الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الناس النسناس الظالمون المظلومون بأنفسهم.

وهذه الآيات الأخيرة ـ بعد البراهين الوفيرة وعناد المعاندين وتكذيبهم إياه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ هي تسريات وتسليات لخاطره الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) عما قد يجده في نفسه من تضيق بذلك التكذيب الخفيق والعناد الصفيق ، بعد كرور الإعلام ومرور الإعلان ، وذلك بما يقرره له ربه من أن إباءهم عن الحق ليس عن تقصير منه في البلاغ ، ولا قصور في مادة البلاغ ، ولكن هؤلاء هم المقصرون القاصرون كالصم والعمي ، ولا يفتح الآذان لسمع الحق والأعين لإبصاره إلّا الله لمن تسمّع وأبصر ، فهم صم عمي حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ، رغم ما استكثروا الأمل واستبطئوا الأجل وكان أمده بعيدا وليس هو إلا ساعة :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥).

ولقد فصلنا القول حول اللبث في البرزخ أمام القيامة الكبرى في آياتها الست الأخرى (١) ولا سيما الأخرى (٧٩ : ٤٦) فليراجع ، وهنا نتحدث حول ميّزات هذه الآية بينها.

هنا ثانية تحمل : «ساعة» لبثا في البرزخ أم وقبله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٣٠ : ٥٥) : (ساعَةً مِنَ النَّهارِ) كما هنا ، أم أية ساعة من ليل أو نهار كما في آية الروم لمكان إطلاق «ساعة» ، وهي أقل تحديد من هؤلاء للبثهم ، وفوقها في آيات أخرى أنه يوم أو بعض يوم ، الشاملان لجزئيه ليلا ونهارا ، أو عشر ليال أو سنين لمكان «عشرا» وهي أكثر تقدير ، وحق اللبث هو أنه كان قليلا دون هذه التحديدات : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٣ : ١١٧) أم «يوما» : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (٢٠ : ١٠٥) ولكن الحق المطلق هو ما

__________________

(١) وهي ١٧ : ٥٢ و٢٠ : ١٠٣ و٢٣ : ١١٢ و٣٠ : ٥٦ و٤٦ : ٣ و٧٩ : ٤٦.

١٠١

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٥٦).

فحاسم الجواب وجاسمه أنه كان قلة قليلة بجنب الآخرة ، مهما كانت كثرة وافية لحياة التكليف ، فهم قد يقلّلونه بما يعللونه عذرا أنه ما كان يكفي لحياة التكليف قبل الموت ، أم إنه قليل بجنب حياة الجزاء بمجموع حياتي البرزخ والتكليف ، أم إن المسئول هو يوم البرزخ لمكان (يَوْمِ الْبَعْثِ) ، والله يصدقهم في أصل القلة على أية حال ، اللهم إلّا قلة غير وافية بحياة التكليف.

ذلك ، أفمن أجل ساعة أو بعض يوم أو يوم أو عشر من الليالي والسنين ، ألهذه الزهيدة العاجلة القصيرة ، التافهة الهزيلة ، ألهذه تتنافسون وتتطاحنون وترتكبون لأجلها ما ترتكبون فتبكون؟ إنها الحماقة الكبرى ، لا يرتكبها فيرتبك بها ذو حجى ، وعلى حد المروي عن رسول الهدي (صلى الله عليه وآله وسلم): «بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين» (١).

وترى كيف هو أحيانا في تخيلهم ليل وأخرى نهار ، ثم هو بين ساعة إلى عشر ليال أمّا هو؟.

علّهم يخلدون في نفس الزمن الذي توفوا فيه ليلا أو نهارا وكما عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يتعارفون لليل صباحا ولا لنهار مساء ، أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا» (٢).

(يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) بزعمهم وحسبانهم (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) حيث البرزخ أكثره نوم لمكان (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٣ : ٥٢) ثم هو قليل بجنب الآخرة لحد قد تحسب كساعة منها (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ)

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٧ ـ أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ..

