الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

والإختلاف «إلى» أو «ل» وما أشبه هو من الأوّل ، والمجرد عن الظرف يحتملهما إلّا أن يتعين أحدهما بقرينة أخرى ك (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فانه من الأول (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) حيث هو من الثاني.

فليس مجرد «الإختلاف» دليلا على أحدهما حتى يقال : «اختلاف أمتي رحمتي» هو اختلاف المذاهب؟ فإنه خلاف الرحمة : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٩).

(وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بما خلقها وهو عبارة أخرى عن خلق كل شيء «لآيات» دالات على النظام المقصود بربوبية قاصدة (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) المحاظير ، فحين تدل طبيعة الحال في الكون المنضّد المنظوم على أن وراءه منضّد ومنظّم ، فنكران وجوده تعالى خلاف التقوى ، وهو من الطغوى ف (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٤).

فحين يقف الإنسان لحظات يراقب أمامه من (ما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويستعرض ذلك الحشد العظيم الحاشر الذي لا يحصى من مختلف ألوان الخلق ، يمتلئ مستفيضا بما يغنيه ويعنيه من الحياة الإنسانية.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨).

آيات اللقاء الأربع والعشرون هي بين «لقاءنا» كما هنا و «لقاءه» و (بِلِقاءِ اللهِ) و (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) و (لِقاءِ الْآخِرَةِ) و (لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) و «لقاءنا» أشمل عناية لمعاني اللقاء من الكل لمكان الجمعية التي تعني لقاءه المعرفي والعبودي ولقاءه في العمل المرضي له ككل ، فلقاء الزلفى هنا ، ثم لقاءه معرفة زائدة وعبودية زائدة وزلفى زائدة ، وجزاء للأعمال في الأخرى.

٢١

فمن الناس من يقول لا سبيل هنا إلى معرفة الله ، حيث الطريقة العلمية التجريبية لا تثبته ، وهو غيب مطلق لا يمكن الوصول إليه بأية وسيلة ، فلو أنه كائن فلا سبيل لنا إلى معرفته فلا لقاء له معرفيا ، ولم لم يرنا نفسه لو أنه كائن؟ أفعاجز عن إراءة نفسه فهو القاصر في حقل معرفته ، وما نحن بمقصرين! أم قادر ويبخل؟ فهو المقصر في قصور معرفته دوننا!.

ثم لو أنه كائن وعرفناه ، فما لنا أن نتعرف إليه كما يحق ، أو نعبده كما يحق ، فحق لنا ـ إذا ـ أن نعبد من عباده الرعيل الأعلى العارفين إياه.

ولكن الطريقة العلمية نفسها مما تثبت وجود الله ، إضافة إلى كافة البراهين الصالحة ، فلا يملك أي كائن ما يملكه الله من البراهين الساطعة على وجوده وتوحيده ، وليس من الممكن أن يرينا نفسه إلّا أن نحيط به علما وهو ألوهية ثانية ، والمحال الذاتي لا يتحول ممكنا حتى يحوّله الله إلى الإمكان ، فنتمكن ـ إذا ـ من رؤيته!.

وأما عبوديته ، فهي المستحقة له لا سواه ، وقد رضيها لنفسه دون سواه ، وذلك من حنانه ومنّه الخاص أن رضي منا أن نعبده دون سواه.

ثم منهم من يعترف بوجوده تعالى ووحدته ولكنه يقول : لا سبيل لنا إلى معرفة الحياة بعد الموت ، رغم أنها ضرورة لا حول عنها قضية الحكمة العادلة الربانية؟ ولكنها ضرورة في ميزان العقل والعدل والوحي لا حول عنها ، والتصديق عقيديا وعمليا بحقيقة لا يلازم الحيطة الكاملة على هذه الحقيقة ، مبدأ ومعادا ، فقد تكفي المعرفة الإجمالية المستطاعة ، إذ (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

ذلك ، ولقاء الله بأسمائه الحسنى بين مفروض ومستحيل وواقع ، فالواقع على أية حال هو الصلة الذاتية لكل الكائنات بدائب الرحمة الإلهية ، حيث لا ينقطع أي مخلوق عن الخالق إلّا بانقطاعه عن كونه ، لأن الفقر الذاتي للمخلوق كونا وكيانا إلى الله يجعله دائم الصلة بالله وهذه هي اللقاء الواقع ، حاصلا دون تحصيل ، والمستحيل هو لقاء ذاته تعالى

٢٢

وصولا إليها بحيطة شاملة علميا ومعرفيا ، وهو باين عن خلقه وخلقه باين منه ، لا هو في خلقه ولا خلقه فيه.

