الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

خاص لم يأت في القرآن ، لأنه اختصاص غالط يغلّط نوحا في ابنه ، ولكن امرأته مذكورة في (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٦٦ : ١٠).

أجل قد نتلمّح من : (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أنه كان يفكر في أمره ، عازلا عن نوح والمؤمنين ، وعن الكافرين ، مما يؤيد كأنه متروّ في شكه ، وكما تلمّح إبراهيم (عليه السلام) من قول آزر : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) فوعده الاستغفار واستغفر له ظنا منه أنه متروّ في ذلك المليّ.

أم علّه كان منافقا لا يبرز كفره لأبيه استجلابا لصالح الرحمة الأبوية ، وأن كونه مع الكافرين لا يعني كفره؟.

وقد يتأيد ذلك ب (ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) دون «من الكافرين» فالذي هو من الكافرين هو بطبيعة حاله يكون مع الكافرين.

وأما (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)؟ فقد لا تشمل ابنه لمكان «قومك» الظاهرة في غير الأقارب ، إضافة إلى وعد النجاة لأهله إلّا من سبق عليه القول ، وهو من أهله ولم يسبق عليه القول ، إضافة إلى انه قد يعنى «من قومه» في (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ) أم بخروج امرأته خاصة لسبق القول عليها بخصوصها في آية (امْرَأَتَ نُوحٍ).

أو أنه رجى خروجه من الكفر دون تمام أم هو على أشراف الخروج ، إذا ف (لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) استنقاذ له من بينهم حتى يتخلص من كفرهم ، ولكنه رغم زعمه ذاك يسمع نداء كفره الآيس من إيمانه في تلك الحالة الخطرة :

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(٤٣).

فيا حمقاه من ولد ويا عمقاه من ضلاله وكفره أنه يرى ذلك الموج العظيم الهضيم ولا يأوي إلى فلك النجاة ، فإنما «يرجو ليأوي إلى جبل يعصمه من الماء وكأن الموج يخاف جبله ، فجاء الجواب الحاسم

٣٠١

القاصم : (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ولا يرحم إلا من آمن ، ثم (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وعله من أنحسهم حيث طلب منه أن يركب دونهم فرفض فكان من المرفوضين.

وهنا يترك نوح ابنه إذ تبين له انه عدو لله ، وإنما يسأل بعد غرقه استعلاما عما حصل من وعد النجاة لأهله إلّا من سبق عليه القول.

ذلك ، وحين تكون فلك نوح نجاة للمؤمنين معه بأمر الله ، أفلا تكون العترة الطاهرة (عليهم السلام) مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سفن النجاة؟ وكما ورد في روايات (١).

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٤).

«وقيل» والقائل بطبيعة الحال هو الله الذي قال : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (٥٤ ـ ١١ ـ ١٤).

وهنا روايات مختلقة تقول إن بعض المياه تمردت كماء الكبريت وماء المرّ ، وهي معروضة عرض الحائط إذ لا تخلّف عن أمر الله في حقل التكوين والتدبير (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٦٠ في عيون الأخبار بإسناده إلى الرضا (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها زخ في النار ، وفيه عن الخصال في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعدادها قال (عليه السلام) : وأما الثاني عشر فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يا علي مثلك في أمتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق.

(٢) البحار ١١ : ٣١٧ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن نوحا (عليه السلام) لما كان أيام الطوفان دعا المياه كلها فأجابته إلا ماء الكبريت وماء المر فلعنهما (فروع الكافي ٢ : ١٨٨). ـ

٣٠٢

ولما ذا «قيل» مجهولا؟ والقائل وهو الله معروف! علّه لكي لا يضخم تلك الإرادة من الله ، فليس الله ليتكلف في ذلك القول تكوينيا كما لم يتكلف في قوله الأول ولا أي قول ، إذا ف «قيل» لمحة إلى أنه له تعالى هين ، وإنما هو رهن إشارة خاطفة تتبعها رادفة.

وليس القول هنا لفظيا يخاطب فيه الأرض والسماء ، بل هو تكويني كما «قال (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٤١ : ١١) و (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢) فهو أمر الإرادة التكوينية لمكان «أردناه» فلا يتخلف خلاف ما يروى (١) لا التشريعية فإنه لها أمر ليفعل وقد يتخلف عن شرعته.

و (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) مما يدل على أن الأرض أظهرت ماءها كلها على ظهرها ، وكما تدل (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) فإنه التفجير الطليق للأرض كلها عيونا جارية على وجهها.

ثم (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) دليل أن نصيبا من ذلك الماء كان يخص السماء وكما تدل (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) فقد غرقت الأرض كلها بكل ماءها وبعض من ماء السماء ، ثم (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا

__________________

ـ أقول : لم تكن دعوة نوح إلا دعوة الله تعالى إذ لا دعوة لنوح في الكون إلا بأمر الله ، فكيف يتخلف عن أمره ، ماء وغير ماء؟!.

وفيه ٣١٧ عن الحسن والحسين (عليهما السلام) انهما قالا : إن الله تبارك وتعالى لما آسفه قوم نوح فتح السماء بماء منهمر وأوحى إلى الأرض فاستعصت عليه عيون فلعنها وجعلها ملحا أجاجا.

أقول : وكيف يستعصي الله في أمره التكويني أي كائن؟ فما هذه إلّا من المختلقات الزور!.

