الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ

١٤١

عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)(٣٩)

١٤٢

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢).

قاحل يخلف اللّوم والحسر.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥)

آيات تجمع بين الوالدين في احكام أكثرها الإحسان بهما وكثير منها تجمع إليهما غيرهما ، وهذه مما تخصهما بالاحترام بعد الله لا تحريما للاحترام فقط وانما الإحسان وأي احسان (١) ولا تجد تفصيلا في غيرها كما فيها ، وقد تختص بالقضاء دون غيرها حكما ومحكوما له. محتوما مقضيا لا حول منه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وقد نرى ردف الوالدين بالرب فيما يوصي او يقضي للوالدين الا قليلا يرد فان فيها بالله تدليلا على ان حق الوالدية كحق الربوبية وبعدها لأنها استمرارية للتربية الالهية ، فكما الرب الله لا يعبد إلا إياه ولا يساوى او يسامى به سواه ، كذلك الرب الوالدان لا يساوى بهما سواهما في الإحسان ، اللهم إلا رسل الله حيث يحملون من التربية الإلهية ما لا يحمله الوالدان اللهم إلا في الولادة الجسمية وتربيتها وقد يشمل «الوالدين» كلتا الولادتين الروحية والبدنية فهما على درجات : الوالد الروحي الأول وهو المجرى الأول للولادة الروحية : أهل بيت الرسالة المحمدية ، ثم من يحذوا حذوهم في التربية الإلهية ، ثم الأدنى الوالد الجسمي الذي لا يعني التربية الروحية ، ثم بينهما أوساط ، فكلما ارتفعت درجة الوالدية ارتفعت ميزانية الإحسان ، ثم

__________________

(١) راجع ج ٢٦ الفرقان ص ٢٩ ـ ٣٠٩ تفسير الآية «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ... والذي قال لوالديه أُفٍّ لَكُما ... تجد تفصيل البحث في حقوقهما هناك.

١٤٣

الإحسان بالوالد الروحي يختلف عما للوالد الجسمي ، ويجمعها المواجهة بالحسنى في عشرة روحية اماهيه وفي الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «أنا وعلي أبوا هذه الأمة» وعن الإمام علي (عليه السّلام) «ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

هذه القضاء حكم تشريعي صارم وفصل قاطع حاكم تحمل سلبيات وايجابيات ، ترى أنهما تختصان ب «ربك» ام و «الوالدين»؟ أم تشمل كافة الايجابيات والسلبيات التالية الاثني عشر : أمرين ونواهي عشرة قد تحتملها الآية ، أو ان الشمول أقرب فإن (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ...) أو أن الأوجه هنا اختصاصها بالرب والوالدين (١) ثم الشمول ، وجوه تحتملها الآية تلو بعض.

والحكمة هي القضاء بما يربط بين المنفصلات.

فان القضاء هذه تبدأ ب (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وتنتهي بمثلها (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) حيث تجمعهما (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فسلبيات هذه القضاء بادئة من «لا اله» وإيجابياتها من «إلا الله» كما وأن (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) تحتل المحور الاساسي والمركز الرئيسي في كافة الاقضية التكوينية والتشريعية سواء ، فقصارى شرعة الإسلام وكل شرعة الهية هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)!.

__________________

(١) قد توحي : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» دون وأن بالوالدين ام ماذا ـ باختصاص هذه القضاء بتوحيد الله ، ثم يتلوه «بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ثم سائر الأحكام ، وقد تؤيده الآية السالفة لها «لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...» او ان القضاء لها مراحل ثلاث : لله ـ للوالدين ـ ولسائر الأوامر والنواهي التالية ، او يقال ان القضاء هنا قضى به لا فيه او عليه اوله او قضاه ، فان قضى به حكم تشريعي ، فلا تشمل إذا الا «أَلَّا تَعْبُدُوا ...» اي «بان لا تعبدوا ...» ثم «بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» اي قضى بإحسان الوالدين» بان أحسنوا بالوالدين إحسنا ثم لا موقع لسائر الأوامر والنواهي ولا سيما أن الأمر تقدير للباء ، فان «آت ...» لا تتحمل الباء ، اللهم الا «بان آت ذا القربى حقه كما في «بان أحسنوا ...».

١٤٤

«وقضى» (١) امر وحكم (٢) في صيغة القضاء تخلع على الأمر معنى التوكيد انه بثّ جزم لا ينسخ ، تمام لا ينقطع. الى جانب الحصر المستفاد من الاستثناء «إلا إياه» فصيغة التعبير تصوغ توحيدا سائغا لكيان الربوبية الوحيدة ، وهي أولى الاقضية وأولاهما كما وهي عقباها وأخراها.

