الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

فالفاحشة هي عصيان متجاوز حده ، وظلم متجاوز فاعله الى مفعول به او الى الجماعة والى الناشئة ، وهي تعم القولة الفاحشة والفعلة والعقيدة الفاحشة ، وقد ذكرت في سبعة عشر موضعا من القرآن ، في مثلث من أبعادها ، مما تختص بالزنا ، ام تشملها وغيرها من لواط وسواه ، ومالا تشملها كالتي في نساء النبي وقوم لوط.

وعل «كان» الماضية إشارة إلى أن فاحشة الزنا لا تخص هذه الشرعة ، بل هي فاحشة في عمق التاريخ وحتى بين غير المليين كما تشهد بذلك شرعتهم (١).

(... إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) حيث الزنا تقطع وتتهدم سبيل الإنسانية جماعة وفرادى ، من سبيل الفطرة الإنسانية المجبولة في جوهر الذات على الإختصاص في الأهل كالمال بل هو أحرى وأسمى ، حيث يرى الذب عن الأهل وصيانتها من اي انتهاك فريضة كما يصون نفسه بل هو أقوى ، وهذه الغريزة ليست حسدا وشحا بل هي غيرة نجدها حتى في

__________________

ـ وثلاث في الآخرة فاما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجل الفناء ويقطع الرزق واما التي في الآخرة فسوء الحساب وسخط الرحمن والخلود في النار.

فيه عن علي (ع) قال : أربعة لا يدخل منهن واحدة بيت إلا خرب ولم يعمر : الخيانة والسرقة وشرب الخمر والزنا.

(١) في شرعة التورات كان عذاب الزاني القتل وعذاب الزانية الرجم وفي القوانين القديمة بين الهنود ، الزاني يحرق والزانية تلقى بين الكلاب لتفترسها وفي قانون (ليكركوس) عقوبة الزاني كالذي قتل أباه وفي قانون الروم يعدم الزانيان وكانت الزانية في انكلترا يساق بها في البلدان فتضرب حتى تموت وفي آشور كان جزاء الزنا الغرق وفي بعض القوانين الصلب وفي القانون القديم المصري القتل وكان المفتن الشهير الاسبارتي (ليكورك) يستقبح عملية الزنا لحد يرى أنه لا يطرح اسمها في القانون.

١٨١

الزانين حيث يغارون على الزانية بعضهم على بعض فكيف بأهليهم الخصوص؟

(وَساءَ سَبِيلاً) في تداوم الانسال كما وإتيان الرجال قطع لهذه السبيل (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) (٢٧ : ٢٩) سبيل التناسل وسبيل الزواج ، حيث النكاح سبيل لتشكيل العائلة والناشئة ، فإتيان الرجال قطع لهذه السبيل ، وكذلك الزنا أو هو من أضل سبيل ، فانقطاع النسل أقل خطرا من نسل الزنا ، حيث الاختلاط في الانسال قطع لسبيل المودات بين الأبوين والأولاد لمكان التشكيك ، وقطع لسبيل التوارث ، وقطع لسبيل النكاح وتبني العائلة حيث الرخاصة في قضاء الشهوة بالزنا والتنوع فيها تقطع سبيل تشكيل العائلة على عبء النفقة وتربية الأولاد ومقاسات المشقات في حراسة الأهل والأولاد ، رغم أن الزواج يزيد في الرزق كما «الزنا يورث الفقر» (١). وقد قيل لبعض هؤلاء لم لا تتزوج؟ فقال : وماذا اصنع بالزواج وجماعات من النساء نسائي (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٨٠ ـ اخرج الطبراني والحاكم وأبي عدي والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله (ص) قال : الزنا يورث الفقر.

(٢) وإليكم طرفا من اشاعة فاحشة الزنا بين الغربيين والمتغربين وما خلفته من عار ودمار : ففي فرنسا أصبحت امراض المقاربة خلال عشر سنين بين الناشئة الأقل من عشرين سنة ٣٨٠ في المائة (١) وفي امريكا وانكلترا يعلن وزارة الصحة ان امراض المقاربة أخذت تسرع في الناشئة اكثر من الزانيات الرسميات (٢) وتكتب جريدة (سان لندن) حسب إعلان قسم الجراحة في لندن ، في كل أسبوع خمسون بنتا في أقل من ١٤ سنة تسقط جنينها (٣) وفي (زن

(١) زن روز العدد ٤٠٣.

(٢) مجلة الاطلاعات العدد ١٤٣٨٥ ـ ٣ و ٢ و ١٣٥٣.

(٣) مجلة جوانان ٣٠ بهمن ص ٣٣.

١٨٢

ففي التناسل بالزنا سبيل التقاطع والتشاجر ، وفي تركه بسقط الجنين سبيل للقتل وقطع النسل ، وفي منع الولادة سبيل للضغط على الفاعلين ، وفي هذه الشركة النحسة في النواميس قطع لسبيل المودة وفتح لسبيل العناد ولسبيل تفشي الأمراض الخلقية والجسمية وكل فساد.

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

لهذه وتلك كما تمنع الآيات عن اقترافه كذلك المنع عن اقترابه (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وعن مشجعاته كالتناكح بين المؤمنين والزانيات والزانين والمؤمنات كما في آية النور : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢٤ : ٣).

حيث تقرن الزاني بالمشرك والزانية بالمشركة ، ثم تحرم التناكح بين المؤمن والزانية كما المشركة ، وبين المؤمنة والزاني كما المشرك مما يجعل فاحشة الزنا كفاحشة الإشراك بالله.

ومن ثم آية المائدة تحلل المحصنات من الذين أوتوا الكتاب على المسلمين كما تحلل المحصنات من المؤمنات ، دون الزانيات وان كن من

__________________

روز العدد ١١٠٩) مع توفر الأدوية المخترعة الجديدة والعلاجات الدقيقة ووجود اكثر من ٦٥٠ مستشفى الخاصة بامراض المقاربة نجد ٤٠٠٠ ماتوا بسبب هذه الأمراض وفي (جريدة اطلاعات ٦ ـ ١١ ـ ٥٥) من كل سنة ، تحبل مليون بنتا تدرس في امريكا ٣٠٠٦٠٠٠ منهن دون ال (١٥) من العمر والباقية بين ١٦ ـ ١٩ سنة ، ومن السنة ١٩٦١ لحد الآن (١٥) سنة أصبحت المواليد غير المشروعة من البنات بين ١٦ ـ ١٧ سنة تزيد على ٧٥% ، وثلث الأجنبية المسقطة يختص بالناشئات (٤) ونجد في لندن في كل سنة ٥٠٠٠٠ سقطا جنائيا (٥). وفي امريكا سنويا حوالي مليون عملية إسقاط جنين من الروابط غير المشروعة (٦).

(٤) جريدة اطلاعات ٦ / ١١ / ٥٥.

(٥) جريدة كيهان العدد ٥٣٥٦.

(٦) مجلة سبيد وسياه العدد ٣٧٠.

١٨٣

المسلمات : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) (٥ : ٥) وهي آخر ما نزلت ، ناسخة غير منسوخة.

ثم آية النساء في تحريم المحارم نسبيات ام سببيات ورضاعيات تحلل ما وراء ذلك على شرط الإحصان : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ...) (٤ : ٢٤) وهذا التحليل اضافة الى كونه نسبيا لا اطلاق فيه مستقرا ظاهرا ، إنه محدد بالإحصان : إحصان المنكوحة والناكح ، وتقييده باحصان الناكح مخالف لتصريحة آية النور والمائدة ، فنكاح الزانيات قبل التوبة محرم على المؤمنين كإنكاح الزانين بالمؤمنات ، اللهم إلا إذا تابت او تتوب ام تاب او يتوب فحل ، وقد يجب نكاح الزانية إذا كان نهيا عمليا عن الزنا ، او يكره إذا كانت متهمة دون اثبات ، واما الشهير والشهيرة دون توبة او انتهاء عن الزنا فإنكاحه بمؤمنة ونكاحها المؤمن محرم يعتبر ردفا بالزنا ، فانه تشجيع للزنا ، ومسايرة ومما شاة فيها ، ولا اقل يكون هذا التمانع نهيا عمليا عن الزنا ، لكي يرى مقترف الزنا نفسه في زاوية منعزلة عن الحياة الشريفة الإسلامية ، في جو الدعارة او الشرك ، ولكي ينتهي عن الزنا إن كان مسلما له بقية او بغية من الإيمان.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)(٣٣).

النفس هنا هي الإنسانية دون سائر الحيوان حيث النفس لا تأتي في سائر القرآن إلا للإنسان ، اللهم إلا في يتيمة تعني ذات الله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) وهي غير معرضة لقتل وأمثاله!

فمن النفوس الإنسانية ما حرمّها الله تعالى لحدّ لا يحق قتلها بأي سبب كالصالحين الذين لا يأتون بسبب لقتلهم بالحق ، فلا يقتلون إلا مظلومين : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ

١٨٤

يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣ : ٢١).

ومنها ما حرمها مبدئيا فلا تستحق قتلا إلا بالحق ، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدّد لا غموض فيه ، وليس متروكا للآراء وتأثرات الأهواء ، وهذه هي المعنيّة ب (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).

ومنها غير المحرمة مبدئيا كمن يعيش صدا عن سبيل الله ، تكذيبا بآيات الله ، حربا لدين الله ، فهذه لا حرمة لها عند الله ، وهي المعنيّة بالنفس التي لم يحرمها الله.

ولا نرى النهي عن قتل النفس في سائر القرآن إلا موصوفة ب (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) كما هنا وفي الانعام (١٥١) بصيغة واحدة : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وفي الفرقان : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)(٦٨) ولكن في النساء : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(٢٩) حيث المخاطبون هم المسلمون المحرمة أنفسهم عند الله. وتتميز آية الأسرى بذيلها (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً ...).

