الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

إنما هي «ناقة الله تأكل في أرض الله» ـ (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) صنيعكم كما أنتم متعوّدون ، حيث تسيئون إلى رسل الله وآياته ورسالاته (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) لثالوث : نكرانكم رسالة الله ، وآية بينة من الله ، ومسكم ناقة الله.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)(٦٥).

وكيف (فَعَقَرُوها) وإنما عقرها واحد منهم؟ لمكان (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٥٤ : ٢٩)؟ ذلك لأنهم نادوه لعقرها راضين عنه مشجّعين إياه ، فقد عاونوه على عقرها فهم إذا كلهم عاقرون ، وهذه معاونة على الإثم والعدوان ، تعدّ المعاونين كلهم آثمين عادين مهما اختلفت دركاته بين الأصيل والفصيل.

فيا «أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بعذاب لما عمّوه بالرضى فقال سبحانه : (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) فما كان إلّا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة» (١).

فهذه ضابطة عامة مستفادة من (فَعَقَرُوها) أن سبب الجريمة ومباشرها مجرمان اثنان مهما اختلفت دركاتها حسب مختلف حركاتها ، فلكلّ عقوبته جزاء وفاقا ، طالما يستثنى عن القود غير القاتل لنفس محترمة ما لم يكن مباشرا ، فلا يقتص من غير المباشر اللهم إلّا نصيبا من الدية المفروضة في مجالاتها ، أم إذا كان هو أقوى من المباشر لحد يعتبر هو المباشر.

وهؤلاء العاقرون الناقة عقروها بما عقرها صاحبهم المنادي لهم لعقرها وهو «أحمر ثمود» (٢) كما قال الله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) البحار ١١ : ٣٧٦ عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) في غزوة العشيرة نائمين في صور من النخل ودقعاء من التراب فو الله ما أهبنا إلا رسول الله ـ

٣٤١

رَبِّهِمْ) (٧ : ٧٧) حيث أمرهم أن «ذروها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) ولكنهم تعاونوا على إثم العقر وعدوانه نداء لصاحبهم بديلا عن منعه عن عقرها : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها) (٩١ : ١٤).

(فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) هي (عَذابٌ قَرِيبٌ) و (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ).

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)(٦٦).

و «أمرنا» هذا هو «صاعقة» (٤١ : ١٣) «طاغية» : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٦٩ : ٥) وصيحة كما هنا ، صاعقة طاغية ، سائغة لهؤلاء الطائفة الصاعقة الطاغية.

فقد (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها .. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها)! وهنا (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) هي رحمة الإيمان ، ورحمة من الله لأهل الإيمان ثم (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) إذ كان عذابا مخزيا ، ثم خزي يوم القيامة فإنه أخزى ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) فبقوته وعزته يعذب أهله ويرحم أهلها.

وهو «قوي لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ، ولا احتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصا كان غير قديم وكان عاجزا» (١).

__________________

ـ (صلى الله عليه وآله وسلم) يحركنا برجله وقد تترّبنا من تلك الدقعاء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا : بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أحمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه ـ ووضع يده على قرنه ـ حتى يبل منها هذه ـ وأخذ بلحيته ـ.

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٧٥ في أصول الكافي محمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فسأله رجل فقال : أخبرني عن ـ

٣٤٢

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(٦٨).

هذه صيحة مدمرة وصاعقة طاغية مدمدمة مزمجرة ، أخذت (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أخذة قاسية قاضية (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ) وهي قريتهم بدورها وشرورها «جاثمين» حسوما جاسمين ، واقعين على وجوههم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.

وي (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) : إقامة ، (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) فترى دورهم غير دورهم ، ودورهم غير دورهم ، إذ أصبحوا بدورهم بورا في دورهم ، لا أثر عنهم إلّا حسرات تنادي بها أثرات.

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) عن فطرهم وعقولهم ، حيث كفروا وستروا عن أنفسهم آيات الله آفاقية وأنفسية ، فكفروا به وكذبوه وكذبوا رسله (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) ـ «ألا بعدا لعاد كما بعدت ثمود» بعدا عن ذكرى التاريخ إلّا بسوء ، وعن آثارهم إلّا دائرة بائرة ، وعن مستقبلهم إلّا عذاب الله كما في ماضيهم.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا

__________________

ـ الرب تبارك وتعالى له اسماء وصفات في كتابه وأسماءه وصفاته هي هو؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام) إن لهذا الكلام وجهين ـ إلى قوله ـ وكذلك سمينا ربنا قويا لا بقوة البطش ...

