الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

انه صاحب القرابة الأدنى ، والأولى والأولى بالرسول نسبيا ورساليا ، ان يؤتي حقه روحيا وماليا ، كما آتى فدكا لأقرب ذوي قرباه فاطمة (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٧٧ ـ اخرج البزاز وابو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سيعد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...) ، دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة فأعطاها فدك وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت اقطع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة فدكا. ورواه مثله في جمع الفوائد عن أبي سيعد وينابيع المودة للحافظ سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي ص ١١٩ وفي شواهد التنزيل حديث ٤٦٧ و ٤٦٨ و ٤٦٩ و ٤٧٠ و ٤٧١ و ٤٧٢ و ٤٧٣ مثله.

وفي نور الثقلين ٣ : ١٥٤ ح ١٥٦ عن عيون الاخبار في باب ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة والامة حديث طويل وفيه في قول الله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها واصطفاهم على الامة فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ادعوا لي فاطمة فدعيت له فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : يا فاطمة قالت : لبيك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : هذه فدك هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين فقد جعلتها لك لما امرني الله به فخذ بها لك ولولدك. وفيه عن الكافي عن علي بن أسباط قال : لما ورد ابو الحسن موسى على المهدي رآه يرد المظالم فقال : يا امير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد؟ فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال : ان الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ولم يدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من هم فراجع في ذلك جبرئيل (عليه السلام) فدعاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال لها : يا فاطمة ان الله امرني ان ادفع إليك فدك فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك فلم يزل وكلاءها فيها حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلما ولى ابو بكر اخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته ان يردها فقال لها : ايتيني بأسود او احمر يشهد لك بذلك فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام) وام ايمن فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض ...».

أقول وروايات أصحابنا قريبة الى متواترة في قصة فدك فلا نطيل.

١٦١

ووصى فيها خيرا : «فاطمة بضعة مني وأنا منها فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» مؤنة مالية لكي تستغني هي وزوجها والأئمة من ولدها ، معونة في بث الرسالة الإسلامية ، ومعونة روحية تعرفها بها الأمة المرحومة.

وانه علي عليه السلام حيث آتى حقه من التربية في حضنه وحضانته لحد قال : ولدني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وزوّجه بضعته فاطمة إذ لم يحق لها غيره ولم تحق له غيرها ، ثم آتاه حق الوصاية والخلافة (١)

كما وآتى عترته المعصومين حقوقهم أن جعلهم خلفائه من بعده تلو بعض (٢). إن ذوي القربى المأمور بايتائهم في القرآن كثير حيث يؤمر المكلفون بايتائهم والإنفاق عليهم ، ولكن ذي القربى المأمور بايتائه في أمر شخصي ليس إلا هنا وفي الروم : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٠ : ٣٨)

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٥٣ في اصول الكافي بسند عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام) ثم قال جل ذكره : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) وكان علي (عليه السلام) وكان حقه الوصية التي جعلت والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة.

وفيه عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام) قال يوم الشورى : أفيكم احد تم نوره من السماء حين قال : وآت ذا القربى حقه والمسكين؟ قالوا : لا.

(٢) الدر المنثور ٣ : ١٧٦ ـ اخرج ابن جرير عن علي بن الحسين (عليه السلام) انه قال لرجل من اهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال : نعم ـ قال : أفما قرأت في بني إسرائيل : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قال : وانكم للقرابة الذي امر الله ان يؤتى حقه؟ قال (عليه السلام) : نعم ورواه مثله الثعلبي عن السدي عن ابن الديلمي قال قال علي بن الحسين (عليه السلام) لرجل من اهل الشام (البرهان ٢ : ٤١٥ ـ ٣).

١٦٢

وهي محتفة في ذيلها وما قبلها وبعدها بعموم دون خصوص (١).

ومكية الآية في السورتين لا تنافي القرابة الخاصة ، حيث أخذ في الإيتاء منذ مكة لعلي وفاطمة تربويا ، وحتى المدينة إيتاء لفدكها وخلافته ، او تكون إحداهما مكية والاخرى مدنية! ومكية السورة لا تنافي مدنية آية او آيات منها.

ولا نجد في آيات ذوي القربى ـ كما اليتامى والمساكين وابن السبيل ـ حقا خاصا لذي القربى إلا هنا وفي الروم ، في خصوص قربى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، إذا فلهم حق خاص ليس لسائر ذوي القربى أمن ذا ، يعبر عنه هنا ب «حقه» وفي آيات المودة (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ما يختصهم بحق لا يشاركهم فيه أحد من العالمين ، فليس إذا من الحقوق المالية ـ فقط ـ حيث يشاركهم غيرهم كما في آيات ذوي القربى ام من ذا؟ ، فانما هو حق من بيت الرسالة الإسلامية هو استمراريتها في خلافتها المجيدة ، مهما شمل بطياته حقا ماليا للصديقة الطاهرة كفدك ، هي بلغتها وبلغة زوجها وأولادها المعصومين ، كمعونة لبيت الرسالة فان دنياهم آخرة.

