الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

(ساحِرٍ عَلِيمٍ) انتخابا للنخبة العلمية من السحرة ، و (قالَ لَهُمْ مُوسى) اختصارا عن حوار بشأن من يلقي قبل : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قالَ أَلْقُوا ..) (٧ : ١١٦).

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢).

(ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) جرأة أولى على باطل السحر الذي سحر أعين الناس واسترهبهم ، و (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ثانية ، و (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) ثالثة كبرهان على الثانية (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) رابعة كنتيجة في صراع المعجزة والآية الربانية.

وطالما يتحدث حول مبطل السحر في كل حقوله ولما يجدوا ما يبطله بأسره ، فإذا الله يحدثنا هنا عن مبطله وهو الآية المعجزة ، فكما أن عصى موسى أبطلت سحرهم بإذن الله ، كذلك القرآن ـ وبأحرى ـ يبطل كل سحر يقابله ، فضلا عن سائر السحر الذي لا يدعى تحديه للقرآن ، وكما يروى أن قراء مائة آية من القرآن يبطل كل سحر وقد جربها المجربون فما أخطأت ولا مرة يتيمة تصبح حجة على بطلانه.

ذلك ، ومن ميزات القرآن الآية أمام كل سحر ، أنه لا يختص إبطاله إياها بخصوص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهليه المعصومين (عليهم السلام) ، وسائر الآيات المعجزات هي مختصة بمن تظهر على يديه.

فالقرآن ككل ، وقراءة من أيّ كان شرط إسلامه وإيمانه ، يبطل كل سحر ، كما ويبطل ببيناته كل ما يعارضه في أيّ من حقوله ، فأدبه يبطل سحر الآداب ، وحكمته تبطل سحر الفلسفات ، وعرفانه يبطل سحر العرفانات ، وفقهه يبطل سحر الفقاهات ، وعلومه تبطل سحر العلوم ، فهو الآية الوحيدة الربانية في كافة ميادين النضال والصراع ، سابقة كل الرفاق في كل ميادين السباق.

١٤١

صحيح أن الباطل قد يزهو ولكنه لا ينمو ، فهو باطل في نفسه بما هو ظاهر من نفسه عند العارفين ، والله يبطله ولا سيما في حقل الصراع لآياته البينات ، حفاظا عن الإغراء بإطرائه :

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢).

«بكلماته» الآفاقية والأنفسية ، الرسولية والرسالية ، التدوينية والتكوينية ، وقد حق الحق في الصراع الموسوي الفرعوني بكلمة ثعبان العصى وآيتها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

وترى لما ذا «السحر» معرّفة وهي خبر «ما» الموصولة؟ لأنها تحمل إجابة عن (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ف (ما جِئْتُمْ بِهِ) هو ذلك «السحر» الذي افتريتموه على آيته الربانية!.

أم وهو كل «السحر» وكأن السحر كله مجموع فيه ، ولكن (اللهَ سَيُبْطِلُهُ) على جمعيته للسحر كله ، ومن ذا الذي آمن لموسى في تلك المباراة العظيمة الحاشرة؟ :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٨٣).

وترى آمن له ـ فقط ـ ذرية من قومه؟ وقد كانوا مؤمنين به من قبل مهما اختلفت درجاته ، كما وآمن السحرة له كلهم : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٢٠ : ٧٠).

ذلك هو الإيمان الخالص غير الفالس ولا الكالس من قومه ، دون كل من في محشر المباراة ، فهنا العناية إلى تصلّب بني إسرائيل بعد ما رأوا الآيات الموسوية (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) وأما السحرة فقد آمنوا له عن بكرتهم إيمانا متينا مكينا ما كانت تزعزعهم عنه التهديدات الفرعونية ، ولا تخوّفهم ، رغم أن الذرية القلة المؤمنة من قومه كانوا على خوف من فرعون وملاءهم ، ف (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) تختص ذلك الإيمان الخوفان بهم دون السحرة المؤمنين دون أي خوف من فرعون وملاءهم.

١٤٢

فهنا (ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) هم الناشئون الناشطون الذين لا يحسبون بشيء أمام الكبار المصلحيين ، وهم كانوا خطرا عليهم في إيمانهم لمكان «ملاءهم» بعد «فرعون» فخطر «ملاءهم» كان مزيدا عليهم من خطر فرعون ، مما يهدد ـ حسب الظاهر ـ الدعوة الموسوية من الداخل والخارج الوبيل.