ثم المفروض هو اللقاء المعرفي بكونه تعالى وتوحيده وكل شئون ربوبيته ، هنا تكليفا وما أشبه من شئون نشأة الامتحان ، وفي الأخرى حسابا وجزاء وفاقا.

و (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) هم كل هؤلاء الذين ينكرون كل هذه اللقاءات أم بعضها ، وذلك النكران كفر كله مهما اختلفت دركاته حسب دركات النكرانات.

هؤلاء (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) تاركين الحياة العليا ، إنهم (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) وهم (الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

هنا (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) تعم ناكري المبدإ والمعاد ـ حيث تعني آيات المبدإ والمعاد ـ وكذلك وناكري المعاد تصديقا بالمبدإ مشركين وموحدين ، و «آياتنا» تعم الآيات التكوينية ـ آفاقية وأنفسية ـ والتدوينية ، و «غافلون» تعني الغفلة المتعمدة المقصرة حيث الغافل القاصر لا يعذب.

ذلك ومن قبل هؤلاء الذين يحملون ثالوث (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ـ وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ـ وَاطْمَأَنُّوا بِها). هم كلهم (مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

هنا (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) معناه انحصار رضاهم بها وانحسارها عن الأخرى ، كما (وَاطْمَأَنُّوا بِها) تعني ذلك الانحصار الانحسار.

ذلك و «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» (١) ووفقه للقائه الصالح

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نقلا عن بخ ـ ك ٨١ ب ٤١ ، ك ٩٧ ب ٣٥ ، مس ـ ك ٤٨ ح ١٥ ـ ١٨ تر ـ ك ٨ ب ٦٧ ، ك ٣٤ ب ٦ قا ، نس ـ ك ـ

٢٣

بكل حقوله.

ومما لا بد منه في الحياة هو الاطمئنان بما يطمئن عن المضلات والمزلات ، فالنفس المطمئنة بالله لا ترضى إلا ما يرضاه الله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣ : ٢٨) ، والمطمئنة بالحياة الدنيا تختص رضاه وهواه بما يطمئن بها ، وقد تخاطب النفسان ب ـ (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٨٩ : ٢٧).

فالمطمئنة بالحياة الدنيا ، الفارة الفالتة عن ربها ، تدعى لترجع إلى ربها يوم الدنيا ما لم يفت الأوان ، دخولا في عباد الله الصالحين هنا فدخولا في الجنة هناك.

ثم المطمئنة بربها تدعى لترجع إلى ربها هنا أكثر مما رجعت ، وفي الأخرى ترجع إليه (راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) : «والدنيا جيفة فمن أرادها فليصبر على مخالطة الكلاب» (١) ذلك وسلبية الرجاء للقاء الله في يوم الحساب تسقط كل حساب فيسقط الوحي عن بكرته ، ثم ينعطف همّ الإنسان تماما إلى الحياة الدنيا ، واطمئنّ بها حيث لا مطمئنّ له إلّا إياها : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (٥٣ : ٣٠) و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) (١١ : ١٥) فهم (مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وقدره ، حيث إن (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) دون اللانهاية المزعومة!.

ف ـ «يا أيها الإنسان ما جرّأك على ذنبك ، وما غرك بربك ، وما

__________________

ـ ب ١٠ ، مى ـ ك ـ ٢٠ ب ٤٣ ، ما ـ ك ٢٦ ح ٥٠ ، حم ـ ثان ص ٣١٣ و٣٤٦ و٤١٨ و٤٢٠ و٤٥١ ، ثالث ص ١٠٧ و١٢٢ ، رابع ص ٢٥٩ ، قا خامس ص ٢٣٨ و٣١٦ و٣٢١ ، سادس ص ٤٤ و٥٥ و٢٠٧ و٢١٨ و٢٣٦ قاط ـ ح ٥٦٤ و٥٧٤.

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠١ ـ أخرج أبو الشيخ عن يوسف بن أسباط قال قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ..