ثم لا تشترط المسكنة في واجب الإيتاء الا في المسكين أحواليا وإلا في ابن السبيل حاليا ، فيؤتي ذو القربى لقرابته واليتيم ليتمه وابن السبيل لضرورته ، سواء أكانوا فقراء أم من ذا ، ثم وهؤلاء درجات كما وذوا القربى درجات وعلى حدّ قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «ابدأ

__________________

(١) فذيلها «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ» وقبلها «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» وبعدها «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ».

١٦٣

بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك (١).

ثم ولا يخص الإيتاء إيتاء المال بل ومطلق الإحسان كما تتطلبه الظروف والحاجيات : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ...) (٤ : ٣٦) ، فإذا لا تستطع إيتاء ماليا لليتامى والمساكين فأحسن إليهما في مواجهة أو توجيه بإحسان (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ).

وترى الإيتاء الإحسان واجب مالي أو حالي كسائر الواجبات ، نفقات ام ماذا؟ قد يقال : لا ـ اللهم إلا إحسانا بالوالدين ، إذ لم يفت به الفقهاء! ولكنه كيف لا؟ والله يأمرنا بها : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ....) (١٦ : ٩٠) ويأمر بإيتاء من سواهم والإحسان إليهم مهما كان في حق معلوم كما في نفقات أم غير معلوم كما هنا وهناك.

ثم وإيتاء الحق ماليا له حدود واجبة واخرى راجحة ومن ثم محرمة ليس حقا وهو الإيتاء أم ماذا من صرف المال تبذيرا ، فمهما كان إيتاء حق واجبا أم راجحا فالإيتاء تبذيرا محرم يجعل المبذر من إخوان الشياطين! (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ).

وانها آية يتيمة منقطعة النظير في تحريم التبذير تحمل على وحدتها حملة قوية على المبذرين «انهم اخوان الشياطين» اخوة في شيطنة التبذير ، ثم لا نجد في سائر القرآن اخوة للشياطين إلا : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٢) (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٧٧ ـ اخرج ابن أبي شيبة عن ثعلبة بن زهدم قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يخطب : «يد المعطي العليا ويد السائل السفلى وابدأ بمن تعول ...

١٦٤

لِيُجادِلُوكُمْ) (٦ : ١٢١) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣) (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢٦ : ٢٢١) رغم أن الأخوة في الأولى للكافرين ، ثم لا أخوة وأنما ولاية وتنزل ورسالة ، والأخوة تعني المعاونة المساعدة في اصول الشيطنة ، والتبذير اخوة للشياطين!.

هنا لك إسراف محرم أن تصرف فوق ما تحتاجه ، ولكنما التبذير هو أن تصرف فيما لا تحتاجه أنت ولا غيرك حيث لا ينفع ام ويضر فانه أنحس تبذير.

كلام حول التبذير :

فالإيتاء أيا كان قد يكون تجارة ومبادلة ، أو إنفاقا في سبيل الله دون ابتغاء جزاء ولا شكور إلا وجه الله ، فهو إذا بذر يغني بنفسه ويزداد ، أو إسراف حيث تصرف المال في الخلال فوق الحاجة ، أو تبذير حيث يكون إفناء للبذر دون مقابل في الأولى ولا الأخرى ، فهو تضييع في بعد واحد إذا لم يضر إلا فناء البذر ، او بعدين إذا أضر زيادة على الإفناء ، كأن تشغل أرضا سبخة مالحة صالحة لغير الزرع تشغلها ببذر حيث تفني البذر فلا تشغلها لصالح غير الزرع.

ثم التبذير لا يخص المال فانه أدناه ، حيث يعم كافة النعم مادية ومعنوية ، من رميك النوى (١) حيث تفيد ، ومن تولية إمرة المسلمين لغير

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٥٧ في تفسير العياشي عن بشر بن مروان قال : دخلنا على أبي عبد الله (ع) فدعى برطب فاقبل بعضهم يرمي النوى ، قال : فأمسك ابو عبد الله (ع) يده فقال : لا تفعل إن هذا من التبذير وان الله لا يحب الفساد.

١٦٥

امير المؤمنين (١) ، فتولية الأمر أيا كان لمن يحق عدل ، ولمن لا يحق تضييع تبذير ، وان كان فوق ما يحق فإسراف وظلم ، وإن كان لمن يحق فعدل ، وإن كان دون ما يحق فتقصير وظلم ، وهذه كلها تجري في كافة النعم حيث تؤتى من مال أو منال أو منصب أم ماذا؟.

