الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

أجل ، ما لم تنظم الإرادة الفعالة إلى العلم فلا تأثير في واقع المعلوم ، والإرادة تؤثر دون علم.

٤ كون المعني من (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) هما للقيامة في وجه كون المعني من الجنة والنار هما ليوم القيامة ، ذلك إحالة إلى مجهول حيث لا نعرف عن سماوات القيامة وأرضها شيئا إلّا ما تلمح به (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فلتكونا هما هذه السماوات والأرض ، فالمتعين عناية الجنة البرزخية ونارها؟.

والجواب أن المعروف بدقة وهمامة وسعة نظر كلا السماوات والأرض في الأولى والأخرى ، والجنة والنار برزخيا وفي الأخرى ، فهما معا معنيّان.

ثم من ذا الذي يدري زمن انفطارهما في الأولى ، فكذلك الأخرى وبأحرى ، فإن جنتها لا نهاية لها قضية : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) مهما كان لنارها حد محدود ف (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

أم وعلّ القصد طول أمد الجنة والنار ، ولا أطول فيما نعرف إلّا أمد السماوات والأرض ، ولكن الجنة لا نهاية لها قضية (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) والنار لها نهاية قضية عدل الله ، ف (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ليست لتستثني فقط قصرا لهما ، بل هو بين تقصير وتطويل ، فالجنة لأهلها في الأخرى أطول أمدا من هذه السماوات والأرض قضية الفضل ، والنار لأهلها هي بين أقصر وأطول من أمدهما أم قدرهما قضية العدل في ذلك المثلث ، فلها ـ إذا ـ حد كما لأي عصيان.

فأهل الجنة البرزخية خالدون فيها ما دامت هذه السماوات والأرض (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يخلدوا أكثر هو في الجنة الأخرى (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

__________________

ـ إنه جهل عند العقلاء حيث العلم كاشف عما سيحصل بأسبابه ، سواء أكانت مسيّرة أم سواها.

٤٠١

وأهل النار البرزخية خالدون فيها ما دامت السماوات والأرض إلّا ما (شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) تقصيرا بخروج عنها إلى جنتها ثم إلى جنة الأخرى ، أم قدرهما أمّا زاد نقلة إلى نار الأخرى ما دامت هي مشتعلة أم قبل انخمادها حسب مختلف الاستحقاقات (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

ثم أهل جنة الأخرى خالدون فيها ما دامت هذه السماوات والأرض أم تلك التي في الأخرى إلّا ما شاء ربك تطويلا دون تقصير (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

وأهل النار في الأخرى خالدون فيها ما دامت هذه السماوات والأرض إلّا ما شاء ربك من تقصير أو تطويل ، أم تلك التي في الأخرى لنارها (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من تقصير (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

ومن الداخل في الاستثناء (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) إذ ليسوا كلهم يستحقونها قضية إختلاف دركات العقائد والأعمال.

كما ومن الداخل فيه لأهل النار محدودية عذابهم ككل ، حيث الآخرون الذين لا يستحقون الجنة أبدا ، يقضى عليهم بالأخير بقضاء النار وسماوات الآخرة وأرضها بعد قائمتان.

ولأن (إِلَّا ما شاءَ) دون شرط لا تناسب شرطية الاستثناء وإمكانية تركه ، فلا تعني ـ إذا ـ معنى «إن شاء ـ أم ـ لو شاء» استثناء بالمشيئة الممكنة ، عناية إلى طليق مشيئته ، وأنها غير محدودة بشيء أو محجوزة به.

إنما هي المشيئة الحتمية الماضية في علمه وتقديره أنه يشاء عدم خلود النار لأهلها ما دامت السماوات والأرض ، ثم الاستثناء في أهل الجنة يفسر ب (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) بمعنى أن ربك شاء عدلا عدم خلود أهل الجنة فيها بزوالها ، ولكنه شاء فضلا بخلودهم فيها ببقائها.

ذلك ، ولقد أشرنا من ذي قبل أن الأظهر الأجلى في هذه الآيات أن الجنة والنار هما الأخريان ، لا سيما وأن النار البرزخية ليست إلّا معرضا في فترات دون خلود مستمر كما يدل عليها مثل قوله تعالى : (وَحاقَ بِآلِ

٤٠٢

فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٠ : ٤٦).

ومهما دلت آيات أخرى على الدخول في النار البرزخية ، ولكنه دخول غير مستمر العذاب ، فهو عرض آخر لذلك العرض : (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٦٦ : ١٠) فالأمر موجه إلى امرأتي نوح ولوط حين موتهما ، فهي ـ إذا ـ النار البرزخية مهما تبعتها نار الأخرى ، وهكذا : (.. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ..) (٧ : ٣٨).

وقد تعني (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) للآخرة في حقل المشيئة انهم قضية عطاء غير مجذوذ لا يخرجون عن الجنة وإن تفطرتا ، وخلقت سماوات وأرض أخرى أم لم تخلق.

