الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

عليه وآله وسلّم) يجهر بها كما عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة من عترته (عليهم السّلام) (١).

فذكر الرب وحده دون سواه يعم كلمة التوحيد حيث تنفي من سواه وسائر ذكره في بسملة وسواها حيث لا يقرن به سواه.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٨٧ ـ اخرج البخاري في تاريخه عن أبي جعفر محمد بن علي انه قال : لم كتمتم بسم الله الرحمن الرحيم فنعم الاسم والله كتموا فإن رسول الله (ص) كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر بسم الله الرحمن الرحيم ويرفع صوته بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أقول ورواه مثله في روضة الكافي بسنده عن أبي عبد الله (ع) وفي المجمع قال رسول الله (ص) ان الله من عليّ بفاتحة الكتاب فيها من كنز الجنة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآية التي يقول الله تعالى (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ ..) ورواه مثله القمي عن أبي عبد الله (ع).

والعياشي عن زيد بن علي قال : دخلت على علي بن جعفر فذكر بسم الله الرحمن الرحيم» فقال : تدري ما نزل في بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ فقلت : لا ـ فقال : ان رسول الله (ص) كان احسن الناس صوتا وكان يصلي بفناء الكعبة فرفع صوته وكان عتبة بن ربيعة وشبية بن ربيعة وابو جهل بن هشام وجماعة منهم يستمعون قرائته قال : وكان يكثر ترداد بسم الله الرحمن الرحيم فيرفع بها صوته قال : فيقولون ان محمد ليردد اسم ربه تردادا انه ليحبه فيأمرون من يقوم فيتسمع عليه ويقولون : إذا جاءت بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فأعلمنا حتى نقوم فنسمع قرائته فأنزل الله (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ ..» بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً.)

وفيه عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال : كان رسول الله (ص) إذا صلّى بالناس جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فتخلف من خلفه من المنافقين عن الصفوف فإذا جازها في السورة عادوا الى مواضعهم وقال بعضهم لبعض : انه ليردد اسم ربه تردادا انه ليحب ربه فأنزل اليه الآية.

وفيه عن أبي حمزة الثمالي قال قال لي أبو جعفر (ع) يا ثمالي ان الشيطان ليأتي قرين الامام فيسأله هل ذكر ربه؟ فان قال : نعم اكتسع فذهب وان قال : لا ـ ركب كتفه وكان امام القوم حتى ينصرفوا ـ قال قلت : جعلت فداك وما معنى قوله : ذكر ربه؟ قال : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

٢٢١

إن ذكر من سوى الرب دونه إلحاد ، وذكره مع سواه إشراك ، وذكره وحده توحيد ، وان كان لا يعني الذاكر ما تعنيه اللفظة فيما سوى التوحيد. حيث التوحيد ليس قصدا دون إعلان ، فليكن الإعلان بدلالته توحيدا كما يعتقده من يعلن بكلام او كتب او إشارة أم ماذا.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٤٨).

نجوى شيطانية تتهدم صرح الرسالة الإلهية على حد تصميمهم ، فهم يستمعون الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليعلموا ما يقول ، ولكي يكيدوا له كيدا ، ثم يستمعون بكيد عليه فيما بينهم كشورى ابليسية ليتسقّط فيها عن كيان الوحي ، ثم يتناجون في حصالة الشورى الظالمة : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)(١).

__________________

(١) في الدر المنثور ٤ : ١٨٧ ـ اخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : حدثت ان أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريف خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله (ص) وهو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهاءكم لا وقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كان الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال اخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد قال والله سمعت أشياء اعرفها واعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس وانا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت تنازعنا نحن ـ

٢٢٢

هذه من الهرطقات الهراء حيث يهرفون عليه بما يخرفون : انه ساحر او مسحور ، كاهن او مجنون او شاعر نتربص به ريب المنون ام ماذا؟.