٣٤٣

لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩)

٣٤٤

قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)(٩٣)

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)(٦٩).

علّ هذه «البشرى» هي بشرى إبراهيم وزوجه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، لمكان (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ..) ثم (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) فقد لا تعني بشرى العذاب لقوم لوط حيث يأتي خبرهم لمّا أرسل الرسل إلى لوط ، ثم البشرى بعيدة عن العذاب إلّا تهكما للمعذبين ، وهنا البشرى لإبراهيم ولوط (عليهما السلام).

ذلك ، وقد تعني هذه البشرى بضمنها بشرى العذاب فإنها بشارة لإبراهيم ولوط لقومه المجرمين ، تعنيها عناية ضمنية ، ولكن لا شاهد لها من هذه الآيات إلّا احتمالا صالحا للعناية الضمنية ، ثم وآيات الحجر تصرح ببشرى العذاب بعد بشرى الولادة فهما إذا معنيّان.

(قالُوا سَلاماً) وهو التحية السليمة الإسلامية التي امر بها المسلمون لله (قالَ سَلامٌ) وقد قدّر هنا وهناك «عليك وعليكم» فإن قول «سلام» هو

٣٤٥

الصيغة الصالحة التي تعني السلام على ، ف «سلام» بمجردها دون عناية «عليك أو عليكم» لفظيا أو مقاميا لا جواب له ، وقد قدّر في «سلام» من إبراهيم إضافة إلى «عليكم» زيادة مأمورة محبورة لمكان (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

ثم ولا يشترط في أصل الإجابة ونوعيتها معرفة المسلّم عليك وكما لم يعرف إبراهيم هؤلاء الرسل بداية مجيئهم حتى عرّفوه أنفسهم فعرفهم ، فللسلام إجابة من أيّ كان وأيان ، مهما كان لها موقعها الأرقى حين يعرف المسلّم بمحتده الأرقى (١).

(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) : سمين مشويّ على حجارة الرضف المحماة ، وهكذا يواجه الضيف ، وقبل أن يعرفوا أو يعلم أنهم جائعون ، فإن ذلك أدب الأريب ، وإرب الأديب في إضافته أيا كان الضيف ، أن يحضر له مائدة قدر الإمكانية غير المحرجة فور ورده.

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا

__________________

(١) البحار ١٢ : ١٦٨ عن النجاشي عن أبي يزيد الحمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن الله بعث أربعة أملاك بإهلاك قوم لوط : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل فمروا بإبراهيم وهم متعممون فسلموا عليه ولم يعرفهم ورأى هيئة حسنة فقال : لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي وكان صاحب أضياف فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه ثم قربه إليهم فلما وضعه بين أيديهم ورأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال له : أنت هو؟ قال : نعم ، ومرت امرأته سارة (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) قالت ما قال الله وأجابوها بما في الكتاب فقال إبراهيم : فيما جئتم؟ قالوا : في هلاك قوم لوط ، فقال لهم : إن كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ فقال جبرئيل : لا ، قال : إن كانوا خمسين؟ قال : لا ، قال : فإن كانوا ثلاثين؟ قال : لا ، قال : فإن كانوا عشرين؟ قال : لا ، قال : فإن كانوا عشرة؟ قال : لا ، قال : فإن كانوا خمسة؟ قال : لا ، قال : إن فيها لوطا؟ قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ، ثم مضوا ، وقال الحسن بن علي : لا أعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم وهو قول الله (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ).

٣٤٦

تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ)(٧٠).

وهنا (أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) رغم أدب الضيف ، إذ عليه أن تصل يده إلى مائدته مهما كان شبعانا ، احتراما للمضيف ، فإن في عدم وصول أيديهم إليها اختراما له ، فلم يقل (لا يَأْكُلُونَ) فقد تصل أيديهم إلى المائدة احتراما دون أكل ماكن أم يعتذرون ، ولكي يعلنوا أنهم جاءوا بخير ، فحين لا يأكلون ولا تصل أيديهم إلى مائدته ، فقد يلمح أنهم جاءوا بشر ، فلذلك «نكرهم» نكرانا بمظهر نكرانهم (وَأَوْجَسَ) إخفاء «منهم» في نفسه «خيفة» ولكنما الخيفة الموجسة ليست لتوجس عمن يخاف منه لظهور ملامحة منه ومن الموقف ، فلمحة من (أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) وأخرى من الحالة المتغيرة من الخيفة الموجسة ، هما تكفيان لعرفان الخيفة.

