الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

المؤمن تصبح دنياه آخرة لأنها لها مزرعة وليست مزرءة ، ف (اللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) في الأولى والآخرة حيث المساعي الجميلة لتطبيق دعوة الله تعمر الدنيا قبل الآخرة وإن كانت (الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). ف «يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» (١).

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠٤ عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من يوم طلعت شمسه إلا وكّل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ... ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين : اللهم أعط منفقا خلقا وأعط ممسكا تلفا فأنزل الله في ذلك كله قرآنا في قول الملكين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأنزل في قولها : اللهم أعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ـ إلى قوله ـ للعسرى.

وفيه في الدلائل عن سعيد بن أبي هلال سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) وتلا : والله يدعو إلى دار السلام .. فقال حدثني جابر قال خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فقال إني رأيت في المنام كان جبرئيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه ضرب مثلا فقال : اسمع سمعت أذناك ، واعقل عقل قلبك : إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من ترك ، فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها.

٦١

قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

٦٢

فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٦).

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) قولة ومعرفة وعقيدة وطوية ونية وعملية فردية وجماعية بمرضات الله «الحسنى» وهي الحياة الحسنى هنا وفي الأخرى الجنة ، واللام لعهد لذكر المعروف فهو الجنة لمكان «دار السلام» ، ف «الحسنى» هي أحسن من إحسانهم وعلّها المذكورة في (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٦ : ١٦٠) ثم وزيادة حسب زيادة الإحسان ، ف «الحسنى» زيادة أولى على إحسانهم ، ثم «وزيادة» زيادة أخرى في درجات حسب الدرجات ثم (وَلا يَرْهَقُ) ويغشى (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) : غبار وسواد وكدرة اللون من الحزن والضيق ، فلا يقتر بحقهم في حسناهم ولا تغبر وجوههم بغبار التخجّل ولا ذلة وانكسار «بعد نظرهم إلى الله عزّ وجلّ» (١) فلا يغشى وجوههم قترة ولا تكسو ملامحهم ذلة ، والتعبير

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠٧ عن صهيب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) قال : بعد نظرهم إلى الله عزّ وجلّ.

٦٣

يوحى أن قضية الموقف من الزحام والهول والكرب والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه إلّا الوجيهة بالله ، ف (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١) وقد تعني «زيادة» زيادة على ما عنت «الدنيا» كما في رواية (٢) حيث الدنيا هي الحاضرة من حسنى الآخرة لمن يجعل دنياه آخرة وكما وعد الله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٧ : ٩٦).

وزواية ثالثة من «زيادة» هي النظر إلى وجه الله ، معرفة عالية غالية كما يمكن في حقهم وهو الأحق بالمعني من «زيادة» فإنه زيادة على دار السلام الجنة ، وقد تعنيها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧٥ : ٢٣) ، وفي الحق إنه هو الزيادة الغالية التي لا تقاس بشيء من الحسنى هنا وفي الآخرة.

أجل وفيما يروى لهذه الزيادة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حدود ولا صفة معلومة» (٣) وقد

__________________

(١) في مجمع البيان روى الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عين ترقرقت بماءها إلا حرم الله ذلك الجسد على النار فإن فاضت من خشية الله لم يلحق دلك الوجه قتر ولا ذلة ، وفي تفسير العياشي نحوه.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٣٠١ في أمالي الشيخ الطوسي بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : قال الله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) والحسنى هي الجنة والزيادة هي الدنيا ، وفيه عن تفسير القمي عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية قال : أما الحسنى فالجنة وأما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة ويجمع لهم ثواب الدنيا والآخرة ، وفيه عن أصول الكافي قال أبو جعفر (عليهما السلام) عند ما قرأت عليه هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن.

(٣) الدر المنثور ٣ : ٣٠٥ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : ينظرون إلى ربهم ... وفيه عن صهيب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ـ

٦٤

تعني ـ فيما عنت ـ هذه الزيادة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٥٠ : ٣٥) حيث الرحمة اللدنية الجامعة التي لا تقاس بسائر الرحمة هي النظر إلى وجه الله ، خارجا عن مأمولهم.

ذلك ، فهؤلاء الأكارم هم في مطبق «الحسنى» ومثلث «زيادة» ورأس زاويته هو النظر إلى وجه الله ، كما الإحسان هو القول والعقيدة والعمل لوجه الله.