فذلك الملاء الإسرائيلي رغم كونهم مع موسى الرسول (عليه السلام) ظاهرين وتحت قيادته ، كانوا هم مع فرعون بقياده سلسين ملسين ، لذلك يخاطب قومه ككل تحريضا على إيمان :

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)(٨٤).

هنا (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) بعد (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) تعني الإسلام بعد الإيمان ، (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) لله وجوهكم في هذه البيئة الخطرة الفرعونية.

وهنا قد لحق ب (ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) ممن سواهم ، أم لم يلحق ، يسمع سليم الإجابة ممن آمن :

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦).

فعل (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تخص ملاءهم أم وتعمهم إلى فرعون وملئه ، ثم (الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) هم فرعون وملأه ، ف (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أن يفتنونا من داخل (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أن يفتنونا من خارج ، والفتنة الداخلية أفتن من الخارجية.

أجل و (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) لا على ملإنا الخونة ، ولا على موسى والمؤمنين به ، إنما (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) كما وأمرتنا (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ..).

ذلك ، وقد تلمح (إِنْ كُنْتُمْ ..) أنهم فقط (ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) لسابق

١٤٣

إيمانهم على ذلك الخطاب و (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) ف (يا قَوْمِ) إلّا اعتبارا كأنهم فقط هم قومه دون الباقين منهم إذ لم يؤمنوا.

ذلك ، وقد يحتمل أن (ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) تعنيهم من قوم فرعون لسابق ذكره ، ف «ملإهم» هم الفرعونيون (١) ، وقد تعني هذه الذرية إلى السحرة الناشئين من الفرعونيين في تلك المباراة الباهرة ، مؤيدا بخطابه قومه ككل دون خصوص الذرية (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ ..).

وقد يكون المعنيان هما معنيّان ، ف (ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) تعني مثلثها : السحرة ، وذرية من قوم فرعون ، وذرية من قومه نفسه ، وما أجمله جمعا ، وأجله قمعا للملإ غير المؤمنين.

ف «ذرية» هي المؤمنة ـ دوما ـ بين الملإ المستكبرين حيث يجدون ملجأ من الدعاة إلى الله.

ترى وكيف سألوا الله أن (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)؟ وحياة التكليف كلها فتنة! : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٢١ : ٣٥) (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (٢٥ : ٢٠).

الفتنة قد تعني مجرد المحنة دون مهنة فهي شاملة للمكلفين أجمعين ، وأخرى تعني مهنة في محنة فهي مختصة بالظالمين جزاء وفاقا : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) (٣٧ : ٦٣) في الأخرى نتيجة ظلمهم في الأولى (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (٧٤ : ٣١) (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) (٥٤ : ٢٧) وهما محنة في الأولى.

فهذه الفتنة الماكنة الفاتنة التي لا مفلت عنها هي خاصة بالظالمين : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) (٢٤ : ٦٣) وأما الذين آمنوا ف (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا) (٦٠ : ٥) :

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣١٤ ـ أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كانت الذرية التي آمنت بموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه.

١٤٤

ذنوبنا التي توردنا موارد الفتنة المضّللة ، (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٥ : ٤١).

ففي مثنى الفتنة الفاتنة الممتهنة ، والفتنة الممتحنة ، ليس نصيب المؤمنين إلا الثانية ، والأولى هي للذين ظلموا وكفروا.

ذلك ، والتوكل على الله بعد الإيمان بالله والإسلام لله هو عنصر القوة المتينة المكينة الذي يضاف إلى رصيد التقوى مع الإيمان والإسلام ، فإذا ذرية قليلة ضعيفة تصبح قوية صارمة أمام جبروت الطاغوت.

فقولهم (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعنى به ألا يمكّن الظالمين منهم إضلالا لهم وإدغالا ، أم استئصالا لهم وإخمالا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) في ورطة الفتنة المستمرة منهم.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٨٧).

ذلك الوحي في الوسط الذي عاشه بنو إسرائيل بين الغلب على فرعون في تلك المباراة وبين ملاحقته موسى وقومه وغرقه مع ملئه (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) مما يدل على أنهم لم تكن لهم بمصر بيوت إذ كانوا مستخدمين في البيوت الفرعونية دونما استقلال حتى كالخدم المستقلين في بيوتهم ، المستغلين عند المستخدمين إياهم.

