الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بسيط ولا سفيه في «من علّمه»! فضلا عن أعقل العقلاء على مدار التاريخ كما يصدقه عقلاء التاريخ!.

ذلك ، وهنا عشرات من الآيات تقرر موقف القرآن أنه الكتاب الأخير النازل من عند الله إلى محمد مهيمنا على ما بين يديه من كتاب ، وناسخا بعض أحكامها ومكملا أخرى ، وناقدا ثالثة ، المحرّفة عن جهات أشراعها!.

أم شكا في معانيه ومغازيه؟ وهو أفضل الراسخين في العلم! وهو (يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ(١) وَالْحِكْمَةَ)! ومهما يكن من شك في القرآن فهو لغير المؤمنين به المخاطبين بمثل (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢ : ٢٣).

فتراه داخلا في هذا الخطاب وهو «عبدنا» المنزل عليه القرآن ، ولو كان شاكا بين الشاكين فآية التحدي هذه أيضا هي من المشكوك فيه فكيف يتحدى بها؟! ، وكيف يشك هو المنزل إليه ولا يشك الذين يقرءون الكتاب ولم ينزل إليهم حتى يستعلمهم فيه ، ولما ذا ـ إذا ـ لا يستعلم ربه المنزّل إليه ويسأل هؤلاء الذين أكثرهم له منكرون ، فليكونوا هم الداعون بالقرآن دونه لأنهم يزيلون شكه!.

لذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا «لا أشك لا أشك» (١) ولم يسأل أحدا بل وسئل عنه وأجاب بما يزيح كل شك وريبة وكما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا أشك ولا أسأل» (٢).

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٣١٧ عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا أشك ولا أسأل.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣١٧ ـ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يونس ... وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل فقال ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا يعني مراغما» أقول : في هذا الذيل تنظّر ، وهنا حديث آخر في نور الثقلين ٢ : ٣٢١ عن ـ

١٦١

وقد يعني الشك في أنه مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، فكذلك لا أشك ولا أسأل.

فترى أن الآية بين هذه المحتملات المتحّملات والمحمّلات تعني

__________________

ـ تفسير العياشي عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليهما السلام) كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : حدثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن جبرئيل حدثه أن يونس ابن متى بعثه الله إلى قومه ...» ولكنا تركنا نقله على طوله لأن فيه ما لا يصدق على ساحة العصمة الرسولية ، ك : «كان رجلا تعتريه الحدة وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم عاجزا عما حمل من ثقل أوقار النبوة وأعلامها وأنه تفسخ تحتها كما يتفسخ الجذع تحت حمله»! ـ وما أشبه من فرية على ساحة الرسالة ، مما يؤكد أن هذا الحديث من المختلفات الإسرائيلية!.

وفيه في العلل عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لأي علة صرف الله عزّ وجلّ العذاب عن قوم يونس وقد أظلهم ولم يفعل ذلك بغيرهم من الأمم؟ فقال : لأنه كان في علم الله أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم وإنما ترك إخبار يونس بذلك لأنه عزّ وجلّ أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه وكرامته.

وفيه عن تفسير القمي عن علي (عليه السلام) في حديث طويل يقول في آخره : وأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهي الدبا فأظلته من الشمس فسكن ثم أمر الشجرة فتنحت عنه ووقع الشمس عليه فجزع فأوحى الله إليه يا يونس لم لم ترحم مائة ألف أو يزيدون وأنت تجزع ساعة؟ فقال : يا رب عفوك عفوك ، فرد الله بدنه ورجع إلى قومه وآمنوا به وهو قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ ...).

وفيه عن روضة الكافي عن معروف بن خربوذ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن لله عزّ وجل رياح رحمة ورياح عذاب فإن شاء أن يجعل الرياح من العذاب رحمة فعل ، قال : ولن يجعل الرحمة من الريح عذابا ، قال : وذلك أنه لم يرحم قوما قط أطاعوه فكانت طاعتهم إياه وبالا عليهم إلّا من بعد تحولهم عن طاعته ، قال : وكذلك فعل بقوم يونس لما آمنوا رحمهم الله بعد ما قد كان قدر عليهم العذاب وقضاه ثم تداركهم برحمته فجعل العذاب المقدر عليهم رحمة فصرفه عنهم وغشيهم وذلك لما آمنوا به وتضرعوا إليه.

