الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

تعني الزمنية ، والثانية قد تعني الرتبية بين خلق الأرواح القدسية ، وقد خلقت بأجسادها من «الماء» كما خلقت الأرواح من الأجساد ، كما تعنيه (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٢٣ : ١٤) على تفصيل مذكور عند تفسيرها وتفسير آية الروح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١٧ : ٨٥) فراجع.

فقد يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «وخلق عرشه على الماء» (١) و «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (٢) و «كان الله ولا شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر الحكيم كل شيء ثم خلق سبع سماوات ..» (٣) وهنا «لا شيء غيره» قد يعني تفصيل الخلق دون إجماله ، حيث (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) بيان لإجماله.

ويروى عن خليفته الإمام علي (عليه السلام) قوله : «أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، بلا رويّة أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها ، أحال الأشياء لأوقاتها ، ولام بين مختلفاتها ، وغرّز غرائزها ، وألزمها أشباحها ، عالما بها قبل ابتداءها ، محيطا بحدودها وانتهائها ، عارفا بقرائنها وأحناءها ـ

ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، وشق الأرجاء ، وسكائك الهواء ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٢٢ عن أبي رزين قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : «كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» أقول «في عماء» قد يعني عماء التفصيل لخلقه إذ (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وعل «أين كان» سؤال عن «أين» المكانة في خلقه الخلق دون المكان ، وإذا كان عن المكان فالجواب ينفيه بما فيه «ما تحته وما فوقه ..» حيث هما نافيتان فتسلبان عنه كلا الفوق والتحت.

(٢) المصدر عن ابن العاص قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٣) المصدر عن بريدة قال : دخل قوم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا : جئنا نسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وننفقه في الدين ونسأله عن بدء هذا الأمر فقال : كان الله .. أقول : قد يعني «ولا شيء غيره» ما عناه نفس التعبير من ذى قبل.

٢٠١

فأجرى فيها ماء متلاطما تياره ـ فهذا الماء المجرى كان قبل إجراءه كائنا كأول ما خلق! ـ متراكما زخّاره ، حمله على متن الريح العاصفة ، والزعزع القاصفة ، فأمرها برده ، وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حده ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق ، ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها ، وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخار ، وإثارة موج البحار ، فمخضته مخص السّقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، ترد أوله إلى آخره ، وساجيه إلى مائره ، حتى عبّ عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق ، وجوّ منفهق ، فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا ، وعلياهن سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينظمها ، ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر ... (١).

«وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا ، ثم فطر منه أطباقا ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بأمره ، وقامت على حده» (الخطبة ٢٠٩).

فقد «كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله عز ذكره الماء فاضطرم نارا فأمر الله النار فجمدت فارتفع من جمودها دخان فخلق الله عزّ وجلّ السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الماء ..» (٢).

ذلك ، وكما بدأ خلقه من الماء حيث (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فقد

__________________

(١) من الخطبة الأولى في نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) البرهان ٢ : ٢٠٧ عن الكافي بسند متصل عن محمد بن مسلم قال قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : .. وفي نور الثقلين ٢ : ٣٣٨ عن الكافي عن سدير الصيرفي سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (بَدِيعُ السَّماواتِ) فقال (عليه السلام) : إن الله عزّ وجلّ ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ..

٢٠٢

يعيد عرشه على الماء كما كان أوّل مرة مستقلا بعظمته وقدرته (١) إذ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) إعادة إلى ما كان «ماء» ثم خلقا آخر من نفس المادة ، مهما اختلف خلق عن خلق ، حيث الأرواح لا تبيد ، اللهم إلّا صعقة ، فالماء المعاد قد يختلف اختلافا عن الماء الأول المبدإ المبدع.

ذلك ، فلا دور للهرطقة الحمقاء أن الكائنات هي قديمة زمنية قضية دوام فضله وفيضه تعالى ، وأن المعلول ليس لينفك عن العلة أبدا؟. حيث القدم الأزلي يناقض الزمان ، وليس الله علة والدة دون إرادة لخلقه حتى لا ينفكّا عن بعضهما البعض ، وليس دوام فضله وفيضه مما يقتضي أن يلازمه أزلي سواه (٢) إضافة إلى أن الأزلية هي أصل للغنى الذاتية ، فكيف يكون الخلق أزليا زمانيا ، وأزليته تغنيه عن الخالق ، وزمنيته تحوجه إليه وتخرجه عن الأزلية؟.