فإذا تبين حقّ على النفس التي حرم الله ـ يحكم بقتلها ـ فقتلا ، وإذا لم يتبين فلا تقتلوها حيث الحق غير ثابت ، وإذا تبين في ميزان الله أنه لم يحرّمها فقتلا ، وإذا ترددنا في حرمتها او حلها في أصلها ، هل هي صادة عن سبيل الله ، مكذبة بآيات الله أم ماذا؟ فلا يحل قتلها ، وان كان النهي في آياته لا يشملها ، حيث القتل كسائر التجاوز ماليا ام عرضيا ام ماذا بحاجة الى تجويز ، فالأصل في النفوس والأموال والأعراض حرمتها وعدم حل التجاوز عليها إلا بدليل قاطع قاصع لا مردّ له ولا حول عنه.

إنه حسب التكوين ودليل العقل حقّ لكل نفس أن تحيى مبدئيا حيث أحياها الله ، فلا يحق القضاء عليها إلا بقضاء الله ، وفيما نشك فما علينا وما لنا أن نميت ما أحياه الله.

١٨٥

صحيح أن الأصل في كل شيء حلّه حتى يتبين غير حلّه ، ولكنما الأصل في خصوص التجاوزات عدم الحل كما العقل والشرع يتجاوبان.

والنفس المشكوك حلها وحرمتها وان كان محرما قتلها ظاهريا ، ولكنها ليست بالتي قتلت ظلما لمكان الشك ، فلا يشملها (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً ...) فبدليل تحرم ظاهريا وبدليل تحل واقعيا ، وفيما لا دليل على حل او حرمة تبقى على أصالة الحرمة ، وإن كانت آيات النهي لا تشمل الأخير ، ولكن الآية : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...) ومعها دليل العقل ودليل الأصل ، تنهى وان كان ظاهريا.

فالضابطة القرآنية في قتل النفس أنه لا يجوز إلا بحق ثابت كردّة عن فطرة او قتل عمد ام لواط ام زنا محصن ام ماذا من مجوزات او موجبات القتل المحدّدة شرعا.

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) نفس محرمة محترمة لا حق ثابتا عليها ، كمؤمن متهم بحق غير ثابت ، ام لا حقّ عليها وإنما لها كالشمس في رايعة النهار ، مثل النفوس المقدسة الطاهرة المعصومة ، المقتلة المحطمة المظلومة ، علي والحسن والحسين (ع) وسائر العترة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (١).

(فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فلولي الدم سلطة شرعية محدّدة في ميزان الله ، لا تفريط عليه : ألا يحق له قصاص ام دية ، ولا إفراط له : ان يسرف في القتل ، قتلا لغير القاتل قل او كثر ، او قتلا للقاتل زائدا عما

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٦٢ ح ١٩٥ في من لا يحضره الفقيه عن أبي عبد الله (ع) قال : الكبائر سبع فينا أنزلت ومن استحلت ـ الى قوله ـ : واما قتل النفس التي حرم الله ـ فقد قتلوا الحسين بن علي وأصحابه والعياشي في تفسيره عنه (ع) بسند آخر في الآية : فقد قتلوا الحسين في أهل بيته.

١٨٦

قتل ، وانما قتلا بقتل في كمه وكيفه دون إفراط ولا تفريط ، بل هو عوان عادل (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) :

ليس لولي الدم إسراف في القتل ولماذا يسرف؟ أحميّة على المقتول؟ فليست لتدفعه الى إسراف في القتل في ميزان العدل ، ام للأخذ بثأره ويكفيه بسلطانه الشرعي قصاصه ، ام يسرف لكي يحصل على حقه العدل وهو منصور من الله بذلك السلطان ، كما المقتول منصور منذ قتل حتى يقتص من قاتله في الدنيا ام في الآخرة (١).

فليس هذا السلطان لولي الدم مستغلا يستغل في الانتقام الإسراف ، تجاوزا الى غير القاتل إن لم يجد إليه سبيلا ، ام قتله مع القاتل كما كان في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأبناء أم من ذا من أقارب وأخصاء القاتل ، من غير ذنب إلا انهم من أسرته ، ام ـ وأخيرا ـ قتل القاتل صبرا بمثله ام ماذا (٢) وقد نهى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المثلة ولو بالكلب العقور (٣). وقال (ص) «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٦٢ ح ٢٠٠ تفسير العياشي جابر عن أبي جعفر (ع) قال : نزلت هذه الآية في الحسين (ع) (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً ... فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) : قاتل الحسين (ع) (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) : قال : الحسين (ع).

وفيه ح ٢٠١ عن سلام بن المستنير عنه (ع) في الآية قال : هو الحسين بن علي (ع) قتل مظلوما ونحن أولياءه والقائم من إذا قام طلب بثأر الحسين (ع).

(٢) في نور الثقلين ٣ : ١٦٢ عن الكافي باسناده عن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي الحسن (ع) ان الله عز وجل يقول في كتابه : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) فما هذا الإسراف الذي نهى الله عنه؟ قال : نهى ان يقتل غير قاتله ، او يمثل بالقاتل ، قلت : فما معنى قوله : إنه كان منصورا؟ قال : وأي نصرة أعظم من ان يدفع القاتل الى اولياء المقتول فيقتله ولا تبعة تلزمه من قتله في دين ولا دنيا.

(٣) الدر المنثور ٤ : ١٨١ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن يعلى بن مرة قال سمعت رسول الله ـ

١٨٧

فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وأذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة (١).