٢٤

آنسك بهلكة نفسك ، أما من داءك بلول ، أم ليس من نومك يقظة ، أما ترحم من نفسك ما ترحم به غيرك ، فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظله ، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده فتبكي رحمة له ، فما صبرك على داءك ، وجلّدك بمصابك ، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهي أعز الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته ، فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا ، وبذكره آنسا ، وتمثّل في حال تولّيك عنه إقباله عليك يدعوك إلى عفوه ، ويتغمّدك بفضله ، وأنت متولّ عنه إلى غيره ـ

فتعالى من قوي ما أكرمه ، وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصية وأنت في كنف ستره مقيم ، وفي سعة فضله متقلب ، فلم يمنعك فضله ، ولم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل من لطفه مطرف عين ، في نعمة يحدثها لك ، أو سيئة يسترها عليك ، أو بلية يصرفها عنك ، فما ظنك به لو أطعته ، وأيم الله لو أن هذه الصفة كانت في متفقين في القوة ، متوازنين في القدرة ، لكنت أول حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ، ومساوئ الأعمال ـ

وحقا أقول : ما الدنيا غرتك ، ولكن بها اغتررت ، ولقد كاشفتك العظات ، وآذنتك على سواء ، ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك ، والنقص في قوتك ، أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرك ، ولرب ناصح لها عندك متهم ، وصادق من خبرها مكذّب ، ولئن تعرفتها في الديار الخاوية ، والربوع الخالية ، لتجدنها من حسن تذكيرك ، وبلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك ، والشحيح بك ، ولنعم دار من لم يرض بها دارا ، ومحلّ من لم يوّطنها محلا ، وإن السّعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم» (الخطبة ٢١٤).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠).

٢٥

تلك ضفة الكفر وهذه ضفة الإيمان وعمل الصالحات للإيمان ، وترى كيف (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) وإلى م يهديهم؟ يهديهم ربهم بإيمانهم الذي طبقوه بعمل الصالحات إلى إيمان أعلى بربهم وكما يؤمرون به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٤ : ١٣٦) كما ويهديهم إلى صالحات هي أصلح مما سلف ، ثم ويهديهم بعد موتهم بإيمانهم إلى جناته : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) حيث (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٦٦ : ٨).

(دَعْواهُمْ فِيها) على طول خط الخلود الأبد (سُبْحانَكَ اللهُمَ) عما وصفك به الجاهلون ، وعن كل نقص وشين (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) مما يدل على أن السلام هو أعلى قمم التحيات ، تحيتهم من الله وتحية بعضهم بعضا اعتبارا بوجهي الإضافة ، إلى الفاعل أو المفعول ، ثم (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) التي لا دعوى لهم غيرها (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فقد جمعوا حياتهم في الجنة بين كلمة السلب والإيجاب من «لا إله إلّا الله» وكما عاشوها في حياة التكليف.

ولا تعني «آخر» هنا آخر أعمارهم في الجنة إذ لا آخر لها ولا لأعمارهم ، بل القصد إلى آخر دعواهم وجاه أول دعواهم اللذين يشكلان كلمة الإخلاص ، فقد تشكل دعواهم من (سُبْحانَكَ اللهُمَ) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أم ليست لهم دعوى فيها إلا (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أجل ، ولأنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها ومشاغلها والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها وحاجياتها ، والرفرفة في آفاق الرضا والتسبيح والحمد والسلام ، إذا فأقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه «دعواهم» هو تسبيح الله وحمده والسلام على عباده حيث يتخلل بين التسبيح والحمد.

ومهما كان في حياة التكليف غشاوات عن صالح السلب هذا وإيجابه قضية الحجابات المسدولة بين أهل الحق وحاق الحق رغم أنهم ب

٢٦

مؤمنون ، فقد تزول هذه الغشاوات عن وجه السلب والإيجاب ، سلبا يحلّق على كل ما لا يليق بساحته سبحانه ، وإيجابا يحلق على كل ما يليق بجنابه ، فقد يصفونه تعالى كالعباد المخلصين ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣ : ١٦) وهم يصفونه في الجنة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (٧ : ٤٣) (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (٣٥ : ٣٤) (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٣٩ : ٧٤).