فالذي لا يأكل الطعام أم لا تصل يده إليه عند الإضافة ، إنه يريب إشعارا بأنه ينوي خيانة أو عذرا حسب تقاليد أهل البدو ، بل والمتحضرين ، وأهل الريف البسطاء يتحرجون من خيانة الطعام ، أن يخونوا من أكلوا معه وفي بيته ، فإذا لم تصل اليد إلى طعامهم فقد يعني أنهم ينوون شرا ، أم ـ لأقل تقدير ـ لا ينوون خيرا.

ذلك ، ولم يكن الإيجاس إلّا في البداية إذ صرّح بخيفة في النهاية كما في الحجر : (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٥٢).

ذلك وقد يروى أنه قال لهم كلوا فقالوا : لا نأكل حتى تخبرنا ما ثمنه؟ فقال : إذا أكلتم فقولوا : باسم الله ، وإذا فرغتم فقولوا : الحمد لله ، فالتفت جبرئيل إلى أصحابه وكانوا أربعة رئيسهم جبرئيل فقال : حق لله أن يتخذ هذا خليلا» (١).

__________________

(١) البحار ١٢ : ١٦٨ عن تفسير العياشي عن عبد الله بن عبد الله بن أبي هلال عن أبي عبد الله (عليه السلام) ... أقول : وهذه رواية أخرى تذكر قبل هذه الجملة طول القصة المذكورة من ذي قبل.

٣٤٧

ذلك ، وهنا (امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) حيث «أقبلت (امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ. قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٥١ : ٣٠).

«فضحكت» متعجبة من عظم الموقف في بشارتها ، فصكت وجهها منها.

لذلك (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) برسالة العذاب كما يدل عليها (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) وليس في المسرح صراح خبر من العذاب.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٧١).

وتراها «ضحكت» ببشرى العذاب المستفادة من (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) ، أم بشرى الولادة؟ قد تلمح «فضحكت» المفرعة على (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أنها ضحكت مستبشرة ببشرى العذاب ، كما (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) تؤخر بشرى الولادة ، والضحك من التعجب حيث تعجبت من هذه البشرى عذابا ورحمة (١) وترى بعد «ضحكت» تعني حاضت؟ وقد يضحك الأدب الصالح من ذلك الضحك الكالح أن يعني الحيض! ثم لا رباط لحيضها ببشرى العذاب ولمّا تبشر بالولادة ، فأية صلة بين بشرى العذاب وحيضها؟ (٢).

__________________

(١) البحار ١٢ : ١٤٩ قال أبو جعفر (عليهما السلام) في سرد القصة «فضحكت» يعني : فتعجبت من قولهم.

(٢) البحار ١٢ : ١٥٦ عن تفسير القمي دون إسناد إلى معصوم كما هودا به كثيرا ما ، في سرد القصة : وجاءت سارة في جماعة معها فقالت لهم : «ما لكم تمتنعون من طعام خليل الله؟ فقالوا لإبراهيم : لا تؤجل ـ أي : لا تخف «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ» ففزعت سارة وضحكت أي : حاضت وقد كان ارتفع حيضها منذ دهر طويل فقال الله عزّ وجلّ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ..) وفي معاني الأخبار بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ : فضحكت : قال : حاضت.

٣٤٨

فيا للضحكة الحائضة من فاضحة واضحة ليس ليصدقها إلا من لا يعرف عن أدب اللفظ والمعنى شيئا ولا فيئا.

ذلك ، ولكن بشرى الولادة كانت قبل بشرى العذاب كما تبينها آيات الحجر : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (١٥ : ٦٠).

فقد كانت بشرى الولادة قبل بشرى العذاب ، وقد ضحكت امرأة إبراهيم قبلهما حيث تأخرت بشرى الولادة عن ضحكها (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) فلم يكن ضحكها ـ إذا ـ إلا لمجيء المرسلين الحاملين بطبيعة الحال بشرى ، والمترقّبة القريبة منها بشرى العذاب ، كما المستبعدة الغريبة هي بشرى الولادة :

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(٧٣).

«قالت» «بعد ما بشرناها ..» وهذه القولة هي طبيعة الحال من عجائز أمثالها لا سيما مع شيخوخة البعولة «قالتء ألد وأنا عجوز» (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)؟ فكيف يأتي ولد من والدين عجوزين لا يأتي منهما ولد بطبيعة الحال ، وهو عجيب ـ لو خلي وطبعه ـ حقا فالمرأة ينقطع طمثها عادة في حالة من سنيّها معينّة معنية بطبيعتها ، فلا تحمل ، ولكن لا عجب من قدرة الله وعنايته عجابا يستبعد معه وعده المحتوم.

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) الذي نحمله بشارة بذلك الميلاد ، وليس يعجز عن تحقيق أمره مهما عجزت العادة الجارية المستمرة في الإيلاد ، وليس ذلك فوق ولادة المسيح دون والد ولا يساميها! فالعادة

٣٤٩

تجري بأمر لا يعني أنها سنة لا تتبدل ، وخارق العادة سنة متميزة خاصة في عامة السنة ، وكلاهما مما سنّه الله.

ثم و (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) الرسالي ، رحمة وبركة مميزة خارجة عن المتعودة الجارية ، فكما الرسالة رحمة متميزة ، كذلك مثل هذه الولادة متميزة عن سائر الولادات. (إِنَّهُ حَمِيدٌ) في رحمته وبركاته «مجيد» في عطياته.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(٧٥).

هنا (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) إذ بشر بعذابهم من (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) وقد تعني هذه المجادلة غير المجادلة ، استرحام الاستعفاء عن هؤلاء المجرمين ، علّهم يتوبون ويثوبون إلى ربهم (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) في خلقه «أوّاه» : كثير الرجوع إلى ربه «منيب» إليه عما ربما يخطأ كمثل هذه المجادلة الملتجأة غير الملجأة.

فالحليم الذي يحتمل أسباب الغضب وموجباته فيصبر ويتأنى ولا يثور ، وهو يحتمل أن شفاعته عند ربه تفيد ، والأوّاه : الذي يتضرع في دعاءه واستدعائه ، يستدعي ربه متضرعا علّه يجيبه ، والمنيب : المسرع إلى ربه مختجلا مما قصر أو قصّر علّه يعفو عنه ، هذا الحليم الأوّاه المنيب أخذ (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ومثلث المواصفات الجميلة مما يدل على أن هذه المجادلة لم تكن مجالدة ، وإنما هي استبقاء إياهم إن أمكن.

(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦).

(أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر ، ل (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) المحتوم بعذابهم ، أمرا غير مردود ، ثم (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) إذ (لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (٦ : ١٤٧) (١).

__________________

(١) البحار ١٢ : ١٦٣ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما جاءت الملائكة في هلاك ـ

٣٥٠

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧).

هناك إبراهيم يوجس منهم خيفة حيث رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه ، وهنا لوط (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) حيث يخاف عليهم قومه الهاتكين الفاتكين حيث يهرعون إليه (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) : شديد البلاء (١).

ولأن الذرع هو مقايسة الأطوال ، من أصل الذراع : العضو ، حيث كان يقاس به ، فضيق الذرع هو عجزه عن القياس ، كناية عن انسداد كل الحيل عليه في ذلك المضيق العصيب ، وكما قال (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠).

فهؤلاء الرسل على جمالهم المنقطع النظير ، وهم بهيئة الذكور ،

__________________

ـ قوم لوط مضوا حتى أتوا لوطا وهو في زراعة له قرب المدينة فسلموا عليه فلما رآهم رأى هيئته حسنة وعليهم ثياب بيض وعمائم بيض فقال لهم : المنزل؟ قالوا : نعم ، فتقدمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه عليهم المنزل فالتفت إليهم فقال : انكم تأتون شرار خلق الله وكان جبرئيل قال الله له : لا تعذبهم حتى يشهد عليهم ثلاث شهادات ، فقال جبرئيل : هذه واحدة ، ثم مشى ساعة فقال : إنكم تأتون شرار خلق الله فقال جبرئيل : هذه ثنتان ، ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال : إنكم تأتون شرار خلق الله ، فقال جبرئيل : هذه ثلاث ثم دخل ودخلوا معه منزله فلما بصر بهم امرأته أبصرت هيئته حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا يهرعون إليه حتى وقفوا بالباب فقال لوط : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) ثم كابروه حتى دخلوا عليه قال : فصاح جبرئيل يا لوط دعهم يدخلوا ، قال : فدخلوا فأهوى جبرئيل إصبعيه وهو قوله : فطمسنا أعينهم ثم قال جبرئيل : «إنا رسل ربنا لن يصلوا إليك».