أجل (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٤ : ١٧٣) (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٢٤ : ٣٨) (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣٢ : ١٧) وهي في القمة النظر إلى وجه الله.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧).

__________________

ـ ينجزكموه فيقولون : وما هو؟ ألم تثقل موازيننا وتبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة وتزحزحنا عن النار فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم ، وعنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الزيادة النظر إلى وجه الله ، وفيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة بصوت يسمعه أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): من كبر على سيف البحر تكبيرة رافعا بها صوته ولا يلتمس بها رياء ولا سمعة كتب الله له رضوانه الأكبر ومن كتب له رضوانه الأكبر جمع بينه وبين محمد وإبراهيم (عليهما السلام) في داره ينظرون إلى ربهم كما ينظر أهل الدنيا إلى الشمس والقمر في يوم لا غيم فيه ولا سحابة وذلك قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، فالحسنى لا إله إلّا الله والزيادة الجنة والنظر إلى الرب» أقول : يعني من النظر إليه بلا حجاب كل حجاب إلا حجاب الذات القدسية فإنه لن يرتفع لأحد حتى أقرب المقربين وأول العابدين.

٦٥

هناك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) زيادة على الحسنى ، وهنا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) وهما وجوه القلب لمكان «تظن» (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ..) إذ (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) كلها بكل حقولها وجاه كل الحسنات فلا تعني من عنتهم الفساق من المؤمنين إذ هم مهما فسقوا ليسوا ليكسبوا كل السيئات فإنما هم (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢) ٨١).

ذلك إضافة إلى صراح آيات أن تلك هي وجوه الكفرة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٨٠ : ٤٢) (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) (٣ : ١٠٦) (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٣٩ : ٦٠).

ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) دون زيادة ، مما يدل على أن النار ليست أبدية دون نهاية إذ لا تماثل اللانهاية السيئات المحدودة التي لها ولآثارها نهاية : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤٢ : ٤٠) ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٤٠ : ٤٠) ـ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٨ : ٨٤) ـ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦ : ١٦٠).

فهؤلاء «ترهقهم» وتغشاهم «ذلة» ذليلة ثم و (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ولا عاصم اليوم إلا الله ، كأنما أغشيت وجوههم المقترة الذليلة المغبرة المظلمة (قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) ظلمات بعضها فوق بعض (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وفناء من في النار مع النار ليس خروجا من النار ، وقد حدد خلود النار بما شاء الله في آيات ك (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦ : ١٢٩) فشمول الاستثناء لكل الخالدين في النار يجمع بين خروج عن النار للمستحقين الجنة ، وعدمه لغيرهم حيث تخمد النار بمن في النار.

وما أمثله تمثيلا لهذه الوجوه المظلمة (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً

٦٦

مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) : الليل مظلما وهو غسقه دون نور من القمر ، ثم «قطعا» منه ركاما ، فلا نور فيه أبدا (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) فقد رقعت وجوههم المظلمة برقع من أظلم ظلم الليل فأصبحت ملفعة بأغشيته البهيمة.

ورغم أن الليل لا يوصف بقطع متفرقة وأجزاء منتصفة ، فقد يعني هنا «قطعا» أنه لو كان مما يتبعض وينفصل لأشبه سواد وجوههم أبعاضه وقطعه ، وهنا «مظلما» حالا من «الليل» لأنه قد يكون مقمرا وأخرى مظلما ، فالتشبيه هنا واقع بموقع أسود ما يكون الليل جلبابا وأبهم أثوابا.

ف (الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) تغشاهم وتركبهم وتكربهم قتر وذلة وظلمة خالصة كالسة عن أي نور ، فلأنهم كانوا هنا أصحاب العار فهناك «هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) في ظلام النار وقتامها ، وهم رفاقها ما داموا ودامت جزاء وفاقا محدودا بحدود سيئاتهم دونما مزيد لأنه من عدله ، وهناك مزيد لأنه من فضله.

ذلك ومن الواجهة الأدبية للآية ، الواو في «والذين» عطف على (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) ف (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ، دون الأسوء فضلا عن «زيادة» لأنهما ظلم تعالى الله عنه ، وإنما (سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) فهي محدودة بحدودها دون خلود لا نهاية له كما يفترى على الله!.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ)(٢٩).