(٢) السيد الشريف الرضي في نهج البلاغة عنه (عليه السلام) في توصيف الحالة البرزخية.

١٠٢

بعد ما لم يكونوا متعارفين في البرزخ ، ف (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أنفسهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في مسارح الهداية ظلما وعلوا.

فقد يستقلون ذلك المكث المكيث لأمور ، منها أنهم لم ينتفعوا بحياة التكليف لحياة الحساب فهي ـ إذا ـ كالعدم ، ثم لم يكن لهم أن يتداركوه بحياة البرزخ إذا فهما (ساعَةً مِنَ النَّهارِ) : «نهار التكليف المشرق لهم الحق وهم غافلون ، ونهار البرزخ إذ يكشف فيه الغطاء وهم لا يستطيعون فيه جبرا لكسرهم ، فهما ـ إذا ـ ساعة من ذلك «النهار».

«فالله الله عباد الله ، فإن الدنيا ماضية بكم على سنن ، وأنتم والساعة في قرن ، وكأنها قد جاءت بأشراطها ، وأزفت بأفراطها ، ووقفت بكم على صراطها ، وكأنها قد أشرقت بزلازلها ، وأناخت بكلاكلها ، وانصرمت الدنيا بأهلها ، وأخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضي أو شهر انقضى ، وصار جديدها رثّا ، وسمينها غثّا ، في موقف ضنك المقام ، وأمور مشتبهة عظام ، ونار شديد كلبها» (١٨٨).

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٤٦).

كن يا حامل الرسالة القدسية على ثقة أن وعد الله بكلمته عليهم حق ف (إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فنفعل بهم بعد توفّيك ما ننكل ، وعلى أية حال ليسوا ليفلتوا من أيدينا (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) جميعا (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) دون إبقاء ، فلا يعزب عنه من مثقال ذرة كما لا يعزبون عنه فإنهم في قبضة محيطة من ربك.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٤٧).

وترى «كل أمة» تشمل إلى أمم المكلفين من الجنة والناس ومن أشبههم أجمعين ، تشمل أمم الدواب ، فإنها أمم أمثالنا؟ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨).

١٠٣

قد تشمل كما فصلناه على ضوء آية الأنعام هذه ، مهما اختلفت رسالة عن رسالة في بسالة الدعوة وبساطتها ، وليس «رسولهم» الناحي منحى ذوي العقول مما يختص هذه الرسالة بهم لمكان (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ـ و ـ (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) حيث اعتبر سائر الدواب في حقل الرسالة عقلاء مهما اختلفت عقول عن عقول.

وأما (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) اللّامحة لخصوص ذوي العقول ، فلا نرى رسالة بين الدواب وقضاء بالقسط بينها؟ فليس لا نرى رؤية لعدم الرسالة والقضاء ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وهنا (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) تشمل النشأتين ومعهما البرزخ في هذا البين ، فهنا القضاء بالقسط على ضوء بالغ الدعوة وحالقها ، قضاء حكيما بجزاء كلّ من الإيمان بدرجاته والكفر بدركاته ، ثم قضاء بواقع الجزاء (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) على أية حال.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤٨).

ويكأن صدق هذا الوعد لزامه العلم بمتاه ، كمن يقال له متى ولدت أو تموت إن كنت صادقا في أنك كائن ، ولا رباط ولا صلة بين العلم بمتى أمر هو محقق دون متاه بمداه ، وهذا الوعد هو ما مضى في (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ..) من العذاب.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩).

فهنا الجواب أنني لا أملك من الله شيئا من أصل العذاب ومتاه ف (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من نفع أو ضر ، ومما يملكني إياه تخويلا بإذنه ودون تخويل ، ثم (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) غير معلوم للقضاء عليها وانقراضها عن بكرتها ، أم عن حالتها التي هي عليها (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) بما قضى الله في علمه (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فطلب التأخير والتقديم منوط بعلمهم بمتاه ومداه ، ثم وأن الله

١٠٤

يجيبهم إلى تطلبّهم ، ولكنه أجل جاء في علم الله بقضاء الله ، لا يعلمه أحد بمتاه حتى يستأخره أو يستقدمه.