وفيه عمن لا يحضره الفقيه وفي العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان رحمة الله عن الرضا (عليه السلام) قال : إنما جعل للكسوف صلاة لأنه من آيات الله عزّ وجلّ لا يدري ألرحمة ظهرت أم لعذاب فأحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تفزع أمته إلى خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرها ويقيهم مكروهها كما صرف عن قوم يونس حين تضرعوا إلى الله عزّ وجلّ.

١٦٢

فقط ما يعنيه الناكرون لهذه الرسالة السامية من شك في كون القرآن وحيا يستقل عن سائر الوحي ، مهيمنا على ما بين يديه من كتاب ، حيث يقول قائلهم إن القرآن نسخة عربية من الكتاب الإمام : التوراة ، فإن كنت في شك منه فأسأل علماء الكتاب الذين علّموك إياه!.

فقد تعني كلّ شاك في وحيه ، أم في البشارات الكتابية به ، أم في استقلاله عن سائر الوحي ، فليقسه إلى سائر الوحي ليتبين له أنه فائق عليه.

أم تعني الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مجاراة مع الشاكين في أيّ من هذه ، مدلا إلى ما يزيح أي شك فيه ، وأخيرا (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) فهل هو بعد يستعلم أهل الكتاب عن أنه نسخة عربية عن الكتاب الإمام؟ فليكن النص إذا : لقد جاءك الحق من الذين أوتوا الكتاب من قبلك ، دون «ربك»!.

وكيف يشك؟ وقد (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)! (٢ : ٢٨٥) أم كيف يثبت بهذه الشرطية شك للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيا كان ، والشرطية لا تحتّم مدخولها كما (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٣٩ : ٦٥) فهل هو أشرك ، فإنما تأتي الشرطية لتحلّق على أي شاك ولو كان هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولن ، ولكي يعلن أن القرآن بنفسه وبشهادة الذين يقرءون الكتاب ، أنه وحي صارم لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه.

وهنا (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) و (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما أشبه ، دليل قاطع لا مرد له على أنه ليس نسخة عن أي كتاب ، بل هو وحي فذّ لا ريب فيه من رب العالمين.

وقد تعني «إن» نفي الشك لكونها نافية «فسأل ..» حيث هم يعترفون لك بنفي الشك.

إذا فآية الشك هذه هي من عساكر البراهين التي تزيل أي شك حول وحي القرآن ، الفذ ، ثم «وإن كنت في شك» بين محتملاتها ، لو عنت

١٦٣

أسوءها وهو شرطية شكه ، فلم تكن لتعني واقع شكه ، بل هو مجاراة تعني استئصال أي شك وريبة حول القرآن.

ف (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢ : ١٤٦ و٦ : ٢٠) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١١ : ١٩) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨).

أفبعد هذه التصاريح وعشرات أمثالها يقحم هذا الرسول في كتابه ما يهدم عليه صرح دعوته ودعواه ، ولا يعمله أي بسيط سفيه ، فضلا عن أعقل عقلاء التاريخ؟!.

ذلك ، ولو كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شاكا فيما أنزل إليه من ربه لكان غيره من المؤمنين به أولى بالشك فيه ، وكيف يزول ذلك الشك بما يخبره به أهل الكتاب الناكرون رسالته.

إذا فلا شك أن آية الشك لا تعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحق شك فيما أنزل إليه ، وإنما هو مجاراة مع الشاكين ليزيل شكهم عن بكرته ، فحتى لو كان المنزل إليه في شك مما أنزل إليه لكان الكتاب وقارئوه شاهدين على بتّه بحقه ، ولا تعني الشرطية بيان أنها وقعت أم لم تقع ، وإنما تتكفل بيان واقع الملازمة ، إن كان كذا كان كذا ، ولكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشك ولم يسأل ، فعلى من يشك أن يسأل ، تدليلا على أنه لو سقط إيمان الرسول بوحي القرآن ولن ، فلن يسقط وحي القرآن عن واقعه لمكان برهانه القاطع الذي لا مردّ له حتى من الذين يقرءون الكتاب وهم له ناكرون.

١٦٤

ذلك ، وأخيرا قد تعني «إن» النافية لمدخولها : فما كنت في شك مما أنزلنا إليك ، فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ليشهدوا لك أنك ما كنت في شك كما هم ليسوا في شك ، لمكان البشارات المحمدية في كتبهم ، وأن طبيعة وحي الكتاب تدل على أن القرآن أحرى أن يكون وحيا.