إن الفطرة الإنسانية ومعها العقل ومعهما الشرع ، ومع الكل الجماهير الإنسانية ـ بما جعل الله ـ تجعل لوليه سلطانا عادلا في الثأر ، وأجهزة القضاء العدل الإسلامي مكلفة بتحقيق سلطانه ، فليكن عدلا في سلطانه دون ان تأخذه حمية الجاهلية.

وترى إن هذا السلطان سواء فيه أكان القاتل والمقتول سيان ، ام أحدهما رجل والآخر امرأة؟ ام المختلفان مختلفان حيث (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ...) (٢ : ١٣٨)؟ إذا فلا سلطان في الثأر إلا إذا كان المقتول رجلا والقاتل أيا كان؟.

الجواب : أن السلطان لولي المقتول كائن فيما هما متساويان ام مختلفان ، ولأن الرجل لا يقتل بالمرئة ، فليدفع الولي نصف الدية حتى يقتل الرجل بالمرئة وهذا هو السلطان العدل في الثأر ، حفاظا على حق المقتول ووليه ، وحفاظا على قيمة الرجل الضعف قياسا على المرأة.

وقتل النفس ليس بذلك السهل إلا بالحق ، قتل النفس غير المحرمة مبدئيا ، وقتلها محرمة قصاصا عدلا ، ام ماذا من الحق في ميزان الله إذ يزيل حق الحياة عن هذه النفس ، واما القتل في غير حق ، ام ما لم يثبت حقه فغير مسموح في شرعة الله.

وترى «إذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد» فكيف إذا سلطان

__________________

ـ (ص) قال قال الله : لا تمثلوا لعبادي وفيه عنه (ص) نهى (ص) عن المثلة

(١) الدر المنثور ـ اخرج ابن أبي شيبة ومسلم وأبوا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن شداد بن أوس قال قال رسول الله (ص).

١٨٨

القصاص ، أيقتل الجميع؟ وهو إسراف! ام واحد؟ وهو ترجيح بلا مرجح فإجحاف!

قد يقال : ان لولي المقتول قتل الكل برد ما فضل عن ديته الى أولياء المقتولين ، او قتل البعض فيرد الباقون حسب جنايتهم الى أولياء المقتص منهم ، فان كان واحدا يؤخذ من الباقين حسب نصيبهم من الجناية ويرد على أولياء المقتص منه ، وإن كان اكثر فليردّ ولي المقتول دية الزائد عن الواحد إلى أوليائهم ، كما يرد سائر الشركاء نصيبهم ، قصاصا عدلا على كل حال ، ولكنه كما في صحيحة إسراف فى القتل وتخلف عن (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً)(٣٤).

(لا تَقْرَبُوا ـ الى ـ أَشُدَّهُ) ثني في الانعام (١٥٣) بعد النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ـ كما هنا ، وقرب مال اليتيم لا يعني ـ فقط ـ ان تتصرف فيه غصبا ، ف (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) تحرم كافة المحاولات في مال اليتيم إلا التي هي احسن لصالحه ، فليس لوليه أم سواه أن يستدينه دون عائدة وقرضا حسنا ولا ان يبقيه عنده دون اي تصرف وبامكانه دون عسر ولا حرج ان يستثمره له ، فالمفروض على ولي اليتيم أحسن المحاولات في ماله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فيدفع اليه حيث زال يتمه فلا يبقى ظرف لقربه سيئا او حسنا او أحسن ، كما آية النساء تأمرهم : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ...) فلا يجوز إذا إبقاؤه عنده وقد بلغ النكاح ورشده وبلغ أشده ، حتى إذا استثمره له كأحسن ما أمكن ، ففي حالة يتمه يقرب ما له بالتي هي أحسن دون ان تكون له حيلة ، وإذا بلغ أشده يدفع إليه ولا يقرب اي قرب إلا بإذنه.

ثم الأشد جمع الشد وأقله ثلاثة ، يجري عليه قلم التكليف في شد

١٨٩

العمر ببلوغ السن ، او شد الجسم ببلوغ النكاح الاحتلام (١) ومن ثم شد العقل الرشد في تصرفات مالية صالحة ، والشد الأخير هو الحد الأخير في (وَلا تَقْرَبُوا ...) فلا يجوز دفع اموال اليتيم اليه حتى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) لا في الشد الأول ببلوغ السن ام بلوغ النكاح ، وانما بلوغ الرشد والحكمة في تصرفات صالحة.

فبالغ العمر او النكاح مشدود بقلم التكليف ، فأحدهما كاف في جري القلم وهو بعد يتيم؟! وبالغ الرشد الحكمة يزول يتمه تماما يدفع إليه ما له (٢) فلا يجوز دفع ماله قبل تمام الأشد وان بلغ شدا او شدين ، وإنما «أشده» : عمرا وجسما وعقلا.

وترى ان الشدين الأولين هما لزام الحكم وان بلغ شده الأخير قبلهما ،

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ٤١٩ ـ العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) أن نجدة الحروري كتب الى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب اليه ابن عباس اما اليتيم فانقطاع يتمه إذا بلغ أشده وهو الاحتلام.