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٦٥ في تفسير العياشي إبراهيم بن أبي العلاء عن غير واحد عن أحدهما (عليهما السلام) قال : لما قال الله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) قال الأرض : إنما أمرت أن أبلغ مائي أنا فقط ولم أومر أن أبلغ ماء السماء ، قال : «فبلعت الأرض ماءها وبقي ماء السماء فصير بحرا حول الدنيا» أقول : إذا عني من «حول الدنيا» السماء المجاورة للأرض دون وجه الأرض فله وجه وإلا فلا وجه له حيث السماء ليست لتتخلف عن إقلاع ماءها المخصوص بها.

٣٠٣

سَماءُ أَقْلِعِي) ماء منك (وَغِيضَ الْماءُ) : نقص حيث ابتلعت الأرض ماءها الخاص بباطنها ، وأقلعت السماء ماءها الخاص بها ، فلم يبق إلا ماء الأرض الخاص بوجهها بحارا وأنهارا وسواقي وعيونا كما كانت قبل الطوفان ، «واستوت» الفلك (عَلَى الْجُودِيِ) حيث مرساها الأخير (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) غرقا في الطوفان ثم حرقا في النار.

وهكذا انطوى طومار هؤلاء المكذبين الكفار ، (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)!.

ويا لها من جملة مختصرة جميلة حاسمة تطوي ذلك الموقف الطويل الطويل طيا خاطفا كأن لم يغن بالأمس ، فقد انطوى طومار كل هؤلاء الملإ وامرأة نوح وابنه لفترة قصيرة يسيرة ، فظلوا هامسين ناكصين ، ثم غرقوا فلا تسمع لهم ولا همسا.

ويا لها من فصاحة وبلاغة قمة ، بارزة لكل معارضة ، حيث فشلت أمام القرآن كله ، وأمام هذه الآية بخصوصها ، فقد روي أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على ألباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم ، فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

فهنا لا يذكر الله باسمه ولا باسم نوح والمؤمنين معه ولا قومه إلّا دعاء : (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) حصرا في الموقف بعوامل الخلقة المأمورة ، وحسرا عن طرح اسم الله ، وكلّ واجد موضعه من فاعل ومفعول ، لأن كلا معروف بموقفه ، فلقد جمع عجاب من أسباب الإيجار والإعجاز ما اهتم بشأنها الرعيل الأعلى من رجال البلاغة ، فغاصوا خضمّها ، واستخرجوا ما استطاعوا من لئاليها ، ولم تكن إلا قطرة من يمّ.

ومن ذلك خطاب الأرض والسماء ببلع الماء وقلعه ، إنباء عن نفاذ قدرته وسرعة مضي أمره وكان حصول أمره رهن لفظ الكلام دون معاناة ولا كلفة ولا لغوب ومشقة

٣٠٤

ولطيفة أخرى هي أن «ابلعي» أبلغ من : اذهبي بماءك ، لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة إلى باطنها ، وكذلك «أقلعي» فإنها أبلغ في الانجلاء ، لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع إلى السماء ، وذلك أدل على نفاذ القدرة وطواعية الأمور المقدرة من غير وقفة ولا لبثة.

ثم في المزاوجة بين «ابلعي وأقلعي» بلاغة عجيبة وفصاحة شريفة أديبة!.

ف «قيل» تكوينا وقولا هما لله ، (وَغِيضَ الْماءُ) غائضه هو الأرض بأمر الله ، (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أمر الله وفاعله هو الله «واستوت» فاعله الفلك ، و (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هم الغارقون أجمعون.

ذلك ، فلما (اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)(٤٥).

ترى أنه كان ابنه من صلبه؟ أم ابن امرأته من غيره؟ قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وقول الله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) يدلان على أنه في الحق كان ابنه من صلبه ، ولا يقال لإبن الزوجة أنه ابن الزوج إلّا بمجاز بعيد وقرينة صارحة تدل عليه وهي هنا منفية.

والقول (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) يعني أنه من امرأته وهي أهله (١) ، فهذه

__________________

(١) البحار ١١ : ٣٣٧ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله : ونادى نوح ابنه ، فقال : ليس بابنه انما هو ابنه من زوجته على لغة طي يقولون لابن المرأة ابنه (تفسير القمي ٣٠٤).

أقول : لم ينزل القرآن ـ فقط ـ على لغة طي ، وحتى إذا نزل بها فغير فصيح ولا صحيح أن يعبر عن ابن المرأة بأنه ابنه مجازا دون قرينة ، بل والقرينة قاطعة انه ابنه نفسه. وأغرب من ذلك ما فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول نوح : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) قال : ليس بانبه ، قال قلت : إن نوحا قال : يا بني قال : فإن نوحا قال ذلك وهو لا يعلم» أقول : هلا يعلم أنه ليس ابنه من صلبه فعله من امرأته من الزنا امّن نكاح وأنه دعيّ ، وهذا لا ينسب إلى أحمق الناس وأغفلهم عن نسبه!.

٣٠٥

قرينة أنه كان ابنها لا ابنه ، إنه مردود بقول الله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لو أريد أنه من امرأتي ، فقد انقطع عنهما ، فكيف يكون ـ إذا ـ ابنه من أهله؟.

ثم امرأته وهي من أهله سبق عليها القول نفسها ، فكيف يسأل نوح ربه عن ابنه كيف غرق وهو من أهله هذه المحكوم عليها نفسها بالغرق؟!.