فتبذير المال هو أن تنفقه في غير حقه قليلا او كثيرا إذ ليس هو الكثرة في الإنفاق انما هو وضع الإنفاق وموضعه ، ونية الإنفاق وموقعه ف «من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر» (٢) «وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان» (٣) ومنه إنفاقك مالك كله (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(٤) وهو أدنى الإسراف لحد قد لا تشمله الآية في اخوة الشياطين حيث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعيد كل البعد عن هكذا تبذير (٥) اللهم إلا نهيا

__________________

(١) المصدر في محاسن البرقي بسنده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) قال : لا تبذر ولاية على.

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٥٦ في تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) قال : ... ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد.

(٣) الدر المنثور ٤ : ١٧٧ ـ اخرج البيهقي في شعب الايمان عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : ما أنفقت على نفسك واهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك وما أنفقت ...

(٤) تفسير البرهان ٣ : ٤١٦ عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله (لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) قال : بذل الرجل ماله ويقعد ليس له مال قال : فيكون تبذير في حلال؟ قال : نعم.

(٥) ومن الدليل على الشمول ، ما في الدر المنثور ٦ : ١٧٧ ـ اخرج احمد والحاكم وصححه عن انس ان رجلا قال : يا رسول الله اني ذو مال كثير وذو اهل وولد وحاضرة فاخبرني كيف أنفق وكيف اصنع؟ قال : تخرج الزكاة المفروضة فانها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! اقلل لي قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : فآت ذا القربى حقه ـ

١٦٦

تنزيهيا تعطفا عليه يشمله صدر الآية (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) ثم الذيل (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لا يشمله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابدا. بل الصدر ايضا حيث التبذير هو ألا تنتفع ولا تنفع بما تدفع وقد تضر او تتضرر ، وليس منه إنفاق مالك كله في سبيل الله فتقعد ملوما محسورا ولا إنفاقك منا أو أذى ، ام ماذا من موارد الإنفاق التي ليست هدرا كله ولا ضرا كله ، وإن كان ممنوعا منهيا عنه.

والنهي عن التبذير مطلق لنفسه ولمكان «تبذيرا» يشمل تبذير النفس والنفيس ، فتبذير النفس محرم أيا كان ، أن يهدر الإنسان نفسه انتحارا ام تعريضا للقتل او الجرح او المرض او أية اصابة بدنية او روحية دون مقابل موازن او هو أرجح.

كذلك وتبذير المال أن تصرفه في غير حلال او تهدره دون صرف ، ام في حلال برئاء او سمعة او من او أذى ، ام في حلال باستئصال المال ان تبسط يدك كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، مهما اختلفت اخوّة الشياطين في هذه وتلك.

وباحرى منعا صرف المال فيما يضرك نفسيا ام ماذا ، كالدخان وأخواتها من سائر المخدرات ، التي تضرك ماليا ونفسيا ، وكلما كان عدم الانتفاع في الإيتاء اكثر ، والضرر اكثر ، ومن حيث الشمول أوسع فحرمة التبذير اكثر واخوة الشياطين أوفر.

ولأن (ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٩٣ : ١١) والتحديث بنعمة الله إظهارها وصرفها في مرضات الله ، فتبديلها إذا يخلف شديد العقاب : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ

__________________

ـ والمسكين وابن السبيل ولا تبذير تبذيرا ـ قال : حسبي يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

١٦٧

شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢ : ٢١١) تبديلا الى غير نعمة او الى كفر ونقمة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (١٤ : ٢٨).

ولأن «الشيطان كان لربه كفورا» فهؤلاء المبذرون (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) في كفرانهم بنعم الله هدرا لها او صرفا في غير حلها.».

إذا فالتبذير في دولة او دولة ، في نفس او نفيس ، في علم ام ماذا من نعم الله تعالى كل ذلك كفران بنعمة الرب فإخوة للشياطين فتولية الأمر لمن لا يستحق تبذير ، وتوليته فوق ما يستحق إسراف ، كما أنها دون استحقاقه ظلم ، وكذلك كل امر له مثلث القصور والتقصير والتبذير.

ليس التبذير ـ بطبيعة الحال ـ إلا فيما يؤتيه المبذر ، وكما الآية تفتتح بالإيتاء ، ولا يخص كما سلف إيتاء المال كما الإيتاء في الآية لا يخصه ، فقد يشمل التبذير نفس الإنسان ونفائسه من علم او منصب ام ماذا ، فتعليمك علوم الدين زائدا على استحقاق المتعلم إسراف وإذا هو يصرفه في الضلال او لا ينتفع به ولا ينفع فتبذير.