ومن أخطر ما يفترى به عليه أنه مسحور ام به جنّة ، مسحور مسلوب الاختيار في بعض ما يفعل او يقول حيث يسيطر الشيطان على عقليته ام إحساسه ، فليس ما يفعل او يقول ـ على خرافته ـ منه ، وإنما من شيطان او جن ، خرافة مزدوجة بعيدة عن الحق في بعدين! ام إذا لم تكن خرافة فليست هي لا منه ولا من ربه وانما من ساحر يسحره حيث يتسخره!

والنجوى مصدر كالتقوى ، وقد وصفوا بالمصدر لما في هذه الصفة من المبالغة في ذكر ما هم عليه من كثرة تناجيهم وإسرار المكائد بينهم ، والصفة بالمصادر تدل على قوة الشيء الموصوف بذلك ، فهم لكثرة تناجيهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول والفرية عليه أصبحوا كأنهم هم نجوى في مقالتهم الظالمة : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٢٥ : ٩)(١).

لقد كانت فطرة الفحص والتفتيش تدفعهم الى استماع الرسول فيما يقول ، ثم النخوة والكبرياء تزجّهم الى سجن ما يستمعون به تلاوما فيما بينهم ، ثم الى جحيم القولة الفاتكة الهاتكة ، إذ هم نجوى : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

لقد ضربوا له الأمثال البعيدة عن الحق حيث اخذتهم جنّتهم فاتخذوا

__________________

ـ وبنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا واعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرس رهان قالوا من نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الأخنس وتركه.

(١) راجع ج ٣٠ من الفرقان ص ٥٣٩ ـ ٥٤٠.

٢٢٣

قولتهم جنتهم ، فقد تأثروا بالقرآن حين تسمّعوا إليه ، فلا سبيل لهم أن يقولوا إنه «قول بشر» لأنهم يلمسون منه وحيا ليس من بشر ، حيث لا يشبه قول بشر : ولا تدعهم نخوتهم أن يقولوا إنه كلام الله جرى على لسان بشر ، فقالوا : إن هذا إلّا سحر يؤثر ، فظنوا تسمية القرآن سحرا أبطل وحيه (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)!.

لو كانت هذه الرسالة السامية مختلقة لاستطاعوا سبيلا إليها قضاء عليها ، فإذا لم يستطيعوا إليها سبيلا ولن ، فهي إلهية مهما ضربوا لها الأمثال المضلة ، فإنهم تائهون ضالون في هذه البغية الباغية ، لا يتعبون إلّا أنفسهم.

إنما تضرب الأمثال لإقامة حق مبيّن تقريبا لبيانه ، او لإماطة باطل مبين تقريبا لبطلانه ، واما ان تضرب الأمثال دون اي برهان ، ام تضرب لابطال حق واضح البرهان فهو ضلال مبين.

وهؤلاء المناكيد الأوغاد بدل أن يبرهنوا دعواهم ابطالا للرسالة المحمدية ولن ، أخذوا يضربون الأمثال يمنة ويسرة بكل تكلف وعسرة دون أن يستطيعوا سبيلا الى ابطال هذه الرسالة السامية.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١). يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً)(٥٢).

انه لا برهان لناكري المعاد الحساب إلّا استبعادات واهية ، لا تملك من حجية إلّا هيه: (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)؟ فإذا بليت أجسادنا ف (كُنَّا عِظاماً) ورمدت عظامنا فكنا «رفاتا» فلم يبق

٢٢٤

منا شيء إلّا تبدلت إلى تراب «أإنا» ونحن تراب (لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)؟

هم يستبعدون أن يتحول التراب المرتخي عظاما ولحوما ، والله يحوّلهم ويبدّلهم خلقا جديدا ولو كانوا حجارة او حديدا (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) فالحجارة أصعب تحولا الى الخلق الجديد من التراب والحديد أصعب من الحجارة ، وخلق يكبر في صدورهم أصلب من الحجارة ، والحديد أصعب منهما ، فليكونوا اي صلب وصعب مما سبقت له الحياة ام لم تسبق ، فتبديلها الى خلق جديد ليس من المستحيل لا ذاتيا ولا في الحكمة ولا أمام القدرة الإلهية.