وفي رواية اخرى عن عبد الله بن سنان قال سئل أبي وانا ما حامز عن اليتيم متى يجوز أمره؟ فقال : حين يبلغ أشده قلت : وما أشده؟ قال : الاحتلام ، قلت : قد يكون الغلام ابن ثماني عشرة سنة لا يحتلم أو أقل أو اكثر ، قال : إذا بلغ ثلاث عشر سنة كتب له الحسن وكتب عليه الشيء وجاز امره الا ان يكون شقيا أو ضعيفا.

وفي نور الثقلين ٣ : ١٦٣ ح ٢٠٣ في من لا يحضره الفقيه روى منصور بن حازم عن هشام عن أبي عبد الله (ع) قال : انقطاع اليتيم الاحتلام وهو أشده و ٣٠٤ روى الحسن بن علي الوشا عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال : إذا بلغ الغلام أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما وجب في المحتلمين احتلم او لم يحتلم وكتب له. الحسنات وجاز له كل شيء إلا أن يكون ضعيفا أو سفيها.

أقول : ليس الأشد فقط الاحتلام أو بلوغ العمر ، وانما بلوغ الرشد حيث يجوز امره في ماله كما في آية النساء (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) والأشد جمع الشد كما في المتن.

(٢) راجع ص ٣٥ ج ٢٦ تفسير الآية (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

١٩٠

علّه نعم حيث النص (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أو عله لا فإنهما قبل الأخير في الأكثر دون تدخل لهما في كمال البلوغ ، والرشد العقلي هو الأصيل (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ...) فبلوغ الأشد ـ إذا ـ وارد مورد الأغلب ، والأحوط الجمع بين الحفاظ على ماله ، وأن يتصرف وليه حسب مشورته ، وان كان الأقوى جواز دفعه إليه ، ووجوبه عند المطالبة كما للبالغ أشده.

إذا فتصرفات اليتيم في ماله قبل أن يبلغ أشده محرمة ، وعلى وليه الرقابة التامة عليه ابتلاء له حتى يبلغ النكاح ويبلغ رشده وفيه تكملة أشده حيث يستوي : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ...) (٢٨ : ١٤) حينذاك يتصرف في ماله : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) (١٨ : ٨٢).

فالمجنون محجور حتى يعقل ، والسفيه محجور حتى يعقل ، والصغير محجور حتى يبلغ ، واليتيم محجور حتى يبلغ أشده (١) رقابة علية اكثر من الصغير غير اليتيم ليتمه ، ولأن الولي لغير اليتيم يراقبه بطبيعة الحال.

(... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).

العهد هنا جنسه دون اختصاص بنوع خاص ، تشمل عهود الله على عباده ، وعهودهم له عليهم ، وعهود بعضهم لبعض على أنفسهم ، وتعاهدتهم فيما بينهم ، فالوفاء في كل ذلك فرض حسب المستطاع لا حول عنه.

نرى الوفاء بالعهد : اي عهد ـ من أهم الواجبات المؤكدة المشددة ، لأنه مناط الثقة والاستقامة والنظافة في ضمير الفرد وحيوية الجماعة ، ولقد

__________________

(١) حيث ان بلوغ التكليف دائر موار احد الأمرين : الاحتلام وهو بلوغ النكاح شدا للجسم ، وبلوغ السن وبمرشد العمر ـ وإيناس الرشد هو شد للعقل.

١٩١

بلغ الإسلام في واقعه التاريخي وعرج قمة رفيعة في الوفاء بالعهود حتى مع الكفار ، لم تبلغه البشرية إلا في ظلاله.

هناك عهود من الله على العباد : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦ : ٦١) ويتكرر ذكر هذا العهد بصيغ شتى تختصر في كلمة التوحيد (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ... وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) (٣٣ : ١٥).

ثم هنالك عهود منهم لله على أنفسهم : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) (١٦ : ٩١) (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(٣٣ : ٢٣).

ومن ثم عهد من الله ان يستجيب دعوتهم : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٤٠ : ٦٠) شرط وفاءهم بعهده : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٢ : ٤٠).

ثم عهود إلى العباد حتى الكفار يجب الوفاء بها إلا إذا هم نقضوا عهودهم فكيف بعهود المؤمنين : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) (٢ : ١٧٧) (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) ... كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) .. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (٩ : ١٢).

وإذا كان الوفاء بعهد المشركين فرضا على المؤمنين ، فبأحرى فرض الوفاء بينهم أنفسهم ، ثم عهدهم الى الله ، ثم عهد الله إليهم (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) كل حسب المسؤولية وثاقا في العهد وكيانا للمعهود له وعليه.

١٩٢

ثم العهد منا لزام علينا إذا لم يكن في محرم او حل لا يستطاع ، كما النذر واليمين ، والعهد الصالح الواجب الوفاء يعم كافة العهود ، الملتزمة على المعاهد ، سواء أكان بين أشخاص أم جماعات أو شخص وجماعة ام دولة او مع شعبها ام ماذا ، ولا نقض في العهد أيا كان إلا جزاء النقض وفاقا ، أو كان خطأ يرجع بالضرر الى المعاهد جماعة وفرادى ، ولا سيما الضرر على الإسلام فانه عهد محرم او لا يستطاع ف (لم يجعل الله رخصة في الوفاء بالعهد للبر والفاجر) (١).