فمن يحضر خط النار في جهاد الكفار ليس له تبذير نفسه او نفره او سلاحه ام اية طاقة من الطاقات الحربية ، ان يعرضها للهدر دونما مقابل ، او مقابل أقل منها وأدنى ، فهذا إسراف وذلك تبذير ، ان تستأصل منك طاقة هدرا في الحرب دون استئصال من عدوك.

فجهادك دون استعداد وجاه العدو ، أم في تهاون فيك وذويك أمام العدو ، ام تعرضك لجرح ام قتل دون الزام أم ماذا من حرب غير مكافحة ، إنه لا يخلو عن إسراف أو تبذير.

١٦٨

ولماذا التبذير فقط بين المعاصي أخوة للشياطين ، لأنه يجمع كل إتلاف وتهدير يبوء بالضرر إلى الجماعة المسلمة في كل صغير وكبير.

واخوة الشياطين هذه في التبذير إنما هي في أنه كفران بنعم الله ، وتبديلها نقما : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢ : ٢١١) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (١٤ : ٢٨) (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)(١٦ : ٧٢).

عباد الرحمن يحدثون بنعمته (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٩٣ : ١١١) واخوان الشيطان يكفرون بنعمته!.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)(٢٨).

الإعراض «عن» هو ان تولي مبديا عرضك خلاف الإقبال ، فقد يكون غضبا ابتغاء نعمة من ربك (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) (٤ : ٦٣) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٢ : ٣٠) او يكون تركا للإيتاء الإنفاق إذ لم تجد ما تودي به متطلبات ذوي القربى والمساكين وابن السبيل ، وتستحي أن تواجههم فتميل عنهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) لكي تؤتيهم إياها ، فكما أنك ترجوا رحمة ربك (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ولكي يرجوك كما ترجو الله.

فمن القول معسور كأن تنهر فلست إذا وجاه المحتاج بمعذور ، ومن القول لا معسور ولا ميسور «ما عندي ما أحملكم عليه» (١) فأنت هنا

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٧٧ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : جاءنا ناس من مزينة يستحملون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ظنوا ذلك من غضب رسول ـ

١٦٩

معذور ، ولكن الأفضل أن تقول لهم القول الميسور : كعدة جميلة : سآتيكم ان شاء الله ، وبصيغة اخرى ان تحسن بهم إحسانا ، ان تؤتيهم خيرا إن كان عندك مع قول ميسور ، دون من او أذى او قول معسور.

فالسكوت عن المحاويج ، إلا إذا كان حياء (١). او القول : ما عندي ، إنهما لا يليقان بكرم الأخلاق وانما قول ميسور فإنه عوض وأمل وتجمل وان لم يتيسر له الوفاء به.

وقد تعني نون التأكيد في «تعرضن» تأكد الإعراض عند الإعواز ايحاء بانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يكذب ـ ان يعد وليس عنده ـ في

__________________

ـ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فانزل الله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) الآية قال : الرحمة الفيء.

وفي نور الثقلين ٣ : ١٥٧ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب بعد ذكر فاطمة (عليها السلام) وما تلقى من الطحن ـ عن كتاب الشيرازي ـ إنها لما ذكرت حالها وسألت جارية بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا فاطمة والذي بعثني بالحق ان في المسجد اربعمائة رجل ما لهم من طعام ولا ثياب ولو لا خشيتي خصلة لأعطينك ما سألت ، يا فاطمة اني لا أريد ان ينفك عنك أجرك الى الجارية واني أخاف ان يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل إذا طلب حقه منك ثم علمها صلاة التسبيح فقال امير المؤمنين (عليه السلام) مضيت تريدين من رسول الله الدنيا فأعطانا الله ثواب الآخرة قال ابو هريرة فلما خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عند فاطمة انزل الله على رسوله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) يعني عن قرابتك وابنتك فاطمة ... فقل لهم قولا ميسورا يعني : قولا حسنا فلما نزلت هذه الآية انفذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليها جارية للخدمة وسماها فضة.

(١) اخرج ابن حبان والحاكم عن انس قال كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء وفي الطبراني الأوسط عن علي (عليه السلام) كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا سئل شيئا فأراد ان يفعله قال : نعم ، وإذا أراد الا يفعل سكت ولم يقل قط لشيء : لا.

١٧٠

مجاملات ، فوجّه هذه الحتمية الصادقة الى وجهة اخرى لينة لا تنافيها ، أن يقول لهم كما يرجو رحمة ربه : إن شاء الله : ابتغاء رحمة الله ، وأما أنا فما عندي ، وما عند الله خير وأبقى.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(٣٠).