٥ لما ذا بالنسبة لأهل النار «شقوا» معلوما ، ثم لأهل الجنة «سعدوا» مجهولا؟ وهو لازم!.

ذلك لأن الشقاء ككلّ هو من فعال أهل النار ، ولكنها السعادة أكثرها من الله حيث يوفق أهل طاعته فيها ولا يوفق أهل معصية فيها وكما في

الحديث القدسي «يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني» ولأنه بيده الخير وليس الشر إلّا منا ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) (٢٤ : ٢١).

صحيح أن الله يضل الظالمين كما يهدي الصالحين ، ولكن إضلاله الظالمين يعني انقطاع توفيقه عنهم ، وحين يختم على قلوبهم فهو جزاء وفاق هنا قبل الأخرى ، في حين أن هداه يعني مزيد التوفيق ، إذا فنصيب ربنا في الخير لنا أوفر من نصيب الشر ، وقضيته في أهل الخير «سعدوا» مجهولا إذ هو فاعله الأصيل ، وفي أهل الشر «شقوا» معلوما إذ هم الأصلاء فيه ، وليس من الله إلّا سلب التوفيق ، أم والجزاء الوفاق بالختم على القلوب.

٤٠٣

وأما لزوم «سعدوا» فكيف يصاغ منه مجهول ، فهذه جهالة من القول ، فإن القرآن هو أصل الأدب ومنتهى الإرب دون سائر اللغة الأدب كمنتهى الإرب وما أشبه ، فكما أن «رجع» مستعمل متعديا ك «رجعه الله» كما يستعمل لازما (رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) كذلك «سعد» يستعمل لازما ومتعديا ، وكما يصاغ من الثاني «مسعود»!

... وهكذا يرتسم لنا يوم مجموع له الناس ويوم مشهود أنه «يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه» فالصمت الهائل شامل إلّا لمن أذن له ، ثم تبدأ عملية التوزيع (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) بما شقوا يوم الدنيا أم سعدوا ، فتشهد الذين شقوا في النار ـ ولات حين فرار ـ مكروبين مغلوبين بين زفيرها وشهيقها حرا وضيقا وكتمة ، حيث الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البطاء ـ الشديد ـ فينقطع النفس والشهيق هو الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن وربما حصل به صعقة ، فلهم من زفيرها زفرة ، ومن شهيقها شهقة وصعقة ، ونشهد (الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ) لهم فيها عطاء غير مجذوذ ، و (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) تعني لهم فيما عنت طليق المشيئة الربانية التي لا تحدّ بأي حد ، حيث لا تتقيد بأية سنة ، إذ السنة ليست هي نفسها إلّا بالمشيئة الربانية ، ثم وتعني لأهل النار واقعها في زاويتين أخريتين من مثلثها هما إخراج بعض منهم قبل خراب السماوات والأرض أو قدره ، أم إحراج بعض آخرين لخلود أكثر من أمدهما.

ذلك ، ومن مواصفات الجنة والنار ، موافقات لأهل الجنة والنار جزاء وفاقا وعطاء غير مجذوذ حسابا ، ما يروى عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من قوله :

«فأما أهل الطاعة فأثابهم الله بجواره ، وخلدهم في داره حيث لا يظعن النزّال ، ولا تتغير بهم الحال ولا تنوبهم الأفزاع ، ولا تنالهم الأسقام ، ولا تعرض لهم الأخطار ، ولا تشخصهم الأسفار ـ

وأما اهل المعصية فأنزلهم شر دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطّعات النيران ،

٤٠٤

في عذاب قد اشتد حره ، وباب قد أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب ، ولهب ساطع ، وقصيف هائل ، لا يظعن مقيمها ، ولا يفادى أسيرها ، ولا تفصم كبولها ، (١٠٧) ـ

«فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها ـ الجنة ـ لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها ، وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار غيّبت عروقها ، في كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها ـ عضونها ـ وأفنانها ، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها ، تجنى من غير تكلف فتأتي على منية مجتنيها ، ويطاف على نزّالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة ، والخمور المروّقة ، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلّوا دار القرار ، وأمنوا نقلة الأسفار ـ

فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة. لزهقت نفسك شوقا إليها ولتحملت من مجلس هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها جعلنا الله وإياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته» (١٦٣).

فأين ذلك الموقف المرهف من موقف النار المرجف؟ :

«في موقف ظنك المقام ، وأمور مشتبهة عظام ، ونار شديدة كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ زفيرها ، متأجج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخوف وعيدها ، عم قرارها ، مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة أمورها (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) قد أمن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزحزحوا عن النار ، واطمأنت بهم الدار ، ورضوا المثوى والقرار ، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم في دنياهم نهارا ، تخشعا واستغفارا ، وكان نهارهم ليلا ، توحشا وانقطاعا ، فجعل الله لهم الجنة مآبا ، والجزاء ثوابا ، وكانوا أحق بها وأهلها ، في ملك دائم ، ونعيم قائم» (١٨٨).