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣٥).

هنا أمر بايفاء المكيل إذا كيل ووزن الموزون إذا وزن بالقسطاس المستقيم. ثم لا ذكر عما يعامل فيه عدّا حيث لا يكال ولا يوزن ، لأنهما الاكثرية الساحقة في المعاملات دونه ، لذلك لا نجد ما يصرح بالعدّ إلا يتيمة تشمله (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) (٧ : ٨٥) حيث الأشياء تشمل المعدودات ، وأخرى تنهى عن مطلق الإخسار : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) (٢٦ : ١٨١).

وقد يشمله الوزن حيث يعم وزن الثقل والعدد فتشمله آيات الوزن. بالقسطاس المستقيم والميزان بالقسط.

وإن إيفاء الكيل وإقامة الوزن هما من مصاديق الوفاء بالعهد ، حيث المعاملة تعاهد وأمانة في التعامل فلتكن موفية مستقيمة يستقيم بها التعامل

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٦٤ ح ٢٠٥ في كتاب الخصال عن عنبسة بن مصعب قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ثلاثة لم يجعل الله لأحد من الناس فيهن رخصة ، الى قوله): والوفاء بالعهد للبر والفاجر.

١٩٣

في الجماهير ، والثقة في النفوس والبركة في الحياة و «ذلك» الوفاء والقسط «خير جماعة وفرادى (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) في الأولى والاخرى ، من تأويل المأخذ : الفطرة والعقل والشرع. وتأويل النتيجة في الحياة الدنيا والآخرة.

فالبخس في التعامل قذارة نفسية وخيانة على الأنفس تتزعزع به الثقة ويتبعها الفساد والكساد وتقل به البركة.

فساد وكساد في نفس الباخس النحس ، وفي أنفس الجماعة هما شر وأنحس تأويلا.

وليس الأحسن هنا مقابل الحسن فان البخس ليس حسنا اللهم إلا ادعاء جوفاء ، فانه حسن بزعم الباخس أنه يربح اكثر من حقه ، وإذا كان حسنا حاضرا في هذا القياس فالإيفاء أحسن تأويلا في مثلث الزمان حيث يؤول ويرجع الى الحسنى في ميزان الله وإلى الحياة الاقتصادية ايضا ، حقيقة يدركها بعيدوا النظر وذووا البصر في التجارة ، وإن لم يكن هناك دافع خلقي او حافز ديني ، فمجرد إدراكها في الواقع التجاري بالتجربة العملية كاف ، وإذا التزمها عقيديا فنور على نور ، حيث تصبح لزاما لحياته دون تخلف ، نبعه تنبع من القلب فترش وتنزف على القالب اضافة الى نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي الى آفاق أعلى واجواء أسمى.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٣٦).

آية وحيدة في صيغتها الخاصة : (وَلا تَقْفُ ...) وأدلتها الخاصة : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ...) تختص اقتفاء المسلم واتباعه بما له علم دون ما دونه من ظن او شك او احتمال ، وتحمّل مسئولية افتناء غير العلم (السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ).

١٩٤

وفي سائر القرآن آيات عدة تنهى عن اتباع الظن (١) وتامر باتباع العلم او اثارة من علم (٢).

«لا تقف» من القفو : الإتباع المختار (٣) لفظيا او فكريا او عقيديا او عمليا ، فنقل غير المعلوم دون نقد قفو ، واعتقاده قفو والعمل وفقه قفو وأنت في كل ذلك مسئول ، دون فرق بين الأصول والفروع في صيغة النهي (٤) ولا صبغة الفطرة السليمة ، تجاوبا بين كتابي التكوين والتشريع في لزوم اتجاه الإنسان الى صلب الواقع ما وجد إليه سبيلا.

وهنا «علم» وليس «العلم» لكي تشمل درجات العلم مما تطمئن النفس ، ظنا متآخما الى العلم ، ثم علما : من علم اليقين او عين اليقين او حق اليقين ، سواء أكان علما لك ميسورا بما تبرهن من براهين ، او علما لمن تعلمه عالما ثقة فتتبعه فيما لا تجد لنفسك سبيلا ، فهذا علم بعلم ، وذالك علم ، فيشملهما «علم» كما شمل سائر ما يطمئن الإنسان.

وترى ان الآيات هي مظنونة الدلالة ومنها هذه ، فكيف يستدل بها

__________________

(١) راجع ص ٤٣٢ ج ٢٧ من الفرقان تحت عنوان : كلام في العلم والظن.

(٢) راجع ص ١٠ ... تحت عنوان : كتاب او اثارة من علم.

(٣) حيث الإتباع أعم من المخير والمسير ، المكروه والمختار ، ولكنهما القفو هو المختار فقط ولذلك اختير على الإتباع.

