لا يخصه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! إذا فهي فريضة زائدة عليه بين سائر المكلفين (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٠٤ في تهذيب الأحكام باسناده عن عمار الساباطي قال : كنا جلوسا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ما فقال له رجل : ما تقول في النوافل؟ فقال : فريضة ـ قال : ففزعنا وفزع الرجل فقال ابو عبد الله (عليه السلام) انما اعني صلاة الليل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الله عز وجل يقول : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ).

وفي الدر المنثور ٤ : ١٩٦ عن ابن عباس في قوله : نافلة لك يعني خاصة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) امر بقيام الليل وكتب عليه واخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن عائشة ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ثلاث هن علي فرائض وهن لكم سنة : الوتر والسواك وقيام الليل.

٣٠٠