ولماذا «قضى» هنا «ربك» لا : رب العالمين ولا : الله؟ لأنه يعني في هذه الأقضية الجوانب التربوية ، لتكن منوطة مربوطة بجانب الربوبية ، فربوبيته هي الحاكمة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ـ (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ام ماذا؟

__________________

(١) ومن الأقاويل هنا في قضى ما رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس انه قال في هذه الآية : كان الأصل «ووصى ربك» فالتصقت احدى الواوين بالصادق فقرئ «وَقَضى رَبُّكَ» ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله احد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع! أخرجه في الدر المنثور ٣ : ١٧٠ عن ابن عباس بعدة طرق وعن ابن مسعود والضحاك بن مزاحم واخرج ضده عنه مجاهد وقد جاء القضاء بمعنى الحكم الشرعي الثابت في آيات اخرى : «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (٣٣ : ٣٦) «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (٤ : ٦٥).

أقول : وهذه من الأقاويل الحمقاء التي تفتح باب التحريف في القرآن الحكيم ، ولم يدر المختلق المسكين ان القضاء لا تختص بالتكوين فقد تكون تشريعيا كما هنا ، ولو ان القاف تشتبه بالواو لكان مثله وادنى منه كثيرا في القرآن فلا اعتماد إذا في كتب القرآن.

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٤٨ عن التوحيد باسناده الى ابن عباس عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه فقال الشيخ : يا امير المؤمنين! فما القضاء والقدر اللذان ساقانا وما هبطنا واديا ولا علونا تلعة الا بهما؟ فقال (عليه السّلام) : الأمر من الله والحكم ثم تلا هذه الآية (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ...) أقول : يعني هنا خصوص الأمر التشريعي او ما يشمله ثم يمثل بهذه الآية التي تحمل هذا الأمر.

١٤٥

ومن ثم «ربك» توحي بهذه التربية العالية التي تفوق العالمين أجمعين ، فعلى ضوء التربية المحمدية : (قَضى رَبُّكَ) بهذه الأقضية ولكن تربوا ربوة عالية على كافة التربيات ولأنها قضاء في الأمة المرحومة في شرعة تجمع الشرائع وزيادة : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) نهي كأول مورد للقضاء او تفسير لها (١).

وقضاء التوحيد هي القاعدة والأساس ، تتبناها سائر التكاليف العقلية وسواها ، فردية وسواها ، فلها في نفس الموحد ركيزة التوحيد ، توحد البواعث والاهداف في كافة الجنبات الحيوية ان يصبح ككل توحيدا في عبادة الله. وكذلك يتمثل ككل : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ان أحسنوا بالوالدين إحسنا (٢) في حال ومال. في حل وتر حال ، في كل حال على أية حال ، لا فقط أن الإساءة إليهما محرمة ، بل وترك الإحسان بهما محرم ، فالاحسان يشمل كل ظاهرة في العشرة حتى وفي المشي والقعود والتسمية وعلى حد المروي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٣).

يفرض هنا وهناك إحسان الأولاد بالوالدين ولا يفرض العكس ، لأن البنوة والناشئة المتغافلة الجديدة هي المحتاجة إلى استجاشة وجدان البر والرحمة ، حيث الوالدان مندفعان بالفطرة إلى الإحسان بالأولاد ، لا ينسونهم او يتناسون حتى وإذا نسوا أنفسهم. ولكنما الناشئة فسرعان ما

__________________

(١) فعلى الأول تقدر الباء «بان لا تعبدوا» وان ناصبة ولا تعبدوا نفي بمعنى الأمر وعلى الثاني دون تقدير وان مفسرة ولا تعبدوا نهي.

(٢) وان هنا مفسرة دون تقدير للباء إذ لا تدخل الناصبة على غير المضارع اللهم إلّا على تقدير ان تحنوا.

(٣) الدر المنثور ٣ : ١٧١ ـ اخرج ابن مردويه عن عائشة قالت أتى رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه شيخ فقال من هذا معك؟ قال أبي قال : لا تمشين امامه ولا تقعد قبله ولا تدعه باسمه ولا تستسبّ له.

١٤٦

ينسون او يتناسون عطف الوالدين ، ملتهين بشؤونهم أنفسهم في تبني الحياة الجديدة ، لا سيما إذا شاخ الوالدان وساءت أخلاقهما وصعبت حياتهما وثقلت عليهم حمل أعباءهما ، لذلك فالجيل الناشئ هو المحتاج لقضاء الله ووصيته ، استجاشة لدفائن وجدانهم ليذكروا واجبهم وجاه الجيل الذي أنفق رحيقه كله في انتشائهم حتى أدركه الجفاف.

