الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(٩).

اربعة عشر شخصا من صناديد قريش يطالبون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسبع من المعجزات في زعمهم (١). بعد معجزة القرآن ـ وان هي إلا هرطقات هارفة ، خلوا عن اية حجة لو جاء بها ، ام فيها حجة ضئيلة أمام القرآن ، هؤلاء الجهنميون يتطلبون في تعنت وتزمت هذه السبعة من أبواب الجحيم ، والقرآن فاتح للعالمين أبواب الجنة والنعيم!

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٣ ـ اخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ان عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني اسد والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن بني أمية وامية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض ابعثوا الى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا اليه ان اشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله (ص) سريعا وهو يظن انهم قد بدا لهم في امره بدء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد انا قد بعثنا إليك لنعذرك وانا والله ما نعلم رجلا من العرب ادخل على قومه ما ادخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح الا وقد جئته فيما بيننا وبينك فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وان كنت انما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وان تريد ملكا ملكناك علينا وان كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رؤيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمعون النابع من الجن الرئي فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطلب حتى نبرئك منه او نعذر فيك فقال رسول الله (ص). ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به اطلب أموالكم ولا فيئكم ولا الملك عليكم ولكن بعثني الله إليكم رسولا وانزل علي كتابا وامرني ان أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة وان تردوه علي اصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ـ : أقول : ولما وصل امره معه الى هنا اقترحوا عليه مطاليب لهم مادية تحسبوها معجزات ، تذكر الآيات أمهاتها السبع كالسبع أبواب الجحيم.

٣٤١

وفي الحق ان هؤلاء الحماقي الطغاة ما تطلّبوا هذه السبعة وأضرابها طلبا للحجة ووصولا الى المحجة ، وانما إفحاما على الرسول فيما تعنتوا حيث يقول قادتهم «لقد استفحم أمر محمد وعظم خطبه فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والإحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه ، فان انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٢١ ح ٤٤٦ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أبي محمد الحسن العسكري (ع) قال : قلت لأبي علي بن محمد (ع) هل كان رسول الله (ص) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال : مرارا كثيرة ـ ان رسول الله (ص) كان قاعدا ذات يوم بمكة بفضاء الكعبة إذا اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وابو البختري بن هشام وابو جهل بن هشام والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن امية المخزومي وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله (ص) في نفر من أصحابه يقرء عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله امره ونهيه فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحم امر محمد ... قال ابو جهل : فمن الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن امية المخزومي ، انا الى ذلك ، أما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا؟ قال ابو جهل : بلى ـ فاتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن امية المخزومي فقال : يا محمد! لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا! زعمت انك رسول رب العالمين وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين ان يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا يأكل كما نأكل ويمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا الا كثير مال عظيم حال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده ، ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده ، بل لو أراد الله ان يبعث إلينا لكان انما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ، ما أنت يا محمد الا مسحور ولست بنبي.

فقال رسول الله (ص) هل بقي من كلامك شيء؟ قال : بلى ـ لو أراد الله ان يبعث إلينا رسولا لبعث اجل من فيما بيننا مالا وأحسنه حالا ، فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم ان الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم : اما الوليد بن المغيرة بمكة واما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟ فقال رسول الله (ص) هل بقي من كلامك شيء يا عبد الله! فقال : بلى : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ...

٣٤٢

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٩٠).

باب اولى من سبعهم «تفجير ينبوع لهم من الأرض» ... و «لن» تصريحة قاطعة منهم ان ايمانهم للرسول مستحيل على ضوء القرآن العظيم وهو الشهيد الكافي إلهيا على رسالته ، فاستحالة الايمان على هذه الأضواء والبصائر الكافية لمتحري الحق تحيله في تحقيق متطلباتهم لو أمكنت وصلحت اكثر من بصائر القرآن!

فلو ان الشمس لا تضيء لهم عن ظلماتهم ، فهل ان القمر وأخفى منه نورا او ما لا نور له ، هل ان هذه تضيء لهم؟

انهم في قولة «لن» أحالوا ايمانهم له على اية حال ، فلو لم يكن في متطلباتهم محال ، ام استجيبوا في التي تمكن على اية حال ، ما كانوا ليؤمنوا كما بدأوا به المقال (وَقالُوا لَنْ ...)!