فإنما (ابْنِي مِنْ أَهْلِي) يعني أنه كان من أهله الموعودين بالنجاة في (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ولمّا يتبين له (عليه السلام) أنه داخل في سابق القول ، فقد يسأل استفهاما دونما استفحام ، أنك يا رب قد وعدتني نجاة أهلي إلّا من سبق عليه القول وهم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وظلوا ظالمين ، كما وعدت غرق الظالمين ، وابني هذا من أهلي وهو ظالم ، فوضح لي يا رب ما عمي علي من أمره بين الوعدين.

ولمّا يتبين لي أنه حقا من الظالمين كما امرأتي ، إذ لم يظهر منه كفر ما حق مهما تخلف عن أمري بركوب السفينة ، فإنه هو الذي دعا على الكافرين كلهم : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) والقائل : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ١١٨) فلو كان يرى أن ابنه منهم لما كان يدعوه لركوب السفينة ، ولا يعرض ما عرضه بعد غرقه بقوله : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ..) وقد نهاه الله أن يخاطبه في الذين ظلموا : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فذلك العرض ولا سيما بعد الغرق قد لاح له أنه كالفرض استعلاما لغريب الموقف.

ذلك (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) : حق كلمه دونما استثناء لمكان التعريف للخبر الذي يستحق التنكير ، فوعدك الحق كلّا وإنك تنجي أهلي (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) كما حكمت بغرق ابني وهو من أهلي ، فوضّح لي يا رب إن شئت كيف هذا وذاك حتى أخرج من جهلي ، ومع كل هذه التفاصيل ليس في النص أنه سأل أو دعا ، وإنما نادى نداء الوالد الحنون بولده ، ربّه الحنون بموعده في عباده ، وإنما ينتج هاتان

٣٠٦

المقدمتان الحكم بنجاته ، ولكنه لم يستنتج ذلك تأدبا ، بل وبحكم عام حكم بخلافه : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) فحكمك حق ، وذلك العرض لا يعني إلا بيان الحال العضال.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٤٦).

(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الآهلين للنجاة ، لأنه كان من الظالمين ، فقد كان امرأتك من أهلك وسبق عليها القول لأنها كانت من الظالمين ، وهكذا ابنك مهما كان من أهلك نسبا وولادة ، ولكنه ليس من أهلك الرسالي حتى يكون معك في حقول الرحمة الرسالية ، فالأهلية المنجية هي التي يتبناها العقيدة والعمل الصالح لبيت الرسالة ، دون أهلية الصلب وسواها ، غير الآهلة للحقل الرسالي ، ف «أهلك» هم كل أهله آهلين وسواهم ، ثم (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) يستثني امرأته عن أهلية النجاة رغم أنها داخلة في أهلية السبب ، ف (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) تعني أهلية النجاة ، أو من أهلك الموعودين بالنجاة ، بل هو من المستثنين عن النجاة ل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فقد «نفاه الله عنه حين خالفه في دينه»(١).

(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أنه ليس من أهلك الآهلين ، فتسألني لما ذا لم ينج من الغرق ، (إِنِّي أَعِظُكَ) عن (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سؤالك.

وقد يعني (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ـ إضافة إلى ابنه ـ سؤاله المترقب : لما ذا أهلكته وهو ابني وقد استثنيت أهلي وهو منهم؟.

وهنا يتوضح لنا بنصوع ونصوح أن ليس قرابة النسب والسبب وما

__________________

(١) البحار ١١ : ٣٢٠ عن الحسين بن موسى الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال قال لي : كيف تقرءون : قال يا نوح إنه ليس من هلك إنه عمل غير صالح؟ فقلت : من الناس من يقرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) نفاه عن أبيه ، فقال (عليه السلام) : كلا! لقد كان ابنه ولكن لما عصى الله نفاه عن أبيه ، وبنقل آخر كما نقلناه : نفاه ... وفيه ٣٢١ عن الرضا (عليه السلام) على ضوء الآية : فأخرجه الله عزّ وجلّ من أن يكون من أهله بمعصيته.

٣٠٧

أشبه مما تضر أو تنفع ، فإنما هما من حصائل الأهلية العقيدية والعملية فتنفع ، أم ضدها فتنقع ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

أجل ، إن للهالات النسبية والسببية ـ كما للحالات المساعدة في مختلف الظروف ـ إنها لها تأثيرا في تضخيم الصالحات والطالحات ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

وتراه بعد جهل وسأل ما ليس له به علم من كون ابنه من الظالمين فلم يكن من أهله الآهلين؟ النص هنا ساكت عن سؤاله ، والآية التالية تنفي على حد قوله سؤاله :

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٤٧).

فسؤال ما ليس للسائل به علم سؤالان اثنان ، سؤال محظور وهو سؤال الاعتراض : لم أهلكت ابني وهو من أهلي ، ولم يكن ، فإنما طرح الموقف المجهول لديه ليقف على ما يجهله من قضية ضلال ابنه ، ولما يتبين له أنه عدو لله دون سؤال ، ثم ذيّله ب : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) مما يصرح بكامل رضاه بحكمه تعالى في ابنه على أية حال له كما في كل الأحوال.

ثم وسؤال محبور أم هو لأقل تقدير غير محظور وهو الذي ينتجه (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ..) وليس ذلك من طرح السؤال ، بل هو أشبه بعرض الحال كما عرضها أيوب : «رب إني (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٣٨ : ٤١).

وليس (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) إلّا حظرا عن مستقبل السؤال دون حاضره ، أو ماضيه ، كيلا يقع في فخ السؤال المحظور قضية الرحمة الأبوية ، ناسيا أنه تعالى (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ).