وهذا التوجيه في «إن» النافية يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزّمه في مكة بعد هامة الإسراء ، وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه وبعد موت خديجة وأبي طالب واشتداد الأذى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين معه ، وبعد تجمّد الدعوة في فترة مكية بموقف قريش العنيد العتيد ، وكل هذه الملابسات تلقي ظلالها على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسري عنه بذلك التوكيد بعد ذلك القصص الموحى ، تعريضا بالشاكين الممترين المكذبين :

وفي رجعة أخرى إلى الآية نقول : إنها تحمل شرطية تنبه أن قراءة الكتاب مما يحمل قارئه على تصديق وحي القرآن بأحرى من كل كتابات الوحي وكما (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) اجتثاثا لكل شك وريبة عن ساحة الوحي القرآني بتلك المقالة مهما كانت بسيطة عابرة ، فضلا عن المقايسة الدقيقة بعد التدبر في آية الكريمة حيث تزداد يقينا مزدوجا بأنه الوحي القمة الذي يحتل الموقع الأعلى من عامة الوحي على عامة رسل الله.

وهنا «الذين يقرءون الكتاب» ليس يعني فقط علماء أهل الكتاب ، بل هم عامة القارئين له علماء وسواهم ، ويقابلهم «أميون لا يقرءون الكتاب إلا أماني» فللشاك أن يسمع إلى قراءة أي وحي ثم يقايسه إلى من يقرأ القرآن أم هو يقرأه ، ثم يفكر أيهما أحرى بالتصديق وحيا؟ وطبعا هو القرآن الذي يفوق سائر الوحي في كافة الحقول البيانية لفظية ومعنوية.

ذلك ، ولئن كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في شك مما أنزل إليه لكان يؤنّب أشد مما يؤنّب الشاكون سواه ، وكما يندد بهم :

١٦٥

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٣٨ : ٨) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤١ : ٤٥) (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٢ : ١٤) (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) (٤٤ : ٩).

وعلى أية حال فالشك بين كفر ، ومتطرق إلى إيمان ، وأما المؤمن بالفعل فضلا عن رسول الإيمان فلا شك له بل هو على ذروة من اليقين ، وإلا فكيف يصطفيه الله ويجتبيه بين عباده الصالحين وهو نفسه بشكه من الكالحين الطالحين؟!.

إذا (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) في وجه خطاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست لتقول أنه في الحق شاك مما أنزل الله إليه ، إذ لو كان في شك منه كان كافرا أم ضالا لم يؤمن بعد فضلا عن الرسالة القمة ، ثم ما ذا تفيده أمثال هذه الآية التي تعني علاج شكه إذ هو شاك فيها كما هو شاك في سواها.

وقد تعني (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) خصوص المذكورات قبلها من (لَقَدْ بَوَّأْنا) ـ إلى ـ (يَخْتَلِفُونَ) عناية إلى تثبيتها وهم به مقرون.

ثم الشاك في القرآن هو بأحرى شاك فيما سواه من وحي هو دونه في ظهوره وبهوره ، فضلا عما يقرأه له أهل الكتاب ، ثم ما ذا يفيده بعد (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) وهو شاك فيما أنزل إليه ، إذ لا فارق بين ما أنزل إليه أكان هو سائر القرآن أم أمثال هذه الآيات التي تعني علاج شكه.

إنما ذلك من باب : إياك أعني واسمعي يا جارة ، أن الشاك في القرآن له طريق بسيط لإزالة شكه هو قراءة سائر الوحي وقياسه إلى وحي القرآن ، ثم طريق أعلى هو التدبر في القرآن نفسه ، وأما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو موقن في وحي القرآن بنفسه منذ نزوله ، دون حاجة إلى وسائل أخرى داخلية أم خارجية توصله إلى الإيقان بوحي القرآن.

١٦٦

ذلك ، فبين محتملات عدة في المعني من الآية كيف يتمسك بأردئها المناحر لنفس الآية وأضرابها من عدة جهات ، فرضا له ورفضا لما سواه من محتملات صالحة إلى ذلك الطالح الكالح؟!.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٩٥).

وموقف (لا تَكُونَنَّ) هو الموقف ل «وإن كنت في شك» على سواء ، فالنقد والجواب كما النقد والجواب على سواء ، وهذه الآية تتطلب الإيقان من أي مخاطب بها بآيات الله فهو من الرابحين ، كما والشك فيها يجر إلى تكذيب فخسران مبين.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٩٧).