«نحشرهم» أولاء المحسنين ، والمسيئين بشركائهم «جميعا» دون إبقاء فإنه يوم الجمع الأكبر حيث لا يبقي ولا يذر (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله ـ ككل ـ دون إبقاء أيا كانوا من دركات الإشراك وأيان ، الزموا «مكانكم» متميزين عن الموحدين في مكان كما في مكانة : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٣٦ : ٥٩).

(مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) دون أي حراك أو عراك (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ)

٦٧

تزييلا للحجب التي حجبت بعضهم عن بعض فأوردتهم في هوات الإشراك بهم كما حجبت عنهم سائر الحقائق المعنية ، وذلك تزييل ثان في الأخرى بعد الأول في الأولى حيث زيل بين كل المشركين وشركاءهم غشاء الإشراك بما فطرهم الله. كسائر المكلفين ـ على التوحيد ، إضافة إلى سائر الآيات الأنفسية والآفاقية التي تصرخ من أعماق الكائنات بوحدانية الله بكل مراحلها ، ومن الفارق بين التزييلين ، أن الأول يعني التزييل بين المكلفين والحقائق المعنية بتذييل المساعي للحصول عليها جهادا متواصلا لإزالة كل الغشاوات والحجابات بينهم وبينها ، سواء التي تحصل على أنفسهم الأمارة بالسوء ، أو التي يختلقها شياطين الجن والإنس ، ثم تبنّي الفطرة العقلية الإنسانية والشرعة الربانية لتكامل المعرفة وصالح العقيدة والعملية وفقها.

ولكن التزييل في الأخرى لا يكلف تذييلا لمساعي حيث انقضى دورها بانقضاء دار التكليف بدورها ، فلا مغطي لما يزيل الله في الأخرى وفي الأولى غطاءات آفاقية وأنفسية ، وحجج الله بالغة في التزييل هنا وليست الضلالة إلا ترك المساعي المعنية في دار التكليف.

ولا فارق بين التزييلين إلّا أن الأولى لم يكن عيانا قضية دور التكليف ، وإنما كان بيانا في كتابي التكوين والتشريع ، ثم عيانا يوم الحساب قضية كشف الغطاء عما يصح كشفه ويصلح ، فرحة للصالحين وقرحة للطالحين.

(وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) ككل من جماد أو نبات أو حيوان أو ملك أو جان أو إنسان دونما استثناء لشريك مختلق إلّا و «قال» كما حشر مع عابديه.

وترى كيف «قال» ولا قال إلا لذوي القال المعروف قوله؟ «قال» هنا بالنسبة لغير ذوي القال باللسان هو «قال» الحال بعد ذلك التزيّل ، مسموعا بسمع القلب بعيان الحال ، وكما في السماء والأرض بعد قول الله لهما : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٤١ : ١١) قولا بحال التذلل والانقياد والطواعية لأمر الله دون أي تمنّع.

ثم هو بالنسبة لذوي القال من ملك أو جان أو إنسان ، هو قول

٦٨

اللسان كلمة واحدة : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ).

وتراه كذبا ، إذ كانوا إياهم يعبدون؟ و (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨) وذلك كذب تباب ، وحتى لو أذن لهم في كذب قضية الفضيحة هناك على رؤوس الأشهاد ، فلا بد ـ إذا ـ من الرد عليه قضية أن القرآن كتاب هدى لا يحمل ضلالا إلّا لتزييفه.

هنا (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إن كانت «ما» نافية ، تعني سلب الحصر قضية تقديم المفعول ، كما العكس في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذا صدق دون ريب لأن العابدين من دون الله ما كانوا يحصرون عبادتهم فيما يعبدون ، فهم كأصل إنما كانوا يعبدون أهواءهم ، وعلى هامشها يعبدون ما يعبدون من شركاءهم ، إشراكا بينها دونما توحيد.

فقد يتبرء الشركاء تخفيفا عن محظور عبادتها أن لم نكن في ذلك الميدان مختصين بتلك العبادة ، فإن هناك الشريك الأكبر هو أهواءهم ، ومن وراءها عبادتنا كشركة متساهمة ، إذا فنحن كلنا مؤاخذون فيما دعونا إلى عبادتنا أم قبلناها دون دعوة ، إلّا (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (٢١ : ١٠١) وهم الصالحون إذ لا قصور لهم ولا تقصير ولا دعوة ولا استجابة في حقل عبوديتها للمشركين ، ومعهم غير الطواغيت ، من جماد ونبات وحيوان ، قضية خروجها عن محور الدعوة والتكليف.