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٤ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن بشر الأنصاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إن الناس كانوا أنذروا قوم لوط فجاءتهم الملائكة عشية فمروا بناديهم فقال قوم لوط بعضهم لبعض لا تنفروهم ولم يروا قوما قط أحسن من الملائكة فلما دخلوا على لوط (عليه السلام) راودوه عن ضيفه فلم يزل بهم حتى عرض عليهم بناته فأبوا فقالت الملائكة : إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، قال : رسل ربي؟ قالوا : نعم ، قال لوط : فالآن إذا.

٣٥١

إنهم بطبيعة الحال يضاق بهم كل ذرع ، حيث تضيق على لوط كل المجالات للحفاظ عليهم ، إذ جرب قومه أنهم هارعون لا يسدهم صاد ، ولا يصدهم ساد عما هم إليه يهرعون ، إذا :

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)(٧٨).

الهرع هو السوق بعنف وتخويف ، ف (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) بمعنى يساقون إليه بعنف وتخويف ، وتجهيل الفاعل ـ وكأنه غيرهم ـ تبيين لخطر الموقف كأنهم يساقون إليه دونما إختيار منهم ، والفاعل بطبيعة الحال هو الشره الغالب والفرح المتآلب وكأنهم ساقطون في أيديهم ، منساقون إلى ما يهوون.

(وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) كلّها ، هار عين إليها غارقين في أغوارها ، وهذا هو الذي ساء لوطا بضيوفه وضاق بهم ذرعا ، متوقعا يومه العصيب.

لقد رأى لوط حمى حارقة من شهوة الجنس ووطأته في وجنات قومه الهارعين إليه ، المندفعين إلى داره ، يتهددونه في ضيفه بكرامته ، فحاول في إيقاظ فطرهم ، إيعاظا لحاجتهم الطبيعية المشروعة ، ولم تكن حاضرة اللحظة الخطرة المستعجلة إلّا بنات له غير مزوجات فعرضهن للزواج (١) بديلات عن ضيفه ف : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) من أولاء الذكور ، تنازلا في أصل الطهارة (فَاتَّقُوا اللهَ) عن دنس اللواط المحرم في شرعة الله وشرعة الإنسان السليم ، (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) كمحظور ثان (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) بأي رشد وإن كان إنسانيا مهما لم يكن شرعيا.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٧٩ عن الكافي عن علي بن إبراهيم بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول لوط (عليه السلام): (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال : عرض عليهم التزويج.

٣٥٢

أجل (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) بكل معاني الطهر ، نفسيا وحسيا حيث يلبين الفطرة النظيفة ، نظافة فطرية خلقية دينية وإنسانية.

ذلك ، وقد يقال «بناتي» هنا تقصد أناث سدوم الخليّات ، حيث الرسول في قوم هو أب لهم بل وأحرى منه ، وقد يؤيده أن بناته (عليه السلام) ما كنّ كافيات لهؤلاء الجمع اللهم إلّا اشتراكية وإباحية في الجنس وعوذا بالله ، ومن المعلوم المؤكد أن بناته لم يكنّ بعديد هؤلاء حتى يكون عرضهن لهم منعة عما ينوون ، ولذلك لم يردوا عليه فيما ردوا أن عديدهن لا يساوي عديدنا.

وعل الأرجح عناية الجمع في ذلك الجمع أن قصده من «بناتي» كافة البنات الخليات بمن فيهن بناته ، وهنا تقطع كافة الأعذار من البين كما قطعت ولم يبق إلا عذر غادر غير عاذر : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ).

فلا حاجة ـ إذا ـ إلى نكران أن لم يكن له إلّا بنتان حسب التوراة ، أم اللجوء إلى احتمالات أخرى ، مثل أنه عرض بنتيه أو الثلاث أما زاد لتراوح الزواج بينهن! أو أن القصد إلى أزواجهم أنفسهم (١) ، فإن (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) تطارده ، وعلّ تصديقهم ل «بناتي» وهم لا يصدقونه أبا للأمة ، يخصصهن بخاصة بناته ، عرضا لهن إلى زواج سليم ، فإنها كل ما يملكه من قضاء شهوة الجنس ثم هناك حليلات أخرى يكفين بغية الحاجة للبقية الباقية.