ولكن هل الوالدان كلهم يعملون واجبات الوالدية التربوية وجاه الأولاد لكي لا يحتاجا الى استجاشة كما الأولاد؟

قد يقال ان المقام هنا لك مقام الإحسان لا واجب التربية ، وإن كان الإحسان يشمل الجانب التربوي إذا كان الولد أقوى تربية وأرقى من الوالدين فالرعاية التربوية واجبة على كل راع وكلكم مسئول عن رعيته الوالدان او الأولاد ام من ذا ، والأقربون اولى ثم من دونهم وكما يستطيع في الشعاع التربوي ولا تعني تلك القضاء وتلكم الوصيات بحق الوالدين إلا الحنان والإحسان في العشرة ، مهما شملت أحيانا التربية.

ولكي يراعي الوالدان ايضا أولادهم فلا يضاروهم ف (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ...) (٢ : ٢٣٣) إن في رضاعة ام ماذا ، ومن المضارة التقصير في المحبة والتربية ، فالوالدان ـ إذا ـ يؤمران بترك المضارة بأولادهما ، ولكنهما يفوقان الأولاد في واجب الإحسان حنانا واحتراما ، فواجب الإحسان أمر ، وواجب التربية أمر آخر قد يختلطان وقد يفترقان.

يقضي الله تعالى هنا بالإحسان إليهما ، ومن أفضل الإحسان وأوجبه هديهما الى الحق ان خالفاه فسقا ام ضلالا ام ماذا ، فالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة عامة ، ثم وقاية الأهلين خاصة. ثم هي بالنسبة للوالدين أخص ، إذا فهي واجبة بالنسبة لهما في أبعاد ثلاثة.

١٤٧

ومن ثم يركز قضاء الإحسان بهما على أضيق حالاتهما ، حيث يضاف سوء الخلق الى اعباء الكبر ونظراتهما الطائلة من الناشئة ، أن من واجب الأولاد تحمّل مثلث الأعباء أم ماذا؟ دون تلفّت عنها او تفلّت منها ولا تعنت حتى في أدنى لفظه من قول «أف» :

(... إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)(٢٤).

... كما بلغت عندهما من الطفولة الى الحلم ، والى الكهولة ام ماذا! ولم تر منهما إلا الإحسان ، إما يبلغن ... (١) ترى وما هي الملائمة بين «إن» الشرطية ونون التأكيد القاطعة؟ علها التأكيد على تحصيل هذا الشرط ان يجدّ الأولاد لكي تستجد عيشتهما عندهم باستمرار ما هما حيان لا أن ينفصلوا عنهما أو يفصلوهما عنهم إذا كبر أحدهما أو كلاهما ، بل ويستمروا في العيشة الراضية معهما ، ويهتموا رقابة على صحتهما إن يكبرا عندهم ، تقديما لكافة الإمكانيات في كافة الجهات للحفاظ على سلامتهما وعلى كونهما عندهم.

أنت كنت عندهما لحد الآن. فليكونا عندك من الآن ، ف «عندك» توحي بحالة الالتجاء فالإلجاء ، التجاء بالتجاء وإلجاء بإلجاء وهو بعد لن تكون جزاء وفاقا حيث الجأك في طفولتك ولا ملجأ لك إلا والداك ، وأنت تلجئهما في شبابك وهما في كهولة او زاد

«فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما

__________________

(١) اما هي ان الشرطية وما المؤكدة حيث تسمح لدخول نون التأكيد. ف «ان» ضرورة لبيان ظرف الشك إذ لا يعلم انهما يكبران عندك ام لا ، ثم «ما» المؤكدة وتقدم «عند» ونون التأكيد الثقيلة ، هذه كلها تأكيدات تفرض على الأولاد ان يقدموا كل امكانياتهم لبقاء هما عندهم وان يكبرا عندهم.

١٤٨

يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما (١)

وطبيعة الحال في الوالدين لا سيما إذا كبرا ، فلم يقدرا على تحصيل بلغة المعاش ماديا ام ماذا؟ وهما عندك بما عندك أهل وأولاد ، وهما ينتظرانك ان تعطف لهما كل عطف ، فهما لهذا وذا قد يغيظان عليك ويسيئان أخلاقهما إليك ، في هذه الحالة الصعبة الملتوية ماذا عليك؟

عليك التصبر والاحترام ، دون اي تضجر واخترام ، لا يسمح لك حتى في اقل لفظة تحمل ادنى تضجر : «أف» : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فضلا عن ان تنهرهما : (وَلا تَنْهَرْهُما) حتى وان نهراك او ضرباك! فلا فحسب عليك سلبية أف او نهر أم ماذا من إساءة ، بل وعليك الإحسان إليهما واي احسان؟ في قول : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ومن ثم فعل (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ولكنك لحد الآن ما أديت حق الإحسان إليهما ، فعليك الالتماس من ربك أن يكفّي هو هذا الإحسان (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)!.