(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) ألا يؤمنوا فيعذّبوا لأنهم يعاندون الحق وهم يعلمون ، فهم ـ إذا ـ (لا يُؤْمِنُونَ) حتى (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) إذ تصلبت قلوبهم وصلبت حيث ختم الله عليها بما كانوا يكفرون ، فهم (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فيؤمنوا ولات حين مناص وقد فات يوم خلاص :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(٩٨).

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) إثقال في التأنيب والتعييب على القرى الكافرة التي لم تؤمن عند رؤية العذاب ، أم آمنت فلم ينفعها إيمانها إذ كان مخافة البأس دون مخافة الله ، اللهم (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) فنفعهم إيمانهم إذ آمنوا حقه بالله مهما كان بملابسة العذاب ، فليس الإيمان عند رؤية البأس غير نافع إلّا لكونه منبعثا عن البأس : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٤٠ : ٨٥).

١٦٧

ف (قالُوا آمَنَّا) و (لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) و (خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) تصريحات ثلاث بأنهم لم يؤمنوا ، وهنا (لَمَّا آمَنُوا) دليل أنهم آمنوا ، فعدم الإيمان الصادق هو طبيعة الحال لمن عاشوا كافرين حتى جاء بأس الله ، فليس ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، اللهم إلّا شذر نزر كقوم يونس (لَمَّا آمَنُوا) نفعهم إيمانهم لصدقهم ف (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أن يرجعوا كفارا فنعذبهم ، أم حين موتهم حيث ينقطع متاعهم الدنيا إلى متاعهم في الأخرى.

ذلك ، وفيما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم ، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت ، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها وبين السخلة وأولادها وخرجوا يعجون إلى الله علم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب (١).

أجل وإنه «لا ينجي حذر من قدر وإن الدعاء يدفع من البلاء» (٢) حين يكون حقا صادقا.

ذلك ، وليس هذا الاستثناء إلا عن واقع مستمر ، فلا يخص قوم يونس إلّا كواقع مضى ، فإن استقبل مثل ما عملوا فعل الله بهم كما فعل بهؤلاء من كشف العذاب ، ولأنه يندّد بسائر القرى التي لا تؤمن عند رؤية البأس ، أم تؤمن إيمانا لا ينفع وهو المنبعث عن رؤية البأس.

فلا بد لدفع العذاب من إيمان سابق عليه أم لاحق به يكسب فيه خير كقوم يونس ، ف (.. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ..) (٦ : ١٥٨).

ذلك و «فلولا» إهابة بالمكذبين المتعلقين بخيوط النجاة الأخيرة

__________________

(١) المصدر أخرج ابن النجار عن عائشة قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ... وقد قال الله في كتابه : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

١٦٨

علهم ناجون ، أن السنة جارية بدائب استمرارية التكذيب كما كان مهما تعلقوا عند رؤية البأس بلفظة الإيمان ، وهكذا كل عاص مؤجّل للتوبة ، حيث يغتنم الفرصة ما دامت الحياة قائلا : سوف أتوب ، ولكن أين الأمل من العمل ، ومن ذا يضمن توفيق التوبة وتوفر أسبابها بعد استمرارية العصيان : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٠).

«لو» هنا تحيل تلك المشيئة المخالفة للحكمة الربانية من الخلق فإنها الإختيار الاختبار «أفأنت» الرسول ـ ولن يشأ الله ـ (تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) و (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) مما يشي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصرا على إيمانهم لشوقه الفائق للإيمان (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٣١ في عيون الأخبار في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من أخبار التوحيد بسند سأل المأمون أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن قول الله جلّ ثناءه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ...) فقال (عليه السلام) : حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال : إن المسلمين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام ليكثر عددنا وقوتنا على عدونا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما كنت لألقى الله تعالى ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا وما أنا من المتكلفين فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يا محمد : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس وفي الآخرة ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وأما قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلّا بإذن الله وإذنه أمره لها ـ

١٦٩

ثم الإيمان كما الكفر ليس إلّا بإذن الله بعد اختيار الكفر أو الإيمان من المكلفين دون فوضى جزاف ، فالإذن التكويني الرباني لاحق كلما يحصل من كفر وإيمان ، ولكنه ليس مسيّرا لكفر أو إيمان ، فإنما هو بعد ما يختاره المختار من كفر أو إيمان ، فإذنه للكفر ـ إذا ـ تركه تأييده في سبيل الإيمان ، أم وحمله أيضا على كفر أكثر جزاء وفاقا على كفره المختار (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، كما إذنه للإيمان ـ إذا ـ تأييده في سبيل الإيمان فازديادا له : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) الكفر (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) جزاء على رجسهم المعمد إذ لم يستعملوا عقولهم.