وذلك الأجل فرديا أو جماعيا ، مسمّى أو معلقا ، لا يعني واقعه إذ لا معنى إذا لاستقدامه وقد جاء واقعه ، ولا لطلب تأخيره ، بل هو قضاءه (١) وقد فصلنا البحث حول الآجال في آياتها ولا سيما آية الأعراف (٣٤) والنحل (١٦) فلا نعيد إلّا أن أجل كلّ أمة هو أجل كيانها الزمني أو الرسالي دون كونها ، إذ لا يعهد لنا أمة جاء أجلهم عن بكرتهم اللهم إلا قوم نوح وفرعون وعاد وثمود ، وهنا (لِكُلِّ أُمَّةٍ) يحلّق الأجل على كل أمة ، فالقصد من الأجل هو الأعم من أجل الكون والكيان والجامع بينهما ، وقد عرفنا منهم أمما سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٧ : ٥٢) (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٦٩ : ٨).

فالأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي فرديا وجمعيا كما حصل لأفراد ولبعض الأمم الخالية ، أم بالهلاك المعنوي في كيانهم الزمني أو الروحي ، هلاك الهزيمة والضياع ، إما دائما أم مؤقتا ، وكل ذلك وفق مشيئة الله قضية آمالها وأعمالها دونما فوضى جزاف.

فالأمم التي تعيش أسباب الحياة وأساليبها الحقة هي حية دائبة ، والتي تنحرف عنها فتضعف أو تضمحل ، وتنجرف قدر انحرافها ، وليست الأمة الإسلامية خارجة عن هذه السنة الربانية العادلة الشاملة ، فإنما حياتها هي بإتباع رسولها برسالته الخالدة حتى تخلد بخلودها ، وكما قرر الله وقدر : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠٦ في تفسير العياشي عن حمران قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية قال : هو الذي سمى لملك الموت عليه في ليلة القدر.

١٠٥

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)(٥٠).

ذلك العذاب الموعود الذي تتساءلون عن متاه هازئين ساخرين (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ ..) فجأة «بياتا» : نائمين «أو نهارا» : يقظين (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) ء استعجالا له نفسه؟ ولا يستعجل العذاب أي ذي لب ولا حشرة! أم إيمانا عند رؤيته؟ : (١).

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(٥١).

فالإيمان عند وقوع العذاب وحاضره لا يفيد : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥).

ثم وهو عند فاعله القاضي على الكافرين ليس ليفيد لأنه خارج عن حياة التكليف أف «ء لئن» تؤمنون (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) مما يدل على أنه كذب ، تقولون ولا تؤمنون!.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(٥٢).

وهذه الآية هي من عشرات الآيات الدالة على الحياة البرزخية حيث (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) بعد عذاب الاستئصال في الدنيا ولمّا يأت دور عذاب الآخرة.

ولا يعني «الخلد» هنا إلّا ما دامت النار خالدة ، ولا تخلد إلّا قدر استحقاق العذاب ، وليس (إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) وقد كسبوا سيئات محدودة بعدّتها وعدّتها وآثارها الفانية بفناء الدنيا ، فكيف يجزون لغير

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠٦ في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية : فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم.

١٠٦

محدود من العذاب؟ و (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤٢ : ٤٠) فلا تجزون دون كسب كالجزاء بالنيات السيئة فإنها ليست مكتسبة ، ولا دون استحقاق كالجزاء دون سبب ، ولا فوق استحقاق كالجزاء اللّامحدود بالمكسب المحدود ، وكل ذلك الثالوث ظلم في الجزاء ، وإنما تجزون ما كنتم تكسبون وتعملون جزاء وفاقا ولا تظلمون نقيرا.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٥٣).

