الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (٤٦ : ١٣).

ثم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعم المشركين إلى الكتابين ، بل والأصل هنا هم الكتابيون لمكان (كِتابُ مُوسى) فليس شديد التنديد هنا إلّا بهم ، فهل التوراة بعد إمام للقرآن؟ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)! وليس الكفر بالمأموم الفرع بعد الإيمان بالإمام الأصل مما تستحق به النار!.

فالأحزاب الدينية بمختلف مبادءها ، والأحزاب الإلحادية والشركية على اختلافها (مَنْ يَكْفُرْ) منهم «به» ـ وهو عشير بينات ثلاث وحشيرها ـ فالنار موعده فلا تك في مرية منه : القرآن ورسالتك به ، (إِنَّهُ الْحَقُّ) كله (مِنْ رَبِّكَ) مهما كان سائر الوحي أيضا حقا ، ولكن أين حق ينسخ حيث يتلوه حق آخر ، ثم ويحرف ، وهو شطر من الحق ، أين هو من «الحق» الذي لا ينسخ ولا يحرّف وهو خالد إلى يوم الدين ، جامعا حق الوحي السالف كله وفيه مزيد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بذلك الحق المتين المبين مقصرين أو قاصرين.

ولا يعني نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ريبة منه أنه ارتاب ، كيف و «هو على بينة من ربه» وإنما هو تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسرية عما قد يخالج نفسه المقدسة من أعباء الرسالة أمام المكذبين ، ثم وهو من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة».

ذلك ، فلا مجال لتخيلات حداد الواهية ، وتقولاته الساهية : أن هذه الآية تقرر إمامة التوراة للقرآن (١) وانه نسخة عربية للتورات ، رغم أن هذه الآية ونظيرتها : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى

__________________

(١) يقول الحداد في كتابه «القرآن والكتاب» عشرات المرات.

٢٦١

لِلْمُحْسِنِينَ) (٤٦ : ١٢) رغم أنهما تنديدان اثنان بالذين يكفرون بالقرآن (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) لهم (إِماماً وَرَحْمَةً) يدل في بشارات على صدق هذا القرآن ونبيه.

ثم الضمير في (مِنْ قَبْلِهِ) لا يرجع إلا إلى المذكور قبله فيهما وهو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد كان على بينة من ربه إذ جاء (وَمِنْ قَبْلِهِ) قبل أن يأتي (كِتابُ مُوسى) بينة سابقة على صدقه (إِماماً وَرَحْمَةً) للذين هم به يؤمنون ، فقضية الإيمان بالتوراة الذي هو لهم إمام الائتمام بها في تصديق هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرآنه المبين وتبيانه المتين.

فهو محفوف في هندسة هذه الرسالة الأخيرة بمثلث من البينات حاليا وماضيا ومستقبلا ، فهل أنتم بعد هذه البينات ممّن (يُؤْمِنُونَ بِهِ)؟ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) كمثل الحداد في دعاياته المتكررة في كتاباته أن : «التوراة إمام القرآن .. وهو تفصيل وتعريب للكتاب المقدس ...».

ذلك ، وبالرغم من آيات بينات تقرر الرسول إماما على كافة النبيين : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١).

وأنه شهيد الشهداء يوم يقوم الأشهاد : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ٨٩).

وأن دينه ظاهر على الدين كله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي

٢٦٢

التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٤٨ : ٢٩).

ثم القرآن يعرّف نفسه بالهيمنة الطليقة على سائر كتابات الوحي : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ..) (٥ : ٤٨).

وبأنه مبشر به في زبر الأولين : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٦ : ١٩٢ ـ ١٩٧).

هذه وعشرات أمثالها. الصريحة في استقلال وحي القرآن ، دونما استغلال سائر الوحي فيه ، وانه برسوله يفوق كل وحي وموحى إليه.