وكما صدق بكل تصديق وعظ ربه حيث : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) وعوذا بالله ألّا يعيذه ربه بعد دعاءه عن هذا

٣٠٨

السؤال! ، ثم (إِلَّا تَغْفِرْ لِي) صدا عن هكذا سؤال غفر الدفع ولمّا يحصل ، دون غفر الرفع بعد ما حصل (وَتَرْحَمْنِي) حدا صالحا بكل سؤال (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) موقف العبودية السليمة وكامل التسليم.

وأقصى ما يحتمل هنا أن سؤاله الاستعلام أيضا كان غير محبور ولا مشكور ، فإنه كان يعلم أنه تعالى (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) وأن «ابنه من أهله» وقد استثنى أهله (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ومع الوصف أهلك ابنه مع سائر الظالمين ، وقضية الأدب الرسالي هي كامل السكوت في مثل ذلك الموقف الرهيف الرعيب.

ولكنه لمّا يسأل ـ مهما كان في حضون السؤال ـ ذلك السؤال الاستعلام حتى أدركته العصمة الربانية فلم يسأل ، وكل ما في الأمر أنه عرض المسرح بموقفه منه راجيا أن يوضّح له ربه ليعلم بعد جهل ، وهو عرض أديب أريب ، ولكنه تعالى أراده ألّا يسأل ولا يطرح مسرح السؤال ، وقد فعل فلم يسأل استعلاما فضلا عن اعتراض ، وإنما عرض الموقف كما عرضه أيوب : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٣٨ : ٤١) عرضا دون أي سؤال لا محبور ولا محظور.

ذلك ، ففي مثلث العرض : الاستعلام والاستفهام والاستفحام ، لم يكن من نوح (عليه السلام) حسب النص إلّا العرض ، وقد كفاه ربه عن استعلامه ب (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ونهاه عن مستقبل سؤال : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ..) ، ولو اعتبر العرض للسؤال ـ أيضا ـ سؤالا ، فغاية ما فيه أنه رغم كونه من حسنات الأبرار ، هو من سيئات المقربين ، فلا تنافي كيان العصمة الرسالية.

فهل إن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يؤمر بالسؤال : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) إذا سأل ما يجهل يفعل محظورا؟ فضلا عن العرض للسؤال وهو أدب في حقل السؤال ، فليس ذلك العرض من سيئات المقربين ، فضلا عن كونه سيئة في شرعة الله ، مهما كان سؤاله عن أمره تعالى دون سؤال نوح (عليه السلام).

٣٠٩

ذلك ، فلا دور لقيلة الجمعية المرسلين الإمريكية ـ بعد الاعتراض عليهم أن التوراة ينسب إلى نوح (عليه السلام) شرب الخمر الفادح ـ أن «هناك أيضا معاصي ينسبها القرآن إلى نوح ومنها طلبه ما لا يجوز (١١ : ٤٧ ـ ٤٩) : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ..) وزجره الله وهدّده في سؤاله هذا وهو طلب منه المغفرة وهذا دليل على أنه أذنب ..»؟.

فإن دليلهم عليل حيث النص لا يدل على سؤاله ، بل هو عرض هو في معرض سؤاله ولمّا يسأل ، ثم (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) تلحيقا لهذا العرض ينبئ عن بالغ أدبه وتسليمه لربه.

فلم يكن هناك سؤال ، أم ولا إرادة سؤال ، ولأنه ـ وإن كان استعلاما ـ قد ينافي سليم التسليم الرسالي لرب العالمين و ـ حسنات الأبرار سيئات المقربين ـ لذلك أدركته العصمة الربانية كيلا يقع في محظور ذلك السؤال ـ وإن لم يكن محظورا ككلّ في شرعة الله ـ فنهاه ربه عنه فضلا عما علاه من سؤال التأنيب! قائلا : (فَلا تَسْئَلْنِ ..) وفيه انعطافة عطوفة من ربه عليه ، نهيا عن أمثال هذا السؤال التي قد تشير إلى عدم التسليم لرب العالمين ، فلم يسأل ولم يجهل.

وليس النهي عن فعل دليلا على واقعه فحظرا عن تكراره ، حيث الأحكام الرسولية والرسالية أمرا ونهيا تترى على رسل الله ليحملوها لهم وإلى المرسل إليهم ، فهي لهم أوامر ونواهي بدائية دون سبق لها لكي تدل الأوامر على تركهم المأمور به ، أو تدل النواهي على اقترافهم للمحظور.

وهنا النهي موجّه إلى مستقبل لذلك العرض ألّا يلحّقه بسؤال الاستعلام فلم يفعل ، ثم ولا صراحة ولا لمحة أنه سأل ما ليس له به علم أي سؤال من ذي قبل ولا بعده ، فقبله عرض وبعده : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ..) والله يعيذ المستعيذ به الصادق ولا سيما رسله ، وقد أمر الرسل على درجاتهم كما أمر رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) على عصمته القمة : (قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ..) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ..) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وما أشبه من قول.

٣١٠

لذلك لم يؤنبه ربه لا من قبل ولا من بعد ، اللهم إلّا بخطابه الحنون المنون :

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٨).

هنا السلام والبركات ينزل على هؤلاء ، وترى كما أن نوحا والذين آمنوا معه يستحقونها ، فهل ـ كذلك ـ تستحقها (أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)؟ كلّا! لمكان الاستئناف في «أمم» رفعا ، فلا سلام عليهم ولا بركات ولا هم من أهل النجاة ، ولم يكونوا وقتئذ معهم في الفلك ـ إلّا في الأصلاب والأرحام ـ حتى تشملهم سلام وبركات ، أم هم معهم من أهل النجاة ، بل هم الذين يقول الله عنهم : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٦ : ٤١) و (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (٦٩ : ١١).