وأما كيف (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)؟ فهل هي قبلة للصلوات؟ وليست بيوتهم قبلة ، كعبة أو القدس! أم قبلة قبال الفرعونيين؟ وهذه سياسة الاستهدار الاستهتار أن تجعل بيوتهم قبالهم ، فصراع دائب بدل أن يتغربوا عنهم ولا يتقربوا منهم!.

هنا «قبلة» تعني قبال بعضها البعض (١) تغربا عن القبط الكافرين ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣١٤ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يقابل بعضها بعضا.

١٤٥

وتقربا إلى بعضهم البعض ، ليكونوا على خبرة جمعية بينهم لأحوالهم فيما يصلحهم أو يفسدهم ، والهجمات المحتملة عليهم من السلطة الكافرة ، فإن «قبلة» هي هيئة خاصة في الإقبال ، تقابلا في البيوت كما هنا ، واستقبالا كما في الصلاة.

وهذه سياسة الحياد والحياط على جمع مشرّد مطرود في سبيل الله أن ينضموا ويتضامنوا مع بعضهم البعض ، بعدا عن شتاتهم بين الأعداء فيذوبوا ، وقربا فيما بينهم فلا يذبلوا ، وهذه تعبئة نظامية إلى تعبئة روحية هما ضرورتان للمطاردين في الله ، وقد عمت الفتنة وتجبّر الطاغوت ، وفسد الناس ونتنت البيئة.

وقد تعني (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أن (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) فيها دون تظاهر فيها خارجها قضية التقية ، أم تعني «اجعلوا» فقط موسى وهارون أن تكون بيوتهما قبلة لبني إسرائيل يتجهون إليها على أية حال ، حيث الإمام لا بد له أن يكون بمتناول الأمة على كلّ حال ، دون انعزال وتغرب عنهم ، ولقد كان علي (عليه السلام) لا يسكر باب بيته ليل نهار حتى يفسح المجال للمحاويج ، وفي الأثر أنه (عليه السلام) لما ملك الأمر أمر أن يقلع باب بيته حتى لا يغلق لوقت مّا أمام المحاويج.

وقد يكون مثلث المعنى معنيا من ذلك النص لصلوح اللفظ والمعنى ، فكما أن قبلة الصلاة مفتوحة مفسوحة لكافة المصلين ، فلتكن قبلة الصلات بالداعية مفتوحة للمدعوين ، وهكذا قبلة الصلاة بين بعضهم البعض بتقابل بيوتهم المتواصلة ، وقبلة الصلاة تقية في تلك البيوت.

ومن جعل بيوتهم قبلة أن يسكنوا بيوت الله المفسوحة لهم أجمع ،

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣١٥ في تفسير القمي بسند متصل عن منصور عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال : لما خافت بنو إسرائيل جبابرتها أوحى الله تعالى إلى موسى وهارون (عليهما السلام) (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال : أمروا أن يصلوا في بيوتهم.

وفي الدر المنثور ٣ : ٣١٤ عن ابن عباس في الآية قال : أمروا أن يتخذوا في بيوتهم مساجد. ـ

١٤٦

فقد سمح لهما أن يبيتا في بيوت الله في كافة الحالات وإن جنبا وعلى غير طهارة ، وقد فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا وكان أحرى من هارون وموسى (عليهما السلام) (١).

ذلك ، وقد تعني «قبلة» فيما عنت قبلة الكعبة المباركة (٢) ، فإنها

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣١٤ ـ أخرج ابن عساكر عن أبي رافع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب فقال : إن الله أمر موسى وهارون أن يتبوءا لقومهما بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقربوا فيه النساء إلا هارون وذريته ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي هذا ولا يبيت فيه جنب إلا علي وذريته.

ورواه في علل الشرائع بإسناده إلى أبي رافع مثله بزيادة : فمن ساءه ذلك فها هنا وضرب بيده نحو الشام ، وفي عيون الأخبار في باب ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة والأمة حديث طويل وفيه : قالت العلماء فأخبرنا هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الرضا (عليه السلام) فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موطنا وموضعا .. وأما الرابعة فإخراجه (صلى الله عليهوآله وسلم) الناس من مسجده ما خلا العترة حتى تكلم الناس في ذلك وتكلم العباس ، فقال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تركت عليا وأخرجتنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما تركته وأخرجتكم ولكن الله عزّ وجلّ تركه وأخرجكم وفي هذا تبيان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السّلام) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، قالت العلماء : وأين هذا من القرآن؟ قال أبو الحسن (عليه السلام) أوجدكم في ذلك قرآنا وأقرأه عليكم ، قالوا : هات ، قال : قول الله عزّ وجلّ : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما ...) ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى ، وفيها أيضا منزلة علي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا دليل ظاهر في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال : ألا أن هذا المسجد لا يحل لجنب إلا لمحمد وآله ، قالت العلماء : يا أبا الحسن (عليه السلام) هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معشر أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال (عليه السلام) : ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره معاند ولله تعالى الحمد على ذلك فهذه الرابعة.