«فمن أقرب إلى الجنة من عاملها ، ومن أقرب إلى النار من عاملها ،

٤٠٥

وأنتم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، وهو ألزم لكم من ظلكم ، الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تطوى من خلفكم ، فاحذروا نارا قعرها بعيد ، وحرّها شديد ، وعذابها جديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تسمع فيها دعوة ، ولا تفرّج فيها كربة» (٢٦٦) ـ

«واعلم أن أمامك عقبة كؤودا ، المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالا من المسرع ، وأن مهبطك بها لا محالة ، إما على جنة أو على نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك ، ووطّئ المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، ولا إلى النار منصرف» (٢٧٠) ـ

ف «ما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة فهو محقور ، وكلّ بلاء دون النار عافية» (٣٨٧ ح).

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)(١٠٩).

وإذا كان (كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) هنا ، ثم أخذهم يوم القيامة في النار وبئس القرار (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) : ترددا في عبادتهم وما يعبدونه أنه خطأ وخطل (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) تقليديا أعمى (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من العذاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) عما يستحقونه.

وترى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تردد يوما مّا فيما يعبد هؤلاء؟ وهو رسول التوحيد! كلّا ، ولكنه طمأنة زائدة لقلبه المنير أمام هؤلاء الألداء الأشداء ، الذي يحاولون أن يجذبوه إلى أنفسهم ، أم يجعلوه في مرية وتردد من أمرهم ، هل هم على وشك الاهتداء أم هم على ما هم عليه من ذلك الاقتداء ، فلا يتسرّب إلى نفسك شك في فساد ما يعبد هؤلاء ، فالخطاب للرسول والتحذير لقومه ، إيحاء بأنها قضية موضوعية بينها الله لرسوله المرسل لهداهم ، دون أن يخاطب به المتلبسين بها ، إهمالا لهم وقلة انشغال بهم ، ثم في وجه عام قد يعنى كل مخاطب قد يشك في

٤٠٦

أمرهم دون اختصاص بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا مساس به في واقع الخطاب.

(وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) عن نصيب آباءهم ، مهما لم يعذبوا هنا بعذاب الاستئصال حيث يدخر لهم ليوم الحساب.

ثم لأن الممارة هي المحاجة فيما فيه تردد ، إذا (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) قد تعني إلى ما عنته ألّا تحاجهم بعد الذي تبين لك أنهم مخلدون إلى أهواءهم وشهواتهم وتقاليدهم العمياء ، ف (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ثم ولا تحزن لما ذا يختلفون في رسالتك وكتابك فإنه دأب دائب بين ناكري الرسالات على مدار الزمن :

ذلك ومهما يكن من شيء فلا ريبة ألّا ريبة لرسول اليقين فيما يعبد هؤلاء ، فلا يخاطب بذلك النهي إلّا من باب : إياك أعني واسمعي يا جارة ، وهو القائل : «سلوا الله العافية فإنه لم يعط أحد أفضل من معافاة بعد يقين وإياكم والريبة فإنه لم يؤت أحد أشر من ريبة بعد كفر» (١) حيث الريبة في الحق هي من مزالق وأشراف الكفر.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١٠).

(فَاخْتُلِفَ فِيهِ) تصديقا وتكذيبا ، ثم اختلف فيه بين المصدقين به بعد ما جاءهم البينات ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أن لهم أجلا يمتّعون فيه ، وأن الدنيا هي دار إمتحان وعمل والآخرة هي دار الجزاء ف «لهم (فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢ : ٣٦) وهو (أَجَلٍ مُسَمًّى) (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٢ : ١٤) إذا (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) هؤلاء المختلفين في الكتاب «وإنهم» أولاء الأمة الموسوية ، وهؤلاء الذين أرسلت إليهم من أمتك

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٥١ ـ أخرج ابن مردويه عن أبي بكر قال قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ..

٤٠٧

لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : الكتاب «مريب» (١).

فالشك قد يريب وقد لا يريب ، فالذي يريب هو أنكر وأخطر على كتلة الإيمان ، حيث يريب البسطاء في حق الكتاب فيخيّل إليهم أن شكهم مسنود إلى حجة.

وهنا شك مريب للذين أوتوا الكتاب من حملته الأولين بعد ما جاءهم العلم كما في آية الشورى ، والبينات كما في آية البقرة : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (٢١٣) ، حيث يظهرون أن شكهم مسنود إلى دليل فيضللون البسطاء.

ثم شك مريب للبسطاء والوسطاء في معرفة الكتاب حيث يستند إلى الكتاب الخليط من الغث والسمين والخائن والأمين.

وهذان الشكان المريبان هما مجتمعان في أهل الكتاب ، وأما الشاكون في القرآن فليس لهم شك مريب إلّا من القبيل الأول ، حيث القرآن بنفسه لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما يتظاهر الشاكون فيه بأنهم يسندون إلى ما يريب ، كأن لشكهم سند منه يريب!.