ثم ترى في عرض بناته عليهم للزواج وهم يطلبون الأدبار ، لمحة أو دلالة على سماح إتيان النساء من أدبارهن؟ قد يقال : نعم لنفس الطلب (٢) ، ولكنه لا حيث المطلوب من النساء بطبيعة الحال المتعوّدة هو

__________________

(١) البحار ١٢ : ١٥٧ عن تفسير القمي حدثني أبي عن محمد بن عمرو رحمه الله في قول لوط : «هؤُلاءِ بَناتِي» قال : عنى به أزواجهم وذلك أن النبي هو أبو أمته فدعاهم إلى الحلال ولم يكن يدعوهم إلى الحرام ، فقال : «أزواجكم هن أطهر لكم ..».

(٢) نور الثقلين ٢ : ٣٨٧ في تهذيب الأحكام عن أبي الحسن (عليه السلام) سئل عن إتيان ـ

٣٥٣

الفروج دون الأدبار ، فحتى إن كان القصد عرضهن للزواج لأدبارهن فليس هذا إلا ترجيحا للأخف حرمة على الأشد.

ولو أنها دلت على أصل الحل في أدبارهن فهو إذا من شرعة إبراهيم ، والظاهر من الكتاب والسنة حرمتها كحرمة اللواط وكما فصلناه على ضوء (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٢ : ٢٣٣) حيث الحرثية فيهن ليست إلّا من طريق القبل دون الدبر ، ثم إنه قطع السبيل ، وكما في اعتراض لوط على قومه فيه (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ).

وهنا روايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تحرم إتيانهن من أدبارهن (١).

ذلك ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، ف (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥ : ٧٣) فلا تلمس العظة الحكيمة الفطر المنحرفة المريضة ، والقلوب الخائنة المقلوبة الآسنة ، والعقول المعقولة بطوع الهوى الآفنة ، حيث :

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ)(٧٩).

«ما» هنا قد تعني كلا الموصولة والنافية ، ف (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) هو الفروج «وإنك تعلم ما نريد» من أدبار الذكور ، فلم يبق في الدور مجال لنا في بناتك وغيرهن من أناث ، أو ليس (لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) إذ لا نشتهيهن ، فالحق للإنسان هو فقط ما يريده لا ما

__________________

ـ المرأة من خلفها قال : أحله آية من كتاب الله عزّ وجلّ قول لوط : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وقد علم أنهم لا يريدون الفرج.

(١) في المستفيض عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التي يؤتى من دبرها : هي اللوطية الصغرى. وفي البحار ١٢ : ١٦٧ عن تفسير العياشي عن يزيد بن ثابت قال : سأل رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) أيؤتى النساء في أدبارهن؟ فقال : سفلت سفلك الله ما سمعت الله يقول : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين.

٣٥٤

يحمّل عليه ولا يريده ، ثم لا حق لنا فيما يخالف سنتنا حيث نأتي الرجال شهوة من دون النساء ، ومن ثم لا حق لنا في بناتك وليست بيننا صلة الزواج ، واحتمال أخير بناء على أن المعني من «بناتي» أزواجهم أنه (ما لَنا فِي بَناتِكَ) على الهزء منه «من حق» إذ لا نشتهيهن ، وإنما لنا حق اللواط إذ نشتهيه.

وتراه وهو يأمرهم بتقوى الله يعرض بناته للسفاح؟ وأيّة طهارة فيه حتى يكنّ هنّ أطهر مما هم يريدون! أم تراه يعرض لهم النكاح المحظور فإنهم كفار وبناته مسلمات؟ ولم تثبت حرمة المسلمة على الكافر في شرعة إبراهيم ، كيف وقد كانت حلا له بداية الإسلام ، فقد زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنتا له من أبي العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ، ثم نسخ بعدها.

ولئن كان محرما في شرعة إبراهيم فهو أخف حرمة من اللواط ، وفي دوران الأمر بينهما وحتى الزنا يرجح سائر المحرمات الجنسية على اللواط :

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(٨٠).

«لو» هنا للترجي المتحسر والتحسر المترجي (أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أصدكم عما تنوون (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) يصدكم عما تريدون ، و «كم» هنا قد تعم الملائكة الضيوف إلى هؤلاء الهارعين.

وهنا «آوي» متعدية قد تعني أن يؤوي ضيوفه الكرام إلى ركن شديد ، لا ـ فقط ـ يأوي هو إلى ركن شديد ، حيث المهمة الحاضرة هنا هي الحفاظ عليهم إذ القصد السوء موجّه إليهم ، دون الحفاظ على نفسه إذ لم يقصدوه في نفسه.

وتراه كيف يأوه لفقد قوة له أو مأوى ركين شديد؟ والله تعالى وتقدس له ركن شديد هو مأواه في رسالته وعلى أية حال!.