(٢) المصدر أخرج أبو الشيخ عن أبي سنان في الآية قال : قبل الكعبة وذكر أن آدم (عليه السلام) فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة.

١٤٧

كانت قبلة المصلين على مدار الزمن الرسالي إلّا فترة فتيرة قليلة في العهد المدني (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

ثم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في بيوتكم ونحو القبلة ، كإقامة الصلات في بيوتكم القبلة المتقابلة مع بعضكم البعض ، وصلات أخرى مع موسى وهارون حيث بيوتهم قبلة ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وبرسالاته أنهم آمنون في رحمة الله.

إذا فلتعيشوا (بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) بكل معانيها الصالحة للعناية للمؤمنين القلة أمام الكافرين الثلة ، استبقاء لكونهم وكيانكم عن التهدر والله من وراءكم رقيب عتيد.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٨٨).

هذه أقسى وأقصى كلام لموسى (عليه السلام) مع الله فيما يفسر بغير ما يعنيه ، وفي التوراة نص حضيض يعبر عن سوء أدبه (عليه السلام) مع الله : «فرجع موسى إلى الرب وقال : يا سيد لما ذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لما ذا أرسلتني؟ فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب ، وأنت لم تخلص شعبك. فقال الرب لموسى : الآن تنظر ما أنا أفعل بفرعون. فإنه بيد قوية يطلقهم وبيد قوية يطردهم من أرضه» (سفر الخروج ٥ : ٢٢ ـ ٢٣) ، فهذه وما أشبهت في مزيّف التوراة (١) تمس من كرامة الرسالة الموسوية مسا مصيصا قد تجعله غير

__________________

(١) موسى يذكر بدعواته القمية وجهاده المتواصل بكل تبجيل وتجليل في زهاء الربع (٣١) من سور القرآن (١٣٦) مرة ، والتوراة تذكره دون ذلك زعم أنها كتاب شرعته ، وتمس من كرامته مرارا وتكرارا : «فقال الرب لموسى وهارون من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها» (إعداد ٢٠ : ١٢) ـ

و «إن الله حمى غضبه على موسى إذا التمس منه وزيرا ردءا له يصدقه فقال موسى للرب استمع ـ

١٤٨

مؤمن بربه ، ناكر حكمته ورحمته!.

ثم القرآن يذود عن ساحته كل شين ورين ، وهنا «ليضلوا» لا يدل على إضلال قاصد دون سبب صالح ، بل هو مثل (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) إزاغة بزيغ جزاء وفاقا ، كما (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣) (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (٤١ : ٢٥) (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (١٤ : ٢٧) (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) ، هذه وما أشبه تدلنا على أن الله تعالى يستدرج الظالمين ويمهلهم ليخرج مكين كيدهم ومكنون سرهم.

لذلك هنا يطلب موسى بقطع أسباب فرعون عن إضلاله وعن إيمانه : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ، وحقيقة الطمس هي محو الأثر من قولهم : طمست الكتاب إذا محوت سطوره ، وطمست الريح ربع الحي ، إذا محت رسومه ، فكان موسى دعى الله سبحانه بأن يمحو معارف أموالهم بالمسح لها حتى لا يعرفوها ولا يهتدوا إليها ، وتكون منقلبة عن حال الانتفاع بها ، حيث الطمس هو تغير حال الشيء إلى الدثور والدروس ، ثم (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) هو الختم عليها والطبع.

وليس «ليضلوا» غاية مقصودة ل «أتيت» بل هي واقعية معلومة لله وكما في أخرى غير معلومة لفرعون وملاءه معلومة لله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢٨ : ٨).

__________________

ـ أيها السيد. لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا حين كلمت عبدك ، بل أنا ثقيل الفم واللسان. فقال له الرب : من صنع للإنسان فما أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرا أو أعمى. أما هو أنا الرب. فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به ، فقال : استمع أيها السيد. أرسل بيد من ترسل. فحمى غضب الرب على موسى وقال : أليس هارون اللّاوى أخاك. أنا أعلم أنه هو يتكلم وأيضا ها هو خارج لاستقبالك ... وهو يكون لك فما وأنت تكون له إلها» (الخروج ٤ : ١٠ ـ ١٦).

١٤٩

ذلك ، ولا مانع أيضا من كون الإضلال غاية مقصودة جزاء وفاقا لفرعون ليزيد ضلالا وامتحانا لمن يضلهم وله امتهانا ، حيث الإضلال البدائي هو المستحيل على الله ، دون النهائي الذي فيه دور الضلال المعاند ، كما وأن (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) إضلال كجزاء على ضلال.

إذا فلم يكن «ليضلوا» نقدا من موسى على الله وعوذا بالله ، إذ هو الذي دعى بعد نفسه بشدّ الضلال : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ).

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩).

وترى متى (أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) هل هي فور الدعوة أم بفاصل المحنة المهنة؟ قد يرى من (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى. فَكَذَّبَ وَعَصى. ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى. فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٧٩ : ٢٥) أن لم يكن فصل بين الأمرين.

ولكن «تبوءا لقومكما بيوتا ...» قد تصرخ لمهلة ماحلة قاحلة بين الأمرين ، وليس (فَأَخَذَهُ اللهُ) صراحا في فور الإجابة (١) كما و (فَاسْتَقِيما ..) لامحة إلى طول لأمد الإجابة ، وإلّا فما هو دور الاستقامة في فور الإجابة؟ فإيجابية الاستقامة أمام الهجمات الفرعونية وسلبية الإتباع لسبيل الذين لا يعلمون ، لهما دور المهلة الماحلة الفرعونية الطاغية ، ثم و (لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ .. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٠ عن الخصال عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى فكان بين أن قال الله تعالى لموسى وهارون (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وبين أن عرفه الإجابة أربعين سنة ، ثم قال قال جبرئيل (عليه السلام) : نازلت ربي في فرعون منازلة شديدة فقلت : يا رب تدعه وقد قال : أنا ربكم الأعلى؟ فقال : إنما يقول هذا عبد مثلك ، وفي ٢ : ٣١٦ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ما في معناه إلا «نازلت».

١٥٠

مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ..)هذه مما تدل صارحة بفصل فاصل بين وعد الإجابة وواقعها لموسى (عليه السلام).

ولما ذا هنا «دعوتكما» ولم يكن الداعي إلّا موسى؟ لأن هذه الرسالة واحدة فدعوة موسى هي بنفسها دعوة هارون كما وتلمح له «ربنا» حيث تعني جمعية رسولية متمثلة فيهما ، أم ولأن موسى دعى وهارون أمّن دعائه فهما ـ إذا ـ داعيان اثنان ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ، أم أنهما دعيا مهما لم يذكر منهما إلا دعاء موسى (٢)

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٩٠).

(جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) إجمال عن تفصيل في آيات أخرى تفصّل خارقة هذه المجاوزة (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) في البحر لما رأوهم مجاوزين ، فخوف البحر لم يكن ليخوّفهم تخيلا منهم أنهم على ضعفهم جاوزوه ، والطريق بعد يبس ، فلما ذا لا نجاوزه نحن على قوتنا ، ثم «أنا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣١٦ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): دعى موسى وأمّن هارون (عليهما السلام) وأمنت الملائكة فقال الله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) ومن غزا في سبيل الله استجيبت له كما استجيبت لكما يوم القيامة.

(٢) المصدر في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في طائل القصة : فمضى موسى وأصحابه حتى قطعوا البحر وأدركهم آل فرعون فلما نظروا إلى البحر قالوا لفرعون : ما تعجب مما ترى؟ قال : أنا فعلت هذا فمروا وامضوا فيه ، فلما توسط فرعون ومن معه أمر الله البحر فأطبق عليهم فغرقهم أجمعين فلما أدرك فرعون الغرق (قالَ آمَنْتُ ..).

١٥١

فعلت هذا فمروا وامضوا» (١) كيد أخير كاد به نفسه وقومه.

وهنا (بَغْياً وَعَدْواً) تقرران مدى الملاحقة الصامدة الباغية العادية ، وقد تعني «عدوا» بعد «بغيا» مع العداء ، العد والركض أنهم أسرعوا في ذلك الإتباع فأسرع في إدراكهم الغرق.