قول «افّ» لهما محرم ، ثم نهرهما محرم ، وترك قول كريم لهما محرم ، وترك خفض الجناح لهما من الذل محرم ، وترك القول (رَبِّ ارْحَمْهُما ...) محرم واين خماسية التحريم هذه؟ فيما إذا اجتمعت لهما عليك شروط تضجرك ، ان بلغا عندك الكبر! فما هي الواجبات والمحرمات عليك وجاههم ، إذا لم يبلغا الكبر ولم يكونا عندك ولم يضجراك؟.

__________________

(١) الكسا ام للزمخشري ٢ : ٥١٤ روى سعيد بن المسيب ان البار لا يموت ميتة سوء وقال رجل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ان ابويّ بلغا من الكبر إنّي ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتها؟ قال : لا فإنهما ...

١٤٩

قد تشمل (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إحسانا في هذه الخمس وما بعدها ، ابتداء بترك أدنى إساءة «أف أو نهر» فسائرها أولى بالترك ، ثم القول الكريم ، ثم الفعل الكريم (وَاخْفِضْ لَهُما) ومن ثم دعاء كريم (رَبِّ ارْحَمْهُما ...) وهذه في تضيق أخلاقهما إن كبرا عندك ، فما ذا بعدوهما في حالة الاستغناء عنك والحنان عليك؟.

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) ... وهو ادنى العقوق (١) .. وفي «أف» وجوه لفظية عشرة (٢) هذا أوجهها قضية كتبها في تواتر القرآن فلا يصغى الى صيغ اخرى ، كما لها وجوه معنوية ست (٣) يجمعها اظهار التضجر وكما في

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧١ عن عائشة قالت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

وفي نور الثقلين ٣ : ١٤٩ عن اصول الكافي باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ادنى العقوق أف ولو علم الله شيئا أهون منه لنهى عنه وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) ومن العقوق ان ينظر الرجل الى والديه فيحد النظر إليهما.

وفيه عن أبي المأمون الحارثي قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما حق المؤمن على المؤمن؟ قال : من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره ـ الى ان قال ـ : وإذا قال له أف فليس بينهما ولاية.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٨٨ ـ قال الزجاج فيه سبع لغات : كسر الفاء وضمها وفتحها ، منونا وسواه ، والسابعة «أفي» وذكر ابن الانباري نقلا عن الزجاج ثلاثة وجوه اخرى (إفّي) بكسر الالف وفتح الفاء و (أفه) بضم الالف وإدخال الهاء و (أف) بضم الالف وتسكين الفاء.

قرء ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين ، ونافع وحفص بكسر الفاء والتنوين ، والباقون بكسر الفاء من غير تنوين ، وكلها لغات وعلى هذا الخلاف في الأنبياء (أف لكم) وفي الأحقاف (أف لكما).

أقول فهذه عشرة كاملة هي : «إف أف ـ أف ـ إف ـ أفي ـ أفة ـ أف» وقد ذكرها ابن منظور الافريقي في لسان العرب ج ١ ص ٧٣.

(٣) وهي : الوسخ الذي حول الظفر والتف الذي في الظفر ـ وسخ الاذن والتف وسخ ـ

١٥٠

الفارسية (أه) (أو) والحق أنها لا تعني إلا ما تعنيه صيغة اللفظ وأصله نفخك للشيء يسقط عليك من تراب او رماد ، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه.

ثم الاف منها لفظي ومنها نظرة بغضاء أو حركة او كتابة ام ماذا؟ وكما يروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما أباه من حد اليه الطرف» (١).

فالأفّ وهي أدنى العقوق تشير الى أدناه في لفظة او لمحة ام ماذا من مظاهر التضجر دون اختصاص.

وإذا يحرم ان تقول لهما «أف» فباحرى ان تنهرهما او تسبهما او تضربهما ، ولأن الاف قد ينتهي الى النهر يثنيه ب :

(وَلا تَنْهَرْهُما) زجرا بالصياح ورفع الصوت عليهما والإغلاظ في القول حيث يشي بالإهانة وسوء ادب ... لا ـ و ـ لا! وانما :

(وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) : قولا يحمل إكرامهما وان ضرباك او أهاناك ، وكرم القول هو التوسع في عطوفته ولينته ، ومن العطف بهما أن تأمرهما بمعروف تركاه وتنهاهما عن منكر اقترفاه ، كأن يسيا إليك أم سواك ظلما ، وتراعي في كل ذلك أن «لا (تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

__________________

ـ الإطفاء ـ الافف : الضجر والقلة ـ كلمة تضجر ـ جعل يتأفف من ريح وجدها ومعناه يقول : أف أف ـ ذكرها في لسان العرب والتفسير الكبير للفخر الرازي.