الاستنباء هو طلب النبإ ، ولأن حياة الحساب نبأ عظيم فقد (يَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ)؟ تساءلا بتجاهل هازئ ناكر في عجاب ، والجواب موجب ببرهانه المجمل الجميل : (قُلْ إِي وَرَبِّي) ف «ربي» الذي رباني بهذه التربية القمة الرسالية يدلكم على أنه «حق» حيث الرسالة في أصلها ترتكن على مستقبل الحساب ، كما وهي مبدئيا دليل على حق المبدإ ، فهي هي الوسيطة بين المبدإ والمعاد بأصلها رسوليا ورساليا ، وهي البلاغ لما يتوجّب على المكلفين بعد بيان المبدإ والمعاد ، أمرا من المبدإ وحائطة على المعاد (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله في نكرانكم المعاد ، ولا معجزين إياه تفلّتا عن الحساب ، ولا تغلّبا على حكمته بمشيئته ، ولا معجزين إياي كرسول أن تبطلوا رسالتي بالتأنيب والتكذيب ، فأنتم الأنكاد الأوغاد أعجز من أن تعجزوني فضلا عن ربي ، فأنتم العاجزون ، بل :

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٥٤).

«ظلمت» هكذا نكرانا لأصول من شرائع الله وتكذيبا (لَافْتَدَتْ بِهِ) من سوء العذاب هنا وفي البرزخ والأخرى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٩ : ٤٨) (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ

١٠٧

سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٣ : ١٨) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٣٦) (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلَّا إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) (٧٠ : ١٨).

و (نَفْسٍ ظَلَمَتْ) هنا هي نفس كافرة مجرمة دون أية نفس ظلمت أي ظلم ، وهنا (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) تعم مثلث العذاب ، مهما اختصت سائر آيات الافتداء بعذاب يوم القيامة.

وما هو الفارق لهم بين إسرار الندامة وإظهارها حيث العذاب واقع لا مرد له من الله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)؟!.

إنهم قد يسرون حيث «كرهوا شماتة الأعداء» (١) ولكنهم يفضحون على رؤوس الأشهاد حيث المحشر مجهر لكل خفاء وقد كشف فيه الغطاء «وشر الندامة ندامة يوم القيامة» (٢).

أجل ، ولقد أخذتهم وهلة المفاجأة الفجيعة فسقط في أيديهم فهم كأنهم خرس لا يتكلمون (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) من الكمد المكين الذي يظلل الوجوه.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٥٥).

«ألا» فانتبهوا عن غفلتكم وقوموا عن نومتكم (إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له خلقا وتدبيرا وتقديرا ، وله ملكا وملكا ، وله دني

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠٦ عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) سئل عن هذه الآية وقيل له : ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب ، قال : كرهوا شماتة الأعداء.

(٢) المصدر ٣٠٧ في روضة الكافي بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل يقول فيه : ..

١٠٨

وعقبى (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لا حول عنه ، حيث الحول له جهل أم عجز أم ظلم وعوذا به منها ، ثم لا حول للمحاسبين فإنهم له كسائر الكون (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أولاء الناكرين (لا يَعْلَمُونَ) وأقلهم يعلمون وينكرون حيث (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)!.

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٥٦).

«هو» لا سواه «يحيي» إخراجا للحي من الميت «ويميت» إخراجا للميت من الحي ، «وإليه» لا سواه «ترجعون» بعد الإحياء للحساب ، ف «يحيي» تعم إلى الأحياء في الدنيا الإحياء للآخرة ، كما «ويميت» تشمل الإماتة عن الدنيا والإماتة عن الحياة البرزخية كما (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٠ : ١١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ

١٠٩

وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ

١١٠

عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧).

مواصفات أربع للقرآن ، اثنتان منها لكل الناس هما «موعظة وشفاء» وأخريان للمؤمنين هما (هُدىً وَرَحْمَةٌ) إذ لا دور لهما تماما إلا بعد تأثير الموعظة وفاعلية الشفاء سلبا للعوائق ، حتى تحل الهدى والرحمة محلهما السليم عن الشقاء بسلم وشفاء ، والموعظة هي زجر لطيف مقترن بتخويف.