هذا ، وكافة الأدلة الموحدة لله ، المحوجة لخلق الله إلى الله ، هي معسكرة مبرهنة لأن الكائنات المخلوقة لها بداية ، ولا أزلي إلا الله ، ويكأن هؤلاء العقلاء الذين يرون أنفسهم عللا لأفعالهم بالإرادة ، فلا تلازمهم أفعالهم ، هؤلاء هم لا يرون لله تعالى إرادة حتى يسمحوا له وحدة دون خلقه ، فيختلقون له وهدة أنه علة والدة أوتوماتيكية خلقت من نفس ذاتها معاليلها ، قائلين غائلين بوحدة حقيقة الوجود ومسانخته بين الخالق والمخلوق ، حال أن العلة غير المريدة ، الأتوماتيكية ، أيضا قد تنفصل عن معلولها كالنار لمكان (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً)! فهم ـ إذا ـ ينزلون العلة الخالقة! عن العلل المخلوقة غير المريدة فضلا عن العلل المريدة كأنفسهم أولآء!.

__________________

(١) المصدر عن تفسير القمي يقول (عليه السلام) «و (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرة ويعيد عرشه ..

(٢) وكونه دائم الفضل على البرية ليس إلا بعد خلق البرية ، ومهما كانت البرية أيضا من فضله ولكن أصل فضله هو من فعله فليس أزليا بل هو حادث كسائر الحادثات!.

٢٠٣

ذلك ، فكل البراهين العقلية والكونية ، إضافة إلى البراهين النقلية عن نقلة الوحي ، التالية ، معسكرة لإثبات : أن للخلق بداية :

كان الله إذ لا كان :

إنه لا بد لهذا الخلق من أوّل حدث فيه ، وإلّا لم يكن هناك خلق ، أم كان من مادة أزلية وهو يطارد توحيده تعالى في الأزلية ، والقدم الزمني لأوّل ما خلق الله هو هرطقة متناقضة هراء ، حيث الزمان بذاته حادث لتصرّمه ، فكيف يجتمع مع القدم ، إلّا أن يراد بالقدم الماضي البعيد البعيد.

ف «هو الأول قبل كل أول والآخر بعد كل آخر» : «الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليته» ف «لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل أبدية ، بل خلق ما خلق فأقام حده وصور ما صور فأحسن صورته» ـ «سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله» (١).

«هو أيّن الأين ، كان ولا أين ، وهو كيّف الكيف ، كان ولا كيف» (٢) «وأنت الجبار القدوس الذي لم تزل أزليا دائما في الغيوب وحدك ، ليس فيها غيرك ، ولم يكن لها سواك» (٣) «كنت قبل كل شيء وكوّنت كل شيء وابتدعت كل شيء» (٤) ف «المشية من صفات الأفعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد» (٥) و «الحمد لله الذي

__________________

(١) ملتقطات من نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عيه السلام).

(٢) التوحيد والعيون عن محمد بن عبد الله الخراساني عن الرضا (عليه السلام).

(٣) بحار الأنوار ٥٤ : ٣٧ عن نهج الدعوات بأسانيد ذكرها إلى ابن عباس وعبد الله بن جعفر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدعاء اليماني المعروف.

(٤) المصدر عن الحارث بن عمير عن جعفر بن محمد عن آباءه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الدعاء : الحمد لله الذي لا إله إلّا هو الملك الحق المبين ... كنت.

(٥) المصدر عن التوحيد عن سليمان الجعفري قال قال الرضا (عليه السلام) : ..

٢٠٤

كان قبل أن يكون كان ، لم يوجد لوصفه كان ، كان إذ لم يكن شيء ولم ينطق فيه ناطق فكان إذ لا كان» (١) «الحمد لله الذي كان في أزليته وحدانيا» (٢).

و «اعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالى قديم والقدم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ، ولا شيء معه في ديمومته ، فقد بان لنا بإقرار العامة معجزة الصفة أنه لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقاءه ، وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شيء ، وذلك أنه لو كان معه شيء في بقاءه لم يجز أن يكون خالقا له ، لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه ، ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا ، وكان الأول أولى بأن يكون خالقا للثاني» (٣).