ذلك ، فكما أن عدم إذنه تعالى أن تؤمن النفوس المتخلفة عن علم وعمد عن شرعة الله ، لا يعني إلا عدم توفيقه لهم في ذلك ، كذلك (يَجْعَلُ الرِّجْسَ) يعني رجس العذاب قضية رجس الكفر ، ومن رجس العذاب الختم على قلوبهم ، وإرسال الشياطين إليهم وتقييضهم عليهم.

وأما الإذن التشريعي فهو يعم كافة المكلفين ، كما التكويني المسيّر لإيمان أم كفر ، لا دور له على أية حال ، وإنما هو التوفيق وعدمه للإيمان وعدمه بعد ما اختاروا إيمانا أو كفرا.

فإذنه تعالى لمريد الإيمان تيسير له دون تسيير ، كما إذنه لمريد الكفر

__________________

ـ بالإيمان ما كانت مكلفة متعبدة وإلجاءها إياه إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها ، فقال المأمون : فرجت عني فرج الله عنك.

وفيه عن كتاب التوحيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول : اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس فإنه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله ، لا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب إن الله عزّ وجلّ قال لنبيه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإني سمعت أبي يقول : إن الله عزّ وجلّ إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره.

١٧٠

تيسير له بترك توفيقه دون تسيير ، اللهم إلا بما يختم الله على قلوبهم ، تسييرا إلى كفر اختاروا جزاء وفاقا ولا يظلمون فتيلا.

فلا حاجة إذا إلى تأويل عليل غليل أن الإذن هنا يعني العلم ، أو الإعلام وما أشبه من غير إذن.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠١).

هنا «انظروا» تعم إلى نظر البصر نظر البصيرة ، و (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعني في نظر البصر إلى النظر من بعيد ـ وهو بعيد عن السماء الأولى بأعماقها فضلا عن الستة الأخرى ـ تعني النظر من قريب على ضوء السفر بالصواريخ وأشباهها إلى السماوات ما استطعنا إليه سبيلا.

فقد نظرت الآية في ذلك النظر إلى مستقبل النظر بصريا مهما شمل كل نظر منذ نزولها إلى يوم الدين ، وذلك أمر يحلّق على أهل كل زمان أن يوسّعوا نطاقات محاولاتهم للرحلة الفضائية قدر المقدور ، وكما لمحت لذلك المستقبل الزاهر آية يوسف : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٢ : ١٠٥) فهنا (عَنْها مُعْرِضُونَ) وفي آيتنا (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) هما تعريضتان اثنتان بهؤلاء الذين غزوا الفضاء حتى الآن فقال قائلهم من السوگيت الملحد : ما رأينا الله على سطح القمر! وكما قال زميلهم فرعون : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ... لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ... وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) (٢٨ : ٣٨).

وواجب النظر هنا موجّه إلى المؤمنين بهذا القرآن كمحاور أولى لتحقيقه ، ثم كل من يسمع إلى هذه الإذاعة القرآنية.

فغزو الفضاء بمختلف الوسائل المستطاعة لبني الإنسان هو من الأمور الدينية التي توسع نطاق الآيات المستعرضة للناظرين ، توسيعا للآيات الآفاقية بمعرض الأنظار على مدار الزمن ، توكيدا وتوطيدا لتوحيد الله ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، مهما (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ـ

١٧١

وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

فكما الاستعراضات الرسولية والرسالية تهدف (عُذْراً أَوْ نُذْراً) كذلك استعراض سائر الآيات تهدف (عُذْراً أَوْ نُذْراً) لتكون كلمة الله وحجته هي البالغة في الخلق أجمعين.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(١٠٢).

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) هؤلاء المكذبون أن يأتيهم (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين؟ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) مثل أيامهم لكم ، وهنا «معكم» تلمح إلى معية ذلك الانتظار دون أن يكون له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأمر شيء.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣).