هذه كناية عن التقتير ومن ثم التبذير حيث هما مذمومان ، نهيا عن التفريط في الإنفاق وآخر عن الإفراط فيه ، أن يتخذ بين ذلك قواما : (الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢٥ : ٦٧) : وقوام المال ما يقوم بالحياة دون إسراف ولا تبذير ولا تكنيز حين يحتاج صاحبه ، فالقوام في الإنفاق «حسنة بين سيئتين» (١) (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٢ : ١٩٥) (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩).

نصوص اربعة تحمل بطيّاتها حملة على البلاء والمبذرين المسرفين ، آمرة بالتوازن الإسلامي السليم في صرف المال سلبيا وايجابيا : ان يد المسلّم هي يد الإعطاء مما زاد عن حاجياته ، لا مغلولة الى عنقه ممسكا لا يعطي ، ولا باسطة كل البسط يعطي ولا يبقي ، وإنما قوام بين ذلك وعوان وتوازن هو القاعدة الكبرى في منهج الإقتصاد الاسلامي ، فالبخل غل والتبذير بسط وذل ، هما يقعد انك ملوما تلوم نفسك ويلومك

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٥٩ عن تفسير العياشي عن الحلبي عن بعض أصحابه عنه قال : قال ابو جعفر لابي عبد الله (ع) يا بني عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوهما ، قال : وكيف ذلك يا ابه؟ قال : مثل قوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ...).

١٧١

الناس (١) ، محسورا : عاريا (٢) ، حيث الإفراط والتفريط يحسرانك تعريا عن راحة الحياة ، وتحسرا عليها ، وانه كذلك تهلكة وتضيق في الحياة لا يدعك ان تتحرك فيها.

فآية الغل البسط ترسم البخل يدا مغلولة الى العنق لا تعطي شيئا والإسراف والتبذير يدا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا ، وترسمهما معا قعودا كقعدة الملوم المحسور ، كما أية التهلكة يجعلهما فيها جميعا.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٧٨٠ ـ اخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن يسار بن الحكم قال أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بزّ من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا نأتي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله هذه الآية.

وفي تفسير البرهان ٢ : ٤١٧ الكافي عن علي بن ابراهيم القمي عن هارون بن مسلّم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال : علّم الله عز وجل اسمه نبيه كيف ينفق وذلك انه كانت عنده أوقية من الذهب فكره ان تبيت عنده فتصدق بها فأصبح وليس عنده شيء وجاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيثما لم يكن عنده شيء وكان رحيما رقيقا فأدب الله عز وجل نبيّه بامره فقال : ولا تجعل ... يقول : ان الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٧٨ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال بعثت امرأة الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بابنها فقالت له اكسني ثوبا فقال ما عندي شيء فقالت : ارجع اليه فقل له اكسني قميصك فرجع اليه فنزع قميصه فأعطاه إياه فنزلت الآية وفيه اخرج ابن جرير عن ابن مسعود وذكر مثله وفي آخره فخلع قميصه فدفعه اليه فجلس في البيت حاسرا فأنزل الله هذه الآية ورواه مثله في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (نور الثقلين ٣ : ١٥٨) وفي تفسير علي ابن ابراهيم عن الصادق. (عليه السلام) قال : المحسور العريان ، وفي تفسير البرهان ٢ : ٤١٧ يروي مثله عن ابن شهر آشوب باضافة هي «وبقي في داره عريانا على حصيرة إذ أتاه بلال وقال : يا رسول الله الصلاة فنزلت الآية وأتاه بحلة فردوسية.

١٧٢

فليست التهلكة واللوم والحسرة في بسط اليد فقط ، فانها في غلها اكثر وأبسط ، وخير الأمور هو الوسط.

فالبخل عن الإنفاق لوم وحسر وتهلكة في الدنيا والآخرة ، والإنفاق في بسط كل البسط إذا كان في طاعة الله قد لا يحمل حسرا وحسرة ولوما وتهلكة في الآخرة ، وانما قعدة الحياة الدنيا هكذا وقد تتخطى الى الآخرة إذا أضرت بها ، كمن ينفق بلغته في غير الواجب ، فلا ينفق على واجبي النفقة إذ لم يبق عنده ما ينفق فيقعد ملوما محسورا.

والحسير هو الدابة التي تعجز عن المسير فتقف ضعفا وعجزا ، كذلك البخيل يحسره بخله فيقف ، يوقفه المحاويج عن كل حراك كما نراه منهم وجاه الأغنياء البخلاء ، وهذه تهلكتهم من الشيوعية التي هي وليدة البخل والإجحاف بحق المحاويج.