صحيح أن كل عباد الله يحمدون الله ولا سيما في صلواتهم ليل نهار ، ولكن أين حمد من حمد ، هنا محجوب وهناك غير محجوب.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا قال العبد سبحان الله سبح كل شيء معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها ، وإذا قال : الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه بنعيم الآخرة وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله وذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ...)(١).

وقد يعني من انقطاع الكلام في الدنيا الذي يختص بحاجيات الدنيا ومحاصيلها وكما في آخر «وينقطع الكلام الذي يقولونه في الدنيا ما خلا الحمد» ، فلا كلام ـ إذا ـ في الجنة إلا ما يحول حول التوحيد مع الله وعباده ، أو ما يحول حول السلام مع عباده ، إذ لا حاجة لهم إلى محاويج

__________________

(١) في الإختصاص بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وفي العلل بإسناده إلى الحسن بن عبد الله عن آباءه عن جده الحسن بن علي (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل في تفسير «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وفي آخره قال : وإذا قال العبد الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا موصولا بنعم الآخرة وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها وينقطع الكلام ... وذلك قوله عزّ وجلّ : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٢٧

الدنيا حتى يتكلموا بها صناعة أو زراعة أو تجارة أو دراسة أماهيه.

ذلك وعلى حد المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم» (١) وتراهم ـ إذا ـ بكما عن أي كلام إلا هذا ، فلا محادثة بينهم ولا مؤانسة بأي كلام إلا إياه؟ إنهم يتحادثون ويتآنسون مع بعضهم البعض ، ولكنها كلها تحوم حوم «لا إله إلا الله» وأية حظوة لهم روحية مثلها ثم الخطوات الجسمية هي رهن المشيئة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٥٠ : ٣٥) ، فهم أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم هي كلها تفاصيل ل «لا إله إلا الله» كما المؤمن المخلص في حياة التكليف ، مهما كان بين الحالتين بون قضية اختلاف النشأتين ، ثم «تحيتهم» من الله ومن أنفسهم بعضهم بعضا «سلام» قوليا وعمليا ، فليس لهم هناك من إله ومنهم إلا سلام يشمل كافة الخيرات والبركات في الجنة.

ذلك ، وقد تعني «دعواهم» بدايتها ثم «آخر دعواهم» نهايتها ، فكل كلام لهم محتف بهما مهما كان ، لا يخرج عن تفاصيلهما.

أو تعني «دعواهم» ذكرهم دعاء وخطابا ، مهما كانت لهم قالات أخرى ، حيث الدعوى وهي مصدر دعى تعني خصوص الدعوة الطالبة ، ولا تطلب هنا إلا من الله دون سواه ، خلاف الحياة الدنيا حيث هي حياة التداعي ذريعة إلى حاجياتها ، ولكن المدعو هناك إنما هو الله لا سواه ، وعلى أية حال فهم ليسوا ليحرموا في الجنة من قالات الإيمان ومحادثاته ومؤانساته و (لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٥٠ : ٣٥).

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠١ ـ أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ..

٢٨

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (١٨ : ٥٨) (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١٦ : ٦١).

«لو» هنا تحيل تعجيل الشر فقضاء الأجل إلى تأجيله وقت قضاء الأجل ، إملالا وإمهالا واستدراجا قضية حياة التكليف الامتحان.

هنا الله يستعجل الناس بالخير رغم استحقاقهم الشر ، فخير الحياة والأموال والبنين وما يشتهون يستعجل لهم فيها لينظر كيف يعملون ، وشرها يستأجل لهم فيه إلى يوم لقاءه جزاء بما كانوا يعملون.

فتخلفات النسناس من الناس تقتضي عقابا عاجلا فيه قضاء أجلهم ، إلا أن في ذلك قضاء على فسحة الامتحان ، وتبديلا لدار البلية والامتحان إلى دار الجزاء الامتهان.

فلأن رحمته سبقت غضبه فقد يقدم رحمته على غضبه فيؤجل مؤاخذة العصاة إلى أجلهم المقرر لهم : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (١٨ : ٥٨).

وهنا «استعجالهم» من إضافة المصدر إلى مفعوله وهو الله ، أم وإلى فاعله حيث تعني استعجال الناس إلى الخير (١) فلو أن الله يستعجل لهم الشر عقوبة كما يستعجلون الخير وهو ما يلائم أهوائهم فقد يعني «الخير» كما هنا ما يختارونه بأهوائهم الطائشة : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (١٠٠ : ٨) أمّا هو أعم منه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) (٢٢ : ١١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٥ في تفسير القمي في الآية قال : لو عجل الله لهم الشر كما يستعجلون الخير لقضي إليهم أجلهم أي فرغ من أجلهم.