وقد يتأيد ذلك السلب ب (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (١٦ : ٨٦) إذ (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ).

وباحتمال ثان إذا كانت «ما» استفهامية : ما الذي كنتم إيانا تعبدون (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فالصالحون هناك كما هنا يستنكرون ، لما ذا عبدتمونا ، فرحين أن لم يقصروا ، والطالحون هناك قرحون لما ذا قصّروا هناك فقصروا هنا عن جبره هنا إذ لات حين مناص ، وقد مضى يوم خلاص.

إذا ف (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) صادقة في وجهي الإخبار والإنشاء ،

٦٩

أنكم كنتم تعبدون أهواءكم ومن خلفياتها أن عبدتمونا على هوامشها ، فالمعبود الأصيل هو أهوائكم ، ثم سائر المعبودات كطقوس ظاهرة أم أسماء سميتموها أنتم وآباءكم.

ذلك ، وأما (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) فتراهم ككل كانوا عن عبادهم لغافلين؟ والطواغيت يحاولون ليل نهار أن يعبّدوا لأنفسهم المستضعفين ، ولهم حظوة كبريائية حين يعبدون من دون الله! فكيف (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ).

ثم الملائكة والنبيون الذين عبدوا من دون الله لم يكونوا غافلين عن عبادتهم ولا سيما الآخرون ، فإن قضية الرسالة بلاغيا صد العابدين لهم عن عبادتهم كزاوية أولى لدعواتهم الرسالية حيث «لا إله إلا الله» فكيف «إن كنا عن عبادتهم لغافلين»؟.

فمهما كان غير العقلاء من المعبودين من دون الله (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) كالجمادات والنباتات والحيوان ، فالعقلاء من المعبودين ـ الراجع إليهم ضمير الجمع كأصل ـ ما كانوا عن عبادتهم لغافلين!.

هنا في وجه «إن» النافية ، ليس موقف المعبودين إلّا تزييف العابدين إضافة إلى الأوّل ، أننا لم نكن عن عبادتكم لغافلين ، فيختص سلب الغفلة بعقلاءهم ، أم يعمهم إلى سواهم ، إذ (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) ومن الممكن أنها كما تشعر تسبيح ربها كذلك تشعر من يعبدها فتشهد على عابديها يوم يقوم الأشهاد.

ثم في وجه «إن» المثبتة هي غفلة قاصرة من غير ذوي العقول منهم ، وغفلة مقصرة لذوي العقول منهم القابلين لعبادتهم غير الرافضين إياها ، إن (كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ) إيانا «لغافلين» عن التوحيد الحق ، وعن كوننا كما أنتم عباد لله.

ثم بالنسبة للصالحين هي غفلة التغافل التناسي في واقع العبادة ،

٧٠

مهما كانوا ذاكرين في حقل الدعوة.

فهم ـ إذا ـ كانوا بين غفلة ولا غفلة ، غفلة تصغيرا لأنفسهم وتعظيما لله تناسيا لتلك العبادات الشركية ، ولا غفلة اعتبارا بصدهم في دعاياتهم الرسالية عن الإشراك بالله.

ذلك ، ومن واجهة أخرى قد يسمح للمشركين أن ينكروا إشراكهم حتى يكذبهم الله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٦ : ٢٤) فحين يضل عنهم ما كانوا يفترون بما زيل الله بينهم وبين ما كانوا يعبدون ، يستجرون أنفسهم هناك إلى الدنيا مدعين أننا كنا على حالتنا الحالية من ذي قبل ، فقد كانوا يشهدون يوم الدنيا لشركائهم ثم في الأخرى ينكرونهم : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤١ : ٤٨).

وحين يدّعون أن شركائهم هم الذين سيّروهم إلى الإشراك بهم يكذّبون : (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ. قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) (٢٥ : ١٩).

فالإضلال المنفي هو الحمل على الضلال تسييرا ، فلا ينافي واقع الإغواء تخييرا : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ. وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) (٢٨ : ٦٤).

فقد يتواتر على المشركين تكذيبهم في نكران إشراكهم وذلك عذاب فوق العذاب.

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ

٧١

وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠).

«فكيف لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور؟ (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١).

ذلك وعلى حد قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): يمثّل يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونهم حتى يوردوهم النار ثم تلا (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ..) (٢) ولكن (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢١ : ١٠١) وإنما ورد النار خزيا هو للذين دعوا إلى أنفسهم ولعابديهم ، أم لم يمنعوهم عن عبادتهم ، ثم والأصنام المعبودة من دون الله خزيا لعابديها.

و «تبلو» من البلوى الاختبار ، ف (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) تعني اختبارها حقيقة ما أسلفت دون غطاء وغشاء ، ف (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢).

فاختبار الإشراك والشركاء فاصحا واضحا لا غبار عليه أنهم ما كانوا شركاء ، وأن عبدتها ما كانت في الحق تعبدها ، إنما كانت تعبد أهواءها الناحية منحى رغباتها.

و (كُلُّ نَفْسٍ) تعني كل نفس خيرة أو شريرة ، وبمناسبة المقام الأخيرة إذ (ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

فكل ما أسلفت وقدمت من خير أو شر هنالك تبلوها ، اختبارا بصورها المستنسخة الحاضرة يوم الحشر ، وبسيرها الحاذرة شرا ، والباهرة خيرا وهي هيه جزاءها ، وفي خيرها (لَدَيْنا مَزِيدٌ).

ذلك وعين الحق تبلو هنا ما أسلفت ، وكما زيل الله بين المكلفين

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠٢ عن نهج البلاغة.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٠٧ ـ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ..

٧٢

والمعبودين من دون الله فطريا وعقليا وشرعيا ، وبكل الآيات الآفاقية والأنفسية ، وقد يعني المضي في : «زيلنا» ذلك التزييل المستمر مهما كان تزييله يوم الحساب أكثر وأوفر إذ لا يبقى أي غشاء وغطاء.

فحين يقول الله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) الخير والشر على مرتفع باهر ، فقد زيل بين المشركين وشركاءهم ، ولكنهم غطوا على أنفسهم الحق وتورطوا في الباطل ، ثم الله يزيل بينهم تزييلا لا يمكن الغطاء عليه يوم يكشف الغطاء.

وترى أن هنا تضادا بين (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) و (أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) حتى يخرف فيهرف بان الثانية ناسخة للأولى ، ولا نسخ في حقل الحقائق الثابتة؟.

كلّا ، فإنه (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) في كافة النشآت ، ولكنهم تركوا ولايته يوم الدنيا ، فهو لا يعاملهم معاملة المولى يوم الأخرى ، إذا فلا مولى لهم : إذ «اليوم (نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) (٧ : ٥١).

وهكذا يتجلى المشهد الحي في ساحة الحشر بكل حقائقه ورقائقه الدقائق ، وبكل وقائعه ومؤثراته واستجاباته ، تعرضه تلك الكلمات الرفرافة القلة ، فتبلغ أعماق الأنفس ما لا يبلغه مجرد الإخبار كقصّ عما يستقبل.

ومن جولة الحشر وحولته بهولته ، حيث تتساقط الدعاوي الباطلة ويتجلى فيه أن الله هو الحق لا سواه ، وهو المولى لا سواه ، إلى جولة الواقع المعاش ، وكل المشاهد الآفاقية والأنفسية التي يشهدونها ليل نهار :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)(٣١).

هنا عرض لجوانب هامة من الربوبية الوحيدة لله تعالى في خماسية رزق السماء والأرض ، وملك السمع والأبصار وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي وتدبير الأمر كل الأمر في الخلق ، وهؤلاء

٧٣

المشركون مصدقون أنها كلها لله (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله ، أن تتخذوا من عباده له شركاء ، والأمر كله لله.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وهو الرزق كله من أكناف الكون؟ (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٩ : ١٧) (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (٦٧ : ٢٣) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) (٦ : ٤٦) (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)؟ (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٢٥ : ٣).

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)؟ إنه هو (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) (٣٢ : ٥) ومن قبل (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٣ : ٢) ف (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (٣٠ : ٤) (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤) : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) فقد اعترفوا بأن الأمر كله لله ثم خرفوا وهرفوا واحترفوا له شركاء ما نزل الله بها من سلطان!.