وهنا «أدركهم» دون «أغرقهم» تلمح أن الغرق استقبلهم محيطا بهم بعد ما تقدموا في البحر لحد لم يبق لهم مجال الرجوع ، فقد كان اتباعا في الغور ، تجاوزا عن الساهل.

أجل «أدركه» إلى درّك النار في نفس البحر برزخيا وكما كان لقوم نوح : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٧١ : ٢٥) (٢).

(أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) فعاين الموت ولم يعد يملك نجاة على قوته! فبرزت فطرته المحجوبة ، وظهرت عقليته المدخولة المعقولة ف (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فلقد سقطت عن الباغية الطاغية كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه هائلة مخيفة ساقطا من علوائه ، هابطا من غلوائه ، فتضاءل وتصاغر واستخذى ، فسقط في يديه ، وزاد ـ بادعائه قولا ـ على إيمانه إسلامه وهو بالغ الإيمان لحد التسليم لرب العالمين ، ولكن :

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٩١).

«ءآلئن» وقد مضى يوم خلاص ولات حين مناص؟ الآن حيث لا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣١٨ في تفسير العياشي عن أبي عمرو عن بعض أصحابنا يرفعه قال : لما صار موسى في البحر اتبعه فرعون وجنوده ، قال : فتهيب فرس فرعون أن يدخل البحر فتمثل له جبرئيل (عليه السلام) على رمكة فلما رأى فرس فرعون الرمكة اتبعها فدخل البحر هو وأصحابه فغرقوا.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣١٦ ، أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. أقول ورواه عنه مثله ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر باختلاف يسير ، وهي مشتركة في ضرب الحماة.

١٥٢

إختيار ولا فرار؟ الآن وقد سبق العصيان والاستكبار ، الآن (وَقَدْ عَصَيْتَ) في مجالتك الفاسحة ما استطعت (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) طول حياتك؟ والإيمان عند رؤية البأس قاحل ماحل لا أصل له إلّا بغية الخلاص؟ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥) (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٦ : ١٥٨) (١).

وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «قال لي جبرئيل ما أبغضت شيئا من خلق الله ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد ، وما أبغضت شيئا أشد غضبا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله أشد غضبا مني ..» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣١٦ عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده إلى إبراهيم بن محمد الهمداني قال قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): لأي علة غرق الله تعالى فرعون وقد آمن به وأقر بتوحيده ، قال : لأنه آمن عند رؤية البأس والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول وذلك حكم الله تعالى ذكره في السلف والخلف قال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ..) وقال (يَوْمَ يَأْتِي ..) وهكذا فرعون لما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فقيل له : الآن وقد عصيت .. وقد كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد قد لبسه على بدنه فلما غرق ألقاه الله تعالى على نجوة من الأرض ببدنه ليكون لمن بعده علامة فيرونه مع تثقله بالحديد على مرتفع من الأرض وسبيل الثقل أن يرسب ولا يرتفع فكان ذلك آية وعلامة ...».

(٢) نور الثقلين ٢ : ٣١٨ في تفسير القمي في الآية : فإن موسى أخبر بني إسرائيل أن الله عزّ وجلّ قد أغرق فرعون فلم يصدقوه فأمر الله عزّ وجلّ البحر فلفظ به على ساحل البحر حتى رأوه ميتا.

وفيه عن أبي جعفر (عليه السلام): فلما توسط فرعون ومن معه أمر الله البحر فأطبق عليهم فغرقهم أجمعين ... أن قوم فرعون ذهبوا أجمعين في البحر فلم ير منهم أحد في البحر هووا إلى النار فأما فرعون فنبذه الله عزّ وجلّ وحده فألقاه بالساحل لينظروا إليه وليعرفوه ـ

١٥٣

فالأصل في عدم قبول توبته هو طائل العصيان والإفساد حتى رأى البأس ، فلم تكن توبته صالحة تعني صالح الإيمان ، وحتى لو كان فكيف تقبل مع تحليق حياته على كل إفساد وعصيان ، ثم لم يكن ذلك إيمانا حيث (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) دون «فتاب» مما يدل ، وتراه بعد إنما لم تقبل توبته حيث قصد من (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) العجل الذي عبدوه؟ وإنما عبدوه أم أرادوها بعد ما جاوزوا البحر وغرق فرعون! : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ...) (٧ : ١٣٨) فهنا أرادوها ثم عبدوها ، لما غاب عنهم موسى لميقات ربه : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (٧ : ١٤٧).