ثم استبعاد ثان على فرض الإمكان (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) الى ما كنا ، من يردنا الى الحياة بعد ما كنا عظاما ورفاتا ام حجارة او حديدا ام ماذا؟ مما هو أشد ايغالا في الموت والخمود ، (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) لا تذهبوا بعيدا نظرة الجواب ، فالذي فطركم اوّل مرة هو الذي يعيدكم مرة اخرى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

هؤلاء المناكيد الأوغاد يعجبون من عودهم وهم عارفون بدأهم : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ..) (١٣ : ٥) (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٥٠ : ٤).

(كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) ليست إلّا تحديا عليهم ، لا أمرا ان يكونوا حجارة او حديدا ، إذ هم لا يستطيعون لأنفسهم تكونا هكذا ، ولا ان الله يريد تكوينهم هكذا ، فلا يعني من «كونوا ..» إلا أولوية في هذه الكينونة وتلك استبعادا على حدّ زعمهم ان يبعثوا خلقا جديدا : إلّا أن الكينونات

٢٢٥

كيفما كانت ليست لتتمنع من امر الله ان تبعث خلقا جديدا ، فلا فرق بين عظام الإنسان ورفاته ، وبين حجارته وحديده وفولاذه وأصلب منه في بعثه خلقا جديدا ، حيث الكلّ من خلق الله ، يخلقها ويبعثها كما يشاء ، ف (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فالحجارة والحديد على كونهما أبعد عن الحياة من العظام والرفات هي قريبة الى الحياة في قدرة خالق الحياة.

هؤلاء الأوغاد بعد ما يسمعون جوابا تلو جواب عما يستبعدون من خلقهم الجديد يتعنتون في سؤال «متى هو»؟ كأن لتعيين متاه ومداه دخلا في أصله ، فلو لم يعلم الرسول متاه ، أو بعدّ مداه فلا يبعثون إذا خلقا جديدا ، فجاء الجواب حاسما (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) وترجى القرب لصاحب الوحي هو قربه : قربا في متاه كما هو قريب في العقل والعلم وفي العدل.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً)(٥٢).

وذلك اليوم القيامة بعد لبث البرزخ ، «وتظنون» نكران للبث قليل كما كانوا يظنون (.. لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (٤٦ : ٣٥) : او (.. لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (١٨ : ١٩) او (.. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (٢٠ : ١٠٣) (١).

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)(٥٣).

إن الشيطان من جن وإنسان ينزغ بين الإخوة المتحابّين فضلا عن سائر الناس ام الذين بينهم عداء ، فلا يهدف في محاولاته بين الناس الّا عداء وزيادة.

__________________

(١) راجع ج ٣٠ من الفرقان ص ١٠٣.

٢٢٦

والنزغ دخول في أمر لإفساده كما دخل الشيطان بين يوسف وإخوته : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٢ : ١٠٠).

فقد يدخل الشيطان في أمر جماعة متحابيّن فيفسد بينهم من جانب دون ان يسطع لإفساد من جانب آخر ، كما بين يوسف واخوته ، فهم الذين حاسدوه وفعلوا به ما افتعلوه ، وهو لم يفعل بهم إلّا حسنا ، أو يفسد من الجانبين إن كانا على سواء ، أو يدخل في أمر شخص فيفسد بينه وبين نفسه ، وهذه فعلة دائبة منه على غير المخلصين ، أم لا يسطع مهما حاول كما في المخلصين ، وإن كان عليهم أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٤١ : ٣٦) (..إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ، وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٣).

ولكي نستأصل نزغات الشيطان ونزعاته ، علينا استئصال الوسائل التي ينزغ بها الشيطان بيننا ، من قولة سوء تلدغ ، او إجابة سوء وجاه سوء ، فإنهما مربض الشيطان ومنزغه ، وانما القول الأحسن ، لكيلا يبقى مجال لنزغ الشيطان ، وكذلك الفعل الأحسن أم اي مظهر من المظاهر الحسنى (١).