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧١ ـ اخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عائشة قالت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

وفيه ٣ : ١٧٢ عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ما من ولد بار ينظر الى والديه نظرة رحمة الا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة. قالوا : وان نظر كل يوم مائة مرة؟ قال : نعم الله اكبر وأطيب.

١٥١

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) : اخفض لهما ... كما خفضا لك واين خفض من خفض؟ اخفض لهما جناح الذل ، لا جناح العزو الكبرياء أن ترعاهما تحت جناحك امتنانا وامتهانا ، حتى ولو كانت رعاية كاملة كافلة ، فانه جناح فيه جناح ، وانما جناح الذل الخافض من الرحمة مثلث من الرعاية يحمل ارحمها وأتمها.

فليكن كلك لهما جناحا ، من فكرة او قولة او فعلة ، من مال او حال او منال ، وليلمسا أنهما عندك في جناح أيا كان وأنّى وأيان ، ومن ثم ذل في كل جناح ، وليكن جناح الذل ثابتا من أصول الرحمة ، جانحا طاقات العطوفة ، فترك بسط الجناح لهما جناح ، وجناح العز جناح ، وجناح الذل من دون رحمة جناح ، وانما جناح الذل من الرحمة (١) فرغم ان الجناح لا يعني لصاحبه إلا ان يطير به ، فهو وجاه الوالدين فرش لهما يعيشان عليه ، او يطير به الوالدين الى مآربهما ، كما الطائر إذا يطير يرفع جناحه وإذا يرعى فرخه يخفضه من الرحمة ، وخلاصة المعني من خفض الجناح الإخبات

__________________

(١) اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في آية الوالدين سئل ما هذا الإحسان؟ فقال : الإحسان ان تحسن صحبتهما وان لا تكلفهما ان يسألاك مما يحتاجان إليك وان كانا مستغنيين أليس الله يقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ثم قال (عليه السلام) واما قول الله عز وجل (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ...) ان أضجراك فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ان ضرباك (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ان ضرباك فقل لهما غفر الله لكما فذلك قول كريم (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ـ) لا تمل عينيك في النظر إليهما الا برحمة ورقة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقم قدامهما.

وفي الدر المنثور ٣ : ١٧٤ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس (رضي الله عليه) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أصبح مطيعا لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وان كان واحدا فواحد ومن امسى عاصيا لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار وان كان واحدا فواحدة قال رجل : وان ظلماه؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وان ظلماه وان ظلماه وان ظلماه.

١٥٢

للوالدين وإلانة القول لهما والرفق واللطف بهما.

في كلّ ذلك يشترك الوالدان. مسلمين كانا او كافرين (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (٣١ : ١٥) معروفهما وهو هكذا إحسان إليهما.

ثم يختص الوالدان المسلمان بمزيد الإحسان حيين كانا او ميتين ان تدعو لهما بخير وتستغفر (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

ف «ارحمهما» من الرحم والرحمة بالنسبة للدنيا وللآخرة ، ام وللدنيا فقط كما للمشركين فان الاستغفار لهما ممنوع : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ..) (٩ : ١١٣)(١) فإذا تبين أن الوالدين او أحدهما من اصحاب الجحيم لا يسمح لهما الاستغفار حياتا ومماتا ، اللهم إلا طلبا للرحمة الالهية ان تشملهما حالة الحياة بأن يؤمنا او يخففا عن شركهما ، وهذه الآية وان كان بينها وبين آية الوالدين عموم من وجه تتوارد ان في الوالدين المشركين الا ان هذه نص في العموم بدليل الإشراك من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم فلتقيد آية الوالدين دون ريب.

__________________

(١) الذر المنثور ٣ : ١٧١ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله تعالى : «وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما ...» ثم انزل الله بعد هذا : «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى».

وفيه عن ابن عباس وقتادة قالا : نسختها الآية التي في براءة (ما كانَ لِلنَّبِيِّ ...) أقول : هذا تقييد لا طلاق آية الاسترحام ولان القرآن كان ينزل نجوما من عام وخاصه ومن مطلق ومقيده ، لذلك قد لا يعتبر مثل ذلك نسخا ، او يقال : أريد الإطلاق أولا ثم نسخ الإطلاق ، ولكن «ما كان» يضرب الى اعماق الماضي ان هذا الاستغفار كان محرما منذ البداية ، وعله كان من الضروري عدم جواز الاستغفار للمشركين من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم ...» ثم النسخ على خمسة اقسام : نسخ العموم او الإطلاق او الخصوص او التقيد او نسخ مباين جزئيا.