وترى كيف قضي بين جموع من المكذبين وبين المرسلين ، إذا كان القضاء بينهم يختص بيوم القضاء؟ قد يعني (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ذلك القضاء الحاسم المخصوص بيوم القضاء ، توفية لأعمال كلّ من الصالحين والطالحين ، كما :

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠٠ في روضة الكافي عن أبي جعفر (عليهما السلام) في قول الله عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) قال : اختلفوا كما اختلف هذه الأمة في الكتاب وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم (عليه السلام) الذي يأتيهم به حتى ينكره ناس كثير فيقدمهم فيضرب أعناقهم ، وأما قوله : ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ..» قال : لولا ما تقدم فيهم من الله عزّ ذكره ما أبقى القائم منهم أحدا.

أقول : الكتاب الذي مع القائم (عليه السلام) هو الكتاب الذي معنا ولكنه يفسره ويؤوله التفسير والتأويل الحق وهما يخالفان الفتاوى غير المسنودة إلى الدلالة الصالحة للكتاب ، فلذلك ينكره ناس كثير. ومنهم المتورطون في غير القرآن من أدلة الأحكام.

٤٠٨

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١١).

ولأن الإختلاف في الكتاب قد يقتضي قضاء حاضرا يوم الدنيا كلمحة من القضاء يوم الدين وقد لا يقتضي ، فقد يقضي على المكذبين شطرا هنا قبل توفيته يوم الدين ، وأخرى يقضي ـ فقط ـ عليهم يوم الدين ، ولا يعني (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) للكل إلّا قضاء يوم الدين ، ولا لبعض المكذبين إلا شطرا منه يوم الدنيا ، حيث سبقت كلمة الله بمختلف القضاء على من يستحقه ، ثم هم على سواء في توفي القضاء يوم الدين.

وهنا «لمّا» جازمة زمانية حذف مدخولها لمعرفته وهو : يأت زمن توفيتهم ، وهو يوم القيامة ، المعروفة من «ليوفينهم» (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا تعزب عنه أعمال لطول الأمد.

وهنا «كلّا» تعني كلا من المختلفين في الكتاب والمكذبين ، أصلاء أم تابعين ، سابقين أم لاحقين (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) كما عملت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فالمستأصلون يوم الدنيا ليسوا كالمؤجلين إلى يوم الدين ، وإنما (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

ذلك ، فعليك يا رسول الهدى ، الحامل لأثقال الرسالات كلها ، المتحمل الأذيات والصعوبات كلها ، وأنت تسمع أنباء الأمم الماضية وما واجهوا به الرسل الماضين ، (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٤٢ : ١٥) ولذلك :

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٢).

وهذه الآية مما شيبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من آية الشورى التي اعتبرت في حديثه من أخواتها ، حيث قال : «شيبتني سورة هود وأخواتها» ولما ذا؟.

٤٠٩

لأن آية الاستقامة في الشورى تختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ، وآية هود هذه تضيف إليه (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) فهي ك (تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أن ينقطع إلى الله انقطاعا جماعيا يبتّل غيره به كما يبتل نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الله تبتيلا.

وهنا (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) في رسالتك ودعوتك وتصبّرك على كل أذى ولظى ، لا فحسب أنت ، بل (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) عليك أن تقيمهم كما تقيم نفسك فتصبح بمن تاب معك جمهرة الاستقامة القيمة التي أمرت بها ، أن تصنع كنفسك آخرين تابوا معك إلى الله ، فإن يدا واحدة لا تصفق ، وإن يد الله مع الجماعة.

وهنا وهناك الاستقامة هي طلب إقامة أمر الله كما يحق ويرضاه الله و «لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع» (الحكمة ١٠٨) والأصل في هذا الحقل هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذووه المعصومون (عليهم السلام) الذين يقول عنهم أولهم : «نحن النمرقة الوسطى ، بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي» (الحكمة ١٠٧).

لذلك «لما نزلت (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا» (١) وهكذا «شيبتني هود» لمكان قوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)(٢) ثم «وأخواتها» (٣) ومنها

__________________

(١). الدر المنثور ٣ : ٣٥١ ـ أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : ..

(٢) المصدر ٣ : ٣١٩ عن أبي علي السري قال : رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) روي عنك أنك قلت : شيبتني هود؟ قال : نعم ، قلت : فما الذي شيبك منه ، قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ولكن قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

(٣) المصدر عن أبي بكر قال قلت يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب؟ قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ، وبنقل آخر قلت : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عجل إليك الشيب؟ قال : شيبتني هود وأخواتها والواقعة والحاقة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية ، وفي ثالث إضافة القارعة وسأل سائل.

٤١٠

الشورى لنفس آية الاستقامة ولكن أين استقامة شخصية فيها وجماهيرية كلف بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نفسه كما هنا؟!. (١)

وتراه يؤمر هنا بأن يقيم من تاب معه ، وليست الإقامة في واقعها إلّا من الله ، وإنما عليه البلاغ؟ القصد هنا أن يبالغ في بلاغ الدعوة القيمة ، تكريسا لكافة طاقاته الرسولية والرسالية ، ثم (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) لا تعني : أقم من تاب معك ، بل إن قضية العطف «وليستقم من تاب معك» بمساعيهم ، ولكنها على ضوء مساعيك في هذه الرحلة القيمة المقيمة.