(وَقُلْ لِعِبادِي) هنا يؤمر أول العابدين أن يقول لسائر العباد (يَقُولُوا

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٨٨ ـ اخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) لا يشيرن أحدكم الى أخيه بالسلاح فانه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من نار.

٢٢٧

الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فالكلمة الحسنى هي لزام العبودية وسياج على الشيطان دون نزغه : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٤١ : ٣٤) فالكلمة الحسنة تدفع العداوة ، والكلمة الخشنة تدفع الى العداوة ، حيث الحسنة تأسوا جراح القلوب وتندي جفافها ، ف (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٢ : ٨٣) بداية وإجابة ، ولتكن الإجابة أحسن (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (٤ : ٨٦).

فمن قال لك حسنا فلتجب حسنا أو أحسن ، ومن قال لك سوء فلتجب حسنا او احسن ، ولكي يترك السوء او يميل الى الحسنى وأما إذا قابلت السوء بالحسن فاستمر هو في الإساءة ، وتجرء عليك وعلى سواك فإما السكوت بعد أو (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) دون زيادة ، ولكنما الضابطة العامة أن (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) صدا لنزغ الشيطان ، وأما إذا كان الحسن او الأحسن مجالا لنزغ الشيطان فلا ، فان قول التي هي أحسن ليس إلا صدا لنزغ الشيطان ، وتوددا الى عباد الرحمن فإذا سبّب لنزغ أكثر فلا : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً).

من القول السوء أن تجابه السوء بمثله من السوء ، وهو وإن كان حسنا ف «جزاء سيئة مثلها» ولكنما الأحسن أن تعفو مصلحا (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) الا ان يتجرأ على سوءه أو يزداد.

ومن السوء المجابهة بالأسوإ وليس حسنا على أية حال فانه اعتداء بزيادة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

ومنه الإخبار عن حاله الحاضرة او المستقبلة انه في سوء ام الى سوء دونما ظاهرة تدل ، وعلّه في خير أم إلى خير ف (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ).

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) : وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا

٢٢٨

بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)(٥٥) :

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) منكم وممن سواكم ، يعلم حاضركم ومستقبلكم وغابركم ف (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) إن أنتم من أهلها و (إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) إن أنتم من اهله (ولا تظلمون نقيرا) (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أن تجعلهم من أهل الرحمة أو ترحمهم ، فما عليك إلّا البلاغ.

فلا توكل على من سوى الله إلّا على الله لا سواه ، ولا وكيل على عباد الله إلّا الله لا سواه ، فهو الذي يعلم السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يعلم مصاير عباده وكل أمورهم بداية وحتى النهاية ، لا فحسب بل : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبعلمه يفضل بعضا على بعض (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) في درجاتهم وآياتهم المعجزات وفي كتاباتهم (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) فهو أفضل الكتب السماوية بعد الخمسة لأولي العزم.

يأتي ذكر الزبور هنا وفي النساء (١٦٣) والأنبياء (١٠٥) (١) ولا يأتي ذكر من سائر الكتب الفروع للأنبياء ، ولا من الأصول إلا الاربعة (٢) نصا

__________________

(١) «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (٤ : ١٦٣) «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (٢١ : ١٠٥).

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٧٥ في كتاب علل الشرائع باسناده الى عبد الله بن صالح عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب (ع) قال قال رسول الله (ص): ما خلق الله خلقا أفضل مني ولا أكرم مني ، قال علي (ع) : فقلت يا رسول الله (ص) أفأنت أفضل ام جبرائيل؟ فقال : ان الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلني على جميع النبيين والمرسلين والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من ولدك فإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا.