ثم (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) تشمل إلى المؤمنين معه أمما مؤمنة من أنسالهم ، فلم يقل «أمم معك» ثم وهم أمة واحدة مؤمنة معه ، بل (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) لتشمل معهم أمما من أنسالهم مؤمنة ، ف «من» بالنسبة للأمة المؤمنة الحاضرة في الفلك بيانية ، وهي لأنسال مؤمنة منهم تبعيضية ، فلو كانت تبعيضية فقط لم تصلح لشمولهم أنفسهم فإنهم كلهم «أمة معك» لا (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) ولو كانت بيانية فقط لم تصلح لشمول أنسالهم المؤمنة فقط حيث الأكثرية الساحقة منهم أمم كافرة.

ذلك ، ولكن الذين كانوا معه في الفلك لم يكونوا أمما حتى تشملهم ممن معك بيانية ، والصحيح أو الأصح أنها بيانية تبين «من معه» على مدار الزمن ، فلا تعني «معه» معية زمانية ومكانية حتى تختص بهؤلاء الخصوص ، بل هي معية رسالية تعم كافة الرساليين مرسلين ومرسلا إليهم المؤمنين ، ثم (أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ليسوا ممن معك ، فهم غيرهم على مدار الزمن ، ف «أمم» هنا مبتدأ علّ ظرفه «هناك» وخبره (سَنُمَتِّعُهُمْ ..).

إذا ف (بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ) هما على كل مؤمني التاريخ الرسالي منذ

٣١١

نوح إلى خاتم النبيين وإلى يوم الدين ، ثم (سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) هم كل كفرة التاريخ الرسالي طول الزمان وعرض المكان.

و «سلام» هنا هو سلام في الإيمان أن يسلمهم الله عن اللّاإيمان «وبركات» هي بركات الإيمان معنوية ومادية ، ثم التمتيع لأمم كافرة من أنسالهم هو متعة الحياة المادية لفترة حياتهم الدنيوية (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

«تلك» الإنباءات هي (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) حيث لا يعلمها إلّا الله ، لانقطاع التاريخ عنها ، وعجزه على حضوره عن تلقي الواقع كله وعرضه ، وإنما (نُوحِيها إِلَيْكَ) لتكون على خبرة منها فأهبة للتصبّر على أذى قومك اللدّ ولظاهم (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) الوحي «فاصبر» على ما يقولون ويفعلون من تكذيب وعناد ، فإن الحياة «العاقبة» لهذه الضيقة الملتوية ، هي «للمتقين» ف «العاقبة» تعم العاقبة الأولى لهذه الحياة والأخرى ، ومن الأولى الحياة الزاهرة الباهرة زمن القائم المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

سفينة نوح (ع) وأهل بيت محمد (ص) :

يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متواترة قوله : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق ـ زخّ في النار ـ زجّ في النار» (١).

أضواء على قصة نوح :

١ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ترى وكيف يصبح الإنسان نفسه عملا غير

__________________

(١) تجد حديث السفينة في ملحقات إحقاق الحق ٩ : ٢٧٠ ـ ٢٩ و١٨ : ٢٨٤ ، ٣١١ ـ ٣٢٢ و٩ : ٢٨٩ ، ٢٩١ و١٨ : ٣١٩ و٤ : ١٤٩ ، ٤٨٢ و٥ : ٨٦ و٦ : ٤٤٧ و١٣ : ٧٥ ـ ٧٦ و١٨ : ٢٨٤ ، وفيه «نحن سفينة النجاة من تعلق بها نجى ومن حاد عنه هلك» ٩ : ٢٠٣ ، ٢٥٤.

أقول : في هذه الصفات تجد مئات من روايات السفينة بألفاظ مختلفة تتحد في أنهم (عليهم السلام) سفن النجاة.

٣١٢

صالح؟ فهل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فعلا لا مصدرا؟ وهو خلاف النص المتواتر المعتمد عليه! أم المرجع ل «إنه» هو نداء نوح؟ وهو ليس عملا ، بل هو قول! ، أم هو عمل غير صالح حيث عمل في ولادة غير صالح إذ كان من الزنا كما «فخانتاهما» في امرأة نوح وامرأة لوط ، وخيانة المرأة الفاتكة هي أن تجيء بولد من غير بعلها؟ و «ابنه ـ و ـ ابني» يثبتان أنه كان ابنه ، وولد الزنا لا ينسب إلى صاحب الفراش حيث يثبت أنه ولد الزنا ، ونساء الأنبياء لسن بخائنات جنسيا مهما خنّهم عقيديا وعمليا ، حيث النكاح بالزانيات (حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) على طول الخط ، ومع الغض عن أي برهان لفظي فالدعارة في بيت النبوة مزرءة ضارية بهذه الكرامة.

ثم وكون الإنسان ولد الزنا ليس مما يحرمه الإيمان والرحمة الربانية ، كما وأن ولادته من الزنا ليس من عمله فكيف يحاسب به؟.

الحق (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) حيث كرّس كل أعماله لغير صالح فصدق عليه المصدر كأنه تجسّد عمل غير صالح ، كما وأن السؤال حول قصته (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) لساحة الرسالة.

وهنا سلبية أهلية ابن نوح من صلبه (عليه السلام) عنه ، مما يدل على أن الأهلية الصالحة هي صلاح العمل والعقيدة ، وليست النسب ليحسب بفضله فضيلة أم برذله رذيلة ، اللهم إلّا بانضمام فضيلة أو رذيلة مكتسبة فنور على نور أم ظلمه على ظلمة ، فإن «لمحسننا كفلان من الأجر ولمسيئنا ضعفان من العذاب (١) كما قال الله تعالى بحق نساء النبي

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٦٩ في العيون باب قول الرضا (عليه السلام) لأخيه زيد بن موسى حين افتخر على من في مجلسه بإسناده إلى الحسن بن موسى الوشا البغدادي قال : كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في مجلس وزيد بن موسى حاضر قد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول : نحن ، وأبو الحسن (عليه السلام) مقبل على قوم يحدثهم فسمع مقالة زيد فالتفت إليه فقال : يا زيد أغرك قول ناقل الكوفة : إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله تعالى ذريتها على النار والله ما ذاك إلا ـ

٣١٣

(صلى الله عليه وآله وسلم) : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ .. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) (٣٣ : ٣١) وذلك قضية الموقف ، هنا انتسابا إلى بيت النبي الطاهر ، وفي غيره حسب الملابسات المقتضية لمضاعفة العذاب أو الرحمة.

إذا ف (أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) لا تعني إلّا أهلية النسب أم هو استثناء منقطع ، وهنا (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) تعني أهلية الحسب ، ل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) للنجاة مع أهلك الآهلين لها.

__________________

ـ للحسن والحسين (عليهما السلام) وولد بطنها خاصة ، وأما أن يكون موسى بن جعفر (عليهما السلام) يطيع الله ويصوم نهاره ويقوم ليله وتعصيه أنت ثم تجيئان يوم القيامة سواء ، لأنت أعز على الله عزّ وجلّ منه ، إن علي بن الحسين كان يقول : لمحسننا ... قال الحسن الوشا : ثم التفت إلي فقال : يا حسن كيف تقرءون هذه الآية (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)؟ فقلت : من الناس من يقرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ومنهم من يقرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فمن قرء أنه (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) نفاه عن أبيه ، فقال (عليه السلام) : كلا! لقد كان ابنه ولكن لما عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه ، كذا من كان منا لم يطع الله عزّ وجلّ فليس منا وأنت إذا أطعت الله فأنت منا أهل البيت» وفيه عن ياسر أنه خرج زيد بن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أخو أبي الحسن (عليه السلام) بالمدينة وأحرق وقتل وكان يسمى زيد النار فبعث إليه المأمون فأسر وحمل إلى المأمون فقال المأمون : اذهبوا به إلى أبي الحسن (عليه السلام) قال ياسر : فلما أدخل إليه قال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام) يا زيد أغرك قول سفلة أهل الكوفة أن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار ، وذلك للحسن والحسين (عليهما السلام) خاصة ، إن كنت ترى أنك تعصي الله وتدخل الجنة وموسى بن جعفر أطاع الله ودخل الجنة فأنت إذا أكرم على الله من موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، ما ينال أحد ما عند الله إلا بطاعته وزعمت انك تناله بمعصيته فبئس ما زعمت ، فقال له زيد : أنا أخوك وابن أبيك ، فقال له أبو الحسن (عليه السلام) أنت أخي ما أطعت الله عزّ وجلّ ، إن نوحا (عليه السلام) قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) فقال الله عزّ وجلّ : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فأخرجه الله من أن يكون من أهله بمعصيته.

٣١٤

وعدم تلحيق (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ب «ولا ممن آمن بك» يعمم الأهلية لكافة الآهلين للنجاة ، سواء أكانوا من أهله نسبا أم سواهم ف (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لأنه كان مخالفا له ، وجعل من اتبعه من أهله» (١) وهذا إشارة إلى المستفاد من آية الأنبياء في (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢١ : ٧٧) ، فلو عني من «أهله» هنا أهل نسبه لشمل زوجه وابنه الكافرين ولم يشمل المؤمنين معه! ، ولا فحسب أنهم كلهم أهله ، بل وهم كلهم ذريته كما (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٣٧ : ٣٧) فهم ـ إذا ـ ذرية الحسب وليسوا ـ فقط ـ ذرية النسب وإن شملت المؤمنين منهم.

«فاعلم أنه ليس بين الله عزّ وجلّ وبين أحد قرابة» (٢) ، بل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤٩ : ١٣) فحسب و (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وليست الولادة خيّرة وشرّيرة هي من سعي المواليد.

ذلك ، وقد يستشهد ب (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) نفيا لكون ابن نوح ابنه ، حرمان الولد الكافر عن ميراث الوالدين المؤمنين ، ولكنه ليس سلبا لأصل النسب ، حقيقة ولا تنزيلا طليقا ، وإلا لتسلب عن الكافر كافة أحكام النسب ، إنما المقصود هنا سلب ميّزة النسب الرسالي والإيماني ، أنه لا يلحق والده في النجاة وهي قضية الإيمان.

أجل إن الوشيجة الآهلة لعريق الصلة بين أفراد هي ـ فقط ـ وشيجة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٦٨ في مجمع البيان روى علي بن مهزيار عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) إن الله تعالى قال لنوح : ..

(٢) المصدر في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي بإسناده إلى إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الدار (عليه السلام) : أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا فاعلم ... ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام).

٣١٥

الإيمان بالله والعمل الصالح ، وليست وشيجة الدم والنسب ، ولا الأرض والوطن ، ولا القوم والعشيرة ، ولا اللون واللغة ، ولا الجنس والعنصر ، ولا الحرفة والطبقة أماهيه من وشائج الأرض العريضة الحضيضة ، إنما هي وشيجة الإيمان التي تجتاز فواصل الزمان والمكان وسائر الفواصل ، فتوحّد من خلالها بين مختلف الأفراد.

فحين يقول نوح : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) قاصدا وشيجة النسب يرد عليه ربه (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ولما ذا؟ ل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) حيث انقطعت بينكما وشيجة الإيمان (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)!.

وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفترق الطريق بين نظرة الدين الحق إلى الوشائج والروابط ، وبين نظريات الجاهليات على مختلف مبادئها ، ثم معلم آخر في نفس الوشيجة الإيمانية : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

٢ هل إن طوفان نوح (عليه السلام) عم الأرض كلّها بمن عليها من الكفار؟ أم خص أرض دعوته التي كان يدعو فيها؟.

إن قضية الرسالة العالمية لنوح (عليه السلام) هي شمول دعوته كل سكنة الأرض طيلة دعوته كما وظاهر القرآن كالنص يؤيد شمولية هذه الدعوة والغرق ، فقد انتسلت البشرية بعد الطوفان ـ فقط ـ ممن حمل مع نوح في الفلك : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (١٧ : ٣).

ودعى نوح على كل سكنة الأرض إلّا الذين آمنوا معه : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٧١ : ٢٦) وقد استجابه الله كما دعي : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (٧١ : ١١ ـ ١٢).

ولا تعني الدعوة الرسولية أن يدعو الرسول بنفسه كافة المرسل إليهم ، بل وبحملة رسالته الذين يوحى إليهم أم هم الربانيون من أمته ، ثم الأرض

٣١٦

التي كانوا يسكنونها كانت هي المعمورة ووقتذاك ، وعلّها رقعة صغيرة منها شملتها دعوة نوح (عليه السلام) بنفسه أم بحملة رسالته ، فقد عمّ الطوفان وطمّ هذه الرقعة بسائر الأرض ، وقضي على كافة المتخلفين عن رسالته في الأرض كلها.

ذلك وقد يكفينا هذا التخمين الأمين لتصديق ذلك الحدث الكوني الهائل الذي جاءنا نبأه من مصدر الوحي الوثيق عن ذلك العهد السحيق الذي لا يعرف عنه التاريخ شيئا حيث يلحقه ولا يقارنه أو يسبقه حتى يخبرنا عنه ، وهنا وفي سواه أصدق تاريخ لمصدقي الوحي هو الوحي وسائر التاريخ أيا كان ومن أي كان وأيان ليس يعتمد عليه كوثيقة قطعية.

وقد يتأيد شمول هذا الطوفان الأرض كلها بما يلي :

* لو لم يشمل الأرض كلها فما هو الداعي أن يحمل فيها من كلّ زوجين اثنين ، إذ كانت تكفيه حيوان سائر الأرض لو أنها غير مشمولة للطوفان.

«الأرض» في (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) دليل باهر لا مرد له على أن المعني منها هو كلّ الأرض ، حيث الأرض تعنيها كلها إلّا إذا قامت قرينة على تحديدها ، وهنا «ديارا» قرينة على إطلاقها ، ثم «لن يلدوا» ليس يختص بكفار خصوص في أرض خاص.

* وجود أصداف وحيوانات بحرية حجرية في قلل الجبال هو من الدلائل الكونية على أن الطوفان طم الأرض بقللها كلها.

٣ هل لسفينة نوح (عليه السلام) من آثار كما يشير إليها القرآن (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٦٩ : ١٢) فقد ذكرنا على ضوء آية الحاقة هذه (١) ما تحقق أخيرا من لوح خشبي من سفينته عليه أسماء الخمسة الطاهرة (عليهم السلام) باللغة الآرامية وهي لغة نوح (ع) ومن عجيب أمره أن هذه

__________________

(١) الفرقان ٢٩ : ٩٠ ـ ٩٣ فراجع.

٣١٧

الصفحات من الفرقان التي تحوي قصة هذه اللوحة كانت في مطبعة مسيحية بيروتية تحت الطباعة فاشتدت الحرب وأحرقت فيما أحرقت هذه المطبعة وأنا في مكة المكرمة لمّا هاجرت إليها في خضم الحرب اللبنانية ، ولما راجعت المطبعة بعد أشهر للاطلاع على الجزء (٢٩) هذا ، وفتش صاحب المطبعة على يأسه البائس ، فإذا هو بكامل هذا المجلد المصفوف تحت كل الأنقاض ، فبقي حائرا متساءلا فقلت له : إن الصورة الفتوغرافية من هذه اللوحة الخشبية هي من ضمن ذلك المجلّد ، فتجلّد على تبلّده وأسلم.

ذلك ، وجماعة من العلماء الأمريكيين ـ بإشارة بعض رجال الهند الترك ـ عثروا في بعض قلل جبال آرارات شرقي تركيا بمرتفع / ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطي القياس أنها قطعات متلاشية من سفينة عظيمة قديمة نزلت ورست هناك ، وقد يوافقه المروي عن الصادق (عليه السلام) (١) وتبلغ قدمتها ل / ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

وقد أعطى القياس انها قطعات من سفينته يعادل حجمها ثلثي مركب (كوئين ماري) الإنجليزية التي طولها / ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها ، وأنها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح (عليه السلام)؟ (٢).