ذلك وقد يسبقهما «شفاء» للمؤمنين ، حيث المتحري عن الشفاء لما في صدره من مرض ، القرآن يكون له شفاء ، بعلمه عن الجهل وبكل أدواءه عن كل داء : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢) أم وتتأخر الشفاء عن الهدى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) (٤١ : ٤٤) فالشفاء هي الناحية السلبية التي تسلب كل رين وشين و «هدى» هي الناحية الإيجابية ، فهو مثل مفصّل لسلب كلمة الإخلاص وإيجابها : «لا إله إلّا الله».

فالقرآن شفاء من كل داء في الصدور شرحا لها بإيمان ، كما العسل (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (١٦ : ٦٩) فلأن العسل هو خلاصة صالحة عن كافة الزهورات النافعة اليافعة فهو شفاء لكافة الأوجاع ، كذلك القرآن هو

١١١

خلاصة صالحة عن كافة زهورات الوحي دون إبقاء فهو ـ إذا ـ شفاء لما في الصدور المتضيقة بمختلف المضايق ، شارحا لها كل شرح صالح قدر ما يدخله كما يحق ، فالفطر المحجوبة ، والعقول المعقولة ، والصدور المضيقة المدخولة ، والقلوب المقلوبة ، والألباب والأفئدة الدخيلة ، يكون القرآن لها شفاء «والصدور» هي الوسطى بينها ، فشفاءها هو شفاء لما قبلها وما بعدها من مجالات الأرواح ، وجلوات ذوي الأرواح.

فالقرآن هو للكل معدن الموعظة للصّلبين الصّلتين عن تحري الحق وتقبله ، فإذا وجدت موعظته مجالا في الأنفس تليينا لها من صلابتها فهنا دور شفاءه لما في الصدور دواء لأدواءها ، ومن ثم (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) به ، فقد «أنزل عليكم كتابا فيه شفاء لما في الصدور من أمراض الخواطر ومشتبهات الأمور» (١) و «من نفث الشيطان» (٢) ف «تعلموا القرآن فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور (٣) وحين يكون القرآن شفاء لما في صدور الأرواح فهكذا صدور الأجساد ، بل وسائر أجزاءها (٤).

ذلك ، ف «موعظة وشفاء» هما خطوتان قرآنيتان للتخلية ، ثم (هُدىً وَرَحْمَةٌ) هما خطوتان قرآنيتان للتحلية ، ولا دور للتحلية إلّا بعد

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٠٧ عن كتاب الأهليلجة قال الصادق (عليه السلام) : ..

(٢) وفيه عن روضة الكافي بسند متصل عن علي بن عيسى رفعه قال : إن موسى (عليه السلام) ناجاه الله تبارك وتعالى فقال له في مناجاته : يا موسى لا يطول في الدنيا أملك ـ وذكر حديثا قدسيا طويلا يقول فيه ـ عز من قائل ـ : وقد ذكر محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأنزلق عليه قرآنا فرقانا شفاء لما في الصدور من نفث الشيطان.

(٣) المصدر عن نهج البلاغة.

(٤) الدر المنثور ٣ : ٣٠٨ ـ أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إني اشتكي صدري فقال : اقرء القرآن يقول الله تعالى : شفاء لما في الصدور ، وفيه أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن وائلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجع حلقه فقال : عليك بقراءة القرآن.

١١٢

صالح التخلية ، كما لا دور ل «إلا الله» إلا بعد «لا إله».

وإنما اختص الشفاء بما في الصدور ، لأنها وسيطة بين الفطر والعقول والألباب وبين القلوب والأفئدة ، بل والقلوب هي في الصدور :

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) فحين يشفى ما في الصدور فقد شفي ما في الألباب القلوب والأفئدة وشفي قبلها الفطر والعقول ، فلا يمكن شفاء لما في الصدور إلّا بعد شفاء لما في الفطر والعقول والألباب ، فقد يجمع (شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) كل شفاء عن كل داء للأرواح بكل مراحلها ، ومن ثم الأعضاء ، فيسلم حامل القرآن كما يرام سليما عن كل داء علي ومعرفي وعقيدي وخلقي وعملي وما أشبه ، فثم إذا ما وقع الشفاء فهنالك الهدى والرحمة قدر الشفاء ، بقدر التعامل مع القرآن.