٢٢٩

وكتاب نوح تلويحا ، وقد يذكر الزبور نصا مع التلويح الى سائر الوحي بما فيه الوحي الى نوح وابراهيم وعيسى (عليهم السلام) كما في النساء ، ويبشرنا البشارة العظمى بوراثة الأرض نقلا عن الزبور بعد الذكر في الأنبياء ، ومن ثم نرى هنا في مقام تفضيل بعض النبيين على بعض يأتي بنموذج من تلك النماذج السامية :

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)!

أفلا يدل هذا المثلث البارع من ذكرى الزبور على أهمية كبرى له بين الزبر؟ ترى انه مفضّل على سائر الزبر الفروع ، فلما ذا يفضّل أحيانا على بعض الأصول؟ أقول : علّه لأنه الحفيظ على ما حرّف من الكتب الأصول ، ولحد الآن لا نجد فيه تحريفا ولا تجديفا إلا القليل القليل ، بين الكثير الكثير من التحريف والتجديف الذي حصل في سائر الكتب المقدسة من العهد العتيق والجديد ، مع ما يحوي من المعارف الجمة الإلهية بألطف تعبير وأعطفه ما يأخذ بازمة القلوب.

فالزبور إذا مهيمن على ما حرّف من الكتب الأصول ، وسياج صارم ضد كل تحريف وتجديف على الكتب الأصول ، يشمل على جملة المعارف التي تشمله الكتب المقدسة ، متحللا عن كل دسّ وتحريف او مسّ وتهريف.

لا نجد بين الكتب المقدسة ما يقل فيه التحريف ام ليس فيه كما نجد في الزبور من كتب العهد العتيق وفي إنجيل القديس برنابا الحوارى من كتب العهد الجديد ، وهما يشهدان دون تكلف بيراعة الوحي القرآني

__________________

ـ وفيه (٢٥٧) في الخرايج والجرايح باسناده الى أبي عبد الله (ع) قال : ان الله فضل اولي العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم وفضلنا عليهم في فضلهم وعلم رسول الله (ص) ما لا يعلمون وعلمنا علم رسول الله (ص) فروينا لشيعتنا فمن قبله منهم فهو أفضلهم وأينما نكون فشيعتنا معنا.

٢٣٠

وبراعته ، وبرائته عن كل دسّ ، وانه كتاب الوحي الأخير ، مهما كانت سائر الكتب المقدسة على تحرفها تأتي شاهدة على ذلك بتكلّف أحيانا ودون تكلف أخرى.

داود الملك النبي لا يذكر في مقام تفضيله إلا كتابه الذي يمثل رسالته الروحية ، حيث السلطة الزمنية ليست فضيلة في ذاتها ، وإنما هي فضيلة في معطياتها أن كانت ذريعة للدعوة الى الله وتطبيق شرعة الله وعلى حد تعبير الامام علي (عليه السّلام) حين يتحدّث عن نعله المخصوف الذي كان رقعا كله : «والله لهي أحب إلي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم به حقا أو أبطل باطلا»!.

أولوا العزم من الرسل فضّلوا على من سواهم ، كما فضل البعض من أولاء على بعض ، والبعض من هؤلاء على بعض ، وقد فضل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على كافة النبيين وعلى الخلق أجمعين.

٢٣١

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ

٢٣٢

قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٦٥)

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)(٥٦).

من اختصاصات الإله أنه قادر على كل شيء ، أم وعلى أقل تقدير بعض الشيء الذي يعجز عنه عباده من كشف ضر أو تحويله ، وإلّا فهو مثلهم ، لا يختص بالألوهية دونهم ، او هو دونهم ان كان من غير ذوي العقول : (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ : لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٣٦ : ٧٥).

و «الذين» في الآية تلمح إلى أنها تعني الآلهة العقلاء من ملك او جن او انسان نبي او أيا كان ، مقربين عند الله فهم فيما هم لا يملكون كشف

٢٣٣

الضر عنكم ولا تحويلا فغيرهم أعجز وأضل سبيلا!