وأين جبل الجودي؟ قد يكون هو آراراط كما في التوراة ، ويؤيده اللوحة والقطعات الأخرى من السفينة التي عثر عليها فيه ، وتؤيده اعترافات

__________________

(١) البحار عن الحسن بن صالح عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال سمعت أبي يحدث عطا قال : كان طول سفينة نوح (عليه السلام) ألفا ومأتي ذراع وكان عرضها ثمانمائة ذراع وعمقها ثمانين ذراعا ... وقال الحسن كان طولها ألف ذراع ومأتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع.

(٢) القسم الأخير نقلناه عن تفسير الميزان للمغفور له العلامة الطباطبائي حيث نقله هو أيضا عن جريدة كيهان المنتشرة أول سبتامبر ١٩٦٢ الموافق لغرة ربيع الأول ١٣٨٢ القمرية عن لندن ـ آسوشتيدبرس.

٣١٨

غربية وروايات (١) :

بشارات حول «الجودي» :

إنه ـ حسب التحقيق ـ جبل «آرارات» وقد نقلنا عن مجلة «أنقاد نيزوپ» السوقيتية وغيرها نبأ اللوحة الخشبية من أنقاض سفينة نوح التي استوت على الجودي ، أن عليها أسماء الخمسة الطاهرة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) باللغة الآرامية ، في هذا الفرقان (٢).

«آرارات» هي أرفع الجبال في أرمينستان ، وقد انقطعت عنها سلسلتان متجهتان إلى إيران ، والسلسلة الأصلية تمضي من جنوبي (أرض روم) وتتصل بالمرتفعات الشمالية لآذربايجان ، وسلسلة أخرى منها متجهة إلى الجنوب وهي واقعة بين آذربيجان الغربية وتركيا ، ورأس الخط لهذه المرتفعات هو مقسم المياه الذي يربط القسم الشرقي من المياه إلى بحيرة أرومية ، كما يرسل مياه الجانب الغربي إلى بحيرة (وان) في تركيا.

جبل «آرارات» موسومة بأسماء عدة ، ففي اللغة التركية (اگريداغ) : المنحدر ، وبالفارسية (كوه نوح) : جبل نوح ، وفي العربية (الجودي) وبالإرمينية (ماسيس) أو (مازيك) و (ميزه زوزار) أي : جبل السفينة.

لآرارات مرتفعتان باسم : نوح الكبير ونوح الصغير ، وارتفاع الأولى (٥١٥٦) مترا والثانية (٣٩١٤) مترا ، وهما مستورتان دوما من الثلج.

مرتفع النوح الكبير يسمى في المأخذ الإسلامي ب (جبل الحارث) وهو على شاكلة قبة بمحيط قدره ١٥٠ ـ ٢٠٠ قدما ، والنوح الصغير يسمى ب (جبل الحويرث).

__________________

(١) البحار ١١ : ٣٣٨ عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في حديث قال : هو جبل بالموصل.

(٢) الفرقان (٢٩ : ٩٠ ـ ٩٣) وقد نقلها مجلة «ويكلي ميرر» الأسبوعية اللندنية و «استار» اللندنية ، وجريدة «سن لايت» الصادرة في مانجستر وجريدة «ويكلي ميلر اللندنية» ، وجريدة «الهدى» القاهرية ...

٣١٩

منخفضات آرارات واقعة في تركيا ، وهي تتشكل من مرتفعات وتلال بركانية صامتة لها منظر رعيب رغيب.

آرارات من حيث موقعه الجغرافي الخاص ، الواقع في حدود البلاد الثلاثة : إيران ـ تركيا ـ السوفيت ، إنه ذو أهمية حدودية سوق الجيشية.

«جملي كارري» السياح ، الذي سافر إلى إيران في عام (١١٠٥) هجرية قمرية بزمن السلطان سليمان الصفوي ، يكتب في عرض سفرته أنه رأى في تركيا ـ عند عبوره بها ـ أديرة عدة للرهبان بآرارات حيث كانوا مقيمين بها ، وهكذا جماعة آخرون من السياحين العابرين يشيرون إلى هذه الأديرة.

«آرارات» الموسومة ب «ميزة زوزار» : جبل السفن ، شهيرة عند الأرامنة بهذا الاسم والمعنى ، ومن آثارها العتيقة خشبة هي الآن في مودع الآثار العتيقة «لوور» في باريس ، التي يقول عنها خبراء الآثار العتيقة ، أنها من أنقاض سفينة نوح (عليه السلام).

لذلك نسمع (دوگلاس) الأمريكي ، من كبار القضاة الأمريكيين أخذ يحقق عن مرتفعات آرارات ، حتى اعترضته اعتراضات السوگيت فانصرف عن قصده.

ذلك ، وتؤيده رواية التوراة تصريحا ب (آراراط) ـ على حد تعبيرها ـ (الملوك الأول ١٩ : ٣٧) و (أشعياء ٣٧ : ٣٨).

وهي في الشهرة لحد يعبر عنها (أرميا ٥١ : ٢٧) ب «ممالك آراراط قائلا : «ارفعوا الراية في الأرض. اضربوا بالبوق في الشعوب قدّسوا عليها الأمم. نادوا عليها ممالك آراراط ومنّي وأشكنار ..».

ويقول الدكتور بوست الأمريكي في قاموس الكتاب المقدس (٣٠) إن الروايات تقول : إن سفينة نوح استوت على آراراط الذي يسميه الأعراب (الجودي) والأرمن (مسيس) والترك (اگريداغ) وإيران (جبل نوح) والأوروبيون (آراراط).

وأوّل من صعد إلى أعلى القمم لآرارات هو : ى. ى. ف. و.

٣٢٠