علّه يعني من «قوة» قوته المعطاة من الله ، ولم تكن له تلك القوة

٣٥٥

الظاهرة الظافرة ، ثم يعني من (رُكْنٍ شَدِيدٍ) الله ، حيث الانقطاع التام إلى الله والتوكل على الله ليسا إلا بعد تقديم كافة القوات التي هباها الله للمنقطع إليه ، المتوكل عليه ، وما أحسنه المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تعالى .. (١).

وقد تعني (رُكْنٍ شَدِيدٍ) ـ بين قوته في نفسه وقوة الله ـ عشيرته الغيّب عنه وكما

يروى عن علي (عليه السلام) أنه خطب فقال : عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته ، إنه إن كف يده عنهم كف يدا واحدة وكفوا عنه أيديا كثيرة مع مودتهم وحفاظتهم ونصرتهم ، حتى لربما غضب الرجل للرجل وما يعرفه إلّا بحسبه وسأتلوا عليكم بذلك آية من كتاب الله تعالى فتلا : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال (عليه السلام) : «والركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط (عليه السلام) عشيرة فوالذي لا إله إلّا هو ما بعث الله نبيا بعد لوط إلّا في ثروة من قومه» (٢).

فلقد اسقط لوط في أيديه وأحس ضعفه وضغطه ، وهو غريب بين قومه ، نازح إليهم من بعيد لا عشيرة له تحميه (٣) ، فانفرجت شفتاه بما انفجرت فقال ما قال ، موجها قالته إلى الملائكة الشباب الصباح الوجوه (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أخلصكم بها عن هذه الحالة العصيبة ، وإلى هؤلاء

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٤ ـ أخرج جماعة عن أبي هريرة في قوله : أو آوي إلى ركن شديد قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٢) المصدر أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال : .. أقول : وذيل الخطبة «فو الذي ..» مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق عدة ومنها ما فسر فيه (رُكْنٍ شَدِيدٍ) ب «الله».

(٣) البحار ١٢ : ١٥٢ عن أبي جعفر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل جبرئيل كيف كان مهلك قوم لوط فقال : إن قوم لوط كانوا أهل قرية لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة نجلاء أشحاء على الطعام وان لوطا لبث فيهم ثلاثين سنة وإنما كان نازلا عليهم ولم يكن منهم ولا عشيرة له فيهم ولا قوم ...

٣٥٦

الهارعين (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) لأصدكم عما تنوون ولحلت بينكم وبين ما هممتم من الفساد وأردتموه من ذنوب فحشاء ، والحذف هنا أبلغ لأنه يوهم المتوعد بعظيم الجزاء وغليظ النكال ، ويصرف وهمه إلى ضروب العقاب ولا يقف به عند جنس من أجناس المخوفات المتوقعات.

ذلك ، فليس مخرج قول لوط هذا على ما ظنه من لا معرفة له وقدح فيه بأنه لم يأو إلى الله سبحانه ، لأن لوطا إنما أراد فيما أراد الأعوان من قومه والأركان المستند إليهم من قبيلته في الله وهو يعلم أن له معونة الله سبحانه أشد الأركان وأعز الأعوان ، إلا أن من تمام إزاحة العلة في التكليف حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وقرب المعاضد والمرافد.

ثم القصد من (آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) هو الله تعالى شأنه العزيز فإنه هو مأواه على أية حال ، ولكنه أراده مأوى في خاصة حالته المزرية وماسة حاجته المردية ، فقد آوى إليه فنجاه بما نجاه.

فحين وصلت حالته إلى هذه المزرية الضارعة ، الضائقة الفائقة الضيق (١) وآوى إلى ركن الله الذي لا يتخلى عن أولياءه ، كشف الرسل له عن ذلك الركن الحاضر ف :

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٨٧ في العلل بإسناده إلى ابن مسعود قال : احتجوا في مسجد الكوفة فقالوا : ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم ينازع الثلاثة كما نازع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؟ فبلغ ذلك عليا (عليه السلام) فأمر أن ينادي الصلاة الجامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : معاشر الناس إنه بلغني عنكم كذا وكذا؟ قالوا : صدق أمير المؤمنين (عليه السلام) قد قلنا ذلك ، قال : إن لي بسنة الأنبياء أسوة فيما فعلت قال الله تعالى في محكم كتابه : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، قالوا : ومن يا أمير المؤمنين؟ قال : أولهم إبراهيم ـ إلى أن قال ـ : ولى بابن خالته لوط أسوة أن قال لقومه : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فإن قلتم أن لوطا كانت له بهم قوة فقد كفرتم وان قلتم لم يكن له بهم قوة فالوصي أعذر.