كذلك ويحسر المسرف في إنفاقه لحد لا يبقى لحاجته الضرورية شيء فيصبح فقيرا (١) قتيرا (٢).

واما ان تنفق في واجبات معينة ام في مستحبات لحد تبقى لنفسك وذويك بلغة ، فإنفاقك إذا وسط وعفو ، أن تنفق الزائد عن الضرورة وقد يجب في الحالات الاستثنائية.

لا تفتكر أنك إذا لم تنفق كل ما عندك فما ذا يصنع من قتر عليه رزقه وقدر ، ف (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ثم يأمر من بسط في

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٥٧ ح ١٧٥ ـ الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : الإحسار الفاقة.

(٢) المصدر ح ١٨١ عن محمد بن يزيد عن أبي عبد الله قال : الإحسار الإقتار.

١٧٣

رزقه أن ينفق على من قدر عليه ولكنه بقدر ، دون ان تجعل نفسك في تهلكة لكي تنفق على غيرك.

انه يبسط ويقدر ، وإنه يأمر بالإنفاق (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يبسط ويقدر بخبرة وبصيرة ، ويأمر بالإنفاق الوسط خبرة وبصيرة ، وينهى عن الإسراف والتبذير والتقتير عن خبرة وبصيرة ، فليس على العباد إلا الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ، لا أن يسبقوه ببسط لم يفعله هو ولم يأمر ، ولا أن يعصوه في تقتير لم يفعله ونهى عنه ، فان الله تعالى : «قدر الأرزاق فكثرها وقللها وقسمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها» (١).

هنا لك واجبات مالية كضرائب مستقيمة ، وأخرى غير مستقيمة كالانفاق للمحاويج الذين لا يجدون بلغتهم ، ومن ثم حرام أن تكنز أموالا وسبيل الله بحاجة إليها ، ثم لا واجب عليك أن تسوي بينك وبين الفقراء ، فالممنوع عدم الإنفاق أو انفاق كل ما تملك ، واما ان تنفق الزائد عن حاجياتك الضرورية فلا يجب إلا في حالات ضرورية.

والعفو في آية العفو هو راجح الإنفاق ، واجبا كان أم راجحا ، انفاق الزائد عن الحاجة الضرورية وهو وسط الإنفاق ، فانفاق الزائد كله وسط أعلى ، وانفاق الزائد بعضه وسط أوسط ، إذ يشمل الضرائب المستقيمة وغير المستقيمة ، وعدم انفاق الزائد جعل لليد مغلولة على العنق ، وانفاق الكل حتى الحاجة الضرورية هو بسطها كل البسط ، فتقعد في غلها وبسطها ملوما محسورا ، والإنفاق الوسط أيا كان يجعلك محمودا محبورا.

لا تجد النبي ولا أحدا من المعصومين يجبرون او يأمرون الأثرياء من

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام).

١٧٤

حلّ ان يسووا بينهم وبين الفقراء بعد أداء واجباتهم المالية ، اللهم إلا تحريضا على نافلة الإنفاق.

إنما المجبر على الإنفاق هو المقصر في أداء واجباته المالية ، او في تحصيل أمواله سرقة او غصبا او بخسا او احتكارا او اجحافا على العمال ام ماذا من أموال هي للشعب او لاشخاص خصوص ، وأما الأموال التي حصلها من حلها وادي واجباتها ، غير الواقفة والمكنوزة ، فلا تحل مصادرتها ، ولا يجب إنفاق ما زاد عن ضرورة الحياة اللهم إلا لضرورة إسلامية هي أحرى شخصية أو جماعية.

وإنفاق الكنز في سبيل الله أعم من إنفاق الأصل او الفرع الحاصل بالعمل فيه حسب مختلف الحاجيات ، وإذا لم يوجد مورد لأي إنفاق فلا محظور في كنزل المال ولكنه موجود على أية حال حيث الحاجيات والمحاويج متوفرة على طول الخط.

ثم قد تشمل آية الغل والبسط تحصيل المال ومصرفه لصاحبه وإنفاقه ، فغل اليد عن كل سعي وحراك في تحصيل الرزق وكذلك بسطها ان يصبح بكل طاقاته سعيا في طلب الرزق ممنوع ، كما وان غلها عن مصرف المال وبسطها ممنوع ، نهيا عن التفريط والإفراط في هذا المثلث ، وامرا بالوسط القوام بين ذلك ، وكان بين ذلك قواما.

هذه الأوامر والنواهي قد تختص او تشمل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يناسب ساحته القدسية وكما يروي عن باقر العلوم (عليه السلام) انها «ادب وعظة وتعليم ونهي خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء مما نهى عنه. وأنزل نهيا عن أشياء حذر عليها ولم يغلظ فيها

١٧٥

ولم يتواعد عليها» (١) اللهم الا التبذير ، فانه أخوة للشياطين فلا يشمله إلا بسطا كل البسط ، وليس منها! ام التقتير ولم يكن منه طول حياته المشرفة.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً)(٣١).