وهل إن بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسل حتى (نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا)؟ وقد ختمت به الرسالة والنبوة! كلّا ، حيث لا تعني «ثم» هنا ما ينتظر من مستقبل العذاب ، بل القصد مجموعة أيام العذاب لمن يستقبل إلى من مضى ، (ثُمَّ نُنَجِّي) في حقول العذاب (رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) معهم «كذلك» كان (حَقًّا عَلَيْنا) على مدار الزمن الرسالي (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٤).

(إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) في الطاعة والعبادة ، أهما لله لا شريك له ، أم لمن دون الله ، أم جمعا بين الأمرين ، «ف» ها أنا أعلن في هذه الإذاعة القرآنية أنني «لا أعبد (الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)بأي وجه وعلى أية حال (وَلكِنْ أَعْبُدُ) الله (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أحياء وأمواتا ويوم إليه تحشرون ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وحده لا شريك له.

١٧٢

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٥).

(أَقِمْ وَجْهَكَ) بكل الوجوه ظاهرة وباطنة دون إبقاء لأي وجه على أي وجه «للدين» الحق «حنيفا» معرضا عما سواه (وَلا تَكُونَنَ) أبدا (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بأية دركة من دركات الإشراك بالله ، فكن ـ إذا ـ في أخلص درجات التوحيد.

ذلك ، وذلك الإيجاب والسلب : (أَقِمْ ... وَلا تَكُونَنَ) وهما يعنيان كلة الإخلاص : «لا إله إلا الله» تراهما كيف يوجهان إلى أوّل المسلمين وأخلص المخلصين وهو عائش هذه الكلمة بكل كيانه طول حياته رساليا وما قبله؟.

ذلك له تأكيد وطيد ، ولمن يسمعه استئصال لآمال مائلة عن التوحيد أن يشاركهم مصلحيا إلى الإشراك بالله ، ثم ولآخرين عظة ونبهة أن الإشراك محظور محظور من أيّ كان ، فليس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه رسول حرا فيما يعتقد أو يفعل أو يقول ، بل هو كسائر المكلفين مسئول مسئول.

ذلك ، وباحتمال آخر تحتمله الآية وأضرابها ، الخطاب عام يشمل كافة المكلفين على الأبدال.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)(١٠٦).

فالذي ينفع بحق أو يضر بحق ، استقلالا دونما استغلال ، هو الله الذي لا إله إلّا هو ، ولا تعني العبادة كأصل في العابدين من دون الله إلّا جلب نفع أو دفع ضر ، فلا معبود إذا إلّا الله ، فعبادة من دون الله ظلم بالنفس وظلم بالحق وظلم على كافة المقاييس.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١٠٧).

إنه لا يدفع ضرّا لله أيّ دافع ، ولا خيره أيّ مانع ف «أطلبوا الخير

١٧٣

دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله تعالى فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوه أن يستر عوراتكم ويؤمن من روعاتكم» (١).

ذلك ، فالموحد الصالح ليس يخشى أحدا إلّا الله ، فإن أزمة الأمور طرا بيده ، والكل مستمدة من مدده.

فحين يقوم طاقاته المستطاعة في سبيل الله ، حصولا على مرضاة الله ، فلا عليه أن يخاف أية عراقيل في هذه السبيل ، وهو يعلم بيقين (إِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ.)

فالمشيئة الطليقة الربانية هي التي تدبر أمورنا كما يصلح حين نصلح له ونصلح ، حيث (يُصِيبُ بِهِ) : بضرّ أو بخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ولكنه ليس فوضى جزاف ، وإنما حسب المساعي والفاعليات والقابليات وما يراه الله ـ مع كل ذلك ـ صالحا شخصيا أم جماعيا لعباده (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فليس ليصيب عبادا له بضرّ ، إلّا فيما يستحقونه ولا حول عنه في قسطاس العدل والحكمة الربانية ، إذ سبقت رحمته غضبه ، فما دام للرحمة مجالة فلا مجال لغضبه ، اللهم إلّا إذا استأصلت مجالات رحمته فغضب على سبيل الحكمة الحكيمة ، والعدالة الرحيمة.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(١٠٨).

(قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ) الحقيق مجيئه من ربكم ، وهو الحق كله رسولا وقرآنا وسنة (مِنْ رَبِّكُمْ) فما أبقى ربكم حقا يحق أن يقوله لكم إلى يوم الدين إلّا وهو قائله في هذا الكتاب المبين ، (فَمَنِ اهْتَدى) بذلك الحق (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) حيث لا ينفع اهتداءه لا الحق ولا صاحب الحق مرسلا ورسولا فضلا عن الله ، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) إذ لا يضر بضلاله الحق وصاحبه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) في هداكم وضلالكم على

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣١٨ ـ أخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ..