٣٥٧

الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١).

ل (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) إليك فهم ـ إذا ـ (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بسوء من الوصول إلينا بما ينوون ، فهم (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بأي إذى أو لظىّ وإساءة وفضيحة.

وترى كيف لن يصلوا إليك؟ أنه كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٥٤ : ٣٧) إذا ف (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) حيث لا يرونك ولا ضيفك ، ولأنهم رسل ربك وليسوا ذكرانا من العالمين حتى يصلوا إليهم وصولهم إلى هؤلاء (١).

ف (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) تبشيرا بإهلاكهم عن بكرتهم ، تقليصا لهم بأسرهم ، وتخليصا لك عن أسرك بينهم (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) كلهم (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) مظلما (وَلا يَلْتَفِتْ) وراءه (مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) حيث تلتفت راجعة إلى قومك فلا تمنعها ، بل وألفتها ف «إنه» الشأن الشائن هنا هو أنه «يصيبها ما أصابهم» من الكفر والنكران ، فمصيبها ما يصيبهم من عذاب الرحيم الرحمان و (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)؟.

فالسري هو السير ليلا ، فقطع من الليل علّه الليل الأليل وهو

__________________

(١) البحار ١٢ : ١٦٦ عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال ـ فيما ذكر من قصة لوط المفصلة ـ : وقد تدافعوا على الباب فكسروا باب لوط (عليه السلام) وطرحوا لوطا فقال له جبرئيل : (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) فأخذ كفا من بطحاء فضرب به وجوههم وقال : شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط يا رسل ربي بما أمركم فيهم ، قالوا : أمرنا أن نأخذهم بالسحر قال : فلي إليكم حاجة ، قالوا : وما حاجتك؟ قال : تأخذونهم الساعة ، قالوا يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب لمن يريد أن يؤخذ ، فخذ أنت بناتك وامض ودع امرأتك ، قال أبو جعفر (عليه السلام) رحم الله لوطا لو يدري من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حين يقول : «لو أن بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد» أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة قال الله عزّ وجلّ لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي من ظالمي أمتك إن عملوا عمل قوم لوط.

٣٥٨

أظلمه ، ثم (لا يَلْتَفِتْ) تعم الالتفات حين السري أم ضمنه ، فقد تعني عدم التربص والتريث والتعويق إلى عدم اللفتة إلى الوراء ، ثم (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) تفريج بهيج عن كرب لوط (عليه السلام) المكروب المنكوب إنعاشا لنفسه النفيسة عن هذه الحالة التعيسة البئيسة ، تقريبا لموعد هلاكهم مع مطلع الصبح ثم يفعل الله بهم ما فعل بركنه الشديد الركين المكين كما آوى إليه من ذي قبل.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣).

(جاءَ أَمْرُنا) من الوعد إلى تحقيقه (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) وهو إلي عالي المدينة وسافلها ، عالي أهلها حيث سفلوا عن علوائهم بالعذاب المهين ، كما جعلت أعالي المدينة حيث مساكن أهليها الأعالي ، جعلت أسافلها ، ثم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) نضدها الله لإمطار هؤلاء الأوغاد الأنكاد وأمثالهم (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) معلمة لهم (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أمثالهم «ببعيد» وحقيقة التسويم هي العلامات التي يعلم بها الفرسان والأفراس في الحرب للتمييز بين الشعارات ، والتفريق بين الجماعات ، وهكذا كانت فرسان العذاب لقوم لوط إذ كانت معلمة معلنة تختص بقبيل الظالمين حضورا ومستقبلين.

أجل ، ولا تختص هذه الممطرة المزمجرة المدمرة بهؤلاء الأنكاد البعاد ، بل هي تعم كل الظالمين أمثالهم ، فهي ـ إذا ـ قريبة غير غريبة ، وتحت الطلب العادل ، فعند الحاجة تطلق فتصيب أهليها.

فيا لسدوم الصدوم من صدام صدّام مع رسول الحق ، فصادمها عذاب من الله الحق ، وليعلم الظالمون أنهم منكوبون لوقت مّا مقرر في حكمة الله (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ، أيا كانوا وأيان ، وإن كانوا من الأمة المسلمة الأخيرة مهما اختلفت شكلية العذاب.

٣٥٩

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣) (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ

٣٦٠