والآية التالية (أُولئِكَ الَّذِينَ) تصرح انهم هم ومن الصالحين ، فهم لا يملكون هذا الكشف والتحويل في أنفسهم ولا عن أنفسهم إذ ليسوا آلهة في أنفسهم ، ولا يملكون كشفا ولا تحويلا تخويلا من ذي العرش حيث لم يملّكهم ، فان هم إلّا خلق من خلق الله يحاولون : (يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) فكيف يعبدون؟.

فيما تنقطع الأسباب ، وتحار دونه الألباب ، وكلما تدعو بطاقات وإمكانيات وأسبابا ظاهرية متعددة فلا تستجاب ، وقتئذ لا تنقطع الرجاء فتدعو فهل من مجيب ومستجاب؟

حين تدعو ربك توفيرا وتوفرا لشروط الدعاء تستجاب ، وإذ تدعوه في ناقص الشروط او ناقضها قد تستجاب وقد لا تستجاب ، أليس هذا دليلا على أن ربك كائن لا شريك له؟

والذين يدعون مع الله سواه ، ثم يدعون الذين زعموا من دونه آلهة ، فلا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا ، هنا لك لا إجابة من الآلهة ملائكة أو نبيين كمعبودين ، وإن كانوا يدعون الله فيستجاب لهم إن لم يتوسل إليهم كمعبودين :

لا إجابة هناك على أية حال حين تدعونهم كآلهة ، وإن كانوا من كانوا من المقربين ، إذ لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ، لا من أنفسهم ، ولا من الله ، إلا فيما يطلبونه ـ كعبيد ـ من الله ، لأنفسهم أم لآخرين يعبدون الله ، والذي يعبدهم لا يرتضى ، فهم لا يدعون له إذ (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ولو دعوا لم يستجابوا

أليس في هذه الدعوة الخاسرة الحاسرة آية باهرة انهم ليسوا آلهة فضلا

٢٣٤

عما سواهم من غير العقلاء (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ)! :

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ... أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٢٧ : ٦٢) فلو تذكرتم موارد الاستجابة حين تدعون ربكم ، واللااستجابة حين تدعون آلهة تزعمون ، لعرفتم ألا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (٣٥ : ١٤).

«فيا من لا يملك كشف ضري ولا تحويله عني احد غيره صل على محمد وآله واكشف ضري وحوله الى من يدعو معك إلها آخر لا إله غيرك» (١).

فكاشف الضر للمضطر هو الله ، ومحوّلة عنه أم إلى غيره إن كان يستحقه هو الله ، وليس لمن سوى الله حول ولا قوة إلّا بالله ، ولا يحوّل الله او يخوّل من حوله وقوته الى سواه ، اللهم إلّا الى من يشفعون باذنه فيشّفعون ، وليسوا إلّا من ارتضى الله شفاعته لمن ارتضى الله ـ ف (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٣ : ١٤).

إن محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو اوّل العابدين لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عمن دونه من اتّخذوا آلهة ، فضلا لمن يعبدونهم : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٧٦ ح ٢٥٩ في اصول الكافي عن أبي عبد الله (ع) كان يقول عند العلة اللهم انك عيّرت أقواما فقلت : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) فيا من ...

٢٣٥

أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ١٨٨).

المشركون طالما يدعون أربابهم فلا يستجابون ، ولكنهم عند البأساء والضراء لا يدعون إلّا ربهم (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٦ : ٤١).

ان الذين زعمتم من دونه آلهة وهم عباد صالحون :

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)(٥٧).

«أولئك» ممن زعمتم من دونه آلهة هم أنفسهم «يدعون» (١) ربهم فكيف يدعون؟ (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) لاستجابة ما يدعون فكيف يبتغون؟ يدعون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ... ام (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ)(٢) هم المشركون ـ هم «أنفسهم» يبتغون الى ربهم الوسيلة ... (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) يبتغي الوسيلة أكثر وآكد ، ام وسيلة أقرب ، فهم بالوسيلة الأقرب وأيّهم اقرب يبتغي الى ربه لكي يستجيب دعاءه ويقربه إليه ، فكيف يوصّلون ويتأصّلون في الدعاء وهم لأنفسهم يتوسلون إذ يدعون!.

ولقد امر الله عباده ان يبتغوا اليه الوسيلة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٥ : ٣٥).

هنا لك مثلث من الوسائل الى الرب ـ ١ ـ وسائل المعرفة فالعبادة أيهما

__________________

(١) هذا الوجه بناء على كون «الذين» خبرا ل «أولئك».

(٢) وجه ثان على كون «الذين» صنعة ل «أولئك ...».

٢٣٦

اقرب وهم الرسل ، ـ ٢ ـ الوسيلة العبادة والتقوى والجهاد فيهما أيها اقرب ـ ٣ ـ الوسائل الشفعاء عند الله عفوا عما قصّروا او قصروا أيهم اقرب.

هؤلاء الذين اتخذتموهم آلهة لكشف الضر عنكم أو تحويلا ، هم أنفسهم يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، فليسوا هم كلهم وسائل إلى الرب فإنهم ايضا يتوسلون ، فكيف إذا يؤصّلون كآلهة في كشف الضر؟.

فمنهم من هم في القمة المعرفية والعبودية ، يبتغون أقرب الوسائل من العبادة للقرب (١) والزلفى ، دون توسل بوسيط الوحي إذ هم يوحى إليهم ، ولا وسيط الشفاعة إذ هم أنفسهم شفعاء بإذن الله.

ومنهم من هم دون القمة لا يوحى إليهم ولا يحتاجون شفعاء ، فلهم إذا وسيلتان.

ومنهم من هو دونهما ، يبتغون الى ربهم الوسائل الثلاث أيهم وأيها اقرب.

ف (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) هم المشركون ، هم العابدون للرب ، المتوسلون إليه لأنفسهم أم لسواهم حيث يؤذن لهم ـ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى)!.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩٠ ـ اخرج الترمذي وابن مردويه واللقط له عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) سلوا الله لي الوسيلة قالوا : وما الوسيلة؟ قال : القرب من الله ثم قرء (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ).

وفي ملحقات الأحقاق ١٤ : ٥٧٨ اخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (ج ١ : ٣٤٢ ط بيروت) أخبرنا محمد بن عبد الله بن احمد أخبرنا محمد بن احمد بن محمد أخبرنا عبد العزيز بن يحيى بن احمد قال حدثني احمد بن عمار الحماني عن علي بن مسهر عن علي بن بذيمة عن عكرمة في الآية قال : هم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع).

٢٣٧

(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) بما يقدمون من وسائلها (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) حيث يتحذّرون وسائله ، فالرجاء برحمة الله والخوف من عذاب الله كفتان متوازيتان لميزان الايمان و «ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران نور خيفة ونور رجاء لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا» (١) ف «من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا» (٢) و «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» (٣) «وإن حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب» (٤) ومما حفظ من خطب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : «يا ايها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه ، فليأخذ العبد المؤمن نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته وفي الشيبة قبل الكبر وفي الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنة والنار» (٥).

ليست الرجاء ان ترجو دون ترجّ ولا الخوف ان تخاف دون تخوف ، فلكلّ شرط يربطه دون هرج ومرج ف «من رجى شيئا عمل

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٧٦ في اصول الكافي بإسناد عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : ما كان في وصية لقمان؟ قال : كان فيها الأعاجيب ، وكان اعجب ما فيها ان قال لابنه : خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك ثم قال ابو عبد الله (ع) كان أبي يقول انه ما من عبد مؤمن ...

(٢) المصدر بإسناد عن أبي عبد الله (ع) ح ٣٦٢ و (٣) عنه ح ٢٦١ و (٤) عنه ح ٢٦٥.

(٥) المصدر ح ٢٦٦ بسند عن أبي عبد الله (ع) يقول : ان مما حفظ من خطب النبي (ص).