١٥٣

وقد تلمح (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أن الرحمة المطلوبة هنا هي الدنيوية ، ولكنها ليست رحمة إذا لم تتبعه الرحمة الاخروية او منعتهما إياها ، إذا فالرحمة المطلوبة هي الملائمة للحياة الآخرة ، منذ الدنيا ام في الآخرة. الا ان رحمة الاستغفار للمشركين مقطوعة ممنوعة عنهما وان كانوا اولي قربى : والدين ام من ذا؟ من بعد ما تبين أنهم أصحاب الجحيم ، واما قبل التبينّ فمسموح لهما الاستغفار وان كانوا مشركين ، لا إن ماتوا مشركين.

وترى إذا كانت قوله «الاف» لهما محرما ، فكيف يقول ابراهيم للمشركين وفيهم أبوه آزر ، (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢١ : ٦٧) ثم وما فوق الأف (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦ : ٧٤).

والجواب عن أف ان آزر لم يكن والده وإنما عمه ثم هذا الاف موجه الى ضلال الشرك أيا كان وفي اي كان ، وكذلك (ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث الدعوة الرسالية وتفنيد الضالات واجبة إطلاقا ، وقد تكون بالنسبة للوالدين أوجب رحمة بهما ان يهتديا الى صراط مستقيم.

ثم إن حرمة الوالدين ليست لتمنع عن حرمة الله فلم يجعلهما الله شريكين لنفسه او زاد وإنما فرض الإحسان إليهما وطاعتهما فيما لم يعارض طاعة الله وما افترضه الله.

وإنها لذكرى حانية ، الطفولة الهزيلة الضعيفة حيث يرعاها الوالدان.

فلأنك لا تسطع مقابلة لهما بالمثل تطلب من ربك ان يرعاهما كما ربياك صغيرا ، حيث هما اليوم في مثل حالة الطفولة من الضعف والحاجة

١٥٤

الى الحنان والرعاية ، وهو القادر على جزائهما عما بذلا وقدما لك في الطفولة.

وهو الرحمان الرحيم يجازيهما في الاخرى ، ام في الأولى ، ام فيهما ، لما تسترحم ربك لهما ، اللهم إلا فيما لا يقبل الرحمة : ان يموتا مشركين ، فرحمتهما إذا يخص الأولى.

وترى هل من الإحسان إليهما وترك الاساءة لهما ترك الواجب او فعل الحرام؟ قد تلمح (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ...) ان ما دون الشرك من الحرام مسموح إحسانا بالوالدين ، إلا أن (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) تحصر طاعتهما في الأمور الدنيوية ، غير المربوطة بالآخرة ، ثم القضاء الأول (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) تحصر الطاعة في الله ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله ، اللهم إلا الواجبات غير التعيينية التي لها مندوحة فضلا عن المستحبات ، اللهم إلا إذا كان النهي عنها معارضة لشرعة الله ، وعلى اية حال (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) ما استطعت دون ان ترضيهما بسخط الله ، فإذا تهجرهما هجرة الى الله فحاول في ان تضحكهما بعد البكاء (١) ولما تريد الجهاد «ففيهما فجاهد» (٢) إذا لم يكن فرض عين.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٧٣ ـ اخرج الرزاق في المصحف والبخاري في الأدب والحاكم وصححه والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال : جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبايعه علي الهجرة وترك أبويه يبكيان قال : فارجع إليهما واضحكهما كما ابكيتهما.

(٢) الدر المنثور ٣ : ١٧٢ ـ اخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلّم عن عبد الله ابن عمر قال : جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد الجهاد ، فقال : ألك والدان؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد.

أقول : لعل المسؤول عنه هو مطلق الجهاد ، او الجهاد الذي لم يكن فرض عين.

وفيه اخرج سعيد وابن أبي شيبة واحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي ـ

١٥٥

ان فرض طاعة الأبوين والإحسان إليهما هو بعد فرض الله تعالى فلا يتعارضان حتى يؤخذ بالأهم ولا أهم إلا فرض الله ، ولا تعارض بين الفرض المخير فيه من الله والفرض القاطع وجاه الأبوين ، اللهم إلا في الكفائي إذا كان تركه ينقص الكفاية ، وإذا كان نهيهما عن المستحب لصالح له أولهما يتنجز الترك ، واما النهي دون صالح فلا ، مهما كان «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» (١) فانه فيما لم يناف رضى الله او يستوجب سخط الله!.