ذلك ، ولأن العبادة في الأكثرية من العابدين تقصد الارتزاق من المعبودين ، فحصر الرزق بالله يحصر العبادة فيه ، ورزق «السماء» هو كل آت منها من بعد أو قرب إلى الأرض وجوها ، كما أن «رزق الأرض» هو كل ناتج منها من الثرى أو ما تحت الثرى برا وبحرا.

ثم الإنسان يستفيد من رزق السماء والأرض بسمعه وبصره الشاملان لسمع القلب وبصره ، فهو بما أوتي من وسائل الاستثمار يستثمر الأرض ويستعمرها بمالها من رزق السماء ، والسمع والبصر كرزق السماء والأرض كلها من ملكة ربنا.

كما وأن إخراج الميت من الحي وإخراج الحي من الميت ، ف

٧٤

الأحياء والميتات النباتية والحيوانية والإنسانية ، وفيها الحياة المادية والروحية ومماتهما ، كل ذلك يملكه ربنا.

وفي جملة مختصر محتصرة : هو الذي يدبر الأمر لا سواه خلافة أو وكالة أماهيه من تخويلات مزعومة.

(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله حيث تشركون به من لا يملك منها شيئا ، لا وحتى نفسه فضلا عن عبيده!.

ذلك ، وترى لما ذا (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) دون «يخلق» حتى يكون كل من الحي والميت بديعا؟.

«يخرج» تعبير قاصد يدل على أن الكائنات هي مزيجة من الحياة والموت ، حياة كامنة في الميت وموت كامن في الحي ، وكما الله خلقها كذلك ، هو يخرج كلا من الآخر.

ففي إخراج النبتة من الحبة والحبة من النبتة ، وإخراج الفرخ من البيضة والبيضة من الفرخ ، وما إلى ذلك من مختلف أشكال الإخراجات يتبين تقدير القدير العليم.

ومثلا ماثلا بين أيدينا نحن أنفسنا حيث يخرج الله الروح من أبداننا الميتة كما يقول الله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فالروح الكامنة في الجنين ليس ليخرج من حصالة أجزاءه وأعضاءه إلّا بإنشاء أحسن الخالقين ، فكما المادة تتبدل بغيار ذراتها وجزئياتها أصلا أو فصلا ، كذلك حياة وموتا ، فالحياة الكامنة في أصول المواد تخرج بإذن الله.

ذلك ، فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة ، وأين فيها اللب واللحاء والساق السامقة والعراجين والألياف والطعم والنكهة واللون والرائحة والبلح والتمر والرطب والبسر؟.

وأين كان الفرخ في البيضة بعظمه ولحمه وزغبه وريشه ولونه وشياته ورفرفاته وأصواته؟.

٧٥

وأين كان الكائن الإنساني في البويضة ، في النطفة الجرثومية ، بملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي ، المتشعبة المنابع والنواحي ، وأين كانت نبرات الصوت ولحظات العين ولفتات الجيد واستعدادات الأعصاب ، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين ، وأين وأين كل هذه المخرجات الحية من الميتات والميتة من الأحياء بتفاصيلها ومحاصيلها.

نحن ـ على التقدم العلمي البارع ـ لا نستطيع أن نخرج أيا من هذه الإخراجات اللهم إلّا أن نكون أسبابا قدرها الله للبعض منها كاللقاح حيث ينتج الحمل ، والمخرج على أية حال هو الله تعالى شأنه العزيز.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٣٢).

«ذلكم» البعيد المحتد عن معرفتكم حقا ، القريب بآياته حقا ، هو (اللهُ رَبُّكُمُ) دون غير الله من أرباب اتخذتموها له شركاء (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أيا كان بعده وإيان (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وتخرفون فتهرفون وتجرفون؟.

ذلك ، فكل شيء ، وكل قول أو فعل أو نية أو علم وما أشبه ، هو بين حق وضلال عن الحق ، فلا عوان بينهما مهما كان الحق درجات والضلال دركات.

فالله الحق حق وغيره ضلال عن ذلك الحق ، إلّا من هداه فهو على هامش الحق قدر نصيبه منه ، وكل ما شك في حقه وضلاله فليعرف حقه وضلاله من إله الحق فانه الحق المطلق المطبق.

فليس الحق زواية ثالثة من هندسة الكون حتى يقاس حتى الله بذلك الحق ، بل هو بنفسه حق ، والمدار الأصيل لكل حق نسبي سواه ، فالحق الثابت الذي لا عوج له ولا حول عنه ، والحق الصدق الذي لا ضلال فيه ولا كذب ، والحق في كل حقوله الحقة الحقيقية الطليقة هو الله الحق لا سواه.