فالقمة العالية مما شيبته من السور هي هود لمكان هذه الآية ، حيث يحس (صلى الله عليه وآله وسلم) برهبته وقوته في تتمة حياته وهي أثقل من سائرها مسؤولية ثقيلة.

فالاستقامة كما أمره الله تعالى ومن تاب معه ، هي بحاجة إلى تكريس كل الإمكانيات الروحية والعملية ، مضيا على نهج الحق المطلق دونما انحراف وانجراف ، ولا تزعزع وتلّكأ ، وإلى يقظة دائبة رسولية ، وكدح دائم رسالي ليصنع الآخرين بما صنع نفسه المقدسة ، ضبطا للانفعالات البشرية التي تمّيل الاتجاه كثيرا أو قليلا.

فليس قول (رَبُّنَا اللهُ) يكفي سلوكا سليما في سبيل الله ، وإنما (ثُمَّ اسْتَقامُوا) حتى (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٤١ : ٣١).

وكلما كانت المسئولية أثقل ، فالاستقامة في تحقيقها وتقويمها أعضل ، ولا سيما حين تضاف إليها مسؤوليات لآخرين باستقاماتهم ،

__________________

(١) فهن أخوات هود غير المذكورة هي الشورى.

وفي المجمع عن ابن عباس قال : ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشيب يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ : شيبتني هود والواقعة.

٤١١

فلذلك نسمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : «شيبتني هود» على عصمته الرسالية ورقابته العالية الدائبة.

ففي الفترات الأخيرة من عمره الرسولي ـ وهي أهم فتراته ـ حين ينفض يديه عن بلاغه الرسالي العظيم ، عليه أكثر مما مضى أن يستقيم كما امر ومن تاب معه.

فقد نجده (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر في بداية أمره بالقيام (قُمْ فَأَنْذِرْ) (٧٤ : ٢) وهنا في النهاية (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) ووسطا بين الأمرين (فَاسْتَقِمْ كَما (١) أُمِرْتَ) دون (مَنْ تابَ مَعَكَ) مرحلية في مواجهة عراقيل الدعوة بقيام واستقامة شخصية ، وثم استقامة جماهيرية ، طلبا لكل قوامة وقيام من نفسه ومن الآخرين لإقامة الهيكل الإسلامي السامي على أساس قويم قويم لا ينهدم ، وبعروة وثيقة لا تنفصم.

وهنا (كَما أُمِرْتَ) إشارة إلى أمر الاستقامة في الشورى بزيادة (مَنْ تابَ مَعَكَ) هنا ، وأخرى إلى سائر الأمر في ذلك الحقل ك : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠ : ١٠٥) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (٣٠ : ٣٠) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (٣٠ : ٤٣).

فقد عاش (صلى الله عليه وآله وسلم) حياته الرسولية قياما واستقامة في الدعوة بكل واجباتها وواجهاتها ، ولكنه هنا يؤمر بما امر من ذي قبل وزيادة (مَنْ تابَ مَعَكَ) وهي التي شيبته إذ كلف مع نفسه غيره.

هنا (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) معطوفة على ضمير الفاعل في «استقم» فقد تعني وليستقم من تاب معك ، حيث هو المسئول عن استقامتهم بما يتكلف من تقويمهم هكذا.

ثم (وَلا تَطْغَوْا) والقصد منه وجاه الاستقامة تركها ، فكما الاستقامة من التقوى ، كذلك تركها من الطغوى (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ذلك ، فعدم الطغوى وعدم الركون إلى الذين ظلموا ثم إقام الصلاة

٤١٢

ومن ثم الصبر ، هذه الأربع هي من معدات الاستقامة كما أمروا ، وقد لا تعنى هذه المعدات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من تاب معه فإنه معصوم عن ترك واجباتها واقتراف محرماتها ، ولذلك أتي بالجمع ، دون جمع بينه وبين من تاب معه كما في (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ).

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)).

(لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في سبيل الاستقامة وتحصيلها حيث الغاية لا تبرر الوسيلة ، فمحظور الركون إلى الظالمين مستقل في حرمته غير مستغل على عرامته ، سواء يستغل به لأمر محبور كالاستقامة في أمر الدين ، أم لأمر محظور فوا ويلاه ، والركون «إلى» هو جعله ركنا يعتمد عليه ، مائلا إليه.

وهنا (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) تعني نار الذين ظلموا هنا وفي الأخرى حيث الركون إليهم دخول في ربعهم فشمول لنارهم إياكم كما شملتهم مهما اختلفت الدركات حسب الظلامات.

ثم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) إن ركنتم إلى الذين ظلموا (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) من الله حيث تركتم الركون إليه وإلى أهل الله ، ولا من دون الله إذ لا يقدر أحد أن ينصر الخارج عن ولاية الله.