أوّل ما خلق الله الماء :

هذا ما تدل عليه آيتنا هذه : «وكان عرشه على الماء» ومستفيض أحاديثنا ، ونموذجا بارعا منها حوار بين أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ورجل من علماء الشام حيث

قال له (عليه السلام):

«جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحدا يفسرها لي ، وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس فقال كل صنف غير ما قاله الآخر ـ قال (عليه السلام) : وما ذلك؟ فقال : أسألك ما أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ من خلقه؟ فإن بعض من سألته قال : القدرة ، وقال بعضهم : العلم ، وقال بعضهم : الروح ـ

فقال أبو جعفر (عليهما السلام) : ما قالوا شيئا ، أخبرك أن الله علا ذكره كان ولا شيء غيره ، عزيزا ولا عز كان قبل عزه ، وذلك قوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) وكان خالقا ولا مخلوق ، فأوّل

__________________

(١) المصدر بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ..

(٢) المصدر عن التوحيد عن إسحاق بن غالب عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٣) التوحيد ١٢٥ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

٢٠٥

شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه ، قال السائل : فالشيء خلقه من شيء أو لا من شيء؟ فقال (عليه السلام) : «خلق الشيء لا من شيء كان قبله ولو خلق الشيء من شيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذا ومعه شيء ولكن كان الله ولا شيء معه فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء» (١).

ذلك ، فقد يعني الخبر أن أوّل ما خلق الله النور (٢) نور الإرادة الخالقة التي خلق بها الماء ، وكما يروى عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قوله في جواب : أين كان ربك حيث لا سماء مبنيّة ولا أرض مدحية؟ قال : «كان نورا في نور ونورا على نور ، خلق من ذلك النور ماء منكدرا ..» (٣) ، فالنور الأول ذاته فقد كان في ذاته ، والنور الثاني في مشيئته التي خلق بها الخلق الأول.

وما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله : «أوّل ما خلق الله نور نبيك» (٤) قد تعني الأولية في كيانه لا في كونه ، أم إن الأول في المادة الأولية في الزلفى إلى الله هو هو (صلى الله عليه وآله وسلم) (٥).

__________________

(١) التوحيد ٣٢ بسند متصل عن جابر الجعفي قال : جاء رجل من علماء الشام إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال : ..

(٢) العيون ١ : ٢٤٠ عن الرضا عن آباءه (عليهم السلام) قال علي (عليه السلام) في جامع الكوفة إذ قام إليه رجل من أهل الشام فقال أخبرني عن أوّل ما خلق الله ، قال : خلق النور ، قال فمم خلقت السماوات؟ قال : من بخار الماء ، قال : فمم خلقت الأرض؟ قال : من زبد الماء ، قال : فمم خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج.

(٣) البحار ٥٤ : ١٠١ عن الإختصاص قال يونس بن عبد الرحمن يوما لموسى بن جعفر (عليه السلام) : أين كان ربك ..

(٤) البحار ٥٤ : ١٧٠ عن رياض الجنان بإسناده إلى الصدوق بإسناده عن جابر بن عبد الله قال قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أوّل شيء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال : نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل شيء ..

(٥) وفيه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوّل ما خلق الله نوري ـ

٢٠٦

وكما (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) «وأمرت أن أكون أول المسلمين» ثم وليست للأولية الزمنية مكانة أمام الأولية في المكانة.

ذلك ، وهكذا المروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «أول ما خلق الله نوري» ـ «أوّل ما خلق الله العقل» (١) فنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعقله المعني من العقل «هو أول خلق خلقه من الروحانيين» (٢) أولية في الدرجة ، وهكذا أولية في كيفية المادة التي خلق منه نوره (صلى الله عليه وآله وسلم) وعقله ، حيث كان في «الماء».

وقد يعنى من «أوّل» هنا الأول بعد «الماء» حين خلق السماوات والأرض ، فالعقل ـ الذي جوهره الأعلى عقل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ خلق من الماء أول ما خلق من الروحانيين ، فالأولية في الدرجة بين كل الروحانيين هي لعقل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم هي لكل العقول على درجاتها (٣).

ف «الحمد لله الذي كان عرشه على الماء حين لا شمس تضيء ولا

__________________

ـ ففتق منه نور علي (عليه السلام) ثم خلق العرش واللوح والشمس والقمر وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة ، وفي الخصال ومعاني الأخبار بإسناده المتصل إلى سفيان الثوري عن الصادق عن آباءه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) قال : إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وقبل أن يخلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وداود وسليمان وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم بأربعمائة ألف سنة وأربع وعشرين ألف سنة» أقول هذا العدد هو من عديد الأدلة على أن المعنى بهذه الأولية هو الأولوية ، فهو أولى من عديد الرسل كلهم ، وهو يجمعهم في نفسه المقدسة وزيادة!