٢٩

وعلى أية حال (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) وهو تقديم لآجالهم المسماة إلى قضية العقوبة المستعجلة ، ولكن (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) مشركين وموحدين كتابين وسواهم (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ف (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٦٨ : ٤٥ و٧ : ١٨٣).

ذلك ومن عمق الحمق لهؤلاء الأغباش الذين لا يرجون لقاء الله أنهم يتجرءون على تطلّب عاجل العذاب إن كان الرسل صادقين فيما ينذرون : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٠ : ٤٨) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) (١٣ : ٦) (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢) مما يصدر أبعاد العناد التي كانوا يواجهون بها رسل الله.

فلو أن الله قابل استعجالهم أنفسهم بالخير كما يهوون ، باستعجال الشر الذي يطلبون أم لا يطلبون ، لقضي إليهم أجلهم قبل حلوله.

ذلك ، ولرجاء الله علامات دون اعتبار بمجرد الادعاء وكما يفصله الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) منددا بمن يدعيه ولا يحويه : «يدعي بزعمه أنه يرجو الله ، كذب والعظيم ، ما باله لا يتبين رجاءه في عمله ، فكل من رجا عرف رجاءه في عمله إلا رجاء الله فإنه مدخول ، وكل خوف محقّق إلا خوف الله فإنه معلول ، يرجو الله في الكبير ، ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل ثناءه يقصّر به عما يصنع لعباده؟ ـ

أتخاف أن تكون في رجاءك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا ، وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه ، فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا ، وكذلك من عظمت الدنيا في عينه ، وكبر موقعها من قلبه ، آثرها على الله فانقطع إليها وصار عبدا لها» (الخطبة ١٥٩).

٣٠

ذلك ، فبماذا نرجو لقاء ربنا؟ طبعا بآيات الله آفاقية وأنفسية ، وأنفس الآيات الأنفسية والآفاقية هو القرآن يعرض إياهما سليما عليما معلما واعظا بناصع وحي الله وناصحه.

فبم نرجو لقاء الله بعد القرآن؟ أبا لرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته المعصومين (عليهم السلام) ، وهم لم يرجوا لقاء الله إلا على ضوء القرآن ، ثم وهم ارتحلوا إلى ربهم ، فهلا يبقى للراجين لقاء الله وسيلة وصيلة معصومة لتعصمنا في هذه السبيل؟.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢).

هذه حالة المسرفين في مواجهة الضر والكشف عنه ، إسرافا في الدعاء (لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) إذا مسهم الضر ، وإسرافا في الإعراض عن الله لمّا كشف عنهم الضر ، فهم مسرفون في كلا الإنابة إلى الله والإعراض عنه : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٤) (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٤١ : ٥١). (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (١٧ : ٦٧).

و «الضر» هنا كلما يفر عنه من ضرر نفسي أو مالي وما أشبه مهما كان خيرا له ، ثم (دَعانا لِجَنْبِهِ ...) قد تعني الحالات الثلاث التي تحلّق على حياة الإنسان اضطجاعا لإستراحة أو نوم ، وقعودا حين يحتاجه ، وقياما لحاجته ، فلا يدع الدعاء على أية حال من الأحوال ، ف «أو» إذا للتقسيم ، أم وتعني كما يروى (١) حالة العلة «لجنبه» حيث هو

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٥ عن تفسير القمي في الآية قال : «دَعانا لِجَنْبِهِ» العليل الذي لا يقدر أن يجلس «أَوْ قاعِداً» الذي لا يقدر أن يقوم «أَوْ قائِماً» الصحيح.

٣١

مضطجع لعلته (أَوْ قاعِداً) لعلة لا يقدر على القيام «أو قائما» لا علة له في الحالات الثلاث الأول ، و «أو» إذا للترويد حيث لا تجتمع هذه الحالات الأخيرة له ، فهو لا يزال يدعوا مقعدا أو سليما وفي كل حالاته ، حيث يعرض كل حالة وكل وضع وكل مظهر ومنظر دون إبقاء في ذلك الدعاء!.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) : ذهب إلى ما كان يهواه من شهواته متغافلا عن ربه (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) فلو ذكر دعاءه ربه إلى ضر مسه لكان معتدلا في سلوكه ، غير معرض عن ربه ، ولكن (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حيث (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٧ : ٢٤) وهذا جزاء لمن لا يرجو لقاء ربه : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)(٢٧ : ٤).