ففي الاستنفار العام للجهاد او الدفاع او اي واجب جماعي يجب النفر ولا يمنعه منع الوالدين ، وفيما دونه من الواجبات الكفائية او التخييرية قد

__________________

ـ عن معاوية بن جابر عن أبيه قال : أتيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أستشيره في الجهاد فقال : ألك والدة؟ قلت : نعم ـ قال : اذهب فألزمها فان الجنة عند رجليها واخرج مثله عبد الرزاق عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأضاف ثم الثانية ثم الثالثة لمثل ذلك» أقول : لعله يعني الرجعة اليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) او الاستشارة اليه ثانية ، وثالثة فقال : كمثل ذلك.

وفيه اخرج ابن مردويه والبيهقي عن انس أتى رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : اني اشتهي الجهاد ولا اقدر عليه فقال : هل بقي احد من والديك؟ قال : امي قال : فاتق الله فيها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد ، فإذا دعتك أمك فاتق الله وبرها.

واخرج البيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنومك على السرير بين والديك تضحكهما ويضحكانك أفضل من جهادك بالسيف في سبيل الله. واخرج عنه قال مر رجل له جسم يعني خلقا فقالوا : لو كان هذا في سبيل الله فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعله يكد على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله لعلّه يكد على صبية صغار فهو في سبيل الله لعله يكد على نفسه ليغنيها عن الناس فهو في سبيل الله

(١) تفسير الزمخشري ج ٢ ص ٥١٣ وفي هامشه يسنده الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدة طرق.

١٥٦

يفرضه أمرهما كما يمنعه منعهما اللهم الا إذا كان عن عناد أم اللامبالات بالدين فلا حتى في ترك المستحبات وفعل المكروهات ، وجملة القول في حدود الإحسان بالوالدين ألا يكون فيه إساءة الى الله ام الى سواه دونما استحقاق ، ولا يكون معارضة للشرعة الإلهية ، ففيما أنت بالخيار فعلا او تركا في المباحات والمستحبات والمكروهات وحتى الواجبات التخييرية او الكفائية غير المنجزة قد ينجز أمرهما او نهيهما فتصبح واحدة من هذه الخمس واجبا عليك معينة او محرمة إذا كان في هذا التنجيز مصلحة لك أولهما او حنانا عليك منهما ، دون ان يكون عن جهلهما او تجاهلهما او اللامبالات منهما ام ماذا؟ مما هو إساءة بأحكام الله.

ثم إن حرمة لفظة الاف او لمحتها او تضجر ظاهر بالنسبة للأبوين لا تمنع حليتها او وجوبها في مقام إقامة البرهان لإثبات حق الله كما (قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ... إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث كان في مقام الاحتجاج لابطال الشرك واثبات التوحيد وهو واجب الدعوة الرسالية الاولى والاخيرة ، اضافة الى ان آزر لم يكن والده وانما عمه أوجده لأمه ، وحتى إذا كان والده كان قد ادى واجبه الرسالي.

ولقد اوصى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من عترته بمختلف أشكال الإحسان بالوالدين لحد القول في الابن «أنت وما لك لأبيك» (١)!.

__________________

(١) الكشاف للزمخشري ٢ : ٥١٤ من رواية سعيد بن المسيب شكا رجل الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أباه انه يأخذ ماله فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : انه كان ضعيفا وانا قوي وفقيرا وانا غني فكنت لا امنعه شيئا من مالي واليوم انا ضعيف وهو قوي وانا فقير وهو غني ويبخل علي بماله فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع هذا الا بكى ثم قال للولد : أنت وما لك لأبيك أنت وما لك لأبيك» وشكا اليه آخر سوء خلق امه فقال (صلّى الله عليه ـ

١٥٧

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ (١) تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥).

قد تعني الآية الإجابة عما ربما يتقول : أننا في نفوسنا صالحون فما ذا علينا في «أف» او «نهر» ام ماذا من جوارح الجوارح وجاه الوالدين؟ ما دامت نفوسنا صالحة لا تريد إلا الخير لهما؟.

والجواب : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) فلأن صلاح النفوس تتمثل في صلاح الأعمال فالمسيئ الى الوالدين ليس من الصالحين ، فهي ادعاء خاوية جوفاء أن صلاح النفس والنفس فقط هو المرغوب دون الجوارح في الأعمال!.

ثم واجابة ـ كما يعني ذيلها ـ عمن قصر في حقهما وهو صالح دون تقصد ، وانما تلفتّ دون تفلّت وعناد ، وانما خطأ جاهل دون فساد ناشئ من فساد النفس ، فالجواب (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) فمن الصالحين ـ حين يخطأ ـ أوّابون (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) ثم لا صالح يخطأ وليس من الأوابين ، اللهم إلا صالحا يدعي الصلاح ، وأنه أساء إليهما خطأ ، فلأنه ليس صالحا حتى يكون من الأوابين ، لم يكن الله ليغفر له هذه الإساءة.