٢٣٨

له (١) (طلبه) ومن خاف من شيء هرب منه» (٢).

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٥٨).

يوم القيامة هنا يعني قيامة الإحياء ، حيث الإماتة التامة تعنيها الآية باهلاك وتعذيب قبل يوم القيامة ، وهذا هو المسطور في ام الكتاب لدى الله ، سطرا في سابق علمه دون محو او تحوير : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١٣ : ٣٩).

وبما أن «قرية» هنا هي في نفي الاستغراق ، فقد تعني كل قرية في الكون كله ، اي مجتمع من حيوان او انسان امن ذا؟ في ارض ام في سماء إمّا ذا؟

وترى الإهلاك هو الاماتة دون تعذيب ، قرينة من قرنه بالتعذيب؟ وهو يلمح لتعذيب! وليس قرنه إلّا شديد العذاب! فما دونه عذاب دون شديد قد يشمله الإهلاك! ... إذا فالإهلاك يعم الإماتة دون أي تعذيب ، ودون تعذيب شديد ، ومن ثم صورة ثالثة هي العذاب الشديد.

إنه لا مناص ولا محيص عن موت قبل قيامة الإحياء ، موتات بعذابات ام دون عذاب ، انفرادية لا تعنيها الآية لمكان «قرية» وهي المجتمع

__________________

(١) المصدر ح ٢٦٤ علي بن محمد رفعه قال قلت لأبي عبد الله (ع) ان قوما من مواليك يلمون بالمعاصي ويقولون نرجو. فقال كذبوا ليسوا لنا بموالي أولئك قوم ترجحت بهم الأماني من رجا شيئا عمل له ومن خاف من شيء هرب منه.

وفيه عن الحسين بن أبي يسارة قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا ولا يكون راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو.

(٢) المصدر ح ٢٦٣ عن أبي عبد الله (ع) قيل له : قوم يعملون بالمعاصي ويقولون : نرجو ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت. فقال : هؤلاء قوم يترجحون في الأماني. كذبوا ليسوا براجين من رجى ...

٢٣٩

وموتات جماعية لاستئصال الحياة عن الكون كله وليست إلّا باماتة تعذيب جماعي كما في قرى ظالمة ، عذابا شديدا او دون ذلك ، أم باماتة إهلاك لا تعني التعذيب ، كما في سائر القرى ، فهناك مثلث من الإماتة تعنيها الآية : هلاكا دون عذاب ، وآخر بعذاب ، وثالث (أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)!.

ولان الإهلاك ـ اكثر ما يستعمل ـ يعني الإماتة العذاب ، وقليلا ما ياتي لإماتة دون عذاب (١) فهل تعني «مهلكوها» اكثرية العذاب ، ولا تقوم القيامة إلّا في دولة الحق كما يستفاد من آيات وروايات.

قد يعني الإهلاك العذاب ما يعم عذاب العصيان وعذاب غير العصيان : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢) فهل ان العذاب الشديد يشمل كل مرضعة وكل ذات حمل وكل الناس؟ كلا! وانما يعني العذاب هنا الم الموت الشديد مهما كان البعض الى رحمة الله والآخرون الى نقمته وثالثة (عَذاباً شَدِيداً)(٢).

وترى (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) هنا يعني قيامة الاماتة نفسها حيث (نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)؟ ام اهلاكات جماعية وتعذيبات

__________________

(١) كقوله تعالى : «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ...» (٤ : ١٧٦) «حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً» (٤٠ : ٣٤) ثم لا نجد في عشرات الآيات التي تحمل الهلاك الإهلاك العذاب لحد القول «هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» (٦ : ٤٧).

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٧٨ ح ٣٧١ في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم ، قال سألت أبا جعفر (ع) عن الآية قال : انما امة محمد من الأمم فمن مات فقد هلك.

وفيه (٣٧٢) عن ابن سنان عن أبي عبد الله» في الآية قال : بالقتل والموت وغيره.

٢٤٠