(١) العوالم (٢ ـ ٣ : ٤٠) غوالي اللئالي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه عن المكارم (٥٩٣) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): يا علي! إن أول ما خلق الله ـ خلقه الله ـ العقل ، وعن العلل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «النور».

(٢) المصدر (٤١) تحف العقول في حديث موسى الكاظم (عليه السلام) لهشام : يا هشام إن الله خلق العقل وهو أول ما خلقه الله من الروحانيين عن عين العرش من نوره.

٢٠٧

قمر يسري ، ولا بحر يجري ، ولا رياح تذري ، ولا سماء مبنية ، ولا أرض مدحية ، ولا ليل يجن ، ولا نهار يكنّ ، ولا عين تنبع ، ولا صوت يسمع ، ولا جبل مرسى ، ولا سحاب منشأ ، ولا إنس مبروء ، ولا جن مذروء ، ولا ملك كريم ، ولا شيطان رجيم ، ولا ظل ممدود ، ولا شيء معدود» (١).

ذلك وقد يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) في كيفية خلق السماوات والأرض من «الماء» : «إن الله عزّ وجلّ لمّا خلق الماء فجعل عرشه عليه قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك قوله (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) يعني وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض ، فأرسل الله الرياح على الماء فتفجر الماء من أمواجه فارتفع عنه الدخان وعلا فوق الزبد فخلق من دخانه السماوات السبع فخلق من زبده الأرضين السبع ..» (٢).

وفي الباقري (عليه السلام): «كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله تعالى الماء فاضطرم نارا فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الرماد».

وفيه «.. وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ، فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إلى شيء .. ثم خلق النار من المار فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية ..» (٣).

__________________

(١) الإقبال بإسناده إلى التلعكبري بإسناده إلى أيا من ابن سلمة عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة : أنت الكائن قبل كل شيء والمكون لكل شيء ـ إلى قوله ـ : الحمد لله ..

(٢) تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٣) تفسير البرهان ج ١ عن أصول الكافي.

٢٠٨

ولو كان «الماء» هنا هو المعروف عندنا فكيف ـ إذا ـ يتفجر ويرتفع عنه الدخان وهو المستصحب مع اللهيب أو يضطرم نارا ، أو يخلق منه نار ، وقد نص القرآن أن السماء كانت دخانا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ...) (٤١ : ١١) فهذه التفجرة الأولى في التكوين ، التي أولدت السماوات والأرض ، كانت في المادة الأم المعبر عنها ب «الماء» وعلّه أم الذرات وأصل حروف التكوين ، وقد تفجرت فانفجرت منها سائر حروف التكوين الصالحة لخلق السماوات والأرض بما فيهما وما بينهما.

ولأن الله تعالى جعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا ـ وكما يروى ـ فهذا الماء قد يكون هي الحروف الأولية لسائر التكوين بعده ، فعلها المادة الفردة ذات بعدين اثنين وهما أقل تركيب لأي كائن كان ، فقد خلقت سائر حروف التكوين ـ ذرات أما أشبه ـ من تلك التفجّرة الأولى ، كما تخلق الجزءيات من هذه الذرات ، وتخلق العناصر من الجزئيات.

والمحاولات الكادحة البشرية هي كلها كالحة في حقول الحصول على معرفة المادة الأولى التي هي أبسط المواد ، وهي البداية والنهاية لكيان المادة ، بدء لتكوينها منها ، وختما لإعدامها فيها.

فلا مجال ـ إذا ـ لإحتمال أن «الماء» هنا هو المعروف لدينا ، حيث السماوات والأرض وهما وليدا ذلك الماء ، هما يحملان الماء المعروف ، وله نسب هما الذرتان ، كما ولكل ذرة نسب هو أجزاءها التي تتشكل منها ، ثم ليس قابلا للاحتراق حتى يصعد منه دخان وهو المستصحب للهيب ، ولو كان القصد من «الماء» هو الذرات التي يتشكل منها لكان الصحيح ذكرها بما يناسب تعريفها.

ثم وليست لفظة الماء بالتي تعيّن المعروف لدينا ، بل القرائن هي التي تقرر كيانه ، وهنا المقرر كتابا وسنة هو المادة الأولية لخلق الكون القابلة للاحتراق ، التي ليس لها نسب يرجع إليه ، وليس خلقها بإرادة الله نسبا له ، إنما النسب هو الذي خلق منه ، فقد خلق كل شيء من ذلك

٢٠٩

«الماء» ولم يخلق هو نفسه من شيء ، بل هو المخلوق لا من شيء حيث خلقه الله لا من شيء سبق ، لا من شيء ذاته فإنه باين من خلقه وخلقه باين منه ، ولا من شيء خارج ذاته ، لأنه حسب النص أوّل ما خلق الله ، فليكن مخلوقا لا من شيء ، وإنما بإرادة الله تعالى خلقا لذلك المخلوق الأول ، دون أن يكون هناك مخلوق منه.