٧٦

ذلك ومن الناحية الأدبية قد يكون «الحق» وصفا ل «الله» كما يصف «ربكم» ف «الله الحق هو ربكم الحق» والإله الباطل ليس ربكم ، وهم يجعلون الله خالقا وغيره أربابا ، وهذا خلع لساحة الألوهية عن الحق الحقيق بالربوبية.

ثم «الحق» الأول هو الحق الأول ، والحق الثاني يشمل الأول والثاني ، فما ذا بعد الله الحق ربكم الحق إلا آلهة الضلال ، وما ذا بعد طليق الحق ـ من الحق الأول إلى سائر الحق ـ إلّا الضلال.

(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) حيث تصرفكم الأهواء الغاوية الهاوية منكم وممن سواكم من شياطين الجن والإنس ، ولأن «أنّى» سؤال عن الزمان فقد يشمل كل مكان وأيا كان من منصرف إليه ، فأين وأيان وإلى م تصرفون عن الله الحق إلا إلى الضلال؟.

ولأن (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) سؤال تنديد شديد ، فالصارف لهم عن الحق ـ إذا ـ ليس هو الله ، بل هو كل صارف آفاقي وأنفسي لا يصرفها الله حين ينصرف بها المنصرفون حتى لا يكون هناك جبر وتسيير على الهدى وترك الضلال ، كما ليس على ترك الهدى وفعل الضلال ، فلا يعني مثل (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إلا مشيئة المضلّلين والمهتدين ، وإلّا مشيئة الله بما يشاؤه هؤلاء وهؤلاء كما تقتضيه الحكمة العالية الربانية ، فلكلّ نصيبه من مشيئة الله بما يختاره كل من المضلّل والمهتدي ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ..) (٤٧ : ١٧) ولغيرهم (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) ف (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠).

وبمثل ذلك الانصراف عن الحق إلى الضلال بصوارف ، وهم يعترفون بواضح الحق ناكرين نتائجه اللازمة ، قدر الله في ناموس سنته أن هؤلاء الذين ينصرفون عن الفطرة والعقلية السليمة لا يؤمنون :

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣٣).

٧٧

وهذه الكلمة هي كلمة العذاب للأخرى ، ومعها العذاب للأولى (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فلأنهم لا يؤمنون حقت عليهم كلمة العذاب ، ولأنهم فسقوا حقت كلمة ربك أنهم لا يؤمنون.

ف «أنهم» ذات وجهين هذين ، محذوفا عنها اللام تعليلا ل (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) وغير محذوف ف «انهم» بدل ل (كَلِمَةُ رَبِّكَ) يوضحها ، فالكلمتان ـ إذا ـ معنيتان.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٣٤).

تلك هي بداية الخلق وأصل التدبير حيث تعترفون أنهما لله ربكم الحق ، وقضيته أن تعبدوه مخلصين له الدين ، ثم من ناحية أخرى هي عود الخلق يوم الميعاد الحساب هي الأخرى الخاصة بالله ربكم الحق ، ف (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بحذافيره وتفاصيله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ولأنهم ينكرون المعاد بعد إقرارهم بالمبدإ ، فهنا : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لا سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) حيث تؤخذون بكل إفك وزور إلى اتخاذ شركاء لله وكأنها آلهة من دون الله.

ذلك ، ومن ناحية أخرى ثالثة بعد انحصار البدء والإعادة بالله وانحسارهما عما سواه :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(٣٥).

هنا الفارق بين (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) و (يَهْدِي لِلْحَقِ) أن «إلى» للغاية و «ل» للنهاية ، حيث الله يوصل من يشاء الحق ، فله هدايتان اثنتان ، أولاهما الهداية إلى الحق ببيناته وهي الدلالة إليه ، وأخراهما الإيصال إليه من هو مهتد إليه ف (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٢٨ : ٥٦).

٧٨

إذا ف (يَهْدِي لِلْحَقِ) مختصة بالله ، و (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) تعمه إلى سواه دلالة لطريق الحق ، وهم كل من يحمل الرسالة الربانية من معصومين وسائر الربانيين.