وبصيغة أخرى «شفاء في الصدور» هو «راحة لما في السرائر ، لبعضهم شفاء المعرفة والصفاء ، ولبعضهم شفاء التسليم والرضا ، ولبعضهم شفاء التوبة والوفاء ، ولبعضهم شفاء المشاهدة واللقاء» (١).

ففي الحياة الدنيا أمران اثنان لا ثالث لهما : ١ «فضل الله ورحمته» و٢ ما سواهما من المحاصيل ، ففضل الله ورحمته هما الصراط المستقيم إلى الله لمن أراد السلوك إلى الله ، وهما القرآن وعلى هامشه رسول القرآن (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته (عليهم السلام) تحليقا لكل دعواتهم ودعاياتهم على بثّ معارف القرآن بمعاريف البيان وتصاريف التبيان.

وهنا (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) تجعل كل ما يجمعونه سوى القرآن شرا ، أم ولأقل تقدير مفضلا عليه القرآن ، والثاني هو السنة والأول هو كل ما وراء الكتاب والسنة.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨).

__________________

(١) مجلة العرفان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٩١ عن الإمام الصادق (عليه السلام).

١١٣

ف «فضل الله ورحمته» هنا هما القرآن بمربع فاعلياته فيمن هو عشيره وحشيره «هو» القرآن الحاوي لفضل الله ورحمته (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) سوى القرآن من أموال وبنين ، أم وعلوم مهما سموها إسلامية وهي لا تتبنى القرآن ، مثل كثير من العلوم الحوزوية التي عليها مدارها وقرارها وكما فيما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار» (١).

و «إنه انتباه من غفلة ، أو انقطاع عن ذلة ، والمباينة من دواعي الشهوات» (٢).

أجل وكما يقول رسول القرآن في قول ثان : «إن هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ، من استضاء به نوره ، ومن عقد به أموره عصمه الله ، ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوّله الذي ينتهي إليه أداه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم»(٣).

وعن وصيه وخليفته علي أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن القرآن : «نور لا تطفأ مصابيحه ، وسراج لا يخبؤ توقّده ، وبحر لا يدرك

__________________

(١) أصول الكافي قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصف القرآن : إنه هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الأحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدينا إلى الآخرة وفيه كما دينكم وما عدل ...

(٢) مجلة العرفان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٩١ عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن أبيه عن آباءه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

١١٤

قعره ، ومنهاج لا يضل نهجه ، وشعاع لا يظلم ضوءه ، وفرقان لا يخمد برهانه ، وتبيان لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعز لا تهزم أنصاره ، وحق لاتخذك أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يفيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون ، جعله الله ريّا لعطش العلماء وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّا لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعد دواء ، ونور ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزا لمن تولاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتم به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاج به ، ومطّية لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنة لمن استلأم ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى» (١).

«إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا ويموتون ضلّالا ، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا سلة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه» (٢).

«.. فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان ، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد ، لا يؤويهما مؤو ، فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم ، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ، فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، فلم يبق منه إلّا اسمه ، ولا يعرفون إلّا خطه وزبره» (الخطبة ١٤٥).

«واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ، والمحدث الذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٩٣ ص ٢٢ عبده.

(٢) المصدر الخطبة ١٧ / ٦١.

١١٥

عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى ، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى .. فإنه ينادي مناد يوم القيامة : ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن ، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم» (١٧٤).

«لله فيكم عهد قدّمه إليكم وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله بينة بصائرها وآي منكشفة سرائرها ، وبرهان متجلية ظواهره ، مديم للبرية استماعه ، وقائد إلى الرضوان إتباعه ، ومؤديا إلى النجاة أشياعه ، فيه تبيان حجج الله المنيرة ، ومحارمه المحرمة ، وفضائله المدونة ، وجمله الكافية ، ورخصه الموهوبة ، وشرائطه المكتوبة ، وبيناته الجالية» (١).