فكل خلق بعد الماء له مخلوق منه هو الماء ، وليس للماء نفسه مخلوق منه ، وإنما كيانه تركّب مّا تحتاجه المادة في أصل كونها وكيانها ، وليس ذلك تركبا من جزئيه بعد خلقهما وكونهما منفصلين ، حيث لا كون ولا كيان لكل منهما إلّا حالة تركّبهما ، فذلك المركب يكون كأول كائن مركبا ، ثم انعدامه يساوي ويساوق انفصالهما ، فإنه انفصال عن كونهما تماما ، وتمام التفصيل حول هذه المادة البسيطة راجع إلى آية الذاريات : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

وحصيلة البحث حول الآية ـ بمراجعة أخرى إليها ـ كالتالية :

«الماء» فيها حيث يقابل (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ليس هو الماء المخلوق في السماوات والأرض ، فإنهما ـ كلما تذكران في القرآن ـ عبارة أخرى عن الكون كله ، فحين تفردان بالذكر تعنيان كافة الكائنات المخلوقة أمّا والدة سائر الكائنات المخلوقة منها ، وحين تقرنان ب «الماء» أمّا أشبه ، تعنيان الكون كله إلّا «الماء» أمّا أشبه.

ثم الله جعل للسماوات والأرض نسبا هو الماء ولم يجعل للماء نسب ينسب إليه ، فقد يعلم أن ليس للماء نسب وماء السماوات والأرض له نسب ال (٢) حيث ركّب منهما.

ولأن كافة التركيبات غير الأولية راجعة إلى «الماء» فليكن هو المركب الأوّل غير المركب عن مادة أخرى ، فهي ـ إذا ـ مادة فردة لا تركيب لها عارضا على أجزاءها ، اللهم إلا التركب الذاتي الذي لو تحلل عنه لكان تحللا عن كونه المادي بأسره ، رغم سائر التحللات في التركبات

٢١٠

غير الأولية ، فإنها تحللات عن الكياني المادي العارض دون كونه الذاتي أصلا لوجوده.

فلذلك لا تعني «الماء» أية مركّبة مادية غير الأولية ، سواء أكانت مركبة الماء المعروف عندنا ، أم الذرات التي تشكله ككل (٢) أم كلّ من ذرتي الأوكسيجين والئيدروجين ، أم وأجزاء كلّ ، إذ لم تثبت أمومة سائر التركبات غير الأولية لأية ذرة وصل العلم إليها حتى الآن ، ولن يصل إليها بعد الآن ، حيث الأم الأولى غائبة عن الحواس والعقول في كلّ الحقول ، إلا أن يكشف الوحي عن وجهها النقاب وقد كشف هنا وفي آية الذاريات : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١ : ٤٩).

ذلك ، وكما أن المركبات غير الأولية ركّبت من عناصر وجزئيات وذرات ، وكذلك الذرات ركبت من أخرى لا نعرفها ، هكذا المادة الفردة الأولى أخذت تتركب بمختلف الفواصل والأشكال حتى حصلت مواد أخرى ومنها الذرات التي نعرفها.

ولأن «الماء» كيفما كان ـ ليس إلّا مادة ، إذا فليس الكون المخلوق منها إلّا مادة أو مادية ، إذ لا يخلق المجرد عن المادة كما لا تخلق المادة عن المجرد لمكان التباين بينهما ، فالأرواح وما أشبه ، المعبر عنها بالمجردات هي كلها ماديات خلقت من «الماء».

ثم وتأويل الماء إلى العقل المجرد والروح المجرد ليس ليفيد القائلين الغائلين بتجرد الأرواح والعقول بنفس السند ، وليس الماء مركبا من المجرد والمادة ـ لو صح ذلك التركب وأمكن ـ حيث ينتشئ المجرد عن مجرده والمادة عن مادته ، إنما هو «الماء».

إذا فخلق كل شيء من «الماء» يطارد خلق المجردات إلّا ألا تكون من الأشياء المشمولة ل (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) و (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وما أشبه من آيات.

ذلك عرض للمادة الأولية المخلوق منها السماوات والأرض بتعبير

٢١١

عبير من العليم الخبير ، وأين ذلك مما في التوراة المصرحة : «في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة وعلى وجه الغمر ظلمة. روح الله يرفّ على وجه الماء» (التكوين ١ : ١ ـ ٣).

فإن كان ذلك الماء هو المادة الأولية ، فلما ذا تأخر عن «السماوات والأرض» المخلوقتين منه ، ثم وإن كان ـ إذا ـ يعني من «روح الله» عرش الله ، فما هي المناسبة بين روح الله وعرش الله؟ أم يعني «الماء» المخلوق كسائر الكون من المادة الأولية ، فلما يختص ذلك الماء بين سائر الخلق برفّ روح الله عليه؟.

فإنما هي كلمة إشراكية متّخذة من الوثنيات العتيقة حيث تعتبر «سيفا» : الروح المهلك : الأقنوم الثالث ، أنه هو الروح الذي يرف على وجه الماء (١)!.

وهذا الإله الذي يرف روحه على وجه الماء حق له أن يعي من ذلك السبح الطويل الوبيل ، فيعيى ـ بأحرى ـ في خلقه السماوات والأرض وكما في «التكوين ١ : ٢ ـ ٤) «فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا»!.

ذلك ، ولهذا سموا يوم السبت سبتا اعتبارا بسبته تعالى عن خلقه استراحة فيه ، والقرآن يزيف هذه الهرطقة الحمقاء قائلا : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٥٠ : ٣٨) قضية هيمنته على ما بين يديه ، تزييفا لكل تجديف ، وتصديقا لصالح الوحي فيه.

__________________

(١). هذا هو الثالوث البوظي كما يقول المستر فابر في كتابه أصل الوثنية : «نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من : برهمة وفشنو وسيفا ، وهكذا نجد عند البوظيين فإنهم يقولون : إن بوظا إله واحد ويقولون بأقانيمه الثلاثة ، وكذلك بوظي «جينست» يقولون عن «جيفا» أنه مثلث الأقانيم ، والأقنوم الثالث : سيفا هو الروح الذي يرف على وجه الماء.

٢١٢

ذلك ، ولنرجع إلى تتمة البحث حول الآية مهما لم نقض حقها كما يحق ، وإنما هو قدمنا قدر المستطاع.

(خَلَقَ ... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بلوى بذلك الكون الواسع الشاسع في حقل العمل بكل جوانبه ، فميدان الكون مسرح للتسابق في إحسان العمل.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١٨ : ٧) (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٨ : ٣٧).

وأحسن عملا هو أحسن عقلا فقد «تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقيل ما معنى ذلك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «ليبلوكم أيكم أحسن عقلا ، ثم قال : وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله وأعلمكم بطاعة الله»(١).

فليس يعني «أكثركم عملا» ولكن «أصوبكم عملا» وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة (٢) «ألا إن الله قد كشف الخلق كشفة لا أنه جهل ما أخفوه من مضمون أسرارهم ومكنون ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء» (٣).

ف «إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون ، فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهام عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٢٢ ، أخرج داود بن المجر في كتاب العقل وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

(٢). نور الثقلين ٢ : ٣٤٠ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية.

(٣) المصدر في نهج البلاغة قال (عليه السلام): .. ثم قال : الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ والنية أفضل من العمل إلا أن النية هي العمل ثم تلا قوله عزّ وجلّ : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) يعني : على نيته.

٢١٣

إلّا بإذنه ، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصية بل اختبرهم بالبلوى كما قال : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١).

ذلك ، وأصل الخلق وفصله في ستة أيام هما «ليبلوكم» ففي أصله إذ «كنت كنزا مخفيا فأجبت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف» وفي فصله لنحسن العمل بمهل ودون عجل ، حيث المهل هو على أية حال خير من العجل إلا لضرورة ، والله خلق الكون من «الماء» في ستة أيام دون ضرورة «ليبلوكم» في فاسحة المجالات والجلوات (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

(وَلَئِنْ قُلْتَ) بعد كل هذه التفاصيل (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) القول وذلك البعث (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وهم يعيشون واقع الخلق المنضد المنظوم ، وواقع الدلالات الصادقة من الآيات البينات تكوينية وتدوينية! وقد تخطّوا عن فرية السحر على القرآن إلى فريته على إنباءاته ، وكل ذلك لعجزهم عن نقضه.

هذا ، وقد يستفاد من «ليبلوكم» غاية لخلق السماوات والأرض ، أنها البلوى المتواترة ليطلع فيها (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فهم ـ إذا ـ غاية لذلك الخلق العظيم.

ولأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول العابدين وأفضل العارفين ، فهو الغاية القصوى من الخلق أجمعين ، هو ومن معه من المحمديين من عترته وسائر أنبياء الله ورسله والصالحين من عباد الله. وهكذا يصدّق المروي في حديث قدسي : «لولاك لما خلقت الأفلاك».

صحيح أن في الخليقة من هم كالإنسان في أنه بأحسن تقويم ، ولكن الفعلية المتميزة في ميدان التقويم الأحسن بكدح كامل وسعي شامل كافل ليس إلّا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو الأفضل الأكمل

__________________

(١). المصدر في كتاب الإحتجاج وروى عن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) أن أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال : ..

٢١٤

على الإطلاق بين العالمين أجمعين منذ بداية الخلق إلى يوم الدين.

ذلك ، وحتى إذا يعني من «أيكم» كافة المكلفين ـ وهو صحيح كأصل ـ فلا ريب أيضا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فاق المكلفين كلهم لأنه «أول العابدين» على الإطلاق طول الزمان وعرض المكان.

(.. وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ...) :

ف «بادروا الموت وغمراته ، وأمهدوا له قبل حلوله ، وأعدوا له قبل نزوله ، فإن الغاية القيامة وكفى بذلك واعظا لمن عقل ، ومعتبرا لمن جهل ، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس ، وشدة الإبلاس ، وهول المطّلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الأضلاع ، واستكاك الأسماع ، وظلمة اللّحد ، وخيفة الوعد ، وغم الضريح ، وردم الصفيح ـ

فالله الله عباد الله ، فإن الدنيا ماضية بكم على سنن ، وأنتم والساعة في قرن ، وكأنما قد جاءت بأشراطها ، وازفت بأفراطها ، وأناخت بكلاكلها ، وانصرمت الدنيا بأهلها ، وأخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ..(الخطبة ٢٣٢).

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا

٢١٥

بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ

٢١٦

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ(١)

مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨).

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الموعود عن عاجله «إلى» آجله : (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) من الزمان ، يرتابون في صدق الوعد و (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) هزأ بالوعد وحامله الرسولي «ألا» لينتبهوا (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) وهو آتيهم وعدا غير مكذوب (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) بأي صارف (وَحاقَ بِهِمْ) حيطة عليهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب بوعده.

ولأن «هم» في «عنهم» هم كل هؤلاء المكذبين بآيات الله ، فقد يشملهم أجمع منذ نزول هذه الآية إلى يوم الدين ، فيقوم بدر الموعود للمؤمنين وعيدا على المشركين (١) وأيام مثله ، ثم يوم القائم (٢) ، ويوم عذاب كما هما مثل يوم الموت ويوم القيامة ، كلها داخلة في (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) فهل الزمن المعدود (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) وليس أصحاب القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ).

فكل من عذابهم يوم بدر وما أشبه من حروب ، وأمة القائم الثلاثمائة

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٤١ في تفسير العياشي عن أبان بن مسافر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية يعني عدة كعدة بدر» أقول هي عدة بدر ومثلها وهو عدة القائم (عليه السلام).

(٢) المصدر عن العياشي عن عبد الأعلى الحلبي قال قال أبو جعفر (عليه السلام): أصحاب القائم (عليه السلام) الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا هم والله الأمة المعدودة التي قال الله : .. قال : يجتمعون له في ساعة واحدة قزعا كقزع الخريف ، وفيه عن الحسين الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هو القائم وأصحابه

وفيه عن تفسير القمي في الآية قال : إن متعناهم في هذه الدنيا إلى خروج القائم (عليه السلام) فنردهم ونعذبهم (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) أي يقولوا : لا يقوم القائم ولا يخرج على حد الاستهزاء فقال الله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، ورواه عن هشام بن عمار عن أبيه وكان من أصحاب علي (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) في الآية قال : الأمة المعدودة أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر.

٢١٧

والثلاثة عشر ، وأمة الموت وأمة القيامة ، من أمم زمنية أم إنسانية ، كلها مصاديق صادقة ل (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) فإنها معدودة معلومة عند الله مهما كانت مجهولة عند من سواه.

ذلك ، ولا حول هنا عن عناية أمة من الناس من (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) فإنها تعنيهم في (٤٩) مرة مذكورة في القرآن اللهم إلّا واحدة هي (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (١٢ : ٤٥).

وليست هذه الأمة المعدودة أمة رسولية أخرى حيث ختمت الرسالة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهم ـ إذا ـ أمة رسالية خاصة من هذه الأمة تعذّب كل هؤلاء المكذبين يوم الرجعة ، وهو المعني من (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٢٧ : ٨٣) حيث يرجع يوم الهدى (عليه السلام) حسب القرآن والسنة «من محّض الإيمان محضا أو محّض الكفر محضا» رجوعا بالاستعداد ، مهما يرجع مؤمنون متوسطون في الإيمان أيضا رجعة بالاستدعاء ، وهنا (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) لمحة لرجعتهم يوم الرجعة حيث يعنيهم كحاضرين عند نزولها ، ومن ثم من يأتي بعدهم من المكذبين.

وقد بشر القرآن ـ ومعه سائر كتابات الوحي وروايات الإسلام وسائر الأديان ـ أن الله سوف يؤيد هذا الدين بقوم هم أصلح الصالحين في تاريخ الرسالات ، يقودهم القائم بالحق في آخر الزمان وهو المهدي من آل محمد (عليهم السلام) ، وهؤلاء هم أصدق مصاديق من مواعيد الله تعالى في تالية الآيات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥ : ٥٤) ـ

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى

٢١٨

(لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢٤ : ٥٥) ـ

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢١ : ١٠٥).

هذه وآيات أخرى في مغزاها فصلنا البحث حولها في مجالاتها في هذا الفرقان.

ذلك ، وفي تأجيل عاجل العذاب المستحق حكمة ربانية عالية ، فكم يؤمن من هؤلاء الموعودين الموعوظين ويحسن إيمانهم حيث أبلوا أحسن البلاء ، وكم يولد لهم من ذرية ناشئة في الإيمان.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)(١٠).

هذه طبيعة «الإنسان» الرذيلة ، البعيدة عن الفضيلة ، فهو الغرير القرير بنفسه الشرّير ، فحين تنزع منه رحمة أذاقها الله إياه (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) يأسا من رحمته المستقبلة ، وكفرانا بما كانت له (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) يحسب أنه يستحقها و (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) على سيئاته ، وقولته هذه منها (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) برحمته «فخور» بنفسه على نحسه!.

وهذه استعارة بالغة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا ، وإنما المعني منها هنا أنا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة بعض الذنوب فقبلنا متابه ومآبه ، وأسقطنا عقابه ، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر ، واستحق العقوبة وإزالة الرحمة ، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة ، وهو خالط في ذلك ، غالط هالك ، لأنه إذا عاود الإقلاع أمن الإيقاع.

فقد أخرج هذا النص مخرج الذم لمن يواقع خطيئة فيقنط من قبول التوبة.

٢١٩

وقد تعني هنا «رحمة» النعمة والسراء ، فانتزاعها منه هو إبداله بها الشدة والضراء ، إجراء له في مضمار الابتلاء والاختبار ، أو مصلحة يكون معها أقرب إلى الإصلاح والرشاد ، وقد يؤيده : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ ..).

وإنها صورة سائرة صادقة لهذا الإنسان العجول الجهول ، القاصر المقصر في كل الحقول ، حيث يعيش لحظته الحاضرة ويطغى عليه ما يلابسه ، ناسيا اللحظات الغابرة ، غير مفكر في المستقبلة ، يؤسا من الخير المنزوع عنه لفترة ، كفورا بكل خير ذاقه من ذي قبل وإن كان عمرا طائلا ، «والدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فبكلاهما ستختبر».

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١١).

(الَّذِينَ صَبَرُوا) في الشدة والرخاء ، ففي الشدة لا ييأسون من رحمة الله وهم يعملون الصالحات ، وفي الرخاء لا ينسون الله وهم يعملون الصالحات ، فالصبر والعمل الصالح لهم زاد وراحلة في اجتياز الطرق الملتوية المختلفة ، يعيشون على حالة واحدة من الصبر وعمل الصالحات في كلا الشدة والرخاء ، بكامل الإيمان والرجاء.

ذلك والصبر على النعمة هو أصعب من الصبر على الشدة ، فكثير من المؤمنين يصبرون على الشدة تجلّدا وإباء أن يظهر عليهم الضعف والفتور ، ثم وقلة قليلة هي الصابرة على النعمة دون اغترار ولا تبطّر.

فالإيمان الجادّ المتمثل بصالح الإعمال على أية حال هو الذي يعصم المؤمن من اليأس الكافر في الشدة والضراء ، كما يعصمه من البطر الفاجر في النعمة والرخاء والسراء ، صبرا في السراء والضراء على سواء ، فلا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء ، كما لا يتنفّج ويتعالى عند ما تغمره السراء.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا

٢٢٠