(٤) لا سيما ان هذا النهي واقع بين احكام فرعية من واجبات ومحرمات ، وليس فيها من اصول الذين الا «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ» أولا وأخيرا وليربط كافة الفروع الى اصل الأصول : التوحيد ، وأيضا لا يصلح هذا النهي للتقيد فإنه من القضايا التي قياساتها معها ، فما ليس للإنسان به علم وله طريق الى العلم لا يقفي ويصطفى غير المعلوم على المعلوم ، ثم وليس هناك ادلة من كتاب أو سنة تسمح باتباع غير العلم حتى تأتي مقيدة للآية ، فإن موارد الأصول العملية هي الشك الذي لا طريق فيه الى العلم والمكلف بين نفي واثبات ، وهذه الموارد خارجة عن نطاق الآية فانها تختص بما يوجد فيه طريق الى العلم.

١٩٥

على المنع من اتباع غير العلم؟ ...

هذه طنطنة أصولية هراء : «ان القرآن قطعي السند ظني الدلالة والحديث ظني السند قطعي الدلالة» فمن الحديث ظني الدلالة وهو الكثرة الساحقة ، وهذه الكثرة لا توجد في الدلالة القرآنية حيث الاعجاز القمة في بلاغته وفصاحته الدلالية يقضي على الدلالة الظنية ويجتثها من جذورها ، ولا سيما في آيات الأحكام والمعارف الأصلية فانها صريحة مهما كانت بحاجة الى تأملات وتدبرات ، وليس في آية القفو ما يريب في دلالتها فلا نطمئن بمدلولها!.

او ان «علم» هنا يشمل الظن وكما في آيات اخرى منها (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (٣ : ٤٥).

ولكنه «علم» والعلم فقط ، ولم يعن العلم فيما يعنيه ظنا ولا الظن علما : فكل يعني معناه لا سواه ، والظن في الآية ظن القلب وهو من أوسط العلم في العقل ، ولو ان الظن يستعمل في العلم بقرينة ـ ولا يستعمل ـ فلا يعني ذلك استعماله فيه دون قرينة ، او ان العلم يعني الظن دونها!.

واتباع أصول كأصل البراءة والاستصحاب والظاهر ام ماذا من أصول في مواردها ليس اتباعا للظن ، حيث لا يشترط فيها حصول الظن بل هي اصول تتبع بدلالة العقل والشرع فيما لا دليل على مواردها ، فاتباعها إذا اتباع للعلم وان لم يحصل به علم ولا ظن ، أو لان الأصول لا ترد الا في موارد الشك حيث لا سبيل الى علم ، فهل يبقى المكلف دون نفي او اثبات؟ والتكليف باق في نفي او اثبات! ام يقفوا خلاف هذه الأصول وهو قفو للمرجوع عقليا وعاديا ، ونقض لليقين المتعود بالشك كما في موارد

١٩٦

الاستصحاب والبراءة والظاهر؟ ... ثم إنها لا تقرر حكما وإنما تبين موضوعات لأحكامها إذ لا نجد سبيلا علميا إليها ، ومورد النهي عن إتباع غير علم مخصوص بما نجد لعلم إليه سبيلا. أم لا نجد ولا تكليف ثابتا بنفي او اثبات (١).

والضابطة الإسلامية السارية هي اتباع علم ما أمكن ، وإلا فلا اتباع ولا متابعة إلا بدليل قاطع من كتاب او سنة ثابتة او حس او عقل ام ماذا ، كما الأصول العملية ثابتة بالكتاب والسنة ودليل العقل وهي خارجة عن محور الآية.

فالقياسات والإجماعات والشهوات والروايات التي لا توافق الكتاب والسنة او تخالفهما ، انها لا تقفى إذ لا تفيد علما ولا اطمئنانا ، أم نطمئن بخطاها كالتي تضاد الكتاب او السنة الثابتة ، حيث الادلة القاطعة تطاردها.

إذا فلا نقفوا ما ليس لنا به علم. ولم تخصص الآية كثير تخصيص حتى تسقط عن الدلالة العلمية ، ولا قليله حيث الأصول غير العلمية التي نقفوها إنما نقفوها بعلم من كتاب او سنة او اثارة من علم ولا سبيل في مواردها إلا احكامها.

هناك علمي وهنا علم ، والعلمي ما يستند الى العلم كحجية الأصول العملية والشهادات ام ماذا من حجج شرعية ، دون خروج عن ضابطة الآية. وكما العلم علمان : اجتهادي وتقليدي.

فالتثبت عن كل خبر وكل ظاهرة وحركة قبل نقلها والإعتقاد بها

__________________

(١) فإذا تشك أو تظن ان فلانا زنى تجد سبيلا الى علم او لا تجد ليس عليك شيء ، ولكنك إذا كنت مديونا ثم تشك انك أديته أم لا هنا عليك تكليف ان وجدت سبيلا الى علم وتكليف آخر ان لم تجد هو اشتغال الذمة استصحابا ...

١٩٧

والحكم عليها ، والعمل وفقها ، إنه دعوة قرآنية صارمة سارية ، ومتى استقام السمع والبصر والفؤاد على هذا المنهج لم يبق بعد مجال للأوهام والخرافات في المعتقدات ، ولا مجال للظنون والشبهات في الأحكام والاقضية والتعاملات ، ولا مجال في العلوم للافتراضات والحدسيات ، حيث يتبنى الإنسان حياته في كل الجهات حياتا علمية دون تحكم للظنيات ، اللهم إلا المسنودة الى علم ، او المستفادة من علم ، فيما لا سبيل الى العلم ، والضرورة قائمة بنفي او إثبات ، كما في موارد الأصول العملية والشهادات ، تداوما في سير عجلة الحياة.