وذلك السؤال المؤنب مطروح أمام كل هؤلاء الذين يتبعون (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) ويتركون الهداة إلى الحق بإذنه ، المهتدين به : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ..) (٢١ : ٧٣).

من مشركين يتركون رب العالمين ، عاكفين على «من (لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى)لو كان لهم مجال الهدى كالعقلاء من المعبودين.

ومن تاركين رسول الحق إلى من سواه من الخاطئين غير المهتدين.

ومن تاركين أئمة الهدى (عليهم السلام) بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، متخذين الخاطئين لإمامة الأمة (١) ولقد كثرت الأخطاء من

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠٢ في روضة الكافي بسند عن عبد الرحمن بن مسلمة الجويري قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام) : يوبخونا ويكذبونا أنا نقول : أن صبيحتين تكونان يقولون : من أين تعرف المحقة من المبطلة إذا كانتا؟ قال : فما ذا تردون عليهم؟ قلت : ما نرد عليهم شيئا ، قال : قولوا يصدق بها إذا كانت من يؤمن بها من قبل إن الله عزّ وجلّ يقول : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

وفيه عن كشف المحجة لابن طاوس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه يقول : اسمعوا قولي يهدكم الله إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فوالله لئن أطعتموني لا تغووا ، وإن عصيتموني لا ترشدوا ، قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ..).

وفي ملحقات إحقاق الحق (١٤ : ٥٨٨ روى الحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ٢٦٥) بسند عن ابن عباس قال : اختصم قوم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر بعض أصحابه أن يحكم بينهم فحكم فلم يرضوا به فأمر عليا أن يحكم بينهم فحكم بينهم فرضوا به فقال لهم بعض المنافقين : حكم عليكم فلان فلم ترضوا به وحكم عليكم علي فرضيتم به بئس القوم أنتم فأنزل الله تعالى في علي (أَفَمَنْ يَهْدِي ..) وذلك أن عليا كان يوفق لحقيقة القضاء من غير أن يعلّم ، وبسند آخر عن أبي جعفر قال : أمر عمر عليا أن ـ

٧٩

الخلفاء فهداهم علي (عليه السلام) إلى الصواب (١) لحد قال الخليفة عمر : لولا علي لهلك عمر. ومن سائر هؤلاء الذين يقدمون المفضول على الفاضل في أي حقل من حقول التفضيل.

__________________

ـ يقضي بين رجلين فقضى بينهما فقال الذي قضى عليه : هذا الذي يقضي بيننا؟ وكأنه ازدرى عليا فأخذ عمر بتلبيبه فقال : ويلك وما تدري من هذا؟ هذا علي بن أبي طالب هذا مولاي ومولى كل مؤمن فمن لم يكن مولاه فليس بمؤمن.

(١) المصدر في الكافي بسند متصل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لقد قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) بقضية ما قضى بها أحد كان قبله وكانت أول قضية قضى بها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك انه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفضي الأمر إلى أبي بكر أتى رجل قد شرب الخمر فقال له أبو بكر : أشربت الخمر؟ فقال الرجل : نعم فقال ولم شربتها وهي محرمة؟ فقال : انني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونها ولو أعلم انه حرام اجتنبتها ، قال فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال : ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال : معضلة وأبو الحسن لها ، فقال أبو بكر : يا غلام أدع لنا عليا ، فقال عمر : بل يؤتى الحكم في منزله فأتوه ومعه سلمان الفارسي فأخبروه بقضية الرجل فاقتص عليه قصته فقال علي (عليه السلام) لأبي بكر ابعث من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ، ففعل أبو بكر ما قال علي (عليه السلام) فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله فقال سلمان لعلي (عليه السلام) : لقد أرشدتهم فقال علي (عليه السلام) : إنما أردت أجدد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وفيه عن تفسير العياشي عن عمرو بن القاسم قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وذكر أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قرء هذه الآية فقلنا من هو أصلحك الله؟ فقال : بلغنا أن ذلك علي (عليه السلام).

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في وصف الإمامة والإمام وذكر فضائل الإمام ورتبته حديث طويل يقول فيه الرضا (عليه السلام): إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم في قوله عزّ وجلّ : ( فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ..).

وفيه عن تفسير القمي عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية : فأما من يهدي إلى الحق فهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل محمد (عليهم السلام) بعده وأما «من (لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) فهو من خالف من قريش وغيرهم أهل بيته.

٨٠