إذا فإجابتهم في هذه السبع غلطة رسالية فيما أمكنت ، إغراء بجهلهم في غير الخارقة المعجزة ، وإبقاء على كفرهم في إجابة الخارقة حيث هي ادنى من معجزة القرآن التي أحالوا ايمانهم على ضوءه ... ومن ثم يبقى المستحيل رادعا عن ايمانهم حيث الإجابة فيه مستحيلة ، حتى ولو استجيبوا في ممكناته خارقة وغير خارقة.

إذا فهذه السبع في مجموعاتها هرطقات هراء وربنا في رسالته منها براء! حيث تركوا وتغافلوا عن آماد بعيدة من معجزة القرآن الخالدة ، واخلدوا الى أهوائهم المتطفلة الباردة الماردة ، طلبا لآجن ماجن (١) بعد ما أضاء عليهم معجز ماكن.

__________________

(١). فانك اقترحت على محمد رسول الله أشياء : منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته ورسول الله يرتفع من ان يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه. ومنها ما لو جاءك به لكان معه هلاكك. وانما يوفى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الايمان بها لا ـ

٣٤٣

ترى وما هو المعني من تفجر الأرض ينبوعا؟ أينبوعا بمكة هذه ، فانها ذات أحجار وعرة وجبال ، تكسح ارضها وتحفرها وتجري منها العيون فإننا الى ذلك محتاجون»؟

فانك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله ، لو فعلت هذا كنت من اجل هذا نبيا؟ لا! ـ

أرأيت الطائف التي لك فيها بساتين ، اما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها؟ بلى! وهل لك فيها نظراء؟ بلى! ... فصرت بذلك أنت وهم أنبياء؟ لا! ... فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو فعلت على نبوته ، فما هو إلّا كقولك : لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض او حتى تأكل الطعام كما يأكل الناس! (١).

فتفجير الأرض ينبوعا ، إظهارا لما خفي تحته من ماء لا يحتاج الى معجزة رسالية ، وإنما عمارة ارضية ، ام هندسة تحت الأرضية ، أفكل معمار او مهندس ـ إذا ـ هو من الأنبياء؟.

وإذا يعنى منه تفجرا بتفجّر الإرادة الخارقة ، دون أية وسائل ظاهرية ، فترى ان تفجر القلوب الميتة بمياه المعرفة القرآنية أرقى خارقة وأنبل ، ام

__________________

ـ ليهلكوا بها ، فانما اقترحت هلاكك ورب العالمين ارحم بعباده واعلم بمصالحهم من ان يهلكهم كما يقترحون ، ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته ويلجئك بحجج الله الى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص ، ومنها ما قد اعترفت على نفسك انك فيه معاند متمرد لا تقبل حجة ولا تصغي الى برهان ومن كان كذلك فدواءه عذاب النار النازل من سماءه او في حميمه او بسيوف أولياءه.

(١). من حجج الرسول (ص) في هذه المناظرة الطويلة البالغة.

٣٤٤

تفجر الأرض بهذه المياه؟ و «لن» البادئة في هذه الاقتراحات تحيل الايمان ولو فجرت الأرض كما تطلبون ، حيث أحلتم الايمان بالقرآن لنبي القرآن وهو أهم المعجزات وأتمها!.

ان التفجر الأول من فعلي ولا حجة فيه ، والثاني من فعل ربي ولا تؤمنون به حيث «لن» فيه ، أحرى منها في حجة القرآن ألّا تصدّقوها!

٢ (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً)(٩١).

فان كان كالأول فكالاول ، او كالثاني فكالثاني! ... «او ليس لأصحابك ولك جنان من نخيل وعنب بالطائف فتأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيرا؟ أفصرتم أنبياء بهذا؟ لا! فما بال اقتراحكم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه ، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه لأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم ، ورسول رب العالمين يجل ويرتفع عن هذا! (١).

٣ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) ... في قوله (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (ان في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم ، فانما تريد بهذا من رسول الله ان تهلك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك ، لا يهلكك ولكنه يقيم عليك حجج الله ، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه ومن الفساد ، وقد يختلف اقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه والله لا يجيء تدبيره على ما يلزمه بالمحال ..

وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دوائه للمرضى على حسب اقتراحهم وانما

__________________

(١). من حججه (ص) في نفس المناظرة.

٣٤٥

يفعل به ما يعلم صلاحه فيه ، أحبه العليل او كرهه ، فأنتم المرضى والله طبيبكم فان أنفذتم لدواءه شفاكم وإن تمردتم أسقمكم ـ.

وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بيّنه على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه؟ إذا ما كانت تثبت لأحد على احد دعوى ولا حق ، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق ـ

٤ (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)(٩٢) يقابلوننا ونعاينهم! فان هذا من المحال الذي لا خفاء به ، لأن ربنا عز وجل ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل حتى يؤتى به ، فقد سألتم بهذا المحال الذي دعوتم اليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنكم شيئا ولا عن احد ـ

يا عبد الله! او ليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكة وقوّام عليها؟ بلى! أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك او بسفراء بينك وبين معامليك؟ بسفراء! أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك وخدمك لسفرائك لا نصدقكم في هذه السفارة إلّا ان تأتوا بعبد الله بن أبي امية نشاهده فنسمع منه ما تقولون عنه شفاها كنت تسوّغهم هذا؟ او كان يجوز لهم عند ذلك؟ لا! ـ فما الذي يجب على سفرائك؟ أليس ان يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم على صدقهم يجب عليهم ان يصدقهم؟ بلى! ـ أرأيت سفيرك لو انه لمّا سمع منهم عاد إليك وقال : قم معي فإنهم اقترحوا عليّ مجيئك معي أيكون لك ان تقول له : انما أنت رسول مبشر وآمر؟ بلى!

فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوّغ لأكرتك ومعامليك ان يقترحوه على رسولك إليهم ، وكيف أردت من رسول رب العالمين ان يستندم الى ربه بان يأمر عليه وينهى وأنت لا تسوغ مثل هذا

٣٤٦

على رسولك الى أكرتك وقوامك؟ هذه حجة قاطعة لابطال كل ما ذكرته في كل ما اقترحته يا عبد الله! ـ

٥ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) وهو الذهب «أما بلغك ان لعظيم مصر بيوتا؟ بلى! أفصار بذلك نبيا؟ لا! فكذلك لا توجب بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو كانت له نبوة ، ومحمد لا يغتنم جهلك بحجج الله ـ

ام تعني تكوّن بيت من زخرف دون اسباب ظاهرية؟ فالرسول لا يبيت في بيت من زخرف! ولو كان له لم تكونوا لتؤمنوا إذ لم تؤمنوا و «لن» بآية القرآن وهي أكبر الآيات وأتمها ، ثم لا تقف اقتراحاتكم لحدّ!

٦ (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) ٧ (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) ... يا عبد الله! الصعود الى السماء أصعب من النزول منها ، وإذا اعترفت على نفسك انك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول ثم قلت (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) من بعد ذلك ، ثم لا ادري أؤمن بك او لا أؤمن ، فانك يا عبد الله! مقر أنك تعاند حجج الله عليك ، فلا دواء لك إلّا تأديبه على يد أوليائه البشر او ملائكته الزبانية ، وقد انزل الله عليّ حكمة جامعة لبطلان كلما اقترحه :

(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) ما ابعد ربي عن ان يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال بما يجوز وبما لا يجوز ، و (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) لا يلزمني إلّا اقامة حجة الله التي أعطاني ، فليس لي ان آمر على ربي ولا انهى ولا أشير فأكون كالرسول الذي بعثه ملك الى قوم مخالفيه

٣٤٧

فرجع اليه يأمره ان يفعل بهم ما اقترحوه عليه (١).

وثم إذا رقى في السماء بمحاولة بشرية او معجزة إلهية فهل ان الله في السماء حتى تنزل منه كتابا يقرءونه؟ ومجرد الرقي إليها دون وسائل آية إلهية لا تفسح مجالا لتنزل كتاب يقرءونه! فهل من خط الله فيصدقونه ، وكيف هم عارفون خطه؟ وهل هو كخط البشر فما هي ميزته التي تجعله خط الله ، وإن لا فكيف يقرءونه ، وهنالك خطه التكويني «رقيه في السماء» لو رقى يقرء وليسوا بمصدقيه ، وهناك خطة التدويني «القرآن» وفيه الكفاية معجزة كاملة تقرء ولا يصدقونه ، ومن ثم لو نزل بخط من السماء يقرءونه فكيف يعرفون انه نزل من السماء ولم يأخذه معه في رقيه؟

الرسول هنا يؤمر ان يغلق الأبواب السبع من جحيم المعارضات بكلمة مختصرة محتصرة تحوي كل هذه التفاصيل (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟

(سُبْحانَ رَبِّي) ان يغريكم بجهلكم مواضع الحجة فيحتج بما لا حجة فيه ، ام فيه حجة الإهلاك ، ام هو من المحال ، ام جائز فيه حجة ادنى من حجة القرآن ، واستحالة الايمان فيها أقوى منها في القرآن ، ثم لا تقف هذه المقترحات لحدّ!

(هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟ والخارقة ليست من صنع الرسول ، انما هي من امر الله وفق تقديره وحكمته ، ولا ان طلبها من شأن الرسول فان الله يعلم بماذا يرسل رسوله حتى تصدّق رسالته ، فشأن الرسالة وأدبها يمنعانه ان يفعل ما يقترحون ، او يسأل ربه بما يقترحون.

__________________

(١). هذه الحجج كلها ننقلها عن كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أبي محمد الحسن العسكري عن أبيه علي بن محمد (ع) عن رسول الله (ص).

٣٤٨

انني بشر ولست إلها ، رسول من الله ولست إلها ، وسبحان ربي ان يتخلى في إرساله عن ألوهيته ، وسبحانه ان يتابع اقتراحات عباده او رسوله فيها سبحانه سبحانه هل كنت إلا بشرا رسولا؟

وأنتم تطلبون مني ان افعل هذه الخارقات ام غيرها من محالات ام سواها ، وي كأنني إله اقدر على ما تطلبون ، وهم لم يطلبوا إلّا منه ، لا ان يطالب ربه (١) او انني فوق الإله اتحكّم عليه (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) ويكأن الله وملائكته تحت إمرتي ، ان لو أمكن إتيانهم فانا الآتي بهم دون استدعاء!

فلا ان بشريتي تقتضي هذه او تلك ولا رسالتي ، حيث الرسول مؤمّر وليس آمرا ، رسول فليس مرسلا لمن أرسله : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ ...)! ولا تقتضي الرسالة إلا حمل آيتين من آيات الله : آية الوحي ، والآية التي تثبت الوحي ، آية ظاهرة تدل على آية غير ظاهرة ، ثم لا يرسل بآية اخرى إلّا إذا اقتضت الضرورة الرسالية ، فضلا ان يأتي هو بآية او يأتي بالله والملائكة قبيلا! (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟ لا شأن لبشر إلّا كسائر البشر ، ولا لرسول إلّا حمل ما حمّل من رسالة ، لا تقلّد القدرة الغيبية المطلقة ذاتيا ولا رساليا ، (سُبْحانَ رَبِّي) من ربّاني عبودية ورسالة ، من أن أكون له شريكا ، او ان أكون له ربا فأتحكم عليه ، وعليه إجابتي! (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟ جوابا جامعا يستأصل متطلباتهم الخاوية كلها!.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً)(٩٤).

__________________

(١). حيث قالوا : حتى تفجر ... فتفجر خلالها ... ترقى في السماء.

٣٤٩

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٢٣ : ٣٤) (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً (١) نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٥٤ : ٢٤) (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٢٣ : ٤٧).

فلانهم لم يدركوا قيمة البشر وانه في احسن تقويم ، فاستكثروا على بشر ان يكون رسولا الى بشر! وهذه سنة الله الدائبة التي لا تتبدل : ضرورة المجانسة بين الرسول والمرسل إليهم ، إتماما للحجة وقطعا للمعاذير ، فهي رحمة ومنّة إلهية ان بعث الله الى البشر بشرا كما الى الجن جنا ام من ذا؟ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (٦ : ١٣٠). فانما رسول الإنسان انسان ورسول الجان جان كما رسول الملك ملك.

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٩٥).

ومع غض النظر عن ضرورة المجانسة فالملك الرسول الى بشر يجب ان يباشر البشر ، والملك على كونه ملكا لا يرى فالواجب إذا ان يظهر بمظهر البشر ، فأنتم ترونه بشرا وليس ببشر! فما ذا أفادكم هذا المظهر إلّا ضررا في عدم المجانسة : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٦ : ٩) فعادت النتيجة الى ضرورة المجانسة رؤية وإتماما للحجة.

وترى هذه ضرورة ، فلما ذا الجن يرسل له بشر ، أليس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) رسولا الى الجن والبشر وسواهما من العاملين؟

ان رسالة الرسول الى غير بشر ثانوية وبواسطة غير بشر ، فكما ان الرسول الى الرسول البشر ملك لا بشر ، كذلك الرسول الى رسول الجن

٣٥٠

بشر ، كما الآيات في الجن والحاقة تحقق هذه الرسالة : ان رسل الجن مرسلون من جانب الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وان لم يكونوا رسل الوحي حيث انقطع به الوحي ، ولكنهم قبل الرسالة المحمدية كان يوحى إليهم على هامش الوحي الى بشر!.