و «ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس وإلا غضاضة؟ لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة» (٢).

«فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وما حل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكمة وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٩ : ١٣ في خطبة فاطمة (عليها السلام) في أمر فدك.

(٢) البحار ٨٩ : ١٥ عن الرضا (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أن رجلا سأل أبا عبد الله (عليه السلام) : ما بال القرآن ...

(٣) البحار ٩٨ : ١٧ بأسانيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيها الناس إنكم في زمان هدنة وأنتم على ظهر السفر والسير بكم سريع فقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان ـ

١١٦

و «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ـ والقرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده ـ والقرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم ـ إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة ، والظل يوم الحرور ، والهدى يوم الضلالة ، فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان (١).

«فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجة الله على خلقه ، أخذ عليهم ميثاقه وارتهن عليهم أنفسهم ، أتم نوره وأكرم به دينه ، وقبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى ، فعظّموا منه سبحانه ما عظم من نفسه ، فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلّا وجعل له علما باديا وآية محكمة تزجر عنه أو تدعو إليه ، فرضاه فيما بقي واحد وسخطه فيما بقي واحد» (٢) «كتاب الله تبصرون به وتسمعون ، وينطق بعضه على بعض ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ، ولا يخالف بصاحبه عن الله» (٣).

و «عدد درج الجنة عدد آي القرآن فإذا دخل صاحب القرآن الجنة قيل له : ارقأ واقرأ لكل آية درجة فلا تكون فوق حائط القرآن درجة» (٤).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل فقال : يا محمد سيكون في أمتك فتنة ، قلت : فما المخرج منها؟ فقال : كتاب الله ، فيه بيان ما قبلكم من خير وخبر ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل ، من وليه من جبار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله ..» (٥).

__________________

ـ كل بعيد ويأتيان بكل موعود فأعدوا المجاز لبعد المفاز ، فقال المقداد فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما دار الهدنة؟ قال : دار بلاء وانقطاع فإذا التبست ..

(١). البحار ٨٩ : ١٩ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٢). المصدر عن نهج البلاغة عن علي (عليه السلام.

(٣). المصدر.

(٤). كتاب الامامة والتبصرة بسند عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم.

(٥) المصدر ١٨ عن الحارث الأعور قال : دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت إنا ـ

١١٧

ذلك و «إن أهل القرآن في أعلا درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين ، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فإن لهم من الله لمكانا» (١) و «من أعطاه الله القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد صغّر عظيما ، وعظّم صغيرا» (٢).

ذلك و «فضل الله» هو القرآن و «رحمته» أن جعلهم من أهله (٣)(فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من غير القرآن من حظوظ مادية أو روحية ، وقد يعنى فضل الله القرآن ورسوله ، ورحمته الممثل له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن وهو علي (عليه السلام) (٤) وولده المعصومون (عليهم السلام) ، والجمع أنهما يعنيان القرآن أصالة ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رسالة به ، وخلفاءه المعصومين بسالة في تفسيره وتطبيقه.

فالقرآن هو معدن الفضل وبحبوحة الرحمة ، ذلك هو الذي يستحق الفرح دون ما سواه ، فذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال الشهوات والحيوانات ، ويجعلها عالية مرفرفة على الكائنات اتصالا بمعدن العظمة ومخزن الرحمة.

فكل القيم هي زائفة زائلة عن بكرتها ، مائلة عن الحق المرام إلّا

__________________

ـ إذا كنا عندك سمعنا الذي نسد به ديننا وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة لا ندري ما هي؟ قال : أو قد فعلتموها؟ قلت : نعم قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : أتاني جبرئيل ...

(١). بحار الأنوار ٨٩ : ١٨٠ عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٢). المصدر عن عدة الداعي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٣). الدر المنثور ٣ : ٣٠٨ ـ أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٤). المصدر ـ أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس «قُلْ بِفَضْلِ اللهِ» قال : النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «وَبِرَحْمَتِهِ» قال : علي بن أبي طالب (عليه السلام.