ذلك ، وإنها صورة سيئة ميّعة لنموذج إنساني مكرور على مدار التأريخ حيث يظل مندفعا بتيارات الحياة ، يذنب ويطغى في ذنبه بصحة موفورة وملابسات مؤاتية.

ثم إذا مسه الشر والضر فإذا هو جزوع ذو دعاء عريض ، ثم إذا كشف الله عنه ضره (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ)! مر دون توقف ليفكر أو يشكر أو يعتبر ، مندفعا مع تيار الحياة ، غريقا في الشهوات دون أي زاجر أو كابح أو أية مبالات.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)(١٣).

تذكير بمصارع الغابرين نبهة للحاضرين وإلى يوم الدين (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كقرن نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وفرعون وأضرابهم بمختلف ألوان الهلاك (لَمَّا ظَلَمُوا) ظلما يجازي هنا قبل الأخرى «و» الحال انهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ثم «و» الحال أنهم (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فلو كانوا يؤمنون بعد كفرهم ما كنا مهلكيهم ، (كَذلِكَ

٣٢

نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) الذين يجرمون ثمرات الحياة قطفا لها قبل إيناعها فإفسادا إياها ، فهذه سنة الله الجارية بحق المجرمين كما تقتضيه الحكمة الربانية في حياة التكليف.

ولقد انتهى بالمشركين العرب إسرافهم وظلمهم لحد التهديد الشديد لهم بمصارع الغابرين ، وهم أولاء يرون بقية لها في الجزيرة بمساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) (٢٠ : ١٢٨) (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٢٨ : ٥٨) (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) (٢٩ : ٣٨) (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) (٣٦ : ٢٥).

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤).

وهنا «خلائف» جمع «خليفة» صيغة مكرورة عن آدم وبنيه أجمعين ، في عامة الحقول وخاصتها ، فآدم ـ بذريته ـ خليفة عن أمثاله الغابرين : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢ : ٣٠) ثم الناجون من قوم نوح خلفاء من غرقوا : (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) (١٠ : ٧٣) ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (٧ : ٦٩) وكذلك الباقون بعد عاد : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٧ : ٧٤).

وهكذا كل قرن حاضر عن كل قرن غابر (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) (٣٥ : ٣٩) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٦ : ١٦٥) ثم قرن خاص وقرون خاصة للصالحين هم خلفاء الأرض على الإطلاق : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٢٧ : ٦٢).

ذلك ، وليست الخلافة إلا في حقل المتجانسين في كون أو كيان ، بانقراض المستخلف عنه كونا ، أم بقاءهم وانقراضهم كيانا ، فلا تعني الخلافة على أية حال خلافة عن الله ، إذ لا مجانسة بينه وبين أي من

٣٣

الخلفاء ، ولا انقراض له كونا أو كيانا.

ولا تعني خليفة الله في بعض الأدعية والروايات إلا من جعله الله خليفة عن آخرين أشباههم مهما اختلفوا في درجات.

أجل ، ليس لله خليفة ولا نائب ولا وكيل ولا أي مثيل ، اللهم إلّا عباد ، وهم في تعاليهم بدرجات العبودية رسل ، ولا ثالث يعبر عن خلق الله.

أجل «جعلناكم» أنتم المكلفين من الجنة والناس وسواهما أجمعين و «جعلناكم» أنتم الحاضرين ككل ، أم أنتم الكافرين «خلائف» لهم تخلفونهم (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) عائشين في حياة التكليف (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) نظرا إلى واقع أعمالكم بعد ما هو عالم بما سوف تعملون. فانظروا أنتم كيف تعملون فلا تأخذكم غرّة ولا عزّة بالإثم ، فقد كفت لكم مصارع الغابرين عظة ومعتبرا.