الإملاق هو الإنفاق او كثرته لحد الافتقار و «الإفلاس» (٢) تستعمل لازما ومتعديا ، وخشية إملاق كما تعني إفلاس الآباء بالإنفاق. كذلك تعني إفلاس الأولاد ، فأية خشية لإملاق الآباء أو الأبناء ام كليهما لا تقتضي قتل الأولاد كما لا يقتضي إملاق الإنسان دون ولد أن يقتل نفسه حيث الكافل للارزاق إنما هو الله.

وترى لماذا هنا خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ... وفي الانعام (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (٦ : ١٥١)؟

إملاق الأنعام هو واقعه دون ما هنا فانه خشيته ، فواقع الإملاق هو للآباء فلكي لا يزداد إملاق على إملاق كانوا يقتلون أولادهم تخفيفا لوطئة الإملاق ، والحل هو (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ابتداء بكم حيث الولد يأتي برزق والديه ، ثم إياهم ، كما يأتي برزقه ، إذا يزول إملاقكم بأولادكم ثم لا يكونوا أمثالكم في إملاقكم.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٦٠ في اصول الكافي بسند متصل عنه (عليه السلام) في حديث طويل يفسر آيات القضاء تفسيرا اجماليا شموليا.

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٦٠ عن تفسير العياشي عن إسحاق بن عمار عنابي عبد الله (عليه السلام) قال : الحاج لا يملق ابدا قال قلت : وما الاملاق قال : الإفلاس ثم قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) ورواه مثله عن أبي ابراهيم (عليه السلام) ايضا.

١٧٦

والإملاق هنا هو خشيته ان يملقكم (١) أولادكم بكثرة الإنفاق فتفلسوا ، والحل (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ) فلا يحتاجون إلى إنفاقكم فإملاقكم ، ثم «وإياكم» يزيدكم مالا على مال ولكي لا يكن الولد وبالا.

إذا (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) خطأ في أصله حيث القتل دون ذنب خطأ ، ثم خطأ على خطأ هو الإملاق او خشيته إساءة الظن بالله ، فان الله هو الرزاق لا أنتم.

فكما انكم من مجاري وأسباب ولادة الأولاد فلستم لهم بخالقين ، كذلك أنتم من اسباب ومجاري رزقهم فلستم لهم برازقين.

وترى إن قتل الأولاد من إملاق او خشيته هو هو وأد البنات كما قد يخيّل الى بعض؟ كأنه لا ، فهنا الأولاد وهناك الأنثى ، وهنا السبب إملاق او خشية إملاق وهناك الهون : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) (١٦ : ٥٩) وإذا اجتمع السببان في الأنثى فلا يجتمعان في الذكر.

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(٣٢).

هنا الزنا لا يقرب لأنه كان فاحشة وساء سبيلا ، وفي الفرقان يردف بالشرك وقتل النفس ويوعد للثلاثة مضاعف العذاب وخلود النار : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (٢٥ : ٦٩) وفي الممتحنة يردف بالشرك والسرقة (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ...) (٦٠ : ١٢) مما يجعل الزنا كالشرك بالله والقتل والسرقة. كما انه فاحشة وساء سبيلا.

__________________

(١) فإملاق الانعام لازم وهنا متعدّ.

١٧٧

فكما الإشراك في ناموس الألوهية ظلم عظيم ، كذلك الإشراك في ناموس الإنسانية ظلم عظيم حيث تمجّه الفطرة وغريزة كل حيوان إلا الخنزير!.

وكما أن سرقة المال ظلم فسرقة الناموس كذلك بل هي اظلم وأنكى!.

وكما القتل ظلم كذلك الزنا قتل من جهات شتى ، ولذلك تراه ردفا عطفا متصلا في الممتحنة ، وهنا تتوسط آية التنديد به آيتي النهي عن قتل الأولاد خشية إملاق ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وليس هذا التوسط وذلك الردف الا لصلة قريبة بينه وبين القتل ، بل وفي الزنا قتلات وقتلات من نواحي شتى.