ذلك ، والقرآن يشهد بنفسه أنه أرقى بكثير من سائر كتابات السماء الأصيلة ، فضلا عن التحريفات والتناقضات الكثيرة التي تسربت إليها بأيدي التحريف والتجديف ، لحد وصلوها إلى مليون غلطا (١).

ذلك ، فقد (كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) منذ كان فطيما حتى ابتعث ، وإلى أن ارتحل إلى جوار رحمة ربه ، بمثلث من البينات ، رأس زوايتها القرآن ، والأخريان نفسيته قبل الرسالة وبعدها.

__________________

(١) يقول «ياركز» في ج ٥ من تفسيره ، إن في التوراة والإنجيل ثلاثين ألف غلطا ، والقسيس ميل أوصلها إلى نيف ومائة ألف غلط وكما يقول كريسباج ، ويقول «شولز» إنها لا تحصى ، وفي دائرة المعارف البريطانية والفرنسية أنها زهاء مليون غلطا ، وقد اعترف بهذه الأغلاط والاختلافات علماء مثل : اكهارن ـ كيسر ـ هيس ـ ديوت ـ ويز ـ فرش (راجع كتابنا) المقارنات العلمية والكتابية بين الكتب السماوية تجد فيه قولا فصلا بهذا الصدد.

٢٦٣

ثم (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) في زاويتين ، صغراها الإمام علي (عليه السلام) ما عاش زمنه وبعده ، وكبراها القرآن حيث ظل شاهدا من الله لرسالته الخالدة.

(وَمِنْ قَبْلُ) من قبله كتاب موسى «كأصل» إماما ورحمة ، وكفرع كتاب عيسى وسائر كتابات الوحي.

إذا فضمير الغائب في «منه» قد يرجع إلى الله فقط وهو في شاهد القرآن فإنه ليس إلا من الله ، أم إلى الله كأصل وإليه كفرع ، وهو في شاهد الإمام علي (عليه السلام) والأئمة من ولده المعصومين ، فطالما الثقل الأكبر مستمر بنفسه ، فالأصغر هو مستمر بصنيعه الذي هو كنفسه.

فقد انحصر (شاهِدٌ مِنْهُ) في القرآن وعلي ، وانحسر عن جبرئيل ومن أشبه ، والشاهدان هما المعنيان من (شاهِدٌ مِنْهُ) حيث يعنى منه جنس الشاهد ، وقد يملح الإفراد إلى أصل (شاهِدٌ مِنْهُ) وهو القرآن ، وآيات شهادة الله في قرآنه تشهد لعناية شاهد القرآن من (شاهِدٌ مِنْهُ) فليس تفسير (شاهِدٌ مِنْهُ) بالإمام علي (عليه السلام) إلا تبنيا لمصداق ثان هو تجسيد للشاهد الأول ، كما وان الرسول بينة من ربه كما القرآن لأنه هو القرآن!.

وإنما تأتي متواتر الروايات شاهدة على أن عليا (عليه السلام) هو (شاهِدٌ مِنْهُ) دون القرآن ، حيث الشهادة القرآنية ثابتة متفق عليها ، فهنا تعني الروايات إلحاق مصداق مختلف فيه بمصداق متفق عليه.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٨).

(مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) رسوليا أو رساليا ، أن ينسب إليه تعالى رسالة أو وحيا أو حكما بفرية ، وأظلمهم هو الجامع بين هذه الثلاث ، فرية على الله كذبا في ذلك المثلث ، وهو مأخوذ بأخذة ربانية قاسية قاضية في الأولى والآخرة ، فهنا : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ..) (٦٩ : ٤٦) قضية واجب الحفاظ على السفارة

٢٦٤

الربانية ، وهناك (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ...) وقد ينادى فيهما (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بحق الحق وبحق الخلق وبحق أنفسهم ، فهم في ثالوث منحوس من الظلم وما أظلمه.

و «الأشهاد» هنا هم شهداء الأعمال بما أشهدهم الله عليها ، وأشهدهم هو إمامهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) عليهم من أنفسهم وجئنا بك على هؤلاء شهيدا» (١٦ : ٨٩).

ثم والأمة من عترته (عليهم السلام) : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢ : ١٤٣) ـ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ ... مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ..) (٢٢ : ٧٨) والمجتبون الرساليون من ذرية إبراهيم هم المعصومون من عترة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).

ولأن «الظالمين» هنا عامة طليقة فهل تشمل كافة الظالمين وإن كانت دركات اللعنة عليهم حسب دركاتهم في الظلم ، كما أن درجات الرحمة حسب الدرجات في العدل؟.

كلا! فإن كل ظلم لا يخلّف لعنة من الله ، واللعنات القرآنية على الظالمين مختصة حسب القرائن بأهل النار منهم ، وهنا الآية التالية تختصها بهم :

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(١٩).

(يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) رسوليا ورساليا وكتابا ودعوة ودعاية وأية سبيل من سبل الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) طلبا لإعوجاجها عن الله إلى

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٤٧ في المناقب لابن شهر آشوب عن الباقر (عليه السلام) في الآية قال : نحن الأشهاد.

٢٦٥

الشيطان ، فقد يبغون سبيل الله نفسها عوجا أن يصوروها بصورة الباطل فيخيّل إلى الجاهل أنه باطل ، وأخرى يبغون السبيل كلها عوجا ، فضمير التأنيث راجع إلى سبيل الله في الأول ، وإلى سبيل ـ فقط ـ في الثاني ، (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) كأن ليس هناك كافر بالآخرة إلّا إياهم ، حيث الصادّ عن سبيل الله وهو يبغيها عوجا بين منكر لله ، أم ـ لأقل تقدير ـ منكر بالآخرة.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)(٢٠).

«أولئك» الذين يصدون عن سبيل الله (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) الله ورسل الله والمؤمنين بالله (فِي الْأَرْضِ) مهما أرعدوا وأبرقوا (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يوالونهم في صدهم ، ثم و (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) قدر ما يضاعفون في صدهم عن سبيل الله ، خروجا لهم عنها وإخراجا منها للسالكين فيها ، وهم (ما كانُوا) يوم الدنيا (يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) للحق إذ صمّوا عنه حتى صمّت آذان قلوبهم (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) الحق إذ تعاموا عنها (فَعَمُوا وَصَمُّوا) (٥ : ٧١) و (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٤١ : ٢٣) فقد «هديناهم (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٤١ : ١٧) فأعميناهم بما عموا وصممناهم بما صموا.

وترى لما ذا هنا الإختصاص بالأرض في سلبية الإعجاز؟ لأن العاجز من الإعجاز في الأرض التي يعيشها هو أعجز من الإعجاز في السماء : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٢٩ : ٢٢).

ثم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) قد تعني «ما» فيهما كلا النافية والموصولة أو الموصوفة ، فقد يضاعف لهم العذاب لكونهم مستطيعي السمع والإبصار وهم لا يسمعون أو يبصرون ، تركا للتكليف المستطاع ، كما ويضاعف لهم العذاب إذ تركوا السمع والأبصار لحد بطل سمعهم وإبصارهم بما تركوا و (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى

٢٦٦

سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٢ : ٧ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) (٦ : ٤٦) وقد يعنى ثالث هو نفي استطاعة السمع والإبصار عن أولياءهم من دون الله ، وأحسن الوجوه هو الجمع بين الجميع جمعا بين صالحة المعاني.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)(٢٢).

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦٧ : ١١) فقد (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حين خسروا سمعهم وأبصارهم ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ضلالا يوم القيامة حيث يواجهون شركاءهم وهم لهم منكرون ، ف «لا جرم» دونما إفلات أو إلفات (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ف (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٣) ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٧ : ٥).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٣).

الخبت هو المطمئن من الأرض ، فالإخبات هو قصده ف «إلى ربهم» تعني الاطمئنان بكامل التذلل لله بكل الطاقات ، فكما أن إخبات البعير هو ضرب أنفه على الأرض ، كذلك (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لله ، هم المخبتون إلى ربهم ، ضار بين أنوفهم على أرض الذل ، خروجا عن كل كبر واستكبار إلى كامل الذل والصغار.

ذلك ، فلا إخبات لهم في الحياة إلّا إلى ربهم ، فلربهم يخبتون وإلى ربهم يطمئنون ، حيث هم ذاكرون الله كثيرا بقالهم وحالهم وأعمالهم فهم مطمئنون في زعزعزة الحياة ، فآمنون من بأساء وضرّاء الممات إلى

٢٦٧

سرّاء الحياة بذكر الله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣ : ٢٨).

فالذين يعيشون مثلث الإيمان وعمل الإيمان والإخبات إلى الرحيم الرحمان هم من أصحاب الجنان (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

والإخبات هو التسليم (١) بعد سليم الإيمان وعمل الإيمان ، التسليم الطليق لله دون سواه ، (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٢٢ : ٣٤) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢ : ٥٤).

أجل فالمخبتون إلى ربهم هم (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) «وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه ، يقطعون به أيام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون ، فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة ، ومجالسهم المشهودة ، وقد نشروا دواوين أعمالهم ، وفزعوا لمحاسبة أنفهسم عن كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصّروا عنها ، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها ، وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم ، فضعفوا عن الاستقلال بها ، فنشجوا نشيجا ، وتجاوبوا نحيبا ، يعجّون إلى ربهم من مقام ندم واعتراف ، لرأيت أعلام هدى ، ومصابيح دجى ، قد حفّت بهم

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٤٧ عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : إن عندنا رجلا يقال له كليب فلا يجيء عنكم شيء إلا قال : أنا أسلم ، فسميناه كليب تسليم ، قال : فترحم عليه ثم قال : أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا ، فقال : هو والله إلا خبات قول الله عزّ وجلّ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ..).

٢٦٨

الملائكة ، وتنزلت عليهم السكينة ، وفتحت لهم أبواب السماء ، وأعدت لهم مقاعد الكرامات ، في معقد اطّلع الله عليهم فيه ، فرضي سعيهم ، وحمد مقامهم ، يتنسّمون بدعائه روح التجاوز ، رهائن فاقة إلى فضله ، وأسارى ذلة لعظمته ، جرح طول الأسى قلوبهم ، وطول البكاء عيونهم ، لكل باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة ، يسألون من لا تضيق لديه المنادح ، ولا يخيب عليه الراغبون ، فحاسب نفسك بنفسك فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك» (٢٢٠).

ذلك ، ومن قضايا الإخبات إلى الرب ألا تحب الإطراء لنفسك ، فحين يسمع إمام المتقين وأمير المؤمنين (عليه السلام) من يكثر الثناء عليه ذاكرا سمعه له وطاعته يقول (عليه السلام):

«إن من حق من عظم جلال الله في نفسه ، وجل موضعه من قلبه ، أن تصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه ، وإن من أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ، ولطف إحسانه إليه ، فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلّا ازداد حق الله عليه عظما ـ

وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حبّ الفخر ، ويوضع أمرهم على الكبر ، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء ، واستماع الثناء ، ولست بحمد الله كذلك ، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء ، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء ، فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أداءها ، وفرائض لا بد من إمضاءها ـ

فلا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ، فإنه من استثقل الحق أن يقال له ، أو العدل أن يعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن من فعلي ، إلّا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فإنما

٢٦٩

أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره ، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا ، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى» (من الخطبة ٢٠٧).

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤).

صورة حسية تتجسم فيها مثل الفريقين : فريق الكفر والإيمان ، فالأول كالأعمى والأصم حيث لا يستطيع الإبصار والسمع امتناعا باختيار ، والثاني كالبصير والسميع حيث يستطيعهما إمكانا باختيار فيسمع ويبصر.

فالسمع والبصر إنسانيا هما أدوات موصلة إلى العقل والقلب ، فالذين يصدون عن أبصارهم وسمعهم آيات الله الآفاقية ، هم يصبحون في أنفسهم صمّا عمين ، وهكذا يحشرون يوم القيامة كما حشروا الحياة الدنيا : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ..) (٢٠ : ١٢٤).

ذلك ، وإن طول هذه الحملة المذكرة القارعة على الصمّ العمي ، وتنوع الإشارات والتصريحات واللفتات والإيقاعات ، إن هذا كله يوحي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، أمام الثلة الكافرة ، في تلك الفترة الفتيرة من تاريخ الدعوات الرسالية ، فتصوّر لنا حاجة الموقف إلى حركة في معركة إيجابية ، تقرر لكتلة الإيمان قرارا حاسما جاسما أمام كافة العرقلات بمختلف ألوانها.

فقد لا يتذوّق هذا القرآن إلّا من يخوض أمثال هذه المعارك ، دون القاعدين الذين يدرسونه بمختلف الدراسات ، إذ لا يملكون وجدانا صالحا من حق القرآن وحقيقته في تلك القعدة الباردة.

فلا بد من خوض المعارك الواقعية حين نخوض متأملين في آي الذكر الحكيم ، تجاوبا بين الحركة الدراسية والواقعية ، تطبيقا لهذا القرآن

٢٧٠

في الواقع المعاش ، دون انعزالية عن الواقعيات إلى تصورات مهما كانت صالحة ، فإن ميدان الدعوة القرآنية ميدان نضال في معترك الحياة ، دون إخلادا ـ فقط ـ إلى تصورات وتخيلات ، ولا سيما التي لا واقع لها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي

٢٧١

مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)

٢٧٢

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ

٢٧٣

فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)

خمسة وعشرون آية تتحدث عن قصة نوح (عليه السلام) مع قومه بقول فصل لا يقل عن سورة نوح نفسه إلّا بثلاث آيات ، ولكنها أكثر منها استعراضا لأصول دعوته وحواره طول بلاغه حتى غرقهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(٢٦).

هذه الدعوة الأولى الرسالية بين أولي العزم من الرسل ، بازغة كسائر الدعوات الرسالية بالأصول الثلاثة ، ف (أَرْسَلْنا ... إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)هي أصل الرسالة ومسئوليتها ، ثم (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) هي أصل التوحيد عبارة أخرى عن كلمة الإخلاص (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ومن ثم (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) هي أصل المعاد.

٢٧٤

وهنا (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) دليل أنهم كانوا معترفين بالله مشركين به ما سواه ، وتوحيد العبودية للإله الأصل هو من القضايا التي قياساتها معها ، حيث الإشراك بالله ظلم عظيم فطريا وعقليا وفي كافة الموازين الإنسانية بل والحيوانية ، وحتى أدنى شعور لأدنى حشرة!.

وهنا (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) خلاصة وكلاسة من رسالته كلها ، وعلّها خبر ل «ورسالته إني ـ أو ـ قال : إني ..» ثم بيّن نذارته بالقطاعات التالية.

ولأن عبادة الله بحاجة إلى شرعة لها من الله فقد كانت له شرعة فرعية متفرعة على هذه الأصول الثلاثة ، مهما كانت محدودة بحدود الحاجات والإمكانات (١).

وهنا (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) قد تعني إلى عذاب الأخرى عذاب الاستئصال في الأولى وكما تطلّبوه منه : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢).

وقد ذكر «نوح» (عليه السلام) بدعوته في (٤٣) موضعا من الذكر الحكيم ضمن (٢٩) سورة مما يدل على هامة دعوته ، وهنا كأهم ما يؤتى بذاكرة يذكر سبع مرات أكثر من كل سورة حتى سورة «نوح» حيث يذكر فيها ثلاث مرات ، فهنا تفاصيل لا توجد في غيرها من مسارح ذكراه.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا (٢) الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(٢٧).

هنا يقدّم (الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) ثالوث الأعذار الأعذار

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٤٨ في تفسير العياشي عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : كانت شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد وهي الفطرة التي فطر الناس عليها وأخذ ميثاقه على نوح (عليه السلام) والنبيين أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأمر بالصلاة والأمر والنهي والحرام والحلال ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرض مواريث فهذه شريعته.

٢٧٥

علّهم ينجون من كرور دعوته ووفور دعايته وهي : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) في البشرية ، ولا بد أن يكون الرسول إلى البشر من صنف هو أعلى من البشر كالملائكة ـ كما يقوله البراهمة ـ متغافلين أن الملائكة ليسوا كأصل أفضل من البشر ، وحتى لو كانوا أفضل منه ، ففي البشر نفسه تفاضلات من الناحية الروحية كسائر التفاضلات ، أو ليس المتحكم على جمع مفضلا عليهم طوعا أو كرها؟ أم لا يتفاضلون أبدا فيما بينهم أنفسهم بالقيم الزائفة وهم أمثال في البشرية؟. ولكنهم لما لم يجدوا في نوح مقياس الفضيلة الظاهرة أنكروا رسالته الربانية.

ثم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) وهو الرأي البادي الأول ، قضية بادي النظر ، رغم أن بادي الرأي هو دون تأمل ونضج ، لا يعتمد عليه ، فقد أجابوا عن حجتهم هذه اللجة ب (بادِيَ الرَّأْيِ).

فلئن اتبعك أفاضلنا بادي الرأي لكنّا نفضلك علينا رغم أنك بشر مثلنا.

فمن ثم (ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) تتفضلون به علينا بالرسالة ، لا فيك يا نوح ولا في أتباعك القلة الذليلة الرذيلة.

وهنا «ما نرى» في ثالوثها ، سناد إلى عدم الرؤية البادية وهي الحسية الخسيسة التي يتبناها الحسيون الناكرون لما وراء الحس ، ثم «بادى الرأي» وهو الرأي دون غور وتأمل الذي مجاله وراء الحس أم والحس فيما يحتاج إلى تأمل ، ثم «نظنكم» سنادا إلى غير العلم في النكران.

وكيف تكذّب رسالة الله ب «ما نرى» «بادي الرأي» «نظنكم» وهو جهالة مثلثة مفلّسة؟!.

ف «ما نرى» الأولى تتبنى ظاهرة البشرية ، أننا لا نجدك إلّا مثلنا فيها ، فكيف تتفضل علينا ولا فضل لك علينا ، متجاهلين الفضائل الروحية غير الحسية.

و «ما نرى الثانية» تتبنى ظاهرة الفقر الذي يعبرون عنه بالرذالة ،

٢٧٦

وهو الفقر المادي الحسي ، متجاهلين الثروة الروحية التي تدعوا لإتباع الحق المبين.

و «ما نرى الثالثة» سلب لأي فضل وحتى الروحي إذ لا يرى حسيا ، ورؤية الفضائل الروحية هي رؤية عقلية روحية ، وليس «من فضل» تختص بالفضل الحسي لمكان «فضل» النكرة في سياق النفي من هؤلاء الذين يعنون سلب أي فضل مهما كان روحيا فهم لا يعتبرونه فضلا ، مجاراة مع نوح (عليه السلام) (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) (٢٣ : ٢٤).

ثم النتيجة (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) هي ظن يتبنى «ما نرى» في حقل سلب الرؤية الحسية (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

فلقد عمّيت على هؤلاء الأعمين أصل الفضيلة وهي الروحية ، زاعمين أن الفضيلة هي فقط الفضيلة في الحياة الدنيا بزخرفاتها وقواتها الحيوانية ، فحرموا أنفسهم من رحمة غالية ربانية.

ذلك رد العليّة المستكبرين من قومه كما هو رد سائر المستكبرين طول الزمان وعرض المكان ، اعتذارا جاهلا ماحلا قاحلا ليس ليقصد الجد ، وإنما هو للفرار عن المسئولية ، والقرار على الأريحية والإباحية الطليقة ، فحتى إذا أرادوا أن يعبدوا فهم عابدون ما أرادوا كما يشتهون ما لا يحملهم أو زار التكليف الذي يحدد شهواتهم ورغباتهم ، وأوضاره.

ذلك ، وفي استنكار رسالة البشر إلى البشر تغاض عن أهلية البشر لحمل الرسالة الربانية ، رغم أن الله خلقهم في أحسن تقويم ، ولكنهم يردون أنفسهم بأنفسهم إلى أسفل سافلين!.

هذا! وفي رسالة البشر إلى البشر تبجيل لهذا البشر أنه مكتف بنفسه في حمل الرسالة ، وهذه أقرب إلى القبول ، وأغرب عن الذّبول والأفول ، وأقوى حجة عند أرباب العقول.

ثم في تسمية الفقراء العزّل المظلومين أراذل رذالة من الرأي ، وثفالة

٢٧٧

من الوعي ، فإنما الأراذل هم الذين رذّلوهم وظلموهم وهضموهم حقوقهم ، فهم ـ إذا ـ أفاضل وليسوا أراذل ، واتّباعهم رسل الله هو بنفسه دليل على أن رسالات الله ناحيه ـ كأساس ـ منحى الحفاظ على حقوق المظلومين المهضومين ، فهم يعيشون تحت ظلالهم ، ويخرجون بذلك عن ضلالهم.

ثم في دمج نوح بمن اتبعوه من «الأراذل» ترذيل له نفسه ، فلو كان فضيلا لما اتبعه رذيل ، وأقل ما في الدور أننا (ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يفضلكم علينا بفضيلة الرسالة ، فالنتيجة : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) في دعوى الرسالة واتباعها ، فلا رسولكم رسول ولا أنتم مؤمنون برسول.

وهنا الجواب الحاسم ، القاصم ظهور المستكبرين ، يأتي في صيغة الاستفهام الاستنكار:

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)(٢٨).

هنا لا يحتّم ـ قضية حائطة الحوار وأدبه الأريب ـ أنه على بينة من ربه ، وإنما (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تقديما ل «أرأيتم» تحريضا لتحرّيهم عما يدعيه لكي يصدقوه على بينة أم يكذبوه على بينة ، حثا على إعمال الرأي في إمكانية كونه على بينة من ربه ، ومن ثم واقعه ، وقد كان واقعا عمّى عليهم بسوء تقصيرهم ، وتفسير هم لكيان نوح والذين آمنوا معه.

ثم (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) خاصة بين البشر وهي الرحمة الروحية المتميزة الرسالية بعصمتها وبلاغها ، أترون الله بخيلا أم عاجزا لا يستطيع على إتياني رحمة من عنده؟.

ف (كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تعني بينة الرسالة الربانية الخاصة ، البينة من حالي وفعالي وأعمالي وكما (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) حيث التربية الرسالية الربانية باهرة فينا ، ظاهرة علينا ، فهذه بينة البرهان ، وأما المبرهن عليه ف (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) تبينها اني (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) تلك البينة وهذه الرحمة إذ أنتم حاصرون الرحمة

٢٧٨

في المعطيات الحيوانية الظاهرة ، حاسرون عن المعطيات الإنسانية الزاهرة.

فلقد أعماكم عن هذه وتلك أنفسكم الأمارة بالسوء ، والشياطين المؤمّرون عليكم بالسوء ، فعميت أبصاركم ـ الفطرية والعقلية ، بل والحسية ـ عن إبصار الحق المرام ، فلا تبصر إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا (أَنُلْزِمُكُمُوها) رؤية للبينة فتصديقا للرحمة (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) والكاره للحق ليس ليكره على قبول الحق ولا سيما إذا (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) و (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ).

وبما أن الرحمة لا توصف بالعمى ، وإنما يوصف الناس بها عن تمييز مواقعها وإدراك مواضعها ، فلما وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك في القلب ، كما يقال : أدخلت الخاتم في أصبعي والمغفر في رأسي ، وإنما الداخل هو الأصبع والرأس.

أم إنها تعني أخفيت عليكم كما يقال : عمى عليّ خبرهم ، وعمي عليّ أثرهم ، أي خفي عني الخبر والأثر.

فيا عظماه لذلك الاتجاه في الإجابة عن المعترض القاسي حيث يخاطبهم خطاب الحنون ب «يا قوم» مرات في كل من القطاعات من حججه ، وبكل سماحة ومودة ، ثم «أرأيتم» تطلبا لرأيهم على ذبالة وعيهم خروجا عن الرؤية الحسية لفترة ، (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) شرطا دون تثبيت رغم ثابتها ، (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) : البينة والرحمة ، فلم تروهما فيّ ، فهل لكم أن تنكروها ـ إذا ـ فتكذبوني ، ثم (أَنُلْزِمُكُمُوها) إلزاما بغير حجة عميت عليكم (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) فلا دور للإلزام العقلي بينة ورحمة إذ عميت عليكم ثم لا دور للإلزام قلبيا (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ).

وهنا «أرأيتم» تكسح ثالوث «ما نرى» والناتج عنها : (.. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) تحريضا على الرؤية العاقلة وراء الحس وهي الرؤية الإنسانية

٢٧٩

المتميزة عن الحسية الحيوانية ، فقد وجههم إلى رؤية (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تتبين بالعقلية الإنسانية دون مجرد الحس.

وهكذا يتلطف نوح (عليه السلام) في توجيه أنظارهم وأبصارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم التي عميّت عليهم بما عمّوها على أنفسهم ، إعذارا لنفسه في نكرانه بينة الله ورحمته ، وحملا للمسؤولية كلها على عواتقهم بذلك التوجيه الوجيه الدقيق الرقيق ، الحقيق أن يكتب بالذهب.

فهذه طمأنة لصدق هذه الرسالة من ناحية البينة الصادقة والرحمة ، ثم من ناحية ثانية:

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٩).

هنا عدم سؤال المال إضافة إلى بينات الهدى هما طرفان طريفان وجناحان ظريفان للطائر القدسي الرسالي أثبتا رسالته دون أية ريبة.

فالداعية على غير بينة وإن لم يسأل أجرا على دعوته ، وسائل الأجر عليها إثقالا على المدعوين وإن كان على بينة من ربه ولن ، هما لا يطمئن بهما في الادعاء والدعوة والدعاية ، فإن الذي يسأل أجرا قد يدعو حسب مصلحية الأجر وقدره ، أم يهدف الحصول على المال بدعوته الرسالية ، والذي لا يسأل أجرا ولكنه ليس على بينة قد لا يسأل جذبا للنفوس الساذجة ، بل وهو يدفع لمن يتبعه أجرا كما هو دراج رائج بين دعاة الباطل.

ولكن الذي هو على بينة من ربّه ولا يسأل أجرا ، ليس ليكلف العقول ما لا حجة له ، ولا يكلف أصحاب العقول مالا وأجرا ، فإنما يدعو دعوة خالصة مريحة مربحة عن أعباء الجاهليات والهمجيات.

لذلك نرى أن الدعاة الرساليين ككل يلحّقون بينات رسالاتهم بعدم سؤال الأجر ، مما يكمل حججهم على المكلفين دونما إبقاء لأية عاذرة عقلية ولا مالية.

٢٨٠