أم قصد منه إلها مجسدا كما تجسّده التوراة؟ و «الآن» سؤال تنديد بتأخير الإيمان ، ولو لم يكن صالحا في أصله لكان التنديد بغير صالح الإيمان دون تأخيره ، فإنما هو الإيمان مخافة البأس ، فلو كان قبل الآن لكان صالحا يقبل ، وهنا تتبين حال سائر الاحتمال ك : أنه ورّى في قوله فأراد ب (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) نفسه ، حيث عبدهم لنفسه فترة فتيرة من الزمن الذي استعبدهم فيه.

كلّا! وإنما قصد به «الله» ولكن «قال آمنت» دون اخبار بات من الله أنه «آمن» وحتى لو آمن ف «ءآلئن» وقد مضى يوم خلاص ولات حين مناص (وَقَدْ عَصَيْتَ) طول حياتك النكدة (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ثالوث منحوس ليس عنه خلوص.

فهنا تأخير التوبة عن الحالة غير المخيفة إلى المخيفة ، هو مما يدخلها فيما لا يقبل وإن كانت صالحة ، ف (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ

__________________

ـ ليكون لمن خلفه آية ولئلا يشك أحد في هلاكه أنهم كانوا اتخذوه ربا فأراهم الله عزّ وجلّ إياه جيفة ملقاة بالساحل ليكون لمن خلفه عبرة وعظة يقول الله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

١٥٤

عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٤ : ١٧ ـ ١٨).

فتأخير الإيمان إلى رؤية البأس ، وهو إيمان للبأس ، وقد سبقه كل عصيان وإفساد ، ذلك مما يمنع باتّا لا حول عنه عن قبول التوبة ، فقد يقبل صالح الإيمان عند رؤية البأس : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٠ : ٩٨) ولكنه إذا كان صادقا ولم يعش صاحبه كل المظلمات والعصيانات.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢).

(نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) دون روحك ، ودون كل حياتك خلاصا عن الغرق «ننجيك» لا نجاة لك ، بل نجاة لمن ألّهك عما كانوا يظنون «لتكون» ببدنك «لمن خلف» حاضرين ومستقبلين «آية» مجسدة ربانية تقضي على (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وتثبت أن الله هو الرب لا سواه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

إذا فالمفروض بقاء بدنه آية ، وكما نراه في دائرة الآثار العتيقة بالقاهرة ، ولقد رأيت جثمان فرعون فيها وكان بجنبي مستشرق مسيحي من إنجلترا فقلت له هذا ما أخبر عنه القرآن : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ..) فقال حائرا قلقا : ويكأن القرآن فيه كل غيب ، فلان للإيمان!.

هنا (لِمَنْ خَلْفَكَ) دون «قومك» وما أشبه ، تخلّف خلفا واسعا فيه من قوم فرعون ومن بني إسرائيل (١) الحاضرين ومن خلفهم إلى ما شاء

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣١٩ في علل الشرايع بسند متصل عن محمد بن سعيد الإذخري وكان ممن يصحب موسى بن محمد بن محمد بن علي الرضا أن موسى أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فيها : وأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا

١٥٥

الله ، وذلك البدن حتى الآن باق بمعرض الآثار القديمة في القاهرة.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣).

«بوأنا» بواء روحيا وحيويا بما بعثنا فيهم رسلا ولا سيما موسى (عليه السلام) حيث نجاهم من فرعون ، وجعلناهم ملوكا يملكون أنفسهم بعد ما كانوا يملكون ، ويقدّرون أمورهم بعد ما كانوا يقدّرون ويغدرون.

وإفراد (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قد يعني جملة حياتهم التي تحولت من جحيم الاستعباد إلى جنة الإبعاد عن فرعون وملئه ، ثم (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بعد الحياة الخبيثة الجائعة المائعة (فَمَا اخْتَلَفُوا) في الحق (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فاختلفوا فيه بغيا بينهم ، إذ كانوا قبل بواء الصدق ورزق الطيبات ضلّالا لا يختلفون على محور الحق ولمّا يأتيهم ، فلما (جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بالشرعة التوراتية والبلاغات الموسوية اختلفوا فيها على علم

__________________

أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس قد شك فيما أنزل الله عزّ وجلّ إليه وإن كان المخاطب غيره فعلى غيره إذا أنزل الكتاب؟ قال موسى : فسألت أخي علي بن محمد (عليه السلام) عن ذلك قال : أما قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ..) فإن المخاطب بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن في شك مما أنزل الله عزّ وجلّ ولكن قالت الجهلة : كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة أنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك بمحضر من الجهلة هل بعث الله رسولا قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال «وإن كنت في شك» ولم يكن ، ولكن ليتبعهم كما قال له (صلى الله عليه وآله وسلم): «فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين» ولو قال تعالى : نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة وقد عرف أن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤد عنه رسالته وما هو من الكاذبين وكذلك عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه.

١٥٦

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قضاء بحكم عادل كما هنا ، وبواقع الجزاء المقضي هناك.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما

١٥٧

تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا

١٥٨

عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)(٩٤).

أترى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أو أمكن أن يكون في شك مما أنزل إليه؟ حتى يخاطب هكذا أمام العالمين ، ومنهم المرتابون في أمره ، المكذبون إياه؟ أم هل يرتاب ، وكيف يجوز عليه الشك والامتراء وقد باشر فؤاده برد اليقين ، تلقيا عن الله بما أنزل به الروح الأمين على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين؟! والشاك في وحي القرآن ليس مؤمنا فضلا عن يكون نبيا هو إمام كافة النبيين؟!.

فهل المخاطب هنا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فليس في شك فيما أنزل الله عزّ وجلّ إليه! وإن كان المخاطب به غيره؟ فإلى غيره إذا أنزل الكتاب! فقد يكون الشك في أصل نزول الوحي إليه لأنه بشر يأكل ويمشي في الأسواق ، أمام المجاهيل الذين يتساءلون كيف ينزل الوحي على بشر (١).

ثم (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) لا تختص بمنزل الوحي الرسولي ، فقد يعني منزله الرسالي من المرسل إليهم وكما (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (٤ : ١٧٤) فكما (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) (٦٥ : ١٠) كذلك (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) مهما اختلف إلى عن إلى : ف (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ

__________________

(١). وهذه من شطحات الحداد البيروتي في ١ : ١٧٩ ـ القرآن والكتاب حيث يقول : إذا شك محمد فليسأل علماء الكتاب ، أليس هذا دليلا على أنهم اساتذته ، أجل فإحالة محمد نفسه على أهل الكتاب ليزيل شكوكه عندهم دليل قاطع لا مرد له أنهم اساتذته ومدرسوه.

١٥٩

وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (٢ : ١٣٦) حيث يجمع بين الإنزالين «إلى» مهما يفرد إلى المرسل إليهم أحيانا كما مضى وفي (إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٣ : ١٩٩) و (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) (٥ : ٥٩) (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) (٥ : ٦٦) وما أشبه من عشرات ، وأخرى يفرد «إلى» لمنازل الوحي الرسولية.

فقد يعني من «كنت» كل من هو في شك أو كاد فعليه أن يسأل الذين يقرءون الكتاب من قبله ، ليتأكد أن القرآن هو آكد الوحي الصادق الأمين حين يقاس إلى سائر الوحي ، إضافة إلى شهادة سائر الوحي على صدق القرآن ونبيه.

ولئن كان المخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أم هو معني مع سائر المكلفين فقد يعني قاطع البرهان المثبت لوحي القرآن لكل شاك فيه ، فهو معني من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، وكما في (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٦٨ : ١) حيث وحّد ثم جمع ليعلم أن الخطاب للأمة وليس الرسول إلا حاملا له كسائر رسالاته الربانية.

وكيف يشك وهو يوحى إليه بمثل هذه الآية ، فإن واقع الوحي هو واقع البرهان على صدقه!.

ثم وفيم يشك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ)؟ أشكا في أصل إنزاله؟ فقد (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ)! ولا يزيل شكه لو كان في شك منه مثل هذه الآية التي هي أيضا (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ)! إلّا أن يزيل شك شكا مثله ، بل والمزيل أضعف حيث يسند إلى الذين يقرءون الكتاب ، أم شكا في أنه نسخة عربية من الكتاب الإمام وأن علماء الكتاب هم أساتذته «فيما أنزلنا إليك» من هذه الترجمة؟ (١) ولا يشك أي عاقل

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣١٩ في العلل بإسناده إلى إبراهيم بن عمير رفعه إلى أحدهما (عليهما السلام) في الآية قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أشك لا أشك.

١٦٠