ذلك ، فحتى رجاء بقاء الذين ظلموا ظلم ونار ، فضلا عن الركون إليهم حيث فيه حب بقاءهم ، فالظالم يطارد في كافة الحقول كفرض جماهيري على الكتلة المؤمنة ، فكيف يركن إليه في سبيل الإيمان والاستقامة فيه ، أم وسواه لا سمح الله؟! (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠٠ في الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده كيسه فيعطيه. ـ

٤١٣

ثم الاستقامة في سلوك مسلك الحق هي بحاجة إلى قوامة الحق وتقريره ، وإزالة الباطل وتهديره ، فكيف يركن في هذه السبيل إلى قاطعيها بظلم أيا كان.

والركون إلى الظالمين تصديقا لوعدهم وما أشبه محظور في كثير وقليل ، وقد سلبت قلته تثبيت الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه فيما هو مظان ركونه إلى وعودهم الخاوية أنهم في سبيل الإيمان : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(١٧ : ٥).

فمحظور الركون إلى الظالمين معلّل بظلمهم ، ركونا إلى علومهم ووعودهم فضلا عن حكمهم وإمرتهم ، فلا يركن المؤمن العائش سبيل الله ، إلّا إلى الله ، وإلى أهل الله وبإذن الله ، وكيف يركن إلى الظالم نفسه وسواه ، ولا ركون إلى العادل ما لم يتثبت عدم خطإه؟.

وترى الركون إلى الظالمين فقط يدخل النار أو يخلّد في النار؟ كلّا ، وإنما (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) قدر مساس الركون إليهم (١) ولأن مس النار دركات فهي حسب دركات الركون إلى الظالمين ، فقد يعبر عن الدخول والخلود بالمس ك : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٧٣) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٦ : ٤٩) (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١ : ٤٨).

فلأن الركون إلى الظالمين لا يحتّم دخول النار أو الخلود فيها لأنه دركات ، عبّر هنا عن خلفيته ب «تمسسكم النار» لكي يتسع النطاق تحليقا على كل دركات الركون إليهم.

__________________

ـ وفيه عن الخصال عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيما كان أوصى به أن قال : لا تركن إلى ظالم وإن كان حميما قريبا.

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠٠ في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : أما إنه لم يجعلها خلودا ولكن تمسكن فلا تركنوا إليهم.

٤١٤

ذلك ، فالركون إلى الظالمين في أي ركن من الأركان الحيوية ، عقيدية أو ثقافية أو أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أم جماعية ، إنه ركون إلى النار ، وفي حين أن كتلة الإيمان مأمورة بكل تأكيد بمجابهة الظلم على أية حال ، فكيف يسمح لها أن يركن إلى الظالمين على أية حال ، مهما كان تذرعا إلى خير فضلا عما سواه.

فكما الآية السالفة نهت عن الطغيان وهو ظلم أيا كان ، فهذه تنهى عن الركون إلى الظالمين توحيدا لركن الإيمان بالله دون أي دخيل ، وهما من أركان الاستقامة فردية وجماهيرية في حقل صالح الإيمان.

وهنا المعني من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ليس كل ظلم من أي ظالم وإن أتى بصغيرة ، وإلّا لانفصمت كافة الرباطات والتعاونات بين المسلمين أنفسهم فضلا عنهم بالنسبة لمن سواهم ، وإنما القصد من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم من طراز من ذكروا من ذي قبل من الكفر والتكذيب بآيات الله ، مهما شملت بضمنهم كل الظالمين ، فيترك الارتكان إليهم قدر الإمكان.

فلقد قص الله قصص أمم سلفت وانقضت في خضمّ تاريخها السيء الأسود كقوم نوح ، وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب وفرعون وقوم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم كلهم كفرة مكذّبون معاندون ، عبّر عنهم بالظالمين : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) ـ (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ـ (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ـ (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

ذلك ، وكما أن المخاطبين ب (لا تَرْكَنُوا) هم المؤمنون بهذه الرسالة السامية ، فهلا يركن ـ إذا ـ بعضهم إلى بعض؟ اللهم إلّا الظالمين منهم الذين يعملون أعمال هؤلاء الكافرين.

ثم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ليس إلّا وعدا للكفار أمّن يركن إليهم من المؤمنين ، مهما شملت الآية ضمنيا أم بإطلاقها كل ركون إلى أي ظالم ، ولكنه ليس إلّا في ظلمه.

فحين تركن في حقل المال إلى مؤمن مأمون على الأموال ، ولكنه قد؟؟؟ يفسق في غير حقل المال فهل أنت مشمول لهذه الآية؟.

٤١٥

ولكنك حين تركن إلى كافر ناكر لمبدإ الإيمان فكل ركونك إليه محظور حيث لا مبدأ له صالحا يستحق به أن يركن إليه.

ذلك ، وقد يتلو الكافرين المكذبين بالإيمان ، الظالمون من هذه الأمة بمن فيهم الأشقى من جبابرة عاد وثمود ، بل والركون إليهم أظلم وأنكى وأطغى ، حيث يخيّل إلى البسطاء أنهم على حق بباطلهم فلهم ما يتطاولون في مظالمهم باسم العدل والإيمان.