أجل وإن هذا التصور عن الواقع المكرور الذي يصوره القرآن يظل مثيرا في الإنسان يقظة وحساسية مرهفة إن ظل إنسانا غير متجاهل كرامته الإنسانية إلى دركات الحيوانية ، يقظة هي له صمام الأمن والطمأنينة ، فشعور الإنسان بأنه ممتحن ومبتلى بآياته على أرض التكليف ، وبما مّلكه الله وخوّله إياه ، إنه يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفوة ، المناعة المانعة له عن مستغرق اللجة البهيمية والتكالب على عرض هذا الأدنى (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)؟.

وتراه نظرا بعد جهل؟ علما بعد جهل! كلّا ، إنه علم بعد علم ، ف (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) علما ، هو حاصل قبل «تعملون» ولكنه خارج عن الامتحان ، إنما هو علم وعلامة واقعية لتقع موقع الامتحان.

إذا ف (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) تعني كيف الواقع دون كيف العلم ، فالنظر هو النظر إلى الواقع المرام ، دون غير الواقع المرام إذ لا محنة فيه.

أجل ف «لننظر» هنا ناظر إلى نظر الواقع وهو مجال الامتحان بالتكليف ، دون نظر العلم المجرد عن الواقع أنه ان وقع كان كذا إذ لا مجال فيه لامتحان بتكليف.

٣٤

فكما أن (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) وما أشبه لا تعني إلا العلم والعلامة بامتحان التكليف ، كذلك «لننظر» وما أشبه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ

٣٥

لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ

٣٦

عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٥)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٥).

(آياتُنا بَيِّناتٍ) في أنها منّا حيث الكلام بوزنه ووزانه يدل على كيان صاحبه ، وقد سميت الجملات القرآنية آيات الله لأنها دالات على ربانية صدورها وكما تدل على الله ، دلالة ذات بعدين اثنين ، قاطعة لا محيد عنها ولا حول عنها ، ولكن : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) لما يسمعون منها كل تحذير وتنذير بعاقبة السوء يوم الأخرى (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) غير هذا عن بكرته أو بدله إلى ما نهواه ألّا يحدّد شهواتنا ولا يهددنا بعقوباتها.

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) أي تبديل (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) رغم محتدي الرسالي ، حيث القضية الرسالية على طول خطها هي (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فليس لي دون وحي أن أبدله ولو شطر كلمة أو حرف أو اعراب أو نقطة ، فمثلي مثلكم في أن الله يعذبني إن عصيته : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

هنا (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) دليل أن هناك قرائين الوحي وهي كتابات الرسل ، ومثلها : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١٧ : ٩) (١)

__________________

(١) للتفصيل حول القرآن بعديد ذكره السبعين إلا «قرآن الفجر» و «قرآنه» وعديد أسماءه ـ

٣٧

ف (هذَا الْقُرْآنُ) كما هنا وفي آيات أخرى ، تدل على أن هناك قرائين أخرى ، مهما عني ب «القرآن» طليقا هذا القرآن كعلم له (١) كما «الكتاب» حيث يجمع كافة كتب الوحي وقرائينه ، فطالما التوراة والإنجيل هما قرآنان ولكنهما أمام القرآن كأنهما ليسا به : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) (٩ : ١١١) كما أن سائر الوحي أمام وحي القرآن كأنها ليست بوحي : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) وكما أن سائر الرسل أمام هذا الرسول كأنهم ليسوا برسل ، فلذلك لم يأت النبي ولا الرسول طليقا مفردا إلا لهذا الرسول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ذلك ولا يعني هؤلاء الأنكاد من (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) إلّا ما يوافق شهواتهم وغاياتهم دون أية مضادة ، جمعا بينها وبين شرعة الوحي ، أن يتبع الحق أهواءهم : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٢٣ : ١٧).

أجل (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) الذي يوحد الله وينذر بلقاء يوم الله ويكلفنا خلاف أهوائنا ، وكما تطلّب جماعة من مشركي الطائف منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا يكسر صنمهم «اللات» ويضع عنهم فرض الصلاة حتى يؤمنوا ، فأجابهم أن أهم أصول هذا الدين هو التوحيد الذي ينافي اللات وغير اللات ، وأهم فروعه هي الصلاة ، فكيف أجيبكم إلى تطلبّكم هذا.