إن رسالة ملك الى جن قد تصح وتصلح لو لا مانع عدم المجانسة (١) ام ان الملك يرسل الى رسول الجن كما الى رسول الانس ، اللهم الا في الرسالة الاسلامية!.

وقد تلمح الآية ان الحياة المطمئنة الأرضية تتطلب رسالة سماوية ، ف (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) اطمئنانا في مشيهم بقاء عليها لا نزولا مؤقتا لإبلاغ أمركما في رسل الوحي ام من ذا؟ واطمئنانا على الحياة الأرضية ، فهناك (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ) لا من نفس الأرض (مَلَكاً رَسُولاً) ولكنما الماشون المطمئنون في الأرض ليسوا ملائكة ، إنما هم انس وجان ، فليبعث إليهم بشر رسولا ، مهما يتلقى هو وحيه من ملك رسول.

هنا لك فرق بين الرسول الى الرسل ، والى سائر المكلفين ، فالمجانسة لازمة في الرسالة الثانية دون الاولى ، ولتتم حجة الرسالة ويعيش المرسل

__________________

(١) فالرسول الأول انما هو حامل رسالة كالبريد دون اي مزيد من إنذار وتبشير فلا ضرورة ولا رجاحة في مجانسته للمرسل إليهم الرسل ، ولكن الرسول الثاني بشير ونذير وحجة في رسالته بتطبيقه ما أرسل به ولا تطبيق على الرسول الأول الا في الواجبات الأولية لاختلاف الجنس. فالملائكة لهم عقل بلا شهوة ، والانس والجن يجمعانهما فالتكليف إذا غير التكليف الا ما يعم عامة العالمين.

٣٥١

إليهم رسولهم لكي يستطيعوا التلقي عنه دون وحي ، بل برؤية وسماع (١).

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ

__________________

(١) ولكن (رُسُلٌ مِنْكُمْ) تصريحة أو تلميحة ان المجانسة بينهما رحمة ومنة إلهية ، وما يرويه العياشي في تفسيره عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (ع) (قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) قالوا : ان الجن كانوا في الأرض قبلنا فبعث الله إليهم ملكا ، فلو أراد الله ان يبعث إلينا لبعث ملكا من الملائكة وهو قول الله (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً).

هذه الرواية لا تدل على عدم المجانسة الا قبل هذا النسل الانساني ان بعث ملك الى جن ، ولكنه من كلام هؤلاء الناكرين ينقله عنهم الامام (ع) وجوابه أولا ألا دليل عليه ولو كان فرسالة الملك الى رسول الجن لا إلى المرسل إليهم.

٣٥٢

سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ

٣٥٣

الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(٩٦).

إنه لا بد من شهادة الهية لإثبات رسالة إلهية ، ولا تخلوا عن احدى

٣٥٤

زوايا ثلاث : ١ ان يريهم الله نفسه ليشهد برسالة رسوله (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)؟ وهذه المقابلة مستحيلة حتى للرسل أنفسهم! ٢ ام يوحي إليهم فيشهد كما يوحي الى الرسل؟ ولو كانوا يستحقون وحيا لما احتاجوا الى رسل! ولا تنحصر الشهادة الإلهية بوحي!

فهل ان دلالة الكون الحادث على المكوّن المحدث هي دلالة الوحي ، ام دلالة الفطرة والعقل بمساندة الحس ، فهلا تكفي هذه الشهادة الإلهية على حدوث الكون إلّا ان يظهر الله بنفسه او يوحي بهذه الشهادة؟!

٣ أن يشهد لرسالة بافعال تخصه دون سواه ، حيث الأفعال الخاصة الإلهية باهرة لا تخفى على ذي حجى!

ثم قد تكون هذه الشهادة حسية بآيات حسية عابرة كسائر المعجزات المحسوسة كشق البحر والقمر ام ماذا ، وهي آيات غير خالدة لا تناسب بوحدتها شريعة خالدة!

ام شهادة علمية ـ عقلية ـ فطرية ـ فكرية ، لفظية ـ معنوية اماهيه والقرآن يجمعها كلها وهذه شهادة الله الكافية بين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين العالمين : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ماذا تكفيهم وتغنيهم من شهادة خالدة تعيشهم وتعيشهم عبر الأجيال والزمن ، ولا يزداد في خلوده إلّا ظهورا وبهورا كلما تقدمت العقول والعلوم في كافة الحقول.

فتلك إذا شهادة إلهية خالدة كافية تعم الشهادات كلها وتطم ، وسائر الشهادات هامشية تعبّد الطريق لهذا الشهادة الكبرى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (٦ : ١٩) (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ

٣٥٥

يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦) (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٤ : ١٥٩.

إن القرآن هو اكبر الشهادات الإلهية لهذه الرسالة السامية ، ثم الرسول نفسه ، ثم كتابات الوحي المبشرة برسالته ، ثم صنيعه وفصيله علي (عليه السلام) فهو إذا في مربع من الشهادات متصلة ومنفصلة : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١١ : ١٧).

ف (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) هو قرآنه ونفسه المقدسة و (شاهِدٌ مِنْهُ) علي (عليه السلام) (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) كأم الكتابات الرسالية قبل القرآن.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)(٩٧).

(مَنْ يَهْدِ اللهُ) هداية ثانية بعد الأولى ، فمن يتقبل هدى الله دلالة واستدلالا يهديه الله إيصالا الى حق الهدى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧) (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (١٩ : ٧٦) (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حيث لا يضل بعد هدى الله.

(وَمَنْ يُضْلِلْ) حيث لم يتقبل الهداية الأولى فعارضها وأنكرها ، فانه يحرم بعد عن هذه الهداية الاولى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) إذا (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يهدونه ، إذ لا هادي ولا ضال إلّا الله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١٦ : ٩٣) كل بما قدمه المهتدي والضال من هدى اولى او ضلال! : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١٣ : ٢٧)» (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) (١٦ : ٣٧)

٣٥٦

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٠ : ٢٩)!.

ولان الناس يحشرون كما عاشوا فليحشر هؤلاء العمي البكم الصم (عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) كما عموا تعاميا عن بصائر الله ، وابكموا خرسا لا يتكلمون عن آيات الله ، وإنما لإبطالها وفصلها عن عباد الله ، وصموا عن الاستماع الى كلمات الله ، فهم أولاء يحشرون كما عاشوا ولا يظلمون نقيرا!.

ان الوجه ببصره ولسانه واذنه مخلوق لحكمة المواجهة للحقائق ان يمشي به الإنسان سويا على صراط مستقيم ، فمن يمشي في حياته مكبا على وجهه في الاولى سوف يحشر مكبا على وجهه في الاخرى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦٧ : ٢٢)(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ ...) كما حشروا أنفسهم يوم الدنيا على وجوههم! ف «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر ان يمشيهم على وجوههم» (١)

وترى إذ يحشرون هكذا فكيف الترائي والتسامع والتلاسن بين اهل الجنة والنار ، وبين أهل النار أنفسهم مع بعض؟

إن حشرهم هكذا عذاب فوق العذاب ، ومن ثم بعد حشرهم يتبدل عذابهم هذا بآخر فيه يبصرون ويسمعون ويتكلمون كعذاب أخر فوق

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٠٣ اخرج ابو داود الترمذي وحسنة وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة اصناف صنف مشاة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله (ص)! وكيف يمشون على وجوههم؟ قال : ان الذي ... اما انهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك أقول وأخرجه جماعات آخرون على اختلافات ولكنها متفقة فيما نقلناه في المتن.

٣٥٧

العذاب ، ففقدهم لهذه الثلاث يوم حشرهم عذاب ، ووجدانهم لها بعد حشرهم في نارهم عذاب أخر فوق عذاب! وعلى اية حال ف :

(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) : (كُلَّما خَبَتْ) : سكن لهبها وصار عليها خباء وغشاء من رمادها ام ماذا (زِدْناهُمْ سَعِيراً) كما الأوّل ، فان السعير بعد الخباء زيادة على الخباء ، لا زيادة للسعير على ما كان قبله ، زيادة العذاب! ولماذا يزيدهم سعيرا على سعيرهم؟ ألأنهم اخباءوها؟ وليس منهم ولن! ام انهم كانوا يستحقون هذه الزيادة من قبل؟ فلما ذا لم تحق لهم من قبل؟ ـ فلتكن زيادة السعير زيادة بعد الخباء باعادة مثل السعير! ، وعلّه كما تعاد جلودهم التي نضجت لتنضج تلو الأخرى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٤ : ٥٦) ففاعلية كل سعير هي نضج الجلود ، ثم تبدل جلودا غيرها فزيدوا لنضجها سعيرا ، سعير تلو سعير لنضج تلو نضج دون ان يخفف عنهم العذاب او يفتروهم فيه مبلسون!

ولماذا تداوم السعير دون فتور في عذابهم؟ :

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨). أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً)(٩٩).

هنا لك كفر بآيات الله وكبراها القرآن ، وقولة النكران للمعاد (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) خلوا عن لحوم «ورفاتا» حيث تتبدل العظام رفاتا ، فتصبح الأبدان رفاتا فوق رفات (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) كما كنا يوم الدنيا؟!

٣٥٨

ذلك الكفر وهذا النكران جزاءه مأوى الجحيم ومزيد السعير بعد الخباء ...!

(أَوَلَمْ يَرَوْا) ضمن ما رأوا ، حيث الواو تعطف هنا لغير المذكور ، فهم يرون الخلق الجديد ويلمسونه ليل نهار بموت ثم حياة ثم موت ومن ثم حياة ، ثم رؤية عقلية تفوقها وتعمهم وان لم يروا هذه وتلك (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) لا «ان يخلقهم» فقد خلقهم وأفناهم وهم يتشككون في خلقهم الآخر الذي هو خلق لمثلهم ، مماثلة في الصورة الإنسانية وعينية للمادة التي زالت عنها تلك الصورة ، ويخلق لها مثلها مرة اخرى! (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٥٠ : ١٥) ولا يعني الخلق الجديد وخلق أمثالهم إلّا الناحية البدنية من الإنسان حيث تفنى صوريا ثم تخلق صورة اخرى ، واما الروح فهو باق لا يفنى إلّا صعقة حتى يخلق البدن خلقا جديدا ، وهو المتكفل للوحدة بين الإنسان في النشأئتين في حقيقة الانسانية ، كما ان الأجزاء المعادة من بدنه يوم المعاد هي المتكفّلة لوحدته البدنية ، فلا يعني المعاد إلّا عود الروح الى مثل بدنه صورة والى عينه مادة!

ثم و «مثلهم» في اصل الخلقة و (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠ : ٥٧) فالمعنيان هنا معنيان من «مثلهم».

(وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) : أجلا فرادى موتا عن الحياة الدنيا الى البرزخ ، وجماعات : نقلة عن الحياة البرزخية الى الحياة الأخرى ، ولا ريب في اي منهما! (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) أنفسهم ، المتهتكون عقولهم ، المتغافلون عن ضمائرهم ، العمي الصم البكم عن آيات الله. أبوا عن كل حق (إِلَّا كُفُوراً) كفرا وكفرانا.

٣٥٩

وهب ان اجل الموت لا ريب فيه عند احد ، ولكن اجل المعاد فيه مرتابون كثير فكيف (لا رَيْبَ فِيهِ) في مطلق الأجل؟

هنا نفي للريب لا نفي الشك ، فمهما شك في المعاد شاكون ، ليس لشكهم سناد مريب فلا يرتابون ، فكما القرآن لا ريب فيه وفيه شاكون كثير ، كذلك المعاد لا ريب فيه على شكه الكثير! (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)(١٠٠).

ترى وما هي الصلة بين خشية الإنفاق هنا ، المحتفة بنكران الرسالة والمعاد مسبقا ، وبذكرى آيات الرسالة ملحقا ، والموضعان ليسا موضع إنفاق أو إقتار؟.

نجد الجواب في (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢).

فخزائن الرحمة المقصودة هناك هي الرحمة الروحية اصليا وسواها فرعيا ، وعلّها هنا هي الظاهرة فباحرى الباطنة ، فالخزائن هي المواضع التي جعلها الله تعالى جهات لدرور الرزق ومنافع الخلق ، ترفع الأيدي عند السؤال والرغبات واستدراك الخير والبركات ، ثم وأحرى منها بركات معنوية فلو ان هؤلاء المعترضين على الرسالة المحمدية وسواها كانوا يملكون (خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) الرحمة الربانية الروحية الرسالية «لأمسكتم» عن إنفاقه لمن يستحقها (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) الإفناء ، (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) ممسكا بخيلا ، لا بما لنفسه فقط بل وبرحمة الله ، ولا بما يفنى فقط بل وربما لا يفنى من رحمة الله.

٣٦٠