الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

يعتذر ربنا لإبراهيم عن استغفاره لأبيه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) وتراها موعدة لإبراهيم وعدها إياه؟ والموعدة المحرمة لا تبرر إيفاءها! أم هي موعدة أبيه وعدها إياه؟ ولا تتبين موعدته من (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)! وحتى لو أنها كانت تتبين موعدته منها ، فلأنها لا واقع لها فلا يصلح إخبارا بها من الله أنه (وَعَدَها إِيَّاهُ)!.

إنها موعدة إبراهيم وعدها إياه بقوله (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) إذ تلمح لمحة التحري عن إيمان من قوله (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (١٩ : ٤٦) وعلى هامشها موعدة آزر إياه أن يتحرى.

فلو أنه مصرّ على رجمه حيث قال «لأرجمنك» ما كان يقول دون فصل (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) إذا فمليّ الهجر دون دوامه ، وهيمان إبراهيم لإيمان آزر ، هما خيّلا إليه أنه يعني بملي هجره مليّ تفكيره وتروّيه فيما يدعوه إليه (١) فلذلك أم وللعطف عليه أن يهديه الله بما يستغفر له ، وعده أن يستغفر له فور وعده الذي خيل إليه (٢) : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا)(٤٧) ثم استغفر له ـ ولمّا يتبين أنه كاذب في لمحة الوعد ـ : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٦ : ٨٦).

ولأن وعد الاستغفار وتحقيقه ما كان حققا في الواقع مهما كان هو معذورا فيهما ، فقد خرج فيه إبراهيم عن أن يؤتسى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ ... إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (٦٠ : ٤) وإن كان قاصرا في العلم (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) حيث القاصر لا يؤتسى في قصوره

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٧٥ في تفسير القمي في الآية قال : قال إبراهيم لأبيه : إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك ، فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه إبراهيم.

(٢) المصدر في تفسير العياشي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن بعض أصحابه قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول الناس في قول الله عزّ وجلّ : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) قلت : يقولون : إبراهيم وعد أباه ليستغفر له قال : ليس هو هكذا وإن إبراهيم وعده أن يسلم فاستغفر فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه ، أقول : وعده يعني آزر أن يسلم ..

٣٢١

كما المقصر ، ومهما كان القاصر معذورا دون المقصر ، ولكن الله ليس ليأمر أن يؤتسى إمام فيما هو قاصر.

وهكذا تبرر ساحة إبراهيم عن خاطئ الاستغفار لأبيه أنه استغفر له بما وعده إياه و (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) فهو من أصحاب الجحيم «تبرأ منه» فلم نسمعه بعد حتى آخر عمره وخلاص أمره أن يستغفر له ، اللهم إلّا لوالديه حين كان يرفع القواعد من البيت وإسماعيل بقوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (١٤ : ٤١).

ذلك ، والأب هو أعم من الوالد ، فقد يعني العم كما : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) (٢ : ١٣٣) حيث يعد إسماعيل من آباء يعقوب وهو عمه.

أم جدا لأم حيث يعد «عيسى» (عليه السلام) من ذرية إبراهيم (.. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٦ : ٨٥).

فلأن جد الأم والد كما جد الأب فضلا عن الوالد ، دون العلم إذ ليس والدا بأي وجه ، فالقصد من «أبيه» غير والده في مثلثه ، إنما هو عمه.

وإنما عبر عن عمه في ثمانية موارد ب «أبيه» تأشيرا إلى المحتد القمة التوحيدية لإبراهيم حيث تربى في جو الشرك وبيت الإشراك ، وتحت الولاية التربوية لآزر الذي كان مكان والده ، ولم يتأثر بوصمة الشرك ، بل وعارض آزر معارضة صارحة صارخة دونما أية مساهلة.

ذلك ، وقد يسمى بالأب من لا صلة له نسبية بأولاده ، كما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لعلي (عليه السلام): «أنا وأنت أبوا هذه الأمة فمن عقنا فعليه لعنة الله» «أنا وهو أبوا هذه الأمة» «أنا وأنت أبوا هذه الأمة» (١).

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٤ : ١٠٠ ، ٢٢٧ و ٧ : ٢١٦ و ١٥ : ٥١٨ ـ ٥١٩ و ٥ : ٩٥ و ٢٠ : ٢٣٠.

٣٢٢

ولو أن والده في «والدي» هو أبوه آزر ، لكان في ذلك مس من كرامة العصمة الربانية حيث أخبر تعالى أنه : (تَبَرَّأَ مِنْهُ) والاستغفار ينافيه! وهكذا العصمة الإبراهيمية حيث كانت براءته مفروضة فتركها مرفوض في شرعة الله.

فقد كان إبراهيم يستغفر لوالديه عند رفع قواعد البيت وهو في أخريات عمره الطويل ، ومات أبوه آزر في شبابه ، فلا يعني من (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) أباه آزر وقد تبين له ـ من ذي قبل ـ بموته مشركا أنه من أصحاب الجحيم (١)(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أواه إلى الله راجعا إليه عن خطأه غير العامد «حليم» مع أبيه المشرك حتى يلتقط من (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أنه واعده التحري عن الحق ، فالأوّاه هو كثيره الأوه واللهف والتّلهّب في الدعاء ، والرجوع إلى الله (٢).

فقد تعني (مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) كلتا الموعدتين ، الأولى موعدة آزر إبراهيم أن يتحرى ، والثانية موعدة إبراهيم آزر لنفس الموعدة أن يستغفر له ، بفارق أن موعدة إبراهيم كانت واقعة دون آزر ، وقد استغفر له ، ثم

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٧٤ ـ أبو إسحاق الهمداني عن الخليل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : صلى رجل إلى أجنبي فاستغفر لأبويه وكانا ماتا في الجاهلية فقلت تستغفر لأبويك وقد ماتا في الجاهلية؟ قال : فقد استغفر إبراهيم لأبيه ، فلم أدر ما أرد عليه فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ ..) قال : لما مات تبين أنه عدو لله فلم يستغفر له.

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٢١١ يروى أن زينب تكلمت عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يغير لونه فأنكر عمر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : دعها فإنها أواهة قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما الأواهه؟ قال : الداعية الخاشعة المتضرعة ، وفي الدر المنثور ٣ : ٢٨٥ عن جابر أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل لو أن هذا خفض صوته فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : دعه فإنه أواه وفيه عن عقبة بن عامر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لرجل يقال له ذو البجادين إنه أوّاه وذلك أنه كان يكثر ذكر الله والدعاء ، وفيه عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه : أوّه أوّه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه لأوّاه.

٣٢٣

لمّا تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ولم يستغفر له ، وإنما استغفر لوالديه وللمؤمنين رافضا أباه آزر ، وأما أن تعني ـ فقط ـ وعد إبراهيم إياه ، فهو لا يبرر الاستغفار ، إنما يبرره عدم تبنيه أنه عدو لله حسب النص ، ثم آزر هو أقرب مرجعا أدبيا كما هو أقرب في «مليا» وعدا مليا.

وهنا المختلقة الزور أن الآية ليست «لوالدي» بل هي «لولدي» إسماعيل وإسحاق والحسن والحسين (عليهم السلام) (١) إنها ليست إلّا من المجاهيل الذين لا يتدبرون القرآن ، ففيما تبدو لهم ظاهرة بدائية من آية أنها تخالف ما يعتقدون يبتدرون بفرية تحريف الآية بكل توسّع وسخاء حمقاء ، والله تعالى منهم ومن أمثالهم من المختلقين الزور براء.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١١٥).

هنا «هداهم» بما اهتدوا فليس (لِيُضِلَّ قَوْماً) إلّا إذا ضلوا ، وهدى الله هي الهدى الكاملة (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) على ضوء هداه ، ف «يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه» (٢) فإن ضلوا بعد هداه وبيانه أضلهم جزاء وفاقا بما ضلوا.

و «ما كان» تحلّق هذه السلبية على فسيح زمن التكليف ، فحين

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٧ في تفسير العياشي عن جابر قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) قال : هذه كلمة صحفها الكتاب إنما كان استغفاره لأبيه عن موعدة وعدها إياه وإنما كان (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) يعني إسماعيل وإسحاق والحسن والحسين والله ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٧٦ في كتاب التوحيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : حتى يعرفهم .. وفيه عن أصول الكافي عن شاهديه بن عبد الله الجلاب قال : كتب إلى أبو الحسن (عليه السلام) في كتاب : أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر (عليه السلام) وقلقت لذلك فلا تنعم فإن الله عزّ وجل لا يضل قوما بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وصاحبكم بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء ما ننسخ من آية أو ننسها قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان.

٣٢٤

يهدي الله قوما بما اهتدوا وعملوا لها ، فالله مستمر في هداهم مبينا لهم ما يتقون ، وهو من هداهم ، فإذا ضلوا بعد هدى الله وبيانه فقد يضلهم ، و : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٨ : ٥٣).

وهنا (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) يعني ـ كأصل ـ كتاب الوحي وعلى هامشه السنة الرسولية ، ولأن السنة تختلط بسواها فقد يخفى بيانها ، فلا بد من كون الكتاب بيانا صارحا ليكون حجة كافية ، فلو أن القرآن محرّف ، أم ليس بيانا كافيا بنفسه ، فلا عذاب إذا ولا إضلال على من يخالف شرعة الله ، بسناد عدم البيان الوافي في كتاب الله.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١١٦).

له الولاية الطليقة في مطلق الكون تكوينا وتشريعا ، إحياء وإماتة ، للأرواح هدى وضلالا ، وللأجساد حيث (يُحْيِي وَيُمِيتُ) تعنيهما كليهما ، ولا سيما حياة الهدى وضلال الردى اللتين يتحدث عنهما.

ثم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) يلي أموركم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم في الهزاهز.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١١٧).

هنا قلوب كادت تزيغ فتوبة الله عليها هي الرجوع بالرحمة المطمئنة لها ، وقلوب ما كادت تزيغ وهي قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والناحين منحاه ، فلا تعني التوبة عليهم معنى واحدا لكي تعني في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توبة عليه في زيغ اعتراه.

فقد يتوب على الساحة المعصومة فهي التسديد في ساعة العسرة ، وأخرى على غير المعصومين وهم غير مأثومين إذ (كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ) طمأنة لها عما كاد ، وثالثة يتوب على من تاب إلى الله من زيغ واقع وضيق

٣٢٥

مانع : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥ : ٣٩) ورابعة يتوب عليهم ليتوبوا ، ثم أخرى قبولا لتوبتهم في عظائم الذنوب كما :

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١١٨).

فالتوبة على النبي واحدة هي مستمرة تسديدا له بما عصم الله ولا سيما في ساعة العسرة ، فمن الجهالة غيار (عَلَى النَّبِيِّ) ب «بالنبي» كما فى مختلقة (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٧٧ في تفسير القمي قوله عزّ وجل : لقد تاب الله بالنبي ... قال الصادق (عليه السلام) هكذا نزلت ، أقول : ولا معنى لتوبة الله بالنبي فإنه يتوب دونما وسيط اللهم إلّا بما يستغفر النبي ، ولكن النصر (عَلَى النَّبِيِّ) كما بيناه ، وفيه عن الإحتجاج للطبرسي عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قرأ : «لقد تاب الله بالنبي ..» قال ابان : فقلت له يا ابن رسول الله إن العامة لا تقرأ كما عندك؟ قال : وكيف تقرأ يا أبان؟ قال قلت : إنها تقرأ : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ ..) فقال : ويلهم وأي ذنب كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تاب الله عليه منه إنما تاب الله به على أمته.

أقول : لقد جاء «تاب على» في آيات عدة كما في دعاء إبراهيم (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢ : ١٢٨) وفي نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (١١٠ : ٣) وهكذا (عَفَا اللهُ عَنْكَ ..) وما أشبه ، ولكل معنى صالح لساحة النبوة القدسية دون أي غيار في هذه الآيات.

وفي المجمع قد روي عن الرضا (عليه السلام) «بالنبي» وقراءة علي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد (عليهم السلام) «خالفوا» بدلا عن «خلفوا».

وفي تفسير العياشي عن فيض المختار قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) كيف تقرأ هذه الآية (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) قال قلت : «خلفوا» قال : لو خلفوا لكانوا في حال طاعة ـ وزاد الحسين بن مختار عنه : لو كان «خلفوا» ما كان عليهم من سبيل ولكنهم خالفوا عثمان وصاحباه أما والله ما سمعوا صوت كافر ولا قعقعة حجر إلا قالوا أتانا فسلط الله عليهم الخوف حتى أصبحوا ، قال صفوان قال أبو عبد الله (عليه السلام) كان أبو لبابة أحدهم يعني في (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).

٣٢٦

والتوبة على من كاد أن تزيغ قلوبهم مرتان ، توبة لاطمئنان بعد ما كادت تزيغ ، وأخرى (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) مزيدا للرحمة والحنان (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ولا حاجة فيهما إلى توبة العبد مهما تاب كما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توبة إلى الله على أية حال.

ثم التوبة على من عصى هي مشروطة بأن يتوب إلى الله حتى يتوب الله عليه ، وهي في الذنوب المتعددة غير المتعدية ، ومن ثم على أمثال (الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) حيث التوبات لهم أربع ، توبة الله عليهم ليصلحوا لرحمة كما (وَعَلَى الثَّلاثَةِ) عطفا على (لَقَدْ تابَ) وأخرى عليهم ثانية ليتوبوا ، ثم ثالثة هي توبتهم إلى الله ، ومن ثم رابعة ليتوب الله عليهم غفرا لعظيم الذنب.

فتوبات الله على عباده نوبات ، كما وتوبات العبد نوبات ، ولا تعني كلها معنى واحدا ، حتى إذا سمعنا الله يقول : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) نحسبها توبة عن عصيان ، أم يقال : كانت الآية «بالنبي»! كما وأن الذنب ذنبان ، ذنب يستوخم عقباه في العقبى وهو أوخم عصيان ، وذنب يستوخم عقباه في الأولى ومنه قمة إيمان ، كذنب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فإنه ذنب الرسالة القدسية الأخيرة بملابساتها وعرقلاتها من قبل المناوئين إياها حيث سترها الله بفتح العاصمة الرسالية.

وهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن ربيعة ، وكلهم من الأنصار ، ولم يكونوا هم من المنافقين (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٨٦ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه يتلقونه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه : لا تكلمنّ رجلا تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم فلم يكلموهم فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة أتاه الذين تخلفوا يسلمون عليه فأعرض عنهم وأعرض المؤمنون عنهم حتى أن الرجل ليعرض عنه أخوه وأبوه وعمه فجعلوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعتذرون بالجهد والأسقام فرحمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ

٣٢٧

وإنما «خلفوا» بما خلفتم أموالهم وأهلوهم ، خلفتهم عن اللحوق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك ، ف «خلّفوا» إذا عن توبة الله عليهم حيث التخليف في اللغة هو التأخير ، فقد أخروا عما أخروا بما أخروا (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) تأسفا على ذلك التخلف العارم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) تحزنا على ما خلّفوا (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) ثم بعد هذه الثلاثة التي هي من مؤهّلات التوبة (تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) إليه (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

فهؤلاء الثلاثة ابتلوا بثلاثة كل واحدة منها تكفي لأهليتهم للتوبة ، فقد (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) أرض العشرة السليمة مع المسلمين حيث رفضوهم واعتزلوهم كما رفضهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «ضاقت بما رحبت» من أموال وأهلين تركوا الجهاد لها ولهم ، فضاقت

__________________

ـ فبايعهم واستغفر لهم وكان ممن تخلف عن غير شك ولا نفاق ثلاثة نفر الذين ذكر الله تعالى ...

وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : لما غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبوك تخلف كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، قال : أما أحدهم فكان له حائط حين زها قد فشت فيه الحمرة والصفرة فقال غزوت وغزوت وغزوت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو أقمت العام في هذا الحائط فأصبت منه فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه دخل حائطه فقال : ما خلّفني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما استبق المؤمنون في الجهاد في سبيل الله إلّا ضن بك أيها الحائط ، اللهم إني تصدقت به في سبيلك ، وأما الآخر فكان قد تفرق عنه من أهله ناس واجتمعوا له فقال غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغزوت فلو أني أقمت في أهلي فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه قال : ما خلفني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما استبق إليه المجاهدون في سبيل الله إلا ضنّ بكم أيها الأهل ، اللهم إن لك علي أن لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى أعلم ما تقضي في ، وأما الآخر فقال : اللهم إن لك علي أن ألحق بالقوم حتى أدركهم أو انقطع فجعل يتتبع الدقع والحزونة حتى لحق بالقوم فأنزل الله (لَقَدْ تابَ اللهُ) .. وعلى الثلاثة الذين خلفوا.

٣٢٨

عليهم أنفسهم» بتلك العزلة والندامة عن تلك التخلّفة العارمة (١) ، ثم انقلبوا وانعزلوا إلى الله حيث (ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) وبهذه الخطوات الثلاث التي هي من مؤهّلات التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

ذلك ، وزيغ قلوب فريق منهم الذي كاد ، علّه نوع نفرة منهم لتلك السفرة الشاقة البعيدة في الرمضاء ، وما أشبه من هذه الحوادث والوساوس والهواجس ، فأدركهم الله بتوبته

عليهم جزاء ما أقدموا على الخروج رغم تلك المروج ، وإتباعهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ساعة العسرة العسيرة ، فجعلها الله عليهم بتوبته سهلة يسيرة ، فلاتباع الحق في ساعة العسرة موقعه العالي في ميزان الله ، يستحق صاحبه به أن يتوب الله عليه برحمة خاصة راصّة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٢١٨ ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوما أنزل الله تعالى (لَقَدْ تابَ اللهُ ... وَعَلَى الثَّلاثَةِ ..) فعند ذلك خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال : الله أكبر قد أنزل الله عند أصحابنا فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعب : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : لا ـ قلت : فنصفه ، قال : لا ، قلت : فثلثه ، قال : نعم.

٣٢٩

لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)

٣٣٠

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١١٩).

الصادقون هنا هم الصادقون في إيمانهم بأيمانهم وسواها من قالاتهم وحالاتهم وفعالاتهم ، ف (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ..) صدقا طليقا حقيقا بصالح الإيمان.

فالكون مع الصادقين في كينونة الصدق هو من معارج تقوى الله ، وهنا مدارج ثلاث:

(آمَنُوا ـ اتَّقُوا اللهَ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فمن كمال الإيمان هو تقوى الله عمليا كما آمنتم لفظيا وقلبيا ، تقوى عن كل ما لا يرضاه الله ، ثم من كمال التقوى هو الكون مع الصادقين (١) وهم أئمة المؤمنين المتقين

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٢٩٠ عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ـ

٣٣١

الصادقين ، فهم ـ لأكمل مصداق ـ أئمة الدين (١) وكما تظافر به الحديث

__________________

ـ وسلم): «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا» وفيه عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب فقال : ما يحملكم على أن تتبايعوا على الكذب كما يتتابع الفراش في النار كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو إصلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها ، وعن أبي بكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الكذب مجانب للإيمان ، وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب ، وعن أبي برزة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : الكذب يسود الوجه والنميمة عذاب القبر ، وعن أسماء بنت عميس قالت كنت صاحبة عائشة التي هيأتها فأدخلتها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نسوة فما وجدنا عنده قرى الأقداح من لبن فتناوله فشرب منه ثم ناوله عائشة فاستحيت منه فقلت : لا تردي يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذته فشربته ثم قال : ناولي صواحبك فقلت لا نشتهيه فقال : لا تجمعن كذبا وجوعا فقلت إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا نشتهي أيعد ذلك كذبا فقال : إن الكذب يكتب كذبا حتى الكذيبة تكتب كذيبة ، وعن الحسن بن علي (عليهما السلام) سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة ، وعن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : في خطبته : إن أعظم الخطيئة عند الله اللسان الكاذب ذلك ومن طرائق الالتزام بالصدق ما يروي أن واحدا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : إني رجل أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني تبرك واحد منها آمنت بك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أترك الكذب فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا السرقة فعاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي وتاب عن الكل.

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٠ ـ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر مثله.

٣٣٢

عن المعصومين (عليهم السلام).

ذلك ، ولأن (الَّذِينَ آمَنُوا) تعم كافة المؤمنين بدرجاتهم ، ف «الصادقون» فيهم هم الرعيل الأعلى منهم بطبيعة الحال ، وكما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إجابة عن سؤال : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعامة هذه الآية أم خاصة ، فقال : أما المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك ، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي وأوصيائي من بعده (عليهم السلام) إلى يوم القيامة .. (١).

فقد تعني الصادقون الصديقين في أخرى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩) ولأن (الَّذِينَ آمَنُوا) يحلق على طول الزمان وعرض المكان فلا بد لهم أن يكونوا مع الصادقين على طول الخط ، فهم ـ إذا ـ المعصومون من الأمة ، حيث الأمر بالكون مع غير المعصوم إغراء بالجهال ، وجمع «الصادقين» دليل عديد المعصومين فلا تختص العصمة ـ إذا ـ في هذه الأمة بشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يذهب أحد من الأئمة إلى عصمة الخلفاء أو الأئمة الأربعة ، وقد ذهبت جماعة منهم إلى عصمة الأئمة الإثني عشر ، فليكونوا هم

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٨٠ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في أثناء كلام له في جمع من المهاجرين والأنصار في المسجد أيام خلافة عثمان : أسألكم بالله أتعلمون أن الله عز وجلّ لما أنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فقال سلمان يا رسول الله عامة ... قالوا اللهم نعم.

أقول : وممن روى تفسير الصادقين بهم (عليهم السلام) : الثعلبي في تفسيره (٢١٩) والگنجي في كفاية الطالب (١١١) والسبط ابن الجوزي في التذكرة (٢٠) وصاحب كتاب شرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مناقب الكاشي ، والخركوشي في شرف المصطفى بنقل ابن شهر آشوب في كفاية الخصام (٣٤٨) وأبو يوسف يعقوب بن سفيان في نفس المصدر (٣٤٧) والخطيب الخوارزمي والسيوطي في الدر المنثور ٣ : ٢٩٠ والترمذي في مناقب مرتضوي (٤٣) والشوكاني في تفسيره ٢ : ٢٩٥ والألوسي في روح المعاني ١١ : ٤١ والقندوزي في ينابيع المودة (١١٩).

٣٣٣

المعصومين ، وإلّا فلا مصداق إذا للصادقين ، ثم ومعيتهم كما المعية مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تختص بحضورهم ، بل الأصل فيها هي معية سنتهم الثابتة الموافقة لكتاب الله ، وإنما أمر المؤمنون في تقواهم بهذه المعية لأنهم يخطئون ويجهلون فلا بد لهم ـ إذا ـ من سناد يسندهم ومولى يليهم في كل أقوالهم وأحوالهم وأعمالهم ، وهؤلاء هم المعصومون الذين لا يجوز عليهم الخطأ ، وإلا فلا طائل تحت الكون معهم وهم كأمثالنا يخطئون! ، والقول إن «الصادقين» لا يجب أن يكونوا أشخاصا خصوصا فإن إجماع الأمة معصوم صادق ، هو زخرف من القول وغرر من الغرور قضية الدور المصرح أن يكون الراجع والمرجع كلاهما كل الأمة! ، وإذا عني من إجماع الأمة الضرورة القطعية الإسلامية ، فهو الكاشف قطعيا عن سنة الصادقين المعصومين.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢١).

هنا بركات سبع تقابل دركات سبع قضاء عليها في حركات في سبيل الله ، يوصف بها الذين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ف «ما كان» تستأصل كل تخلف عن رسول الله فيما يأمر أو ينهى على طول خط الرسالة منذ بزوغها إلى يوم الدين ، ثم (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) تستأصل كل رغبة قلبية عنه ، فعلى المؤمنين أن يعيشوا رهن إشارته ، ويرغبوا فيه فوق رغبتهم في أنفسهم ، سواء في ذلك أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أم سائر أهالي المدن وحولهم من الأعراب : سكان البوادي ، وذكر (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) يعني ذكر الأقرب إليه مكانا فالأقرب ، وهنا (لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) تعني لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم عما يبذل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه

٣٣٤

نفسه ، ولا يحفظوا منهجهم في المواطن التي تحضر فيها نهجه ، اقتداء به واتباعا لأثره.

ذلك ، وهم الذين تبنّوا هذه الحركة المباركة الإسلامية بمناصرة المهاجرين ، فهم أهلوها الأقربون ، فهم بها ولها ولهذا الدين الجديد كأس وأثافي ، فقد آووا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصروه وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ، فباتوا يمثلون القاعدة الصلبة الرصينة المتينة للإسلام في الجزيرة كلها ، وإلى كل المعمورة ، وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة منذ أسلمت وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة ، فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صالح الإسلام ودولته.

ذلك ، ولكنه ليس يختص بهم حيث التكاليف الإيمانية عامة لا تختص بفريق دون آخرين.

فقد تحلق طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يفعل أو يقول ، والرغبة فيه ، تحلقان على كل عصر ومصر من ساكني القصور إلى ساكني الأكواخ ، حيث التكليف رسالي تعم كل زمان ومكان وأيا كان من المكلفين إلى يوم الدين وأيان.

ولقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقود الأمة إلى كل خير وهو السباق إليه ، ومن قوله في السرايا التي كان يتركها : «والذي بعثني بالحق لو لا ضعفاء الناس ما كانت سرية إلا كنت فيها» (١).

ذلك ، ولا يعني التخلّف عن رسول الله إلّا التخلف عن أمره ، فإذا نهى عن الخروج معه كان الخروج معه تخلفا عنه ، كما أن عدم الخروج

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٢ ـ أخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لما نزلت هذه الآية (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ..) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

٣٣٥

معه حين يأمر به تخلف عنه.

ثم (لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) تعني لا تحجبهم أنفسهم بمشتهياتها ورغباتها أن يرغبوا لها عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فالباء هنا للسببية والمصاحبة : لا تكن أنفسهم سببا للرغبة عنه ولا مصاحبة لها ، بل عليهم أن يقدّموا رغباته على رغباتهم ف (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

وليست الآية لتأمر بالقتال معه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما الائتمار بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما كان قعودا ، كما للقاصرين والعجّز وغير المحتاج إلى حضورهم ، أم خروجا وهو لقدر الكفاءة ، فلا تنافي آية النفر ـ التالية ـ حتى تنسخ بها.

هذا ، وذلك التأليب والتأبيب بمن يتخلف عن رسول الله أو يرغب بنفسه عن نفسه ، وذلك التشجيع بطاعته وولايته الطليقة ، كل ذلك يرجع إلى صالحهم أنفسهم كمؤمنين بهذا الدين ، ف :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

فظمأ في سبيل الله في الهاجرة الحارقة ونصب في سبيل الله تعبا ناصبا ، ومخمصة في سبيل الله جوعا مدقعا ، ووطأة في سبيل الله موطئا يغيظ الكفار ، ونيلا من عدو الله في سبيل الله في نفس أو نفيس ، كلّ (كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) في مخمسه.

ومن ثم (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) في سبيل الله (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) في سبيل الله (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) به عمل صالح (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بهذه الوفرة الغالية (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وهو هنا هذه السبعة المباركة لهؤلاء السالكين إلى الله.

ولقد أثر ذلك البلاغ البالغ في قسم من المؤمنين لحد عزموا على

٣٣٦

النفير في سبيل الله فحددهم عند حده ، إخراجا لهم عن جزره ومده قائلا :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢).

هنا يقتسم المؤمنون إلى قسمي القاعدين للتفقه في الدين والخارجين النافرين لصيانة الدين في جبهات الحرب ، مما يدل على واجب التفقه في الدين وجوبا عينيا دونما أية وقفة ، حيث الحرب أحيانية ، وهي على بالغ فرضها ضد أعداء الدين واجب كفائي ، فكما الفتنة أكبر وأشد من القتل ، فالتفقه في الدين حفاظا على صالح العقيدة الصامدة أوجب من القتال ، حيث العدو المقاتل يشكّل خطرا على الأبدان ، والداعية المضلة تشكل خطرا على العقيدة والأرواح في الأديان ، فالحفاظ على الروحية الإيمانية أولى من الحفاظ على الدماء وأوجب.

ولأن النفر ـ وإن كان في الاستنفار العام ـ لا يعم كافة المؤمنين ، ضرورة بقاء المعذورين ، وآخرين يتفقهون في الدين ، لذلك (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) نفرا جماعيا للكف عن دين الله ، وحين لا يمكن ولا يجوز أن ينفر المؤمنون كافة (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) والفرقة هي الجماعة الفارقة بينها وبين جماعة أخرى بمختلف الأشغال والمسؤوليات ، ومختلف الطاقات والإمكانيات ، ومختلف الأواصر والقرابات ، فرق مجتمعة على دين الله ، مفترقة فيما يفرق بعضهم عن بعض في هذه وما أشبه.

وطائفة من كل فرقة ، جمع منها مرابطة تطوف حول الآخرين مراسة في حراسة عليهم ، حفاظا على الدينين بنواميسهم وبلادهم ، فالذين بإمكانهم ذلك التطواف ، عليهم ذلك النفر حفاظا على الحدود والثغور الظاهرة ، ثم الباقون (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) بردح النفر لهؤلاء (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الطائفين النافرين (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) المحاذير

٣٣٧

والمحاظير بما يتفقهون عندهم ، وهي الحدود والثغور المعرفية والعقيدية والعملية.

فهنا «ليتفقهوا» لا ترجع ـ فقط ـ إلى النافرين ، فإن مجال النفر هو الجهاد وليس التفقه في الدين ، فالمحور الذي تحور حوله الآية هو «المؤمنون» و ـ إذا ـ ف «ليتفقهوا» هم غير النافرين.

ذلك ، وإن تكن جبهات الحرب أيضا مجالات لعملية التفقه في الدين ، ولكنها ليست إلّا على هوامش الجهود من المتفقهين الرسميين للدّين ، فهم الأساتذة الأولون في إنذار النافرين ، مهما تلمذوا عليهم هؤلاء تفقها عمليا للجهاد في سبيل الله.

وفي إرجاع ضمير الجمع في «ليتفقهوا» ـ فقط ـ إلى النافرين جمع لمسؤولية التفقه مع الجهاد فيهم ، وسلب لهما عن الباقين ، رغم أن مجال التفقه للباقين أوسع بكثير من النافرين.

ذلك ، وقد يعنى من ضمير الجمع كلا الباقين (١) والنافرين (٢) مهما

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٢ ـ أخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : نسخ هؤلاء الآيات : انفروا خفافا وثقالا ... قوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، يقول : لينفر طائفة ولتمكث طائفة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالماكثون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الذين يتفقهون في الدين وينذروا إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو لعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده ، أقول : وأخرجه مثله عن عبد الله بن عبيد بن عمير.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٨٢ عن الكافي عن يعقوب بن شعيب قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال : أين قول الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ..) قال : هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم ، وفيه عنه عن عبد الأعلى قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول العامة : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية؟ قال : الحق والله ، قلت : فإن إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيه لم يسعه ذلك؟ قال : لا يسعه ، إن الإمام إذا هلك وقعت حجة وصيه على من هو معه في البلد وحق ـ

٣٣٨

كان الأولون هم الأصلاء والآخرون هم الهوامش لاختلاف ، مجال التفقه بينهما.

فلأن التفقه في الدين جهاد كمال القتال ، فقد يصدق على الخارجين لذلك أنهم من النافرين ف «لو لا نفر» لكلا الجهاد القتال ، والجهاد التفقه في الدين ، ف «طائفة من كل فرقة» هي القادرة على التطواف حول كل فرقة ، حفاظا عقيديا وثقافيا ، أو حفاظا على الثغور الإسلامية.

فالتفقه في الدين فرض على كل قاعد ونافر مهما اختلفت مراتبه ومجالاته حسب اختلاف الملابسات ، فعلى الذي لم يتفقه من نبعته عليه أن يتفقه عمن تفقه ما لا يصل إلى النبعة ، ومن تفقه قليلا فعليه أن يتفقه ممن تفقه أكثر منه ، فلا حدّ ـ إذا ـ للتفقه في الدين ، وهو على فرضه الأعياني يجب أن يكون متعاونا عليه بين المؤمنين أجمع ، ولكن النفر للجهاد ليس فرضا على الأعيان وحتى في الاستنفار العام قضية أنه غير مستطاع لكافة المؤمنين ، والتفقه في الدين من المستطاع لهم أجمعين مهما اختلفت درجاته ومجالاته.

ذلك ، ف «طائفة» هي بين طائفة النفر للتفقه في الدين وأخرى

__________________

ـ النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم إن الله عزّ وجلّ يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ ..) وفيه عن عيون الأخبار في باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان أنه سمعها من الرضا (عليه السلام) فإن قال : فلم أمر بالحج؟ قيل العلة الوقادة وطلب الزيادة ـ إلى أن قال : مع ما فيه من التفقه ونقل الأخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية كما قال الله عزّ وجلّ : فو لا نفر ... «وليشهدوا منافعهم» وفيه عن العلل عن عبد الله المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إن قوما يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اختلاف أمتي رحمة؟ فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ ..) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويختلفوا إليه فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ، إنما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله إنما الدين واحد ، وفيه عنه عن عبد الأعلى قال قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إن بلغنا وفات الإمام كيف نصنع؟ قال : عليكم النفير ، قلت : النفير جميعا؟ قال : إن الله يقول (فَلَوْ لا نَفَرَ ..).

٣٣٩

طائفة النفر للجهاد للحفاظ على الدينين ، فقه علمي للقاعدين ، وفقه عملي للنافرين ، ولكي يتفقه المؤمنون كلا الفقهين ، فعلى كلّ من القاعدين والنافرين أن يفقه الآخرين.

وعلى أية حال فالتفقه في الدين بحاجة إلى حركة فقهية سواء للقاعدين أو النافرين ، فإنه منهج حركي لا يفقه إلا من تحرك به ، لذلك نسمع الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيمن لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه : وكيف يتفقه هذا في دينه؟.

فالفقاهة العملية التي ندرسها من خلال جبهات الحروب في سبيل الله هي من حصائل الفقاهة العلمية ، ثم الفقاهة العلمية هي أيضا بحاجة إلى فقاهة عملية تكافلا وتكاملا للمتفقه بين الفقاهتين.

نحن نجزم بالتجارب بأن الذين لا يندمجون في الفقه الحركي ، تفرغا لدراسة الدين في الكتب والحوزات بصورة باردة جامدة ، هؤلاء لم يتفقهوا في الدين كما يصح ، فكيف يقودون الحركة الإسلامية السامية في حقول الجهاد بمختلف صوره؟.

ثم التفقه في الدين لا يختص بالفقه الأصغر وهو فقه الأحكام ، بل والفقه الأكبر وهو أحرى من جهات شتى ، لأنه أصول المعارف الدينية ، وهي لا تقبل التقليد ، والتفقه في الفقه الأكبر يسهّل التفقه في الفقه الأصغر دون عكسه.

وهل الدين يختص بأحكامه الفرعية دون قواعده وأثافيّه حتى يختص التفقه في الدين بها دونها؟ ولأن الفقه هو التوصل بعلم حاضر إلى علم غائب فالتفقه إذا هو التكلّف في هذا الحقل قدر المستطاع ، ف

«تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه في الدين فهو أعرابي» (١).

__________________

(١) الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيه عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا ، وفيه عن أبان بن تغلب ـ

٣٤٠