وبصيغة أخرى النص عامّ يشمل كل الظالمين كافرين أو مسلمين ، فالركون إليهم ككلّ محظور كما الظلم نفسه ككل محظور ، ومسّ النار هو حسب دركات الظلم والركون.

ولا يعني الركون إلى الذين ظلموا كافة العلاقات الحيوية حتى تحرم كلّها فيحرم المسلمون أنفسهم من العشرة فيما بينهم ، وإنما هو الاعتماد على الظالمين ميلا إليهم أيّا كان الظالم وظلمه ، دون سائر العشرة غير المرتكنة ولا المعتمدة على الظالم أو على ظلمه ، كيف وقد وثق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند خروجه عن مكة إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة الطريق وائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثة أيام ، وكان يعامل الكفار سائر المعاملات المتعوّدة التي بها قوام المدنية الجمعية للإنسان أيا كان ، مع أنه لم يكن يركن إلى الذين ظلموا فيما يمس من كرامة الإيمان ، فالمحظور إذا هو «ركون مودة ونصيحة وطاعة» (١) وذلك المثلث هو مصداق صادق للركون المحظور ، دون سائر المعاملات والعلاقات التي لا تحمل مودة ونصيحة وطاعة ، بل قد تكون المودة محبورة غير محظورة حين لا تستجر مضرة ، بل وفيها منفعة لكتلة الإيمان ف : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٠ : ٩).

__________________

(١) في تفسير القمي في الآية قال قال (عليه السلام): ركون مودة ونصيحة وطاعة.

٤١٦

ذلك ، ولكن مجرد المودة غير المحظورة ليست ركونا إليهم ، فقد نودهم جذبا لهم إلى الإيمان ، ولكن لا نركن إليهم ما لم يؤمنوا.

ذلك ، والظلم بصورة طليقة بأية سيرة أو صورة محظورة في شرعة الله ، مهما كانت دركات ، ف «من ظلم أجيرا أجره فعليه لعنة الله» (١) ومن الأدعية المجابة هي دعاء المضطر في الظلم : ف «يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم» (٢).

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(١١٤).

هنا تخصيص الصلاة بطرفي النهار حيث يختصان صلاة الفجر والعصر ، وزلفا من الليل حيث تعم صلاة الليل إلى العشاءين ، قد يفوّت صلاة الظهر وهي من الصلاة الوسطى؟.

علّ الحل هو أن النهار في الأصل هو قضية جري الشمس منذ فجرها حتى غروبها ، ولا سيما في حقل الصلاة ، وقد يختلف النهار إفرادا وتثنية وجمعا في مختلف الحقول الاشتغالية والأحوالية أماهيه ، وهنا في حقل الصلاة التي تعرف الظهيرة في الدرجة الثانية من مخمسها قد يشملها النهار بطرفي الثاني.

فللشمس جريان اثنان ، جري أوّل وجري ثان ، فالأول هو منذ فجرها حتى دلوكها ، والثاني هو منذ دلوكها حتى غروبها ، فللنهار ـ إذا ـ طرفان ، طرفه الأول هو منذ الفجر ، وله صلاة الفجر ، وطرفه الثاني منذ دلوك الشمس حتى الغروب وله الظهران ، ف (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (١٧ : ٧٨) تقرّر كلّ زمن دلوكها زمنا للصلاة ، فأول دلوكها للظهيرة ، ومن ثم لصلاة العصر ، وكما تقرر الفجر لقرآن الفجر ، و (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) تقرر العشاءين.

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٥ : ٩٥ عن الإمام علي (عليه السلام).

(٢) المصدر ٨ : ٧٢١ و١٨ : ٢٣٨ و٢٣٩ عنه (عليه السلام).

٤١٧

إضافة إلى صلاة الليل (١) ولكنها مفروضة خاصة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث الخطاب هنا يخصه كما وفي أخرى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ..) (١٧ : ٧٩).

هذا ، وقد يتأيد عناية صلاة الليل إلى العشاءين من جمعية (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) دون «زلفتين» حتى تختصان بالعشاءين ، فكيف تصدق على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المخاطب بهذه الجمعية ، المفروضة عليه صلاة الليل : «هما زلفتا الليل» (٢) اللهم إلّا بتأويل أنهما فرض أمته ، إذ لم تفرض عليهم صلاة الليل ، ولأن زلف الليل هي الزلفى من منازله ومراقيه ، فلتكن صلواته الثلاث منقطعة عن بعضها البعض في أفضل أوقاتها ، فالمغرب في أوله والعشاء قبل غسقه وصلاة الليل كلما كانت أقرب إلى الفجر فأقرب ، وكما لمحت لها آيات ، ووردت بها السنة.

«أقم ..» ف (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) إذا فهذه الصلوات هي قمة الحسنات ، وترى كيف يذهبن السيئات؟.

الإذهاب هنا بين دفع ورفع ، دفع عن السيئات كبيرة وصغيرة حتى لا تحصل ف (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ورفع للسيئات الصغيرة لأن الصلاة من الحسنات الكبيرة فتركها من السيئات الكبيرة ، ثم (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) هي ضابطة عامة في تكفير الصغائر بترك الكبائر.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٠١ في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال : صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار ، ورواه في المعاني وتفسير العياشي وآمالي المفيد والشيخ.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٥١ ـ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «هما زلفتا الليل» أقول : واغرب منها ما في نور الثقلين ٢ : ٤٠٠ في تهذيب الأحكام بسند متصل عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام) حديث طويل وفيه : وقال في ذلك : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) وطرفاه المغرب والغداة (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وهي صلاة العشاء الآخرة».

٤١٨

ثم (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) هي ضابطة شاملة لا تختص بالصلوات ، بل هي كبيرة الحسنات إيجابية كما الصلاة وسلبية كترك كبائر المنهيات و «يذهبن» بين دفع ورفع السيئات ، حيث تكون الحسنات أقوى من السيئات ـ دفعا ورفعا ـ فلتكن المذهبة منها للسيئات أقوى منها ، وإلّا فكيف يذهبها (١)؟.

وهنا «السيئات» هي صغائر المعاصي أم والتي تتغلب عليها الحسنات ، فليس أن الحسنات أيّا كانت هن يذهبن السيئات أيّا كانت ، كأن تأتي بحسنة مستحبة فترجو أن تذهب سيئة كبيرة ، حيث الكفاح الصارم هو شرط الإذهاب في ذلك الميدان.

ذلك ، وكما أن الحسنات يذهبن السيئات شرط كونها أقوى منها ، كذلك السيئات يذهبن الحسنات شرط كونها أقوى منها ، تحابطا من الجانبين دون تهافت ، ثم تبقى الحسنات والسيئات المتكافئة غير المتكافحة فلا تحابط ـ إذا ـ في البين ، وقد تدل آيات إحباط الإشراك وما أشبه ـ كلّ الحسنات ـ على عكسية هذه القاعدة (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) بأن السيئات يذهبن الحسنات.

ذلك ، فما دون الزنا من سائر الرباطات مع أجنبية تذهب بالصلوات وكما في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سنادا إلى هذه الآية (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٥٤ ـ أخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : مثل الذي يعمل الحسنات على أثر السيئات كمثل رجل عليه درع من حديد ضيقة تكاد تخنقه فكلما عمل حسنة فك حتى يحل عقده كلها.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٥٢ ـ أخرج ابن حبان عن ابن مسعود قال قال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني لقبت امرأة في البستان فضممتها إلي وقبلتها وباشرتها وفعلت بها كل شيء إلا أني لم أجامعها؟ فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ ... إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليه فقال عمر يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أله خاصة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بل للناس كافة ، أقول : وقد ـ

٤١٩

وترى أن الحسنات إنما يذهبن رفعا السيئات السالفة دونما ذكرى وتوبة؟ (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) تلمح بشريطة الذكر بعد السيئة ، أن يذكر الله تائبا إليه ، نادما عما فعله ، وهنا (الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(١) وهناك «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن» (٢)

و «كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة» (٣).

__________________

ـ روي متواترا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ عدة متحدة المعنى ، وفيه عن سلمان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ غصنا يابسا من شجرة فهزّه حتى تحات ورقة ثم قال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق ثم تلا هذه الآية.

(١) المصدر عن ابن عباس أن رجلا كان يحب امرأة فاستأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حاجة فأذن له فانطلق في يوم مطير فإذا هو بالمرأة على غدير ماء تغتسل فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة ذهب يجرك ذكره فإذا هو كأنه هدبة فندم فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر ذلك فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): صل أربع ركعات فأنزل الله : وأقم الصلاة .. ، وفيه عن بريدة قال : جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة وكانت امرأة حسناء جميلة فلما نظر إليها أعجبته وقال : ما أرى عندي ما أرضى لك هاهنا ولكن في البيت حاجتك فانطلقت معه حتى إذا دخلت أرادها على نفسها فأبت وجعلت تناشده فأصاب منها من غير أن يكون أفضى إليها فانطلق الرجل وندم على ما صنع حتى أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما حملك على ذلك؟ قال : الشيطان فقال له : صل معنا ونزل : وأقم الصلاة .. فقال الناس يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : بل هي للناس عامة.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٥٢ عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): جعلت الصلوات .. فإن الله تعالى قال : إن الحسنات يذهبن السيئات.

(٣) المصدر عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. وفيه عن عثمان قال رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ ثم قال : من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح ثم صلى صلاة العصر غفر له ما كان بينه وبين صلاة الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما كان بينه وبين صلاة العصر ثم صلى العشاء غفر له ما كان بينه وبين صلاة المغرب ثم لعله يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهن الحسنات يذهبن السيئات .. وفيه عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

٤٢٠