الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

ذلك ، وإذا دار الأمر بين التفقه في الدين والجهاد دون إمكانية الجمع بينهما فالمتعين هو التفقه فإنه يتبني إيمان المتفقه والمجاهدين ولا عكس ، والحفاظ على فقاهة الإيمان أوجب من الحفاظ على نفوس المؤمنين ، ثم وكلّ من طائفة التفقه والجهاد ينوب عن الآخر ، فللمجاهدين من أجر المتفقهين وللمتفقهين أجر الشهداء فإن «مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء» حيث الشهادة في سبيل الله ترسمها مداد العلماء ، مدا لها إلى الشهادة وسواها من الحيويات الإيمانية.

وهل يستفاد من الآية وجوب أو جواز العمل بخبر الواحد أو الخبر الواحد ـ عن القرائن العلمية ـ اعتبارا ب «ينذروا» و (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إذ لا مجال لرجاء الحذر إلّا بعد واجب أو راجح قبول الإنذار؟ كلّا حيث الطائفة المتفقهة سواء أكانت الباقية أو النافرة هي جماعة فيها مجالة القبول للمنذرين ، بحجة الكتاب والسنة الصالحة للتقبل ، وقد أمرنا ألّا نقف ما ليس لنا به علم ، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا ، ولعل «لعلّ» هنا تعني ترجيين اثنين : ترجى الحذر برجاء الحجة في ذلك الإنذار الإعذار ، وترج ثان بعد واقع الحجة فيه.

فعلى المنذر أن ينذر بما يملكه من حجج الحق ، فإن حقت الحجة للمنذرين فهناك واجب الحذر عما منه ينذرون ، ومما ينذر منه المنذرون تصديق ما ليس لهم به من علم في حقل الإنذار ، كتكذيب ما لهم به علم.

ولأن التفقّه يحمل الحجة على مادة الإنذار ، فالمنذرون ـ إذا ـ

__________________

ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا ، وفيه عنه (عليه السلام) قال له رجل : جعلت فداك رجل عرف هذا الأمر لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه ، قال فقال : وكيف يتفقه هذا في دينه ، وعن الخصال عن الحارث الأعور قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاث بهن يكمل المسلم : التفقه في الدين والتقدير في المعيشة والصبر على النوائب ، وعنه عن موسى بن أكيل قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لا يكون الرجل فقيها حتى لا يبالي أيّ ثوبية ابتذل وبما سدّ فورة الجوع.

٣٤١

ينذرون بتلك الحجة التي تثبت مادة الإنذار ، اجتهادا أو تقليدا صالحين.

ولمكان الفرض المستفاد من (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) نرى واجب التفقه على الذين عليهم أن يفقّهوا ، أثقل مادة وكيفية من واجبة على الباقين ، على أنهم سواء في واجب أصل التفقه قدر القناعة الذاتية ، ثم المفروض على الآخرين التفقه في تقبل ذلك الفقه بأذن صاغية وقلوب واعية ، فإن بلغت لهم حجته تقبلوه ، وإلا فإلى من في إنذاره حجة دون أية وقفة في حقل التعلم.

وهكذا يبشّر عباد صالحون في حقول المعرفة الدينية : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣٩ : ١٨).

ثم التفقه في الدين ليس يختص بالأحكام حتى يحاول الحصول بالآية على حجية الخبر الواحد ، بل الأصل فيه هو أصل الدين وعلى هامشه فرعه ، فهل يتقبل أصل من الدين بخبر الواحد تقليديا؟ أم هو بحاجة إلى اقتناع بحجة مقبولة ، وهكذا شأن الفروع كما تقول آية الذكر : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (١٦ : ٤٤) : اسألوهم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وهم أهل الذكر بالبينات والزبر.

فقد ينحصر القبول في حقل الدين بالكتاب والسنة القطعية ، اجتهادا تفصيليا هو الاجتهاد ، أم إجماليا هو التقليد ، فليكن التقليد أيضا بالاجتهاد قدر المستطاع ، فالمسلمون كلهم متفقهون في الدين دونما استثناء مهما اختلفت الفاعليات والقابليات.

وحين يجب على غير النافرين إلى الجهاد أن يتفقهوا في الدين بوجه صالح مقبول ، كذلك على النافرين إذا رجعوا إليهم أن يتفقهوا منهم بوجه صالح مقبول وهو إتباع علم أو أثارة من علم ، دون اعتماد على ظن وما أشبه ، ودونما تقليد أعمى.

وأصل الفقه وأثافيه أحكاميا وعقيديا وسياسيا وعسكريا وسواها من

٣٤٢

الفقه الإسلامي إنما هو القرآن وعلى هامشه السنة القطعية ، فالمشي وراء سائر الأدلة المتخيلة ، ولا سيما المجانية للكتاب والسنة ، إنه سفاهة وليس فقاهة.

ذلك ، والآيات القرآنية كهذه وما أشبه ، ومن كتابات السماء (١) والروايات هي فوق

حد الإحصاء ، بكلمة واحدة هي فرض العلم دينيا فرض عين ، ودنيويا فرض كفاية.

ومما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة» (٢).

و «نوم مع علم خير من صلاة مع جهل» (٣) ـ و «إذا جاء الموت إلى طالب العلم وهو على هذه الحال مات شهيدا» (٤) و «طالب العلم أفضل عند الله من المجاهدين ، والمرابطين ، والحجاج ، والمعتمرين ، والمعتكفين ، والمجاورين ، استغفرت له الشجر والبحار والرياح والسحاب والنجوم والنبات وكل شيء طلعت عليه الشمس» (٥) ـ و «من أراد أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى العلماء» (٦) ـ

__________________

(١) فمما في كتب السماء ما ينقله في منية المريد عن الإنجيل في السورة السابعة عشرة منه : «ويل لمن سمع بالعلم ولم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار ، أطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم ، وإن لم يرفعكم يضعكم ، وإن لم يغنكم لم يفقركم ، وإن لم ينفعكم لم يضركم ، ولا تقولوا : نخاف أن نعلم فلا نعمل ، ولكن قولوا : نرجو أن نعلم ونعمل ، والعلم يشفع لصاحبه ، وحق على الله أن لا يخزيه ، إن الله يقول يوم القيامة : يا معشر العلماء ما ظنكم بربكم؟ فيقولون : ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا ، فيقول تعالى : فإني قد فعلت ، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم ، بل لخير أردته بكم ، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي ورحمتي» (العوالم ٢ ـ ٣ : ١٢٥).

(٢) العوالم (٢ ـ ٣ : ١٣١) نقلا عن منية المريد للشهيد الثاني.

(٣) المصدر ١٣٢.

(٤) المصدر (١٣٣) عن أبي ذر قال : باب من العلم تتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا وقال سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إذا جاء الموت ..

(٥) المصدر عن عيون المعجزات وإرشاد الديلمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٦) المصدر (١٣٣).

٣٤٣

و «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال والحرام ، سالك بطالبه سبيل الجنة ، ومؤنس في الوحدة ، وصاحب في الغربة ، ودليل على السراء والضراء ، وسلاح على الأعداء ، وزين الأخلاء ، يرفع الله به أقواما يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم ، ترمق أعمالهم ، وتقتبس آثارهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، لأن العلم حياة القلوب ، ونور الأبصار من العمى ، وقوة الأبدان من الضعف ، وينزل الله حامله منازل الأنبياء ، ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة ، بالعلم يطاع الله ويعبد ، وبالعلم يعرف الله ويوحد ، وبه توصل الأرحام ، ويعرف الحلال والحرام ، والعلم إمام العقل والعقل وزيره ، يلهمه الله السعداء ، ويحرمه الأشقياء» (١).

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «... إن العلم ذو فضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة الأسباب بالأمور ، ويده الرحمة ، وهمته السلامة ، ورجله زيادة العلماء ، وحكمته الورع ، ومستقره النجاة ، وفائدته العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلام ، وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، ومأواه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه صحبة الأخيار»(٢).

وعنه (عليه السلام): العلم أفضل من المال بسبعة : الأوّل : أنه ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة ، الثاني : العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص بها ، الثالث : يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه ، الرابع : العلم يدخل في الكفن ويبقى المال ، الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن خاصة ، السادس :

__________________

(١) المصدر ١٣٣ عن تحف العقول قل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ..

(٢) المصدر ١٣٥ تحف العقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث ..

٣٤٤

جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال ، السابع : العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه (١).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات» (٢) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه وأشجع الناس من غلب هواه ، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علما ، وأقل الناس قيمة أقلهم علما» (٣).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من خرج يطلب بابا من علم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالة إلى هدى كان عمله ذلك كعبادة متعبد أربعين عاما» (٤).

وعن الباقر (عليه السلام): «عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد» (٥).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «الأنبياء قادة ، والفقهاء سادة ، ومجالستهم زيادة» (٦).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرات ـ قيل له : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلفاءك؟ قال : الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي» (٧).

__________________

(١) المصدر ١٣٨ منية المريد عنه (عليه السلام).

(٢) المصدر ١٤٣ عن أمالي الطوسي.

(٣) المصدر ١٤٣ مكارم الأخلاق.

(٤) المصدر ١٤٨ ـ أمالي الطوسي.

(٥) المصدر ١٤٩.

(٦) المصدر ١٦٧ ـ أمالي الطوسي.

(٧) المصدر ١٧٤ عيون أخبار الرضا (عليه السلام).

٣٤٥

وهنا «حديثