الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

ذلك ، ولكن «ما اجتنبت الكبائر» (١) حيث الحسنة الكبيرة لا تذهب

__________________

ـ وسلم) قال : أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيئا؟ قالوا : لا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا ، وفيه أخرج الطبراني في الأوسط والصغير عن علي رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال : إني أصبت ذنبا فأعرض عنه فلما قضي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أليس قد صليت معنا هذه الصلاة وأحسنت لها الطهور؟ قال : بلى ، قال : فإنها كفارة ذلك.

(١) المصدر أخرج البزار عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ، أقول : ورواه مثله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكرة وسلمان الفارسي.

وفي نور الثقلين ٢ : ٤٠١ في أصول الكافي عن فضيل بن عثمان المرادي قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك ، يهم العبد بالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب له حسنة بحسن نيته وان هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وان هو عملها أجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عن أن يتبعها بحسنة تمحوها فإن الله عزّ وجلّ يقول : إن الحسنات يذهبن السيئات ، أو الاستغفار فإن هو قال : «استغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذا الجلال والإكرام وأتوب إليه لم يكتب عليه شيء وان مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات أكتب على الشقي المحروم» وفيه عن المجمع روى أصحابنا عن ابن محبوب عن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : واعلم انه ليس شيء أضر عاقبة ولا أسرع ندامة من الخطيئة وانه ليس شيء أشد طلبا ولا أسرع دركا للخطيئة من الحسنة ، أما إنها لتدرك الذنب العظيم القديم المنسّي عند صاحبه فتنحته وتسقطه وتذهب به بعد إثباته وذلك قوله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) وفيه روى عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول : إن عليا قال : سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : أرجى آية في كتاب الله : (أَقِمِ الصَّلاةَ ... إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ..) وفيه في كتاب ثواب الأعمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لا ـ

٤٢١

السيئة الكبيرة لمكان المكافئة ، وإنما تذهب الصغيرة لمكان الكفاح القوة.

ثم وكل حسنة تذهب سيئة تناسبها بالمواجهة ، دون أن تذهب حسنة واحدة كل السيئات (١) أم سيئة لا تناسبها في مواجهتها ، فحسنة الإنفاق تذهب سيئة تركه وحسنة النكاح المفروض تذهب سيئة النظر عن شهوة وهكذا.

نعم بعض الحسنات يذهبن جلّ السيئات أو كلها لقوتها وشمولها ، كحسنة التوحيد حيث تذهب كافة السيئات حالة الإشراك وهكذا.

ذلك ، و «ذلك» الذي نبّه عليه من واجب الاستقامة ، ومحرم الركون إلى الظالمين ، وإقام الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، وإن الحسنات يذهبن السيئات ، كل (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) الله كما (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢٠ : ١٤) فليأتمروا بأمره ولينتهوا عن نهيه ، وإذا سقطت من أيديهم تخلّفة عن شرعة الله فالذاكرون الله بعدها بندم فتوبة وأوبة إلى الله ، تذهب سيئاتهم هذه الحسنات.

ذلك ، ومن (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أن يتذاكروا ذلك السماح الرباني فيما بينهم ، إغماضا عن السيئات أمام الحسنات ، تأدبا بأدب الله.

فحين ترى مؤمنا تترجح حسناته على سيئاته ، ليس لك أن تحاسبه

__________________

ـ يغرك الناس من نفسك فإن الأمر يصل إليك دونهم ولا تقطع النهار بكذا أو كذا فإن معك من يحفظ عليك ولم أر شيئا قط أشد طلبا ولا أسرع دركا من الحسنة المحدثة للذنب القديم ولا تصغر شيئا من الخبر فإنك تراه غدا حيث يسرك ولا تصغر شيئا من الشر فإنك تراه غدا حيث يسوءك إن الله عزّ وجلّ يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠٢ في أمالي الشيخ الطوسي بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : وأن الله تعالى بكفر بكل حسنة سيئة قال الله عزّ وجلّ : إن الحسنات يذهبن السيئات.

٤٢٢

بسيئاته ، اللهم إلّا بموعظة حسنة ودعوة لينة أديبة أريبة.

وهكذا تصلح الجماعة المؤمنة وتتصالح في العشرة الإيمانية ، أخذا للحسنات بعين الإعتبار إيجابية في فعل كبائر الحسنات ، وسلبية في ترك كبائر السيئات ، على رقابة دائبة ورعاية أخوية ودّية ، ف ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (٤٩ : ١٠).

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥).

أجل والصبر الصالح الفالح ، غير الكالح ، هو أحسن زاد في هذه السفرة الخطرة ، الشاقة الطويلة المليئة بالأشلاء والدماء والحرمانات ، وهو بنفسه إحسان مع سائر الإحسان التي تقدم فيها (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

وهنا «اصبر» موجّها إلى خصوص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمكانته القيادية العظمى في الاستقامة المأمور بها ، (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (١٦ : ١٢٧) (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (٤٦ : ٣٥).

ف «رحم الله امرء جعل الصبر مطية نجاته» (الخطبة ٧٤) «فاستدركوا بقية أيامكم ، واصبروا لها أنفسكم» (٨٤) «فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلّا إيمانا ومضيّا على الحق ، وتسليما للأمر ، وصبرا على مضض الجراح» (١٢٠).

أجل ف ـ

«العمل العمل ، ثم النهاية النهاية ، والاستقامة الاستقامة ، ثم الصبر الصبر ، والورع الورع» (الخطبة ١٧٥).

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ)(١١٦).

(أُولُوا بَقِيَّةٍ) هم أصحاب البقية الرسالية الذين يحملونها بدعواتها ، ابتداء بالنهي عن الفساد في الأرض ، وهم حسب هذا النص قلة قليلة من الأمم الماضية.

٤٢٣

فهم (أُولُوا بَقِيَّةٍ) رسالية ، إبقاء لها بعد الرسل ، وهم ربانيّو كل أمة ، الحاملون مشاعل الهدى الرسالية ، عارفين الفساد في الأرض ، تاركين له ، ناهين عنه بكل إمكانياتهم الإيمانية.

ذلك ، ورغم أن المقربين السابقين وهم الرسل وخلفاؤهم وهم حلفاءهم المعصومون ، هم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٥٦ : ١٣ ـ ١٤) نرى معاكسة في أولي بقية أنهم قليل من الأولين وثلة من الآخرين ، للمدّ الزمني المديد لهذه الرسالة الأخيرة ، وقوة الدعوة والداعية أكثر من الأولين.

وهؤلاء الثلة هم المعنيون من (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣ : ١١٠) فالأمة الآمرة الناهية المخرجة للناس على مدار الزمن الرسالي ، هي درجات ، وأنتم الآمرون والناهون من هذه الأمة الأخيرة خير أمة آمرة ناهية أخرجت للناس.

وهنا «فلولا» حيث تعني «هلّا» هي استنكار على الأمم الغابرة بقلة أولي بقية فيهم ينهون عن الفساد في الأرض ، فالأمة التي يشيع فيها الفساد في أية صورة من صورة ، فتجد من ينهض لدفعه والدفاع عن الحق ، ليس ليأخذها الله بالعذاب المدمّر المزمجر ، وأما الأمم التي يشيع فيها الفساد ، ثم لا ينهض لحمل أعباء الدعوة الصالحة فيها ، المصلحة لها ، إلّا قليل غير كاف ، فقد تكون مأخوذة بشايع الفساد.

وهنا تنديد شديد بالذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فشلا في أولي بقية ، وتزايدا في الفساد وكساد المعرفة وعمل الصالحات ، ننقله

عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «عباد الله! إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء مؤجّلون ، ومدينون مقتضون ، أجل منقوص وعمل محفوظ ، فرب دائب مضيّع ، ورب كادح خاسر ـ

وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدبارا ، والشر فيه إلا إقبالا ، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعا ، فهذا أوان قويت عدّته ، وعمّت مكيدته ، وأمكنت فريسته ـ

٤٢٤

اضرب بطرفك حيث شئت من الناس ، فهل تبصر إلّا فقيرا يكابد فقرا ، أو غنيا بدّل نعمة الله كفرا ، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا ، أو متمردا عن سمع المواعظ وقرا ـ

أين خياركم وصلحاءكم ، وأحراركم وسمحائكم ، وأين المتورّعون في مكاسبهم ، والمتنزّهون في مذاهبهم ، أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية ، والعاجلة المنغّصة؟ وهل خلّفتم إلّا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان ، استصغارهم لقدرهم ، وذهابا عن ذكرهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ـ

ظهر الفساد فلا منكر مغيّر ، ولا زاجر مزدجر ، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ، وتكونوا أعزاء أولياءه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنته ، ولا تنال مرضاته إلّا بطاعته ، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به» (الخطبة ١٢٩) «فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي ، والحلماء لترك المناهي» (من الخطبة القاصعة).

أجل ، وإن سنة الله في هذه الأمم هي إهلاك ، إمّا بهلاك الاستئصال أو الانحلال والاختلال :

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)(١١٧)

«بظلم» هنا تعني بظلم من القرى ، لا بظلم منه تعالى فإنه لا يظلم أبدا أهل القرى وأهلها مفسدون ، فإنما الظلم المهلك لأهل القرى يختص بما لم يكن أهلها مصلحين ، وهو أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض حيث يبقون القرى على ظلمها تخليصا عن الاستئصال حيث النهي عن الفساد استحصال للبقاء ، ثم الله ينتقم من الظالمين المصرين على الظلم وينجي المصلحين.

وقد تعني «بظلم» طليقة عن فاعل خاص ، كلّ ظلم ، من ظالمي أهلها ، ومن مصلحيها ، ثم ومن الله سبحانه ، فمثلث سلب الظلم قد

٤٢٥

يعنى منه (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

ف «أهلها» هنا هم الآهلون للإصلاح ، وهم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، أم وهم كل أهلها إذا كانوا مصلحين بجانب ظلم منهم ، (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً).

ذلك ، ولكن النبيين المصلحين في القرى الظالمة ، وهم أهلها الخصوص ، لم يكن إصلاحهم ليمنع عن إهلاكهم كقوم عاد وثمود وفرعون وأضرابهم.

إذا ف «أهلها» هم بين كل آهليها ، أم وهم أولوا بقية في إصلاحهم تبقية للظالمين فيها على شرعة الله.

فما صدق (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فيهم كفاءة التبقية ، ما يكافح حدة الظلم ، إذا ف (ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ).

هنا (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) وفي الأنعام (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ)(١٣٠) حيث تعني الغفلة ـ قاصرة ومقصرة ـ غير العاندة ولا المعمّدة.

إذا فأولوا بقية شأنهم شأن التبقية لأهل القرى التي يعيشونها فيعيّشونها بما ينهون عن الفساد فيها ، إذ يخفّفون الفساد ، ويصلحون جمعا بما ينهون ، فيختص ـ إذا ـ استحقاق الهلاك بالمتمردين من أهل القرى مثل أصحاب السبت ، حيث نجى الذين ينهون عن السوء دون سواهم ، سواء العاملين السوء والتاركين النهي عن السوء.

فمثل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨ : ٢٥) قد يعني أولي بقية وهم الصالحون للأمر والنهي أن يتقوا فتنة شاملة تشملهم إذا لم يقوموا بشأن الأمر والنهي.

فمن أسباب الهلاك الشامل للقرى الاستمرار في الظلم لجموع ، والآخرون ساكتون ، ومن أسبابه لهلاك الظالمين فقط نهي أولي بقية وهم لا ينتهون ، فيشتدّ ـ إذا ـ عذابهم : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٦ : ٢٠٩).

٤٢٦

أجل فالمصلحون في القرى هم أولوا بقية فيها ، إبقاء لأهلها كلهم أم لهم أنفسهم ولغير الظالمين (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٢١ : ٩) (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٢٨ : ٥٩).

أجل والتناهي عن المنكر هو من أصول البقاء لأية أمة مهما كانت ظالمة حيث «أهلها ينصف بعضهم بعضا» (١) وينصح بعضهم بعضا.

وهكذا يصبح أصحاب الدعوة الصالحة ، المصلحة في خضمّ الفساد والإفساد ، يصبحون هم صمام الأمان وضمانة للأمم والشعوب ، وهذا مما يبرز قيمة الكفاح الصارم للدعاة إلى الله حيث يقفون للظلم والفساد بكل صورة ، فيحولون بين غضب الله وبين المغضبين الله.

وهنا إجابة عن سؤال لما ذا لم يجعل الناس أمة واحدة في تكوين وتشريع ، أن يسلكوا كلهم مسلكا واحدا دونما إختلاف ونشوز :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩).

ف «لو» تحيل ذلك الجعل الجاهل القاحل في ساحة الربوبية في حقلي التكوين والتشريع ، إذ (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨).

وفي حقل التكوين : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٣) ـ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٥٦ ـ أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل عن تفسير هذه الآية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : وأهلها ينصف بعضهم بعضا.

٤٢٧

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٤٢ : ٨).

ذلك ، ولأن الناس أمم في شرائع الله ، وأمم في إختيار الخير والشر على أية حال ، إذا ف (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) توحيدا لله وإشراكا بالله ، ثم وأهل التوحيد (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) تصديقا للشرعة الكتابية وتكذيبا ، ثم المصدقون لها مختلفون في ناسخها ومنسوخها ، ثم الأمة الأخيرة مختلفون في مذاهب شتى أيادي سبا ، ف (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بشتى الخلافات وشتاتها (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) وكما (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢ : ٢١٣).

ذلك ، فالاختلاف عن الدين الحق وفي الدين الحق ليس إلّا بغيا بعد مجيء البينات لإيضاح الحق ، ف (مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) هم الذين هداهم الله في خضم الخلافات إلى الحق المرام (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) وذلك هو الوحدة والرحمة والهداية وكما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥١ : ٥٦) عبادة كما يشاء ويرضى وهي الهدى والرحمة المعنية لهم.

وقول القائل : «ذلك» المذكر ليس ليشير إلّا إلى مذكر هو الإختلاف المستفاد من «مختلفين» دون الرحمة المستفادة من (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فقد خلقنا الله للاختلاف ، وكما حصل ذلك ببعث النبيين!.

إنه قول غائل مردود لفظيا ومعنويا ، فلفظيا نقول : ليست الرحمة مؤنثا حقيقيا حتى تستحق أداة التأنيث في ضمير راجع إليه أو إشارة وكما في (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧ : ٥٦) و (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (١٨ : ٩٨). ثم «الرحمة» هي أقرب المرجعين فهي أحرى

٤٢٨

ب «ذلك» وقد يشير «ذلك» إلى جعل الناس أمة واحدة باختيارهم ، وهو الرحمة العميمة المحلقة ـ إذا ـ على كل الناس على ضوء تطبيق شرعة الله ، أم هما معنيان ، والإشارة ب «ذلك» لمكان بعد المحتد وعلوّه ، البعيد عن تحقيقه الحقيق ، وهذا استخدام في الإشارة ما ألطفه.

وأما الإختلاف فهو بعيد لفظيا ومعنويا ، بعدا في كونه مشارا إليه ، وآخر في أنه خلاف الضرورة الربانية الحاكمة بضرورة الوحدة في عشرات من آيات الله البينات.

أفيكون «ذلك» المشيرة إلى العظيم العظيم في غاية الخلق ، هو الإختلاف الرذيل الرذيل ، المرفوض في محكمة الفطرة والعقلية الإنسانية والشرعة الربانية ، أم هو رحمة الوحدة الفضيلة الفضيلة ، المفروضة في كل الحقول! إذ (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥١ : ٥٦) (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ٢١).

أو ترى ربنا يندد بالاختلاف في الدين وعن الدين ، ويمدح الوحدة فيه ويأمر بها ، ثم يجعل غاية الخلق نفس الإختلاف؟.

وترى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) عما ذا يستثني؟ هل عن المجموعة ، أن من رحم ربك منهم لا يختلفون؟ وهم مختلفون مع أهل الباطل! نقول : الإختلاف المرفوض هنا هو الإختلاف عن الحق وفي الحق والتفرق في الدين : فقد (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) ومن رحم ربك لا يتفرقون في الدين ، بل هم متفقون فيه ، فالاختلاف المرفوض في الدين هو إتباع سائر السبل رفضا لسبيل الدين : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

ومن الإختلاف في الدين الشك فيه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ

٤٢٩

مُرِيبٍ) (١١ : ١١٠) ـ (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ. قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (٥١ : ١٠).

فالاختلاف المرفوض هو المقصّر ، فلا يشمل إختلاف أهل الحق مع من سواهم فإنه مفروض ، إنما هو اختلاف أهل الباطل فيما بينهم أنفسهم ومع أهل الحق ، واختلاف أهل الحق فيما بينهم دون عذر ، و «أهل الرحمة لا يختلفون في الدين» (١) فإن الله «خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمة فيرحمهم» (٢) ، فالرحمة المقصودة لعباد الله هي العبادة الموحّدة الموحّدة دون خلاف واختلاف مقصّر.

والإختلاف بين تقصير وقصور ، والأول هو المحظور أن يختلف الناس في الحق بعد ما جاءتهم البينات تغاضيا عنها ابتغاء أهواءهم ورغباتهم ، وإنما ذلك في أصل الشرعة وفروعها البينة.

والثاني هو الإختلاف قضية القصور الذاتي زمن غياب المعصومين (عليهم السلام) ، وذاك في فروع أحكامية قليلة قليلة جدا ، حيث الكتاب المبين والسنة البينة يزيلان أي اختلاف ، ويكسحان أي خلاف ، إلّا ما قصر القاصرون عن تفهمه.

ثم لا إختلاف معاندا في هذه القلة القليلة من الفروع الأحكامية فيما هي منتهى مبالغ الاجتهادات الصالحة ، وهنا يصلح القول : للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.

ذلك ، ومهما كانت أسباب الخلافات قاصرة ومقصرة بين الأمم السالفة كثيرة عسيرة ، فهي بين أمة القرآن قليلة يسيرة ، حيث القرآن ـ وهو المحور الأصيل ـ خالد على مر الزمن ، حاكما بين الأصيل والدخيل ، دون أي تحريف وتجديف.

فحين يؤصّل القرآن والسنة المؤيّدة به في الأصول الإسلامية

__________________

(١) المجازات النبوية للسيد الشريف الرضي (٧).

(٢) المصدر.

٤٣٠

وفروعها ، فقد تستأصل كافة الخلافات ، ولا سيما إذا كان (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) بين الرعيل الأعلى من الأمة الإسلامية ، والمفروض على كلّ منا رفض الإختلاف قدر الإمكانية ، محاولة بكل حول وقوة للحصول على الحق المرام ، ثم الحاصل عليه ، عليه توجيه الآخرين لينسلكوا في سلك الحق ، والمحور الأصيل هو الحصول على الحق لنفسك ، ومن ثم للآخرين ، إذا فوزر الإختلاف عن الدين وفي الدين ، ليس فقط على عواتق المتخلفين ، بل وكذلك على العارفين الحق ، الذين لا يحاولون التوحيد على الحق بدعوة الآخرين ، وتوجيههم إلى الحق المبين.

أجل ، وإن الله لم يخلقنا لنختلف ، بل خلقنا لنأتلف على ضوء فطرة الله وشرعة الله ، بعقلية سليمة ، حيث العقل الإنساني طائر قدسي يطير بجناحي الفطرة والشرعة الربانية ، إذا الشرعة تتبنى الفطرة كما العقل يتبناها ، بفارق أن العقل آخذة منها ومفكرة في مغزاها وأحكامها ومرماها ، والشرعة مبينة أخطاء العقل في أخذها ، شارحة لتفاصيل غير مبينة فيها.

فهذه زوايا ثلاث من هندسة الرسالة الربانية أنفسية وآفاقية ، هي متجاوبة مع بعضها البعض ، بفارق أن الأنفسيتين مستفيدتان من رسالة الوحي ومن سائر الآيات الآفاقية.

ثم (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهو مليء الورود ، فريق للمكوث في هذا الورود وبئس الورد المورود ، وفريق للنجاة بعد رؤية سجن الخاطئين ، ونعم الورد المورود ف (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١٩ : ٧٢) فالباقون فيها كثير والناجون عنها قليل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(٧ : ١٧٩).

ذلك ، وقد يعني «أجمعين» هنا فيما سبقت من كلمة ربك التي ألقاها إلى إبليس إذ : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ

٤٣١

الْمُخْلَصِينَ. قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨ : ٨٥).

وحصيلة البحث الأصيلة حول الآية كما يلي :

١ كون الناس أمة واحدة في تكوين العقيدة المسيّرة حقة أو باطلة هو من المستحيل في حكمة الله البالغة.

٢ الإختلاف في الدين مرفوض على أية حال ، وهو الإختلاف المقصّر ، ولأن آيات الله بينات هي للتدليل على الدين الحق ، فالمختلفون عنه أو فيه هم المقصرون ، والموحدون فيه هم أهل الرحمة الربانية.

٣ سائر الاختلافات التي هي طبيعة الحال في الطاقات والمعطيات ليست كأصل مقصرة إلّا إذا أوجبت اختلافا في الدين ، فعلى المكلفين أن يوحدوا عقيدة الدين رغم سائر الاختلافات التي هي خلقية قضية الحكمة : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢) فعليهم أن يتحروا عن رحمة ربك وهي الهداية الموحّدة الموحّدة رغم درجاتهم في معطيات.

٤ إنهم (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الدين (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ) الوحدة والرحمة «خلقهم» فقد خلقهم ليعبدوه في رحمة الوحدة ، فالعبادة رحمة ، والإختلاف فيها زحمة ، ثم الوحدة فيها رحمة فوق رحمة ، فالعبادة الموحّدة هي الغاية القصوى لخلق الخلق أجمعين.

ذلك وبالتالي عرض لمقاطع من خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول ضرورة الوحدة الإيمانية على ضوء دين الله :

«وإنما أنتم إخوان على دين الله ، ما فرق بينكم إلا خبث السرائر وسوء الضمائر ، فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون .. وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلّا مخافة أن يستقبله بمثله» (الخطبة ١١١).

٤٣٢

«وألزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة ، وإياكم والفرقة فإن الشاذّ من الناس للشيطان ، كما أن الشاذ من الغنم للذئب» (١٢٥).

«وألزموا ما عقد عليه حبل الجماعة وبنيت عليه أركان الطاعة» (١٤٩).

«فإياكم والتلوّن في دين الله ، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل ، وإن الله لم يعط أحدا بفرقة خيرا ، ممن مضى ولا ممن بقي» (١٧٤).

ذلك ، ويجمع جامع الواحدة الإسلامية قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلمون يتكافئ دمائهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليه أقصاهم وهم يد على من سواهم» (١).

فقد شبه (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في التضافر والتوازر والاجتماع والتزايد باليد الواحدة التي لا تخالف بعضها بعضا في البسط والقبض ، والرفع والخفض ، والإبرام والنقض ، ومن ناحية أخرى تعني اليد هنا القوة القاهرة ، وهي من قضايا ذلك التضافر ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط» (٢) واليد هنا هي الحفظ والرعاية والرحمة الخاصة الراصة.

ذلك ، فالاختلاف المقصر محظور والإختلاف القاصر غير محظور ، فالمختلفون في الفتيا لاختلافهم عن محور الكتاب والسنة هم المقصرون وقد يندد بهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله :

«ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ،

__________________

(١) في تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.

(٢)في المعاني بإسناده عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)؟ قال : «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» قال : وسألته عن قوله عزّ وجلّ : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال : خلقهم ..

٤٣٣

ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصّر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأداءه ، والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقال : فيه تبيان كل شيء ، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا إختلاف فيه ، فقال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلّا به» (الخطبة ١٨).

«أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواءهم ، كلامكم يوهي الصم الصّلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء .. ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، أغاليل بأضاليل ، دفاع ذي الدين المطول ، لا يمنع الضّيم الذليل ، ولا يدرك الحق إلّا بالجد ... المغرور والله من غرّرتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل ..» (الخطبة ٢٩).

«فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة ، والأهواء مؤتلفة ، والقلوب معتدلة ، والأيدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة ، ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين ، وملوكا على رقاب العالمين ، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتّت الألفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين وتفرقوا متحازبين ..» «فإن الله سبحانه قد أمتن على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنها أرجح من كل ثمن ، وأجل من كل خطر» (١٩٠).

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي

٤٣٤

هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١٢٠).

«وكلا» مما مضى ويأتي من أبناء (نَقُصُّ عَلَيْكَ) قصا تاريخيا صالحا (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) : هي أخبارهم ذات الفوائد العظيمة الجسيمة كما تقتضيه الحكمة الربانية الخاصة لتبنّي رسالتك (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) على ما أمرت به ومن تاب معك من الاستقامة.

فلقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يجد من قومه ، ومن انحرافات النفوس وأعباء الدعوة بين مختلف الخرافات المعرّقة في هذه النفوس ، كان يجد ما يحتاج إلى تسلية ربانية بقصّ أنباء الرسل ، ليجتاح ما قد يخلد بخلده المنير من تعب أمام هذه العراقيل ، أم يأس عن تأثير الدعوة الصالحة ، مع أنه هو الصابر الثابت المستمر الصامد ، ولكنه على كلّ حال عبد من عباد الله ، يحتاج إلى تسليات الله ، تثبتا له في تبكيت أعداء الله ، تثبيتا بأنباء الرسل ، وتثبيتا هو الأصل له بتنزيل القرآن عليه طول حياته الرسولية نجوما متتالية : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

ذلك ، ومن قبل أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحضير نفسه المقدسة لهبوط ذلك القول الثقيل الثقيل حيث يثقله ويثبته في دعوته : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧٣ : ١ ـ ٧).

ثم (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) القصص «الحقّ» و «في» «هذه» الآيات القرآنية ، و «هذه» الشرعة الأخيرة و «هذه» الحياة الدنيا ، (جاءَكَ الْحَقُ) كله ، ما لم يجئ لسائر الرسل ، فأنت ـ إذا ـ على الحق كله ، ثم وهو (مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) بهذه الرسالة السامية ، تعظهم بما سلف للسالفين ، وتذكّرهم ما يحق لهم من الحق من رب العالمين.

ذلك ، وإذا تكملت العدات القيمة بعداتها فيك وفي الذين تابوا معك ، فلا ضعف ولا فشل ولا فتور ، فلا خوف ـ إذا ـ من الذين كفروا

٤٣٥

بكل ما يعملون ضدك على مكانتهم وما يأملون ، وهنا الكلمة الفاصلة ، والمفاصلة الحاسمة الجاسمة والقاصمة لظهورهم أولئك الأعداء الألداء :

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١). وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٢٢).

«قل» كما قال أخ لك من قبل وهو شعيب : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)(٩٣) (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وهم الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢ : ٦) قل (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فقد تمت المفاصلة بيني وبينكم بعد تكملة الحجج كلها : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ...) فقد يؤمر رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما ينفض يديه من تبليغ رسالته كأبلغ ما يكون ، يؤمر بإعلان هذه المفاصلة بكل تهديد ، قطعا للخصام ولكل وئام أمام هؤلاء الخصام اللئام.

أجل ، فعلى ضوء العدّات الإيمانية وعدّاتها ، رسولية ورسالية ، استقامة في الداعية والدعوة ، وعدم الطغيان فيهما والانحراف عن جادتهما الجادّة ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا في هذه السفرة الطويلة الشاقة ، وإقام الصلاة زادا لراحلة السفرة ، والصبر على كل نائبة آئبة ، والمحاولة التامة لتجميع جميع القوات للوحدة الإيمانية التي هي رحمة مضاعفة ، وتذكرا لأنباء الرسل في دعواتهم.

بهذه البركات السبع تسكر كل دركات جحيم العرقلات الكافرة المتربصة كل دوائر السوء بالكتلة المؤمنة ، وبعد تكملة هذه السبع يحق لقبيل الإيمان أن يقول لقبيل الكفر في الطول التاريخي والعرض الجغرافي : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ) وأين عمل إيماني جبار من عمل كافر غدار (وَانْتَظِرُوا) العاقبة هنا وفي الأخرى (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) العاقبة فيهما.

ذلك ، ومن موارد الانتظار في الأولى بعد كافة التغلبات الإيمانية

٤٣٦

على الجبهة الكافرة هو انتظار الدولة المهدوية العالمية التي أخبرت بها الأمم بأسرها مليين وسواهم ، وكما هو مذكور في كتاباتهم ، وقد سجلناها في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣).

«ولله» دون سواه (غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «وإليه» لا سواه (يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) دون إبقاء ، إذا (فَاعْبُدْهُ) لا سواه (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) دون سواه (وَما رَبُّكَ) الذي رباك بهذه التربية القمة العالية (بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنت والمؤمنون معك في بلاغ الرسالة وتطبيقها ، ثم وهؤلاء الكفار الذين يؤمنون أو لا يؤمنون : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٣).

وبذلك الدور الختامي للسورة وهو عرض للدور الختامي للرسالة يطيب قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويثبت بغيب السماوات والأرض لله ورجوع الأمر كله إلى الله ، إذا «فاعبده» بكل جوانب العبودية ولا تفشل (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) في مزالق الدعوة إذ (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وهكذا يلتقي جمال التنسيق بكماله الفني لفظيا ومعنويا في البدء والختام (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

ذلك ومن «الموعظة القاصعة الناصعة ما يعظ به إمام الواعظين علي أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله : «أيها اليقن الكبير الذي قد لهزه القتير! كيف أنت إذا التحمت أطواق النار! بعظام الأعناق ، ونشبت الجوامع حتى أكلت لحوم السواعد ، فالله الله يا معشر العباد وأنتم

٤٣٧

سالمون في الصحة قبل السقم ، وفي الفسحة قبل الضيق ، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها ، أسهروا عيونكم ، وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا من أجسادكم ، فجودوا بها على أنفسكم ، ولا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) وقال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فلم يستنصركم من ذلّ ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد ، وإنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره ، وافق بهم رسله ، وأراهم ملائكته ، وأكرم أسماعكم أن تسمع حسيس نار أبدا ، وصان أجسادكم أن تلقى لغوبا ونصبا (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أقول ما تسمعون والله المستعان على نفسي وأنفسكم وهو حسبنا ونعم الوكيل» (الخطبة ١٨٢).

ومن قوله في وصية له خاصة للحسن (عليهما السلام) اختصارا فيما يلي :

«ومن الوالد الفان ، المقرّ للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيام ، ورميّة المصائب ، وعبد الدنيا وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ونصب الآفات ، وصريع الشهوات ، وخليفة الأموات ـ

أما بعد ، فإن فيما تبيّنت من إدبار الدنيا عني ، وجموح الدهر علي ، وإقبال الآخرة لي ، ما يزعني عن ذكر من سواي ، والاهتمام بما

٤٣٨

ورائي ، غير أني حيث تفرّد بي ـ دون هموم الناس ـ همّ نفسي ، فصدّقني رأيي ، وصرفني عن هواي ، وصرّح لي محض أمري ، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ، وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلي ، حتى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني ، وكأنّ الموت لو أتاك آتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك كتابي مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت ـ

فإني أوصيك بتقوى الله أي بنيّ ، ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله ، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به ـ

أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وبصّره فجائع الدنيا ، وحذّره صولة الدهر ، وفحش تقلب الليالي والأيام ، .. فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حق جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم ، وخض الغمرات للحق حيث كان ، وتفقّه في الدين ، وعوّد نفسك التصبّر على المكروه ، ونعم الخلق التصبّر في الحق ... ورأيت .. أن أبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله ، وشرايع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، ولا أجاوز ذلك بك إلى غيره .. وليس طالب الدين من خبط أو خلط .. وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ، ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك ، فاعتصم بالذي خلقك ، ورزقك وسواك ، فليكن له تعبدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك ... اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فأحبّ لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن لا تظلم ، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس

٤٣٩

ما ترضاه لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك ـ

واعلم أن الإعجاب ضدّ الصواب ، وآفة الألباب ، فاسع في كدحك ، ولا تكن خازنا لغيرك ، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك ـ

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء ، وتكفل لك بالإجابة .. ولم يجعل بينك وبينه من تحجبه عنك ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه .. ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه ، بما أذن لك من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنطك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية ، وربما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه ، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، ويفنى عنك وباله ، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له ـ

.. لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرّع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذّ مغبة ، ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك ، وخذ على عدوّك بالفضل فإنه أحلى الظفرين ، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما مّا ، ومن ظن بك خيرا فصدّق ظنه ، ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه ، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك ، ولا يكونن أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته ، ولا يكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ، فإنه يسعى في مضرته ونفعك ، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه ـ

والصديق من صدق غيبه ، والهوى شريك العمى ، ورب بعيد أقرب

٤٤٠