هناك طريقة آفاقية لعلم او ظن ام ماذا ، هي السمع والبصر ، واخرى أنفسية هي الفؤاد ، ففيما تسمع حق وباطل ، وفيما تبصر حق وباطل ، وفيما تعتقد فطريا او فكريا وعقليا وفي الفؤاد حق وباطل ، وبين الحق والباطل أربع أصابع ، فما تسمعه أكثره الباطل وما تبصره اقله الباطل. وما تتفأده فيه حق وباطل ف (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

ان السمع والبصر في تلقيهما ما يتلقيان ، ثم ما يلقى منهما بلسان او قلم او اعتقاد او عمل ام ماذا ، إنهما مسئولان! ف «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء كان حقا على الله ان يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال» (١) «ومن قفا مؤمنا بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» (٢) و «من بهت مؤمنة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٨٢ ـ اخرج الحاكم وصححه ن أبي ذر قال قال رسول الله (ص) ...

(٢) المصدر اخرج ابو داود وابن أبي الدنيا في الصمت عن معاذ بن انس عن النبي (ص) من حمي مؤمنا من منافق بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن قفا.

١٩٨

أقيم في طينة خبال او يخرج مما قال» (١).

ثم الفؤاد وهو القلب المتفئد المشتعل المشتغل بما اعتقده او عقده ، اشتعال النور بالحق او النار بالباطل ، ومعه معداته بما يتفأد ، إنه مسئول ، حيث يفعل او يقول ما اعتقده دون علم!.

إنها امانة كبرى للجوارح كلها وأهمها السمع والبصر ، وللجوانح كلها وأهمها الفؤاد ما يأخذه الإنسان وما يؤتيه ، اللهم إلا قفوا العلم.

امانة ترتعش اركان كيان الإنسان لجسامتها وضخامتها في دقتها : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) : مسئولية تضرب إلى اعماق الزمن منذ جرى عليه قلم التكليف.

ف «ليس لك ان تتكلم بما شئت» (٢) حيث الإنسان مسئول عن كل ما يفعل او يعتقد او يقول ف «السمع وما وعى والبصر وما رأى والفؤاد وما عقد عليه» (٣) كل أولئك مسئول.

__________________

(١) نور الثقلين : ١٦٤ ح ٢٠٦ في تفسير علي بن ابراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في الآية قال : «لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقال رسول الله (ص): من بهت ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٦٥ ح ٢٠٩ في كتاب علل الشرائع باسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال حدثني علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه قال قال علي بن الحسين (ع): ليس لك ان تتكلم بما شئت لأن الله عز وجل يقول (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ولأن رسول الله (ص) قال : رحم الله عبدا قال خيرا فغنم او صمت فسلم ، وليس لك أن تسمع ما شئت لأن الله عز وجل يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

(٣)المصدر ح ٣١٣ عن الحسن قال : كنت أطيل الجلوس في المخرج لأسمع غناء بعض الجيران. قال : فدخلت على أبي عبد الله (ع) فقال لي يا حسن ، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) السمع ...

١٩٩

ترى ولماذا «أولئك» والثلاثة من أعضاء الإنسان؟ ... لأن الفؤاد هو المتن في عقلية الإنسان ، والسمع والبصر هما الإدراكان على عقل ، فهي إذا «أولئك» حيث تجمع مدارك الروح من الإنسان!.

ثم المسؤول هل هو الإنسان يسأل سؤال تأنيب عما يفعله بهذه الأعضاء؟ فيرجع ضمير الغائب «كان» الى الإنسان! : «كان الإنسان عن (أولئك) مسئولا» لماذا استعملها في غير علم؟ ...

ام هو كل من السمع والبصر والفؤاد ، ان كلا منها مسئول عنه فيما فعل ، فالضمير لكل منها على البدل؟ «كان كل عن نفسه مسئولا» ام الضميران راجعان الى الإنسان فالإنسان هو المسؤول عنه في هذه الاخطاء.

«كان» هذه تتحملهما أدبيا ومعنويا ، فقد يسأل الإنسان عنها ما فعله بها (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وتسأل الأعضاء فتحدّث أخبارها بما تحمّلت وسجّلت الأقوال والأعمال (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ...) (١٧ : ١٣) وكذلك الفؤاد حيث يخبر بما ارتسم فيه من عقائد ، حيث يوقف موقف الاستنطاق فلا حول له عما سجل : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤١ : ٢٠) كما الإنسان مسئول عنه في اخطاءه بهذه الثلاث أم ماذا؟.

فالإنسان مسئول عن هذه الأعضاء ومسئول عن نفسه بما فعل بها ، والأعضاء مسئول عنها ، مسئولية كبرى تشمل الإنسان كل الإنسان.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)(٣٧).

ان المشي في الأرض مرحا اختيال وافتخار فإسراف واستكبار ، فهو

٢٠٠