فانه قتل في البداية لشرف النفس الإنسانية وفطرتها في هكذا تبذل لممارسة الجنس كسفاد الحيوان وأضل سبيلا ، وقتل ثان حيث يراق ماء الحياة في غير موضعها ، وثالث لبذر النسل حيث يهدر إذا لم ينسل ، ورابع قتل الجنين قبل تخلّقه او بعده ، قبل الولادة او بعدها ، ولكي لا يحمل عامل الزنا عيبه وعبأه ، وخامس حين يترك الجنين لحياة شريرة شرسة ، مهينة بئيسة تعيسة ، ضايعة في المجتمع متحللة ، وسادس قتلا للجماعة التي يفشوا فيها فتضيع الأنساب والمواريث والمودّات وصلات القرابات ، وسابع أن سهولة قضاء الشهوة وتنوعها بالدعارة قطع لتداوم الانسال والاسرة التي هي محض لصالح الحياة الإنسانية ، مما تجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة إليها ، على عبئها وحملها ونفقتها وسائر أثقالها ... أبواب جهنمية سبع يفتحها الزنا على عامليه والمجتمع الذي يحويه او يحميه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)!.

وقد صدق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث يقول : «ما

١٧٨

من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» (١)

لأنه قتل في جهات قتلات وقتلات.

آيتنا هذه تنهى عن قرب الزنا ، لا فحسب الزنا نفسها ، ترى وما هو اقتراب الزنا قبل اقترافها. ام هما واحد؟

إن قرب الزنا كقرب مال اليتيم والصلاة وأنتم سكارى المنهي عنها ، هو اقتراب معداتها ومقدماتها الموصلة بطبيعة الحال إليها ، والمعاصي حمى الله فمن حام حول الحمى أو شك أن يدخل فيها ، وهكذا الفواحش كلها : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ... وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٦ : ١٥٢ ـ ١٥٣) (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (٤ : ٤٣) فمن قرب الصلاة دخول المساجد فإنه محرم على السكران والجنب ، ومن قرب مال اليتيم استدانة ماله دون عائدة اليه ، إلا بعائدة هي احسن ، ومن قرب الزنا نظرة الى غير ذات محرم فغمزة فلمسة فقبلة ومن ثم العياذ بالله ، فالمقدمات القريبة الى الزنا حيث تحسب قربها محرمة ، كما البعيدة مكروهة كالجلوس في مجلس متأثر بحرارة غير ذات محرم ، ثم لا نجد نهيا عن أي محرم إلا اقترافه دون اقترابه ، اللهم إلا مقدمات موصلة إليه قطعيا ، واما هذه الثلاث فاقترابها محرم مطلقا حتى ظني الوصول منها لحد يعتبر النظر المتعمّد الى غير ذات محرم من الزنا وان لم يوصل اليه ، مبالغة في التحرز ، لأن الزنا تدفع إليها شهوة عنيفة فالتحرز عن المقارفة أضمن لمنع المقاربة. ولماذا هذه الحمية الشديدة؟!.

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ف «إن» تؤكد و «كان» تضرب تأكيد الحرمة الى أبعد اغوار الزمن الغابر منذ بزوغ الرسالات الإلهية.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٨٠ ـ اخرج احمد وابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي (ص) ...

١٧٩

(كانَ فاحِشَةً) والفاحشة هي المعصية والمظلمة والفعلة المتجاوزة الى غير فاعلها (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ) (٣ : ١٣٥) والمتجاوزة قبحا عن حد المعاصي وحتى كبيرتها : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (٥٣ : ٣٢) ففي مثنى المعاصي ومثلثها ، الفواحش هي «اكبر الكبائر» (١) وأفحشها.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٦١ ح ١٨٨ في تفسير علي بن ابراهيم وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله : ولا تقربوا الزنا إن كان فاحشة يقول معصية وتفتأ فإن الله يمقته ويبغضه قال وساء سبيلا وهو أشد الناس عذابا والزنا من أكبر الكبائر.

وفي الدر المنثور ٤ : ١٧٩ ـ اخرج ابو يعلي وأبي مردويه عن أبي بن كعب انه قرأ : ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا من تاب فن الله كان غفورا رحيما فذكر لعمر فسأله فقال أخذتها من رسول الله (ص) وليس لك عمل الا الصفق بالبقيع ، أقول : «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً» مذكورة في آية النساء : ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء الا ما قد سلف ... وليست في الزنا!

وفيه اخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة قال قتادة عن الحسن ان رسول الله (ص) كان يقول : لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا ينتهب حين ينتهب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يغل! حين يغل وهو مؤمن قيل يا رسول الله (ص) والله ان كنا لنرى أنه يأتي في ذلك وهو مؤمن؟ فقال (ص) إذا فعل شيئا من ذلك فقد نزع الإيمان من قلبه فإن تاب تاب الله عليه.

وفي عيون الأخبار في باب ذكر ما كتب به الرضا (ع) الى محمد بن سنان في جراب مسائله في العلل : وحرم الزنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد.

في كتاب الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (ع) عن النبي (ص) انه قال في وصية له : يا علي في الزنا ست خصال ثلاث منها في الدنيا ـ

١٨٠