والأوابون هم الراجعون الى الله دوما معتذرين عما قصروا او قصّروا ،

__________________

ـ وآله وسلّم) : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال : انها سيئة الخلق قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت نهارها؟ قال : لقد جازيتها قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما فعلت؟ قال : حججت بها على عاتقي قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما جزيتها ولو طلقة.

(١) ان هنا ليست شرطيه حتى تختص علم الله بما في النفوس بما إذا كانت صالحة وانما هي وصليه.

١٥٨

وقد وصف داود وسليمان وأيوب بالاواب ، وبطبيعة الحال أو أب حفيظ (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٥٠ : ٣٢) فهم اوابون فيما قصروا ، دون تقصير ينافي العصمة ، والمقصرون كمن لم يراع حق الوالدين ليسوا من الأواب الحفيظ اللهم إلا في صلاح نفوسهم ، فهناك أواب صالح حفيظ نفسيّا وعمليا كأمثال داود وسليمان ، وهنا لك أواب صالح حفيظ نفسيا يتوب الى الله إصلاحا عمليا ، ومن ثم أواب غير صالح ولا حفيظ ، لم يعد الله له غفرانا اللهم إلا إذا آب وتاب صادقا واين أواب من أواب وغفران من غفران ، غفران يستر القصور ، وآخر فرضه الله على نفسه وثالث قد يكون من فضله ، وقد يشمل الأوابين الطوائف الثلاث مهما تصدرت الآية بالوسطى ، اللهم إلا الأوابين غير الصالحين الذين لا يتوبون إلا كالمستهزئين. إذ لا يرجعون في أوبتهم عما قصروا. ف «الأوابون هم التوابون المتعبدون» (١) ومن سننهم «الورع والاجتهاد وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الصحبة وطول السجود» (٢) والأوابون قوم خصوص حتى في صلاتهم (٣).

وهذه الآية هي الوحيدة حيث تحمل الأوابين بصورة عامة ، دون أواب حفيظ او أواب نبي ، وانما «الأوابين» فقط حيث تشملهما وغيرهما إذا كان صادقا في أوبته وتوبته.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٥٣ عن تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام). يقول في الآية : هم ...

(٢) المصدر عنه (عليه السلام) قال : يا أبا محمد عليكم بالورع و... وكان ذلك من سنن الأوابين.

(٣) المصدر هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من صلّى اربع ركعات في كل ركعة خمسين مرة قل هو الله احد كانت صلاة فاطمة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي صلاة الأوابين.

١٥٩

(١)(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦). إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)(٢٧).

في الأمر بإحسان الوالدين أتى بالجمع ، فلم يخص الرسول (صلّى الله عليه وآله السلام) بالأمر بل ولم يعمه فانه فقد والديه قبل الوحي بردح بعيد من الزمن ، ثم هنا يخصه بالأمر وان شمل كافة المكلفين على نحو القضية الحقيقية ، حيث يناسبه من جهات عدة نأتي عليها ، والى (لا تَجْعَلْ يَدَكَ ... إِنَّ رَبَّكَ ...) ثم يعمم النهي عن قتل الأولاد خشية إملاق وقرب الزنا وقتل النفس وقرب مال اليتيم ، كما ويعمم الأمر بوفاء العهد والكيل والوزن بالقسطاس المستقيم ، دون أن يخصه او يعمه هذا او ذاك لنزاهة ساحته عن هذه وتلك ، ويرجع أخيرا الى خطابه كما في (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) في (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) و (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) و (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...)

فقد يشمله او يخصه امر او نهي يناسب امره ونهيه على وجه لا ينافي ساحة نبوته وعصمته ، ام لا يخصه او يشمله فيما لا يناسبه على أي وجه ، كالقتل والزنا ام ماذا؟ وظاهر الخطاب المفرد موجه إليه أولا ثم إلى سواه ، إلا إذا لم يناسبه فعلى نحو القضية الحقيقية لكل مكلف دونه ، وظاهر الخطاب العام يشمله كذلك إلّا ...

هنا يؤمر هو أولا بأوامر ثلاث : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ...) ترى ومن هو «ذا القربى»؟

__________________

(١) وأن المقدرة هنا قضيبة العطف على الا تعبدوا ليست الا مفسرة : ان آت ، حيث الناصبة تختص المستقبل ، ولعلها تصلح قرينة على السابقة لها ايضا مفسرة فلا تقدير ـ إذا ـ للباء إطلاقا ، وكافة الموارد المذكورة مصاديق لتفسير القضاء الأول.

١٦٠