١١٨

التي يرسمها ويحققها القرآن ، فالقيمة القيّمة العليا التي ترفع من قيمة الإنسان هي ـ فقط ـ المتمثلة في هدي القرآن الذي هو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٥٩).

أنتم تقتسمون رزق الله إلى حرام وحلال وكأنكم آلهة مشرّعون من دون الله (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) أن تجعلوا منه حراما وحلالا كرسل من الله تحملون هكذا رسالة الله (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أنه هو الذي حرم هكذا وأحل؟.

فلأنه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (١٢ : ٤٠) فجعل رزق منه حراما أو حلالا لا بد وأن يستند إلى وحي بوسيط أم دون وسيط ، أم فرية على الله أنه حرم أو أحل ، وأما أن تحرّموا أو تحلوا مصلحيا محادّين الله فهو خارج عن دور التشريع ، ولم يكن المشركون يدعون أنهم هم المشرعون.

فلأن العباد هم عباد الله ، ورزقهم كذلك هو رزق الله ، فليكن تحريمه أو تحليله أيضا بما شرع الله ، وهذه التحريمات والتحليلات الشركية لا أثر لها في شرعة الله!.

وهنا (ما أَنْزَلَ اللهُ) تعني الإنزال من علياء كيان الربوبية سواء أكان الرزق من السماء أو من الأرض ، فإن الله ليس له مكان عل حتى ينزل رزقه منه ، ولا أن الأرزاق كلها من السماء حيث الأرض هي متعاملة مع عوامل السماء من في إعداد الرزق بأعداد منه.

ولا يدل (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) على إمكانية إذنه أحيانا في تشريع ، حيث القرآن فيه برهان لا مرد له على اختصاص التشريع بالله ، إذا فهو بين تنازل أنه إذن للتشريع ، أم أنه أرسلكم لبيان شرعته ، (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) وكل ذلك الثالوث منفي بحقكم فأنتم ـ إذا ـ مبطلون.

ذلك ، لأن التشريع هو من اختصاصات الربوبية لا يحمله من سوى

١١٩

الله لا استقلالا دون إذن ولا استغلالا بإذن منه ، اللهم إلّا افتراء على الله ، وحين لا يأذن الله لرسله في تشريع ، فكيف يؤذن لغيرهم أن يشرّعوا ، ف (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) استغراب أوّل أنه أذن لكم في تشريع ولا يأذن لرسله ، ثم (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) استغراب ثان ، وأما الثالث وهو الرسالة فسلبيتها عنهم مفروغة ، ثم وهم غير مأذونين في تشريع.

وهكذا يقضي على كافة التشريعات غير الربانية مهما تسمت بأسماء مغرية كالاجتهاد وما أشبه ، اتكالا على قياسات واستحسانات واستصلاحات ، لحد تقرّر بما تغرّر هيئة لمعرفة المصالح الوقتية سماحا لغيار أحكام شرعية ثابتة روعي فيها كافة المصالح الصالحة للخلود!.

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٦٠).

فافتراء الكذب على الله من أيّ كان وأيان إنه محظور محظور ، فما ظنهم ـ إذا ـ يوم القيامة ، أن الله سيعاملهم ، وافتراء الكذب على الله هو من أكفر الكفر بالله و (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بفاضل رحماته المتواترة عليهم وسعة عنايته بهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) الله وهم يكفرون كفرا وكفرانا ، وتراهم يستخفون من الله ما هو أعلم بهم من أنفسهم أم لا يخافونه؟.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦١).

(وَما تَكُونُ) يا حامل الرسالة القرآنية (فِي شَأْنٍ) من شئونك الرسولية والرسالية ، وهكذا كافة المكلفين بشئونهم الصالحة والطالحة «وما تتلوا منه ـ من شأنك ـ من قرآن» تلاوة المتابعة رسوليا ورساليا ، دعائيا وتطبيقيا ، أنت يا حامل الرسالة ، وهكذا كافة المكلفين به في شأنهم الرسالي وأصله القرآن ، ثم (وَلا تَعْمَلُونَ) أنتم كلكم رسولا

١٢٠