١٧٤

أية حال ، إنما أنا رسول تقرّر موقفي :

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩).

فلا إتباع لك رسولا إلّا (ما يُوحى إِلَيْكَ) من ربك ، دون سائر الوحي من عقلك أم عقول الآخرين (وَاصْبِرْ) في بلاغ رسالتك دونما انقطاع (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بما يحكم هنا وفي الأخرى (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

ولقد صبر صاحب الرسالة العظمى على أعباءها حتى عجز الصبر من صبره ، وحقا يقال في حقه :

سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري

وأصبر حتى يحكم الله في أمري

سأصبر حتى يعلم الصبر أنني

صبرت على شيء أمرّ من الصبر

وهكذا نجد كيان هذه الرسالة السامية المنقطعة النظير بين كل بشير ونظير ، قد بلغت القمة في التربوية والتربية الربانية ، غير متأثرة من خماسية العوامل التربوية البشرية المحمّلة مصلحيا على الإنسان أيا كان وإيان ، فحقل التربية الأبوية والأمية ، والمدرسية ، والمحيط الذي يعيشه ، والتراث الذي يصنعه ، هذه العوامل لها تأثيرات هامة في بناية الشخصية الإنسانية خيّرة أو شريرة.

ذلك ولا بد للرسالة الربانية أن يحملها صنيع الرب ، ولكي يحلق على كافة الشكليات التربوية الناقصة البائسة غيارا لها ، وكذلك الشكليات الكاملة شيئا مّا ليرتقي بها إلى مراقي الكلمات المعنية من الإنسان ربانيا.

فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتبع إلّا وحي ربه منذ ولادة حتى ارتحاله ، مهما كانت درجات الوحي متفاضلة ، فهو صنيع الله قبل ولادة في أصلاب آباءه وأرحام أمهاته ، ثم وهو صنيعه حين ولادة إلى شبابه وإلى كهولته لحد الأربعين ، ومن هنا بزوغ القمة الرسالية المعنية بالوحي الأخير ليصبح رسولا إلى الناس أجمعين ، دون تأثير من المحيطات التربوية البشرية التي هي بين خاطئة وناقصة.

١٧٥

وإذا كان موسى «ولتنصع على عيني» وهو يحمل الرسالة العالمية الثالثة المحددة بزمنها الخاص ، فبأحرى هذه الرسالة الأخيرة ، لا بد وأن يخطو أرقى الخطوات ويحظو أرفع الحظوات في «ولتنصع على عيني» «واصطنعك لنفسي» وما أشبه من الاصطناعات الربانية.

١٧٦

سورة هود

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ

١٧٧

إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)

إنها سورة «هود» المذكور هو فيها خمس مرات ، وفي سائر القرآن مرتين : (١٢٦ : ١٢٤ و٧ : ٦٥) تذكر قصته هنا مع قومه في الآيات (٥٠ ـ ٦٠) وفي الشعراء (١٢٣ ـ ١٤٠) وفي الأعراف (٦٥ ـ ٧٢) فثمانية عشر آية في الشعراء وثماني في الأعراف تذكر ان دعوته ، وهنا إحدى عشر آية تتكفل ذكراه ، فلما ذا تسمى هذه السورة باسمه وعديد آيها بقصته أقل مما في الشعراء؟!.

أتراه لأن قصته هنا أطول من سائر القصص المسرودة فيها من المرسلين؟ ونوح يقص فيها من (٢٥ ـ ٤٩) وهي (٣٥) آية أكثر مما ذكر في سورته الخاصة به! وشعيب يقص فيها من (٨٤ ـ ٩٥) وهي (١٢) آية ، كما ويذكر معهما صالح وإبراهيم ولوط وموسى (عليهم السلام) وكأنها سورة قصصية تذكر فيها هؤلاء النبيون السبعة وفيهم نوح وإبراهيم وموسى من أولي العزم من الرسل (عليهم السلام).

أم لأن قصته هنا أهم مواضيع من قصته في الشعراء؟ ولا نجد اللهم إلّا عكسا أم على سواء!.

«الشعراء» الحاوية لفصل أكثر هي الشعراء لهامة القضاء على الشعراء ، ثم وعديد الجمل بينهما على سواء رغم زيادة عديد آيها في الشعراء.

ونوح (عليه السلام) تخص به سورته فكيف تتكرر سورة أخرى باسمه! وهكذا إبراهيم (عليه السلام) ، وموسى هو أكثر ذكرا بعديد اسمه وقصته من كافة المرسلين إلّا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكان قصته ، فلا حاجة إلى تسمية سورة خاصة به وهو عشر عشرات من السور

١٧٨

بقصصه! ثم شعيب وصالح ولوط ليسوا مثل هود في قصته مع عاد الأولى وهم شر الأقوام الرسالية على الإطلاق ، مما يفضل تسمية هذه السورة باسم قهرمان الدعوة في ذلك الوسط الغدار الجبار!.

ذلك ، و «هود» من السور التي شيبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) لمكان (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١١٢) ولكن الآية مذكورة مرة أخرى في الشورى (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ..) (١٥) فما هي ـ إذا ـ ميّزة هود على الشورى؟ أتراها لما تحوي من قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ وهي منبثة في القرآن كله وقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنك قلت شيبتني هود؟ قال : نعم ، قيل : فما الذي شيبك منه ، قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ولكن قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٢).

علّ «أخواتها» تعني فيما عنت «الشورى» أم ولما تشمل هود وأخواتها سائر القول الثقيل كالغاشية والقارعة وسأل سائل والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ، فقد ذكرت هذه من أخواتها ولا تحوي آية الاستقامة إلّا الشورى وهي غير مذكورة فيها ، وهود في ذلك الميدان تحويها وأهوال القيامة وقصصا قاسية راسية من المرسلين

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣١٩ عن أبي بكر قال قلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد أسرع إليك الشيب؟ قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ، وبنقل آخر قلت : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عجل إليك الشيب؟ قال : شيبتني هود وأخواتها والواقعة والحاقة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية ، وفي ثالث إضافة القارعة وسأل سائل ، والنقل المتظافر يحوى هود والواقعة ، فهما ـ إذا ـ قهرمانتان في ذلك الميدان ، بفضل هود على الواقعة لمكان هود وأخواتها في أحاديث عدة.

(٢) المصدر أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي السري قال رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) روى عنك أنك قلت : شيبتني هود ...

١٧٩

مع أقوامهم كنوح وإبراهيم وموسى وصالح ولوط!.

ذلك وقد تمتاز هود في «فاستقم» حيث انضم إليه (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) فعليه أن يجعلهم مستقيمين كما هو وذلك أثقل من استقامته (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه ، وقد يأتي نبأها الفصل عند آيتها.

(الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

هنا (كِتابٌ أُحْكِمَتْ) علّه من نفس (الر) حيث أحكمت آياته في مثل هذه الحروف الرمزية ، ثم فصّلت في مفصلات الآيات للناس ، وفصلت بوحي خاص لرسول الناس.

كما وأنه كل القرآن حيث أحكمت آياته (فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٤) ثم فصلت ليلة القدر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم فصلت في القرآن المفصل كله ، وكل ذلك (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) إحكاما وتفصيلا ، دون تدخّل حتى للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أي إحكام أو تفصيل ، كما وأحكمت في متشابهات ثم فصلت بمحكمات ، فقد أحكمت آياته في نبرات ، ثم فصلت بآيات أخرى ، وأحكمت معرفيا ثم فصلت علميا وعقليا على مر الزمن ، فإن للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن ، إذا فلا إحكام في القرآن إلا وهو مفصل من قبل الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ولقد فصلنا القول حول مرحلتي إحكام القرآن وتفصيله في سورة القدر والدخان والقيامة (١٦) وطه (١١٤) وسواها فلا نعيد هنا إلّا ما فصلت في (ثُمَّ فُصِّلَتْ).

«ثم» هنا تراخي تفصيل الكتاب عن إحكامه فتراخ أول هو منذ الأزل حتى ليلة القدر ، وتراخ ثان هو طيلة رسالة الوحي منذ ليلة القدر وهي ثلاث وعشرون سنة ، ثم هناك تفصيل آخر على مدار الزمن وتقدّمه حيث تتجدد معارف من الذكر الحكيم لم تكن تعرف من محكم الكتاب على تفصيله ، ومن ثم تفصيل آي بآي أخرى حيث القرآن يفسر بعضه

١٨٠