وقولتهم هذه (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) هي بين شيطنة الجد والهزل ، والفرق بين هذين الاقتراحين أن «غير هذا» هو المغاير تماما إياه إلى ما تهواه أنفسهم ، ثم «أو بدله» يعني تبديله إلى ما هو أسهل منه

__________________

ـ الأربعين ، وعديد معانيه السبعة : طهارة ـ تطهير ـ قراءة ـ إبلاغ ـ رؤية ـ جمع ـ أقتراب ، راجع الفرقان (١٥ : ٧٨ ـ ٨٣).

(١) كما في الأكثرية المطلقة في الآيات التي تحمل لفظ القرآن وهي (٦٨) آية.

٣٨

تقبلا ، تنازلا عن «غير هذا».

ولو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تقبل ذلك أو حاول أن يفعل لكان فيه تكذيب لنفسه فيما تلى عليهم من آيات التحدي والآيات التي تدل على خلود القرآن : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(٦ : ١١٥).

ذلك ، ولكنها ليست لعبة لاعب ولغبة لاغب أو مهارة شاعر في مباريات الشعر وسواه في أسواق الجاهليات ، إنما هو الدستور الجدي الجاد من رب هو لنا بالمرصاد ، عليما بما يصلحنا ويفسدنا ، وليس تبديله كله أو بعضه يعني إلا خطأه سبحانه فيما أنزل ، أو إتباعه لأهواء هؤلاء الأغباش فيما ينزل!.

ومن بديع الأدب الرسالي لهذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لم يرد عليهم ما هو باهر له من الرد حتى أمره الله بالرد عليهم : (قُلْ ما يَكُونُ لِي) إذ ليس من شأني كرسول فعل الرب : (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) وإنما كياني الرسالي ككل (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وكياني في المسئولية أمام الله (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وهنا حجتان بيّنتان تردان عليهم ما تطلبوه ، إحداهما (آياتُنا بَيِّناتٍ) حيث تبين أن هذا القرآن يحمل مرادات الله من المكلفين ، وأخراهما : (قُلْ ما يَكُونُ لِي ...).

و (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قلب عليهم لما يهوون من نكران ذلك اليوم العظيم أنني يمنعني عن الانفراط والانفلات عن أمر ربي والانخراط في سلكهم (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

فمن لا يخاف عذاب يوم عظيم هو الذي لا يخاف أي عصيان مهما وحد الله واعترف به.

ذلك ، وكما ليس له الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله ، كذلك ليس له أن يتخلف قيد شعرة عن سنته الموحاة إليه في تقرير مصير أو إقرار خلافة

٣٩

بعده أماهيه (١).

وهكذا استمرت منه (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) بعد الفتح كما قبله خلافا لما يروى (٢) إذ لا يعني «ذنبك» عصيانا حتى لا يخاف عذابا عليه بعد الفتح بما ضمنته آية الفتح! ، وليس مصدر أشباه هذه المختلقات الزور إلا الجهل بمغازي القرآن ، أو العناد.

وهنا «قرآن» تشمل إليه السنة لأنها واجبة الإتباع بنص القرآن ، فقاطع السنة كقاطع الكتاب هما واحد في حقل الوحي قد يعبر عنها ب «قرآن» مهما كان قرآن الوحي الأصيل هو هذا القرآن وعلى هامشه قرآن الوحي السنة.

والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مخول إليه أي تبديل لأي وحي ، و (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) لا يعني ـ فقط ـ تبديلا دون تخويل ، بل وتبديل التخويل فإنه أيضا من تلقاء نفسه ، لأن تبديل القرآن ـ على أية حال ـ هو من الاختصاصات الربانية.

وقولة القائل : إن الله فوض إلى رسوله تبديلا في أحكامه ، سنادا إلى روايات ، مختلفات ، ليست لتعارض نص القرآن حيث يجتث عن موقف الرسالة أي تبديل مهما كان بإذن الله ، اللهم إلّا أن يبدل الله بما يوحي إليه ، فليس ـ إذا ـ من تلقاء نفسه ، وأما إذا بدل الرسول من تلقاء

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٦ عن تفسير القمي حدثني الحسن بن علي عن أبيه عن حماد بن عيسى عن أبي السفاح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ : «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعن تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية : قالوا لو بدل مكان علي أبو بكر أو عمر اتبعناه ، وعن أصول الكافي عن مفضل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية قال : قالوا : أو بدل عليا.

(٢) وهي ما رواه العياشي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إني أخاف ..» حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

٤٠