الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بعضا وينطق بعضه على بعض ، ثم تفصيل القرآن بالسنة لمكان (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ).

فلا تفصيل حقيقا للقرآن إلّا (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) مما يحصر تفسير القرآن بنفسه ، ومنه تفسيره بالسنة حيث أمرنا باتباعها ولكنها لا تعرف إلّا بموافقة القرآن ، دون أية حاجة إلى تفسير وتفصيل من عند غير الله ، فكما أن أصل كتاب القانون الرباني منه ، كذلك التبصرات له فصلا ، فقد يفسر الوحي نفسه كتابا وسنة.

فكما أن الحكيم الخبير يفصّل محكم القرآن تدوينيا ، وحيا وما أشبه ، كذلك يفصله تكوينيا على مدار تقدم الكشوفات والاختراعات ، وتقدم العقليات التي توضّح ما أحكم من الذكر الحكيم.

فحركات الأرض ودورانها ، وانعكاسات الأعمال بأصواتها وصورها ، والجاذبية العامة بملابساتها ، وتقدم هذه الكرة الأرضية على سائر الكرات بسماواتها ، ووجود دواب في السماوات كما في الأرض وما أشبهها من عشرات ومئات ، هي من التفصيلات التكوينية لما احكم في الذكر الحكيم.

ذلك ، ومن أحكم الإحكام في القرآن الذي يليه التفصيل هو التوحيد الذي يحلق على كافة موضوعاته ومواضعه ، فإنه الموضوع الوحيد الذي يحول حوله كل تفصيل ، بارزا في أصوله وفروعه ، عقيدية وأحكامية وقصصية وسواها من تفاصيل الكتاب.

فقد (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) في حكيم التوحيد الحق وحق التوحيد ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) في تفصيله مهما اختلفت المظاهر التوحيدية فيها ، فكلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) المحكمة الحكيمة هي مفصّلة في كافة محتوياته دون إبقاء ، مما يربط بينها برباط حكيم عميم ، دون انفلات عنها وإن بآية من آية.

ف «ثم» إذا لا تعني التراخي في ذلك التفصيل ، مهما عنته فيما سبق من تفصيل ، فهي تعنيهما كما يعني الإحكام والتفصيل كل هذه الإحكامات والتفاصيل.

١٨١

أجل ، فلقد (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) بكل معاني الإحكام الحكيمة المناسبة للتفصيل الفضيل ، فجاءت قوية البناء ، دقيقة الدلالة ، ظاهرة المدلول ، كل كلمة فيها ، وكل إعرابة ونقطة ، وكل ترتيبة وتركيبة ، هي فيها مقصودة ، وكل إيماءة وإشارة لمّاعة ذات هدف ، متناسقة منسّقة بإحكام التوحيد الذي يربط بين تفاصيلها ، والتفصيل الوحيد الذي لا يمكن إلّا (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وذلك الإحكام بذلك التفصيل يعنيان : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...).

ذلك ، وإذا عني من «كتاب» هنا كتاب التوحيد ـ بوجهه الخاص أم والعام المحلّق على القرآن كله ـ فقد أحكمت آياته في أم الكتاب قبل كل كتاب ، ثم في الفطر والعقول ، ثم في كتابات الوحي وسائر الآيات الآفاقية ، وكل مرحلة تالية تفصيلة لما قبلها ، وكلّ هذه التفاصيل والإحكامات هي (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) فبحكمته وخبرته كتب كتاب التوحيد بيده القدرة والرحمة الشاملة في الفطر وفي العقول ، وفي سائر الآفاق سواء أكانت كتابات الوحي أم سواها ، والأول والأخير كتابان معصومان ، وعلى العقول التي هي وسيطة بين كتاب الفطرة والشرعة وسائر الكتب الآفاقية ، أن تتدبر وتجيد النظر لتأخذه من الكتابين المعصومين خير أخذة.

هذا ، وخالص التوحيد ينعكس على كافة العقائد والأعمال دون إبقاء ، فإن صالح الإنسان في كل أقواله وأحواله وأعماله ، يتوحد في التوحيد الحق المطلق ، دون انزواء في زاوية العقيدة ، ثم لا خبر عنه في سائر الحالات والمجالات والجلوات.

إذا فكتابات الوحي ، ولا سيما القرآن العظيم ، هي بصورة محكمة حكيمة ليست إلّا كتابات التوحيد ، المتجلي في كافة الخلوات والجلوات ، بحيث تصنع من تاليها حقا كلمة «لا إله إلا الله» :

ذلك ، ومن حصائل التوحيد الحق حق العقيدة لليوم الآخر كما تتكفلها : «إليه مرجعكم جميعا وهو على كل شيء قدير» وكذلك الأمر

١٨٢

بين المبدإ والمعاد لقوله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) بأصل الرسالة وهي ثالثة الأصول الدينية ، وكذلك الفروع الدينية لمكان (أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) حيث الاستغفار وهو طلب الغفر ينحو منحى معرفة شرعة الله وتطبيقها ، فإنها غافرة ساترة للأخطار دفعا ورفعا ، دفعا لما تهجم من أخطار ، ورفعا لما حصلت من ذي قبل ، فإن صالح العقيدة وصالح العمل هما مكفران لما يحصل من لمم وفوقه حسب الشروط المسرودة في القرآن.

فقد شمل «كتاب» هنا كلتي مرحلتي الإحكام والتفصيل لأصول الدين وفروعه ، منذ (أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) حتى التفصيل الأخير للكتاب وبهامشه السنة ، سواء أكان كتاب التكوين الأم بالنسبة لما كتبه الله في الفطر ، وكتاب التشريع الأم بالنسبة لما كتبه في ليلة القدر على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولأن القرآن مقصود في هيكل التفصيل التأليف ، كما هو مقصود في التفصيل التنزيل ، لذلك لا يصح غيار في تفصيله التأليفي ، فإنه مقصود في هذه الدعوة الأخيرة العالمية.

إذا فتأليفه حسب ترتيب التنزيل ، أم موضوعيا ، أما أشبه من غيار عن الهيكل الموجود ، إنه معارضة لما أراده الله في كتابه من ترتيب رتيب.

وهكذا تفسيره خلاف التسلسل الموجود ، اللهم إلّا خاصة المواضيع المقصودة بخاصة الدعوة القرآنية لخاصة الظروف والمتطلّبات قضية مؤاتية البيئات.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ)(٢).

فلقد توارد كلا الإحكام والتفصيل في ذلك الكتاب على توحيد العبودية الذي يتلو توحيد المعرفة ، وبينهما كل توحيد يحق في ساحة الدعوة الرسالية القرآنية ، ومنها :

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ

١٨٣

مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(٣).

(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) طلبا لغفره عما حصل رفعا وعما يريد ليحصل دفعا (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) توبة صالحة نصوحا تؤهلكم للغفرين رفعا ودفعا ولكي (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) محتوما أو معلقا ، والمتاع الحسن ما يمتع الإنسان في الحياة الدنيا كما يناسب الحياة الأخرى وكما يطلبه أهل الله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (٢ : ٢٠١) ثم (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) بمتاعه (١) الحسن ، والرعاية الحسنة «فضله» حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة بفضل أعماله وفضل الله بأعماله (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الله وعن الاستغفار والتوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو القيامة الكبرى ، وقبلها البرزخ وعذاب يوم الدنيا.

وهنا التوبة بعد الاستغفار قد تعني أنها سبب لقبول الاستغفار ، فمن يستغفر بلسانه أم وبجنانه ولكنه لا يرجع إلى ربه بما يزيل درن العصيان فلا يقبل منه الاستغفار.

فالاستغفار حالة للتوبة كما التوبة هالة للاستغفار : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥ : ٧٤) فقد تعني الواو هنا الحال ، يتوبون حال أنهم يستغفرونه ، أم والعطف حيث تعني «ولا يستغفرونه» دون عناية للترتيب.

فلأن الاستغفار يتقدم على أن يتوب الله ، وليست هي إلا بعد توبة العبد إلى الله ، فهي إذا متوسطة بين استغفارك وتوبة الله عليك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (١١٠ : ٣).

ف (يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (١١ : ٥٢) (فَاسْتَغْفِرُوهُ

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٣ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ عن ابن مردويه في المناقب كما في كشف الغمة أن المراد من «ذِي فَضْلٍ» علي (عليه السلام).

وفيه ١٤ : ٣٢٥ ومنهم الأمر تسرى في أرجح المطالب (٨٦) والحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ٢٧١).

١٨٤

ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (١١ : ٦١). وقد يعني تأخر التوبة عن الاستغفار بما عنى ، الاستغفار من سالف الذنوب ، والتوبة نصوحا عما يستقبل ، والاستغفار من الشرك ، والتوبة من سائر المعاصي ، والاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي ، والتوبة محاولة الإنسان نفسه لإزالة ما لا ينبغي.

ولأن متاع الحياة الدنيا هو (مَتاعُ الْغُرُورِ) بما يغركم به الغرور ، ف (مَتاعاً حَسَناً) هو البعيد عن غرور الغرور ، فضلا عن كل غرور ، فيكون متاعا تشتري به الحياة الآخرة ، فحين يشرى بالحياة الآخرة يصبح متاع الغرور ، وإذا يشرى به الحياة الآخرة فهو المتاع الحسن ، وكما يصف الإمام علي (عليه السلام) الدنيا التي طلقها ثلاثا لا رجعة فيها

بقوله : «من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته».

ثم «فضله» في (يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) تعني فضل الله إلى فضل ذي الفضل ، حيث يجازيهم فضلهم بزيادة من فضله ، مهما كان كلّ من فضله ورحمته.

ذلك و (مَتاعاً حَسَناً) ليس يختص بالمتعة الفردية بل والجماعية التي تمتع المجموعة المستغفرة التائبة ، فتصبح الحياة الدنيا نموذجة من الحياة العليا ، وكما سوف نجدها زمن صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فالمتمتع حسنا بمتاع الحياة الدنيا له الحسنى في الحياتين مهما أساء إليه الآخرون ، إذ (يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) وبالنتيجة يؤت كل ذي رذل رذله ، مهما كانت الآخرة هي المجالة الحقة الحقيقية لذلك الإيتاء الفاضل ، ولكن للدنيا أيضا نصيب كما يناسبها : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٧ : ٩٦).

فالمتاع الحسن لا يعني ـ فقط ـ ما يحسن الحياة الأخرى ، بل والأولى هي الركيزة الأولى لحسنه مهما قل وعلّ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

١٨٥

وأما أن «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» و «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ثم (لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) فهذه حقائق صادقة لا تنكر ، ولا يعني (مَتاعاً حَسَناً) عدم البلية في هذه الدنيّة ، وإنما يعني ما يناسب الحياة الأخرى حيث يحقق مرضات الله ، ومعيشة المؤمن على أية حال هي الحسنة المريحة الفاسحة مهما مرض وظلم وافتقر حيث يرتكن على الله بذكره وهداه ورضاه ، وهي الحسنى في الحياة الإيمانية خلاف سائر الحياة : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٢٤).

فالمشتغل بطاعة الله وعبادته منشغل عما سوى الله ، مبتهج بالله ، فالحياة الدنيا له جنة في باطنها حاضرا ومستقبلا ، مهما كانت له سجنا حيث يسجن فيها عن لقاء الله الحاصل له يوم الأخرى ، وهي جنة للكافر على ضنكها إذ لا يحسب لنفسه حياة إلّا إياها ، أترى المعيشة الضنك هي في الحق جنة ، والمعيشة الواسعة برضوان من الله هي في الحق سجن؟.

فلننظر (مَتاعاً حَسَناً) بعمق البصيرة دون ظاهر البصر ، فحين يقول الله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١) لا يعني إلّا نصرة في حمل الرسالة والإيمان وتطبيق الواجب فيهما ، دون زهرة الحياة الدنيا مهما حصلت أحيانا مّا ، كما و (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) و «ألا إن حزب الله هم الغالبون» يعنيان تلك الغلبة الصالحة الفالحة بميزان الله لأهل الله.

فطمأنينة القلب إلى العاقبة الحسنى ، والاتصال بالله والرجاء في نصره وإحسانه وفضله كما يشاء ويرضى ، كلّ ذلك عوض عن كل متعة في الحياة الدنيا ، للإنسان المرتفع عن الحس المادي الغليظ الحضيض البغيض.

ومهما كان المؤمنون القلة مظلومين في مجتمع يسود فيه الظلم ، فلا تخلو حياتهم عن متاع حسن إذ لا يبتلون هم أنفسهم بالظلم ، ولا ينظلمون

١٨٦

عيشة تحت نير الذل والظلم.

ثم المجتمع الذي يسود فيه الإيمان بالله ، تطبيقا لشرعة الله ، نجده لا يقاس في متاعه الحسن بالمجتمعات الرذيلة البعيدة عن الفضيلة ، حيث الضنك في العيشة تشملها كلها ، ولكن المؤمنين فيها ، المظلومين غير الظالمين ، هم مطمئنو القلوب بذكر الله ورضاه.

ومما يرتاح إليه المؤمنون المطمئنون بالله ووعوده ، العائشون مرضات الله ، أنه :

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤).

«قدير» على إرجاعكم كما هو قدير على خلقكم في الأولى ، «قدير» على إيتاء كل ذي فضل فضله ، وإيتاء كل ذي رذل رذله ، قدير على كل ما وعده الصالحين والطالحين ، وهذا من المتاع الحسن.

وترى (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) تعني ـ فقط ـ رجوعنا بالموت إلى عالم الجزاء؟ كما يختصه القشريون به! أم رجوعنا بكامل التكامل إلى عالم الربوبية ، كأمواج البحر التي هي راجعة إلى البحر نفسه كما يتقوله القائلون بالفناء في الله؟ وهو رجوع فيه وهنا رجوع إليه!.

إنه رجوع دائب إلى الله معرفيا وعبوديا ، كما ابتدأنا وأبدع فينا فطرت التوحيد والعبودية ، وكما تعنيه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

والرجوع إلى الله اثنان ثانيهما رجوع إليه باختيار ، محاولة بكافة المساعي الميسّرة للوصول إلى جناب مرضاته ، وليس إلى ذاته أو صفاته ، وأولهما كوننا في قبضته رغم اختيارنا ، ثم في قبضة الموت.

وهنا (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) تعني الرجوعين ، إخبارا عما ليس فيه اختيار ، وإنشاء لما فيه اختيار ، فليكن الإنسان دائب السلوك إلى ربه دونما غفوة ولا فترة ، مهاجرا إلى الله على أية حال ، في كل حلّ وترحال.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ

١٨٧

يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥).

نص جليّ عليّ يستعرض صورة عن حالة واقعة من الكافرين بهذه الرسالة السامية القرآنية ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمعهم كلام الله ، فيثنون هم صدورهم ، عطفا لها وطيّا وردّا لبعضها على بعض ، عناية لغلق أبواب النور إلى الصدور ، التي هي بطبيعة الحال الفطرية منفتحة إلى النور ، (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) طلبا لخفاءهم عن جلية الآيات البينات ، ولكي لا يسمعوها حتى لا يعوها (يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) على رؤوسهم وآذانهم. ألا حين يستغشون ثيابهم ويثنون صدورهم ، ليستخفوا منه (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) بثني صدورهم (وَما يُعْلِنُونَ) باستغشاء ثيابهم و (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لا تخفى عليه خافية ولا تعزب عنه عازبة.

ذلك ، وقد يعني (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) استخفاء صدورهم من الله (١) الذي فطرهم على معرفته ، فاستخفاء عن نبي الله الذي دعاهم إلى طاعته (٢) وبالنتيجة استخفاء عن كتاب الله (٣) فهم (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) هادفين ثالوث الاستخفاء ، ولكنه (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من ذلك الثالوث السالوس المنحوس (وَما يُعْلِنُونَ) وهما له واحد في علمه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عليم أنه فطرها على معرفته بتوحيده ، عليم بثنيهم صدورهم استخفاء عما فطرهم عليه ، وعما دعاهم إليه من رسوله وكتابه ، ويا لها من رهبة غامرة وروعة باهرة حين يتصور الإنسان حضور ربه بكل محاضره ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٢٠ عن مجاهد في الآية قال : تضيق شكا وافتراء في الحق ليستخفوا منه قال : من الله إن استطاعوا.

(٢) المصدر عن عبد الله بن شداد بن الهاد في الآية قال : كان المنافقون إذ أمر أحدهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثنى صدره وتغشى ثوبة لكيلا يراه فنزلت ، وفي روضة الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول البيت طأطأ أحدهم ظهره ورأسه هكذا وغطى بثوبه حتى لا يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله هذه الآية.

(٣) المصدر عن قتادة في الآية : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله.

١٨٨

وهم أولاء الأنكاد البعاد «يثنون صدورهم ويستغشون ثيابهم» استخفاء من الله ومن رسول الله ومن كتاب الله كيلا تفاجأهم ذكراه.

ذلك ومن ثني صدور المنافقين أنهم كانوا إذا اجتمعوا مع بعضهم البعض تخافتوا بينهم في الكلام ، وحنوا ظهورهم تطامنا عند الحوار ، خوفا من رمق العيون ومراجم الظنون ، لوقوع ما يتفاوضونه في أسماع المسلمين ، فإذا انحنت ظهورهم أثنت صدورهم ، فأعلمنا الله أنهم وإن أغلقوا أبوابهم وأسدلوا أستارهم واستغشوا ثيابهم مشتملين عليها ، مدخلين رؤوسهم فيها ، فإنه تعالى يعلم غيب صدورهم ودخائل قلوبهم ومرامز أعينهم ومحاذق ألسنتهم.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦).

(وَما مِنْ دَابَّةٍ) تحمل رزقها أو لا تحملها (فِي الْأَرْضِ) وسواها (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٩ : ٦٠).

إذا ف (فِي الْأَرْضِ) قد تعني الحاضر في المسرح حيث المخاطبون هم في الأصل أهل هذه الأرض ، أم تعني كل أرض فيها دابة فتشمل ـ إذا ـ كل دابة في كلّ أرض ، كما وآية العنكبوت أطلقت الدابة ، ثم آية أخرى من هود تعممها إلى كل دابة : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦) فتشمل إلى دواب الأرض دواب السماء : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٤٢ : ٢٩).

وهنا (عَلَى اللهِ رِزْقُها) تعني أنه هو الذي يرزقها بأمره دون وسيط أم بوسيط ملائكي أم بشري أم عملي ، من محاولات الدواب التي تحمل رزقها أم لا تحملها.

فعلينا أن نسعى لأرزاقنا متوكلين على الله لا سواه ، وكما أمرنا الله في شرعته ، دون تذلل أمام فلان وفلان ، فإن الله تكفّل أرزاقنا من الإنس

١٨٩

والجان ومن أشبهنا بما نسعى حسب المستطاع والإمكان ، أم دون سعي لمن لا يحمل رزقه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١).

أجل فقد «قسم أرزاقهم وأحصى آثارهم وأعمالهم وعدد أنفاسهم

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٣٥ في تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من أهل البادية فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لي بنين وبنات وإخوة وأخوات وبني بنين وبني بنات وبني إخوة وبني أخوات والمعيشة علينا ضيقة (خفيفة) فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا؟ قال : وبكى فرقّ له المسلمون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين «من كفل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبا كالماء المنهمر إن قليل فقليلا وإن كثير فكثيرا ، قال : ثم دعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمّن له المسلمون ، قال قال أبو جعفر (عليه السلام): فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن حاله فقال : من أحسن من حوله حالا وأكثرهم مالا.

وفي الدر المنثور ٣ : ٣٢١ ـ أخرج الحكيم الترمذي عن زيد بن أسلم أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أرسلوا من الزاد فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله فلما انتهى إلى باب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعه يقرأ هذه الآية (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ..) فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله ، فرجع ولم يدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لأصحابه : أبشروا أتاكم الغوث ، ولا يظنون إلا أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوعده فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاءوا ثم قال بعضهم لبعض : لو انا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقضي به حاجته ، فقالا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنا قد قضينا حاجتنا ، ثم إنهم أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به ، قال : ما أرسلت إليكم طعاما ، فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره ما صنع وما قال لهم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء رزقكموه الله تعالى.

١٩٠

وخائنة أعينهم وما تخفي صدورهم من الضمير ومستقرهم ومستودعهم من الأرحام والظهور إلى أن تتناهى بهم الغايات» (١).

فبين مستقرات الأرحام والظهور ومستودعاتها إلى أن تتناهى بهم الغايات ، كلها معلومة لربنا سبحانه وتعالى ، حيث (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) من علمه المكنون دون أن يعزب عنه شيء.

ف (مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) تعم كافة حالات الدواب طول حياتها ، حيث يعنيان جنسهما دون شخص خاص أم لأشخاص خصوص : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٥١ : ٢٣) وقد (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٦ : ١٢) مما يؤكد أن رزق كل دابة على أية حال ، وفي كل حلّ وترحال ، مضمون عند الله لا يتخطاه.

فقد تقول دودة في قلب الصخرات : «سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ولا ينساني» (٢) وترى (عَلَى اللهِ رِزْقُها) تعطيل لأسباب الرزق المقررة المدبرة لمن يحمل رزقه بسعيه؟ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٩ : ٦٠) قد تخصص «على» في فرضها بمن لا تحمل رزقها ، ثم (عَلَى اللهِ) تحمل فيمن تحمل رزقها على ما قرره الله لها من سعي (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)!.

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام.

(٢) وفي تفسير الفخر الرازي ١٧ : ١٨٦ روى أن موسى (عليه السلام) عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت فخرجت وخرجت صخرة ثانية ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة ثم ضربها فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الحجاب عن سمع موسى (عليه السلام) فسمع الدودة تقول : ..

وفي الدر المنثور ٣ : ٣٢١ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة هذا ما استودعتني.

١٩١

فليس المقصود أن هناك رزقا مقدرا يأتي دون سعي لمن بإمكانه السعي كما يعتقده بعض المجاهيل البطالين من الناس ، وإلا فأين الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها وجعلها من نواميسه في رزقه؟ وأين حكمة الله في إعطاء مخلوقات قدرات وطاقات وقد خلقنا واستعمرنا في الأرض : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) (١١ : ٦١) و (أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٨٤ : ٦).

ذلك ، ومن ذا الذي يرزقنا بما نسعى قدر ما تقتضيه حكمته العليا : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢١) لكلّ من مريد العاجلة والآجلة : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ١٨ ـ ٢٠).

وترى (عَلَى اللهِ) تعم الرزق الحرام إلى الرزق الحلال؟ طبعا لا! إلّا أن الله يحرم طالب الحرام عما قدر له بسعيه من الحلال ، والمتخلفون عن شرعة الله في طلب رزق الله ، هم منهيون منئيون عن حرامه شرعيا وإن كانوا يرزقونه تكوينيا قضية الحكمة في دار الإختيار الاختبار.

«ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوا بشيء من معصية الله فإن الله قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبر أتاه رزقه من حله ومن هتك حجاب ستر الله عزّ وجلّ وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه» (رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

و «اعلموا علما يقينا أن الله عزّ وجلّ لم يجعل للعبد وإن اشتد جهده

١٩٢

وعظمت حيلته وكثرت مكائده أن يسبق ما سمي له في الذكر الحكيم ، أيها الناس إنه لن يزداد امرء نقيرا بحذقه ، ولن ينقص امرء نقيرا لحمقه ، فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته ، والعالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته ، ورب منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه ، ورب مغرور في الناس مصنوع له ، فاتق الله أيها الساعي عن سعيك ، وقصر من عجلتك ، وانتبه من سنة غفلتك ، وتفكر فيما جاء عن الله عزّ وجلّ على لسان نبيه» (١).

إذا ف (عَلَى اللهِ) كما تعم الرزق بسعي لأهله ، إلى الرزق بغير سعي لمن لا يحمل رزقه ، كذلك تعم تكوينه المخالف لتشريعه ، إلى الموافق لتشريعه ، وهذه هي من قضايا توحيد الربوبية (٢).

ذلك ، و «أما بعد فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات

__________________

(١) في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا ما يقول : ..

(٢) في الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أظن أن علي بن الحسين (عليه السلام) يدع خلقا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليه السلام) فأردت أن أعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأي شيء وعظك؟ فقال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر (عليه السلام) وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي : سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما أني لأعظنّه ، فدنوت منه وسلمت عليه فرد علي بنهر وهو ينصاب عرقا فقلت : أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا؟ أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال؟! فقال : لو جاء في الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّ وجلّ أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس وإنما كنت أخاف إن جاءني وأنا على معصية من معاصي الله ، فقلت : صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.

وفيه بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت : جعلت فداك حالك عند الله عزّ وجلّ وقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت تجهد في مثل هذا اليوم؟ فقال : يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني به عن مثلك.

١٩٣

المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان ، فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس فلا تكونن له فتنة» (الخطبة ٢٣) فإن «عياله الخلائق ، ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم» (٨٩) فقد «قدر الأرزاق فكثرها وقللها وقسمها على الضيق والسعة ..» (٨٩).

وترى الأرزاق مضمونة بلا عمل؟ كلّا ف «قد تكفل لكم بالرزق وأمرتم بالعمل ، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله .. حتى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم وكأن الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم» (١١٢).

هذا ، وليس معنى ازدواجية الطلب والتقدير أن القدر هو بمقدار الطلب ، إذا «فخفّض في الطلب وأجمل في المكتسب ، فإنه رب طلب قد جرّ إلى حرب : ـ سلب ـ فليس كل طالب بمرزوق ولا كل مجمل بمحروم ، وإن استطعت ألّا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك ، وإن اليسير من الله سبحانه أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كلّ منه» (٢٧٠).

و «اعلموا علما يقينا أن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته واشتدت طلبته وقويت مكيدته أكثر مما سمي له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته وبين أن يبلغ ما سمي له في الذكر الحكيم ، والعارف بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعة ، والتارك له الشاك فيه أعظم الناس شغلا في مضرة ، ورب منعم عليه مستدرج بالنّعمى ، ورب مبتلى مصنوع له بالبلوى ، فزد أيها المستمع في شكرك ، وقصر من عجلتك وقف عند منتهى رزقك» (الحكمة ٢٧٣).

ذلك ، والضابطة العامة (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ولكنه في رزقه قدر ما قدّر بما سعى دون قدر ما سعى ، ثم «لو سدّ على رجل باب بيته وترك فيه من أين كان يأتيه رزقه»؟ إنه يأتيه رزقه «من حيث يأتيه أجله» (٣٥٦ ح) «.. ولن يسبقك إلى رزقك طالب ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطئ عنك ما قدر لك» (٣٧٩ ح).

١٩٤

ولأن المعيشة تختلف حسب إختلاف الطلب حلا وحرمة وراحة وتعبا فعلينا أن ندعو ربنا في طلبها وكما يروى عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) :

«اللهم إني أسألك خير معيشة أتقوى بها على جميع حوائجي ، وأتوصل بها في الحياة إلى آخرتي من غير أن تترفني فيها فأطغى ، أو تقصّر بها علي فأشقى ، وأوسع عليّ من حلال رزقك ، وأفض عليّ من سيب فضلك ، نعمة منك سابغة ، وعطاء غير ممنون ، ثم لا تشغلني عن شكر نعمتك بالإكثار مما تلهيني بهجته ، وتفتنني زهرات زهوية ، ولا بإقلال منها يقصر بعملي كدّه ، ويملأ صدري همه ، أعطني من ذلك يا إلهي غنى عن شرار خلقك ، وبلاغا أرجو به رضوانك» (١).

ذلك وإجابة عن سؤال : إذا كان (عَلَى اللهِ رِزْقُها) تحلّق على كل دابة ، فما بال بعض الناس يموتون جوعا ، أو من تضيّق الرزق أكلا أو صحيا؟ نقول : (عَلَى اللهِ رِزْقُها) تعني كلا التكوين والتشريع شرط المساعي المقررة في شرعة الله ، فلكلّ حسب سعيه وقدر ما قدره الله ، ولا تعني (عَلَى اللهِ رِزْقُها) إلّا واقع التقدير لولا الموانع من قبل المقدّر لهم تبطلا ، أو من قبل الظالمين حقوقهم ، دون إيصال المقدر لهم دون سعي ، أم إزالة للموانع فإنها تنافي دار التكليف ودور الامتحان.

فحين قدّر لك قدر بما تسعى وبما لا يمنع ظالم أو يدفع من عليه حقّك حقّك ، فلا ضمان لوصول المقدر إليك حين تترك السعي اللّائق ، أو لا تأخذ حقك من الظالم ، أو لا تقدر على استجلاب حقك قضية قوة الظالم وضعفك.

فقد قدر الله لكل دابة رزقها حسب الحكمة العالية والمساعي الصالحة ، لولا الموانع لوصوله إليك ، وإن كان الله قد يزيل الموانع ، ولكنها ليست ضابطة في دار الإختيار الاختبار.

__________________

(١). الصحيفة الثانية السجادية.

١٩٥

ثم ولا تعني (عَلَى اللهِ رِزْقُها) واسعة ، وإنما هو القوت بقية على حياتها ، وذلك موسع على كافة الفقراء ، ولا أقل من حشاش الأرض التي فيها بقية الحياة مهما كانت صعبة ملتوية.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧).

آية وحيدة منقطعة النظير في صيغة التعبير عن مرحلتي الخلق الأوليين ، حيث الثانية تتبنى الأولى كما تتبناها الثالثة وعلى طول الخط.

هذه الآية قد تتحدث عن المادة الفردة الأولى ، أو الخلق الأول : «الماء» حيث (كانَ عَرْشُهُ) في (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (عَلَى الْماءِ) ، حين تعني «عرشه» بناءه تعالى في خلقهما ، وقد يعني معه كانت سلطته التدبيرية (عَلَى الْماءِ).

لقد تحدثنا في قول فصل عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام على ضوء آياتها ، ففصلناه في «فصلت» والبقرة والنازعات وما أشبه ، وما فصلت في «فصلت» هي أفصل وأحصل رغم أنها أعضل مما سواها ولكنها أفضل تبيانا.

وهنا نتحدث عن ذلك «الماء» الذي هو مادة خلق الأرض والسماء ، بكل إمعان وإتقان وعن (عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) والله هو المستعان فعليه التكلان.

العرش هو كسائر اللغات المشتركة الاستعمال بين الخلق والخالق ، هنا تجرّد عن المعاني الخلقية ، وتختص بما يناسب ساحة الربوبية ، فقد تعني هنا مستقر سلطته تعالى ، وقد جاءت العرش ـ أيضا ـ بمعنى البناء العال ك (مِمَّا يَعْرِشُونَ) (١٦ : ٦٨) و (ما (١) كانُوا يَعْرِشُونَ) (٧ : ١٣٧) فقد كان بناءه تعالى حين خلق السماوات والأرض على الماء ، أم وسلطته ، وهما هنا بمعنى واحد هو أن مادة خلقهما كانت هي الماء.

ومن ثمّ عرش ثان هو لإدارة شئون السماوات والأرض كما (خَلَقَ

١٩٦

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣).

وعرش ثالث يوم القيامة الكبرى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ..) (٣٩ : ٧٥) (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٦٩ : ١٧).

فالعرش وهو السلطة الربانية بملابساتها الخلقية ، هو واقعيا وفعليا ليس إلّا في مثلث الزمان ، على المادة الأولية : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وعلى السماوات والأرض : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) وعلى القيامة الكبرى ، تقديرا وتدبيرا ، وأما قبل الخلق حيث كان الله ولم يكن معه شيء فلا عرش إذ لا معروش ، مهما كان له العرش ذاتيا لمكان الحياة والعلم والقدرة الطليقة ، فهو «خالق إذ لا مخلوق» بمعنى قدرته على الخلق قبل مشيئته ، كذلك هو (ذُو الْعَرْشِ) إذ لا معروش ، بمعنى سلطته على ما يخلق من معروش فعرش.

فهو (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٨٥ : ١٦) فعاليته الفعلية الواقعية هي عرشه الفعلي في مثلث الزمان ، وفاعليته الشأنية بكمال القدرة الفعلية هي عرشه الشأني (١) ، والقرآن إنما يتحدث عن الأول دون الثاني ، اللهم إلّا ما قد يدل على الخلق الأوّل كهذه الآية ، فقد كان عرشه وسلطته على الماء قبل خلقه سلطة على إنشائه ، وبعده سلطة على تقديره وتدبيره ، ثم قبل خلق السماوات والأرض سلطة على خلقهما ، وبعد خلقهما سلطة على تقديرهما وتدبيرهما ، ثم قبل إقامة القيامة سلطة عليها كأصل ، وبعدها سلطة على تقديرها وتدبيرها.

فلئن توسعنا في صيغة العرش لكان له مراحل ست ، إلّا أن القرآن

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٢٢ أخرج مسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء.

١٩٧

يذكر تلك الثلاثة من السلطة الفعلية بعد كل مرحلة من الخلق تقديرا له وتدبيرا.

وأما «الماء» هنا ، فهل هو المعروف لدينا حيث نشربه ونشرب به زروعنا ودوابنا؟ وهو مما خلق مع السماوات والأرض أم بعدهما ، فهو وليد «الماء» الذي خلق منه الأرض والسماء ، فأين والد وما ولد؟.

ذلك ، و «كان» هنا تضرب إلى أبعد أغوار الماضي البعيد لكينونة «الماء» قبل خلق الأرض والسماء ، فليس هو الماء المتولد فيهما وعنهما حيث خلقهما «و» الحال أنه (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

وقد يروى في بعد هذا الماضي البعيد عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ما العقل منه يحيد لروعته وبداعته حيث يضرب إلى مليارات من سنّينا والله أعلم (١) ولا سيما بما نعلمه حتى الآن من آلاف

__________________

(١) في تفسير البرهان ٢ : ٢٠٨ عن تفسير العياشي سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن مدة ما كان عرشه على الماء قبل أن يخلق الأرض والسماء؟ فقال : تحسن أن تحسب؟ فقال السائل : نعم ، فقال : لو أن الأرض من المشرق إلى المغرب ومن الأرض إلى السماء حب خردل ثم كلفت على ضعفك أن تحمله حبة حبة من المشرق إلى المغرب حتى أفنيته لكان ربع عشر جزء من سبعين جزء من بقاء عرش ربنا على الماء قبل أن يخلق الأرض والسماء ، ثم قال : إنما مثلث لك مثالا.

أقول : نظرا إلى «على ضعفك» بطؤا في الحركة ، والسعة الهائلة بين المشرق والمغرب ، وأهم منها عدد حبات الخردل ملأ الأرض والسماء على سعتها الهائلة ، نظرا إلى هذا المثلث ، وأن الزمن الذي يتطلب ذلك النقل هو «ربع جزء من سبعين جزء» أي ١ / ٢٨٠٠ من بقاء عرش ربنا ، وانه «انما مثلث لك مثالا» يعرف مدى طائل الزمن الذي كان عرشه على الماء وهو بليارات من السنين في حسابنا والله أعلم.

وفي بحار الأنوار ٥٤ : ٢٣١ عن كتاب المختصر للحسن بن سليمان مما رواه من كتاب الخطب لعبد العزيز بن يحيى الجلودي قال : خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : سلوني فإني لا أسأل عن شيء دون العرش إلا أجبت فيه فقام رجل ـ وفيه أنه سأله تعنتا عن مسائل منها ـ فكم مقدار ما لبث الله عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء ، قال : تحسن أن تحسب؟ قال : نعم ، قال : لعلك لا تحسن! قال : بلى إني لأحسن ـ

١٩٨

السنين الضوئية الفاصلة بيننا وبين جزر من النجوم للسماء الأولى.

هنا يعرّف «الماء» أنه أم الكائنات بأسرها المعبر عنها دوما ب (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أم (وَما بَيْنَهُما) أم «وما فيهما» فهو الخلق الأول على الإطلاق حيث خلق منه كل خلق من الأرواح والأجساد الكامنة فيه ، كيف لا وقد «حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون سماء أو أرض أو إنس أو جن أو شمس أو قمر (١) ، وكما في الآثار : «أول ما خلق الله الماء» «ولو كان أوّل ما خلق من خلقه ، الشيء من الشيء ، إذا لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذا ومعه شيء ليس هو يتقدمه ، ولكنه كان إذ لا شيء وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ، وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ، فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه» (٢).

__________________

ـ أن أحسب ، قال علي (عليه السلام) : أفرأيت لو كان حب خردل في الأرض حتى سد الهواء وما بين الأرض والسماء ، ثم أذن لمثلك على ضعفك أن تنقله حبة حبة من مقدار المشرق إلى المغرب ثم مدّ في عمرك وأعطيت القوة على ذلك حتى تنقله وأحصيته لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء وإنما وصفت لك ببعض عشر عشير العشير من جزء مائة ألف جزء واستغفر الله من القليل في التحديد».

أقول إنه لا يستطيع أي محاسب دقيق أن يحاسب ذلك المقدار وإن في مليار من السنين ، كيف وأقرب الجزر السماوية إلينا تبعد عنا ٠٠٠ / ١٠٠ من السنين الضوئية هي جزيرة «ماجلان» تبعد ٠٠٠ / ٢٥٠ و «اندروما».

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٣٧ في كتاب التوحيد عن داود الرقي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ، فقال لي ما يقولون؟ قلت : يقولون إن العرش كان على الماء والرب فوقه ، فقال : كذبوا ، من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوقين ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه ، قلت : بين لي جعلت فداك ، فقال : إن الله عزّ وجلّ حمل دينه وعلمه ... أقول : وهذه عناية لطيفة أن علمه ودينه بحملتهما كانا محمولين في «الماء»!.

(٢) الكليني في روضة الكافي بإسناده عن محمد بن عطية قال : جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) من أهل الشام من علمائهم ـ إلى أن قال ـ : وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان ...

١٩٩

إذا فليس هو مائنا (٢) منسوبا إلى هذين الوالدين ، ولا أي عنصر أو جزئ حتى الئيدروجين حيث النسب يشملها كلها ، فإنه على كونه أبسط الذرات ـ فيما يعرفه العلم حتى الآن ـ منسوب إلى والدين هما «الكترون وبروتون» أم وفيه مزيد من نيوترون وبوزيترون.

إنما المادة الأم الفردة الأولى هي المشار إليها في آية الذاريات (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥١ : ٤٩) ف (كُلِّ شَيْءٍ) يعم الشيء الأوّل المخلوق منه سائر الأشياء ، وأقل تركيب له يشكل كيانه المادي كأبسطه ، هو الجزءان الهندسيان أو الفيزيائيان ، أم ـ لأكثر تقدير ـ أبعاد ثلاثة هي أم هما تشكل كيان المادة كأصل لها أصيل ، وقد فصلنا البحث حول كيان المادة الفردة غير القابلة للانقسام ببقاء زوجها على ضوء آية الذاريات فلا نعيد.

وترى ولما ذا سميت المادة الأولية هنا ب «الماء» ولها أسمها؟ ذلك لأنها غير معروفة لدينا حتى نعرف لها اسما ، وأفضل تعريف بها اسميا هو «الماء» اعتبارا بمشابهة أجزاءه حسب المعرفة البسيطة ، وبساطتها حيث يركب من ذرتي الأوكسيجين والئيدروجين ، فلتسمّ المادة الأولية باسم أبسط المواد المعروفة لدينا عرفيا وعلميا ، وكما استعمل «الماء» في مني الإنسان وسائر الحيوان ، وما أشبه في سائر القرآن.

ذلك ، وكما يعرف «الماء» من وراء ذلك الاسم بسماته ، فمنها هنا أنها مادة السماوات والأرض لخلقهما ، وفي الذاريات نعرف أبسط تركيب له أنه ذو بعدين اثنين ، أم وأبعاد ثلاثة.

ثم وهنا آثار مستفيضة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته المعصومين (عليهم السلام) تتوارد لتأييد أن هذا «الماء» هو المادة الأولية المخلوقة قبل كلّ شيء ، مهما اختلفت أحيانا في كيفية التفجّرة الأولى لخلق السماوات والأرض منها.

فالمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أول ما خلق الله الماء» مهما روي عنه أيضا «أوّل ما خلق الله نوري» حيث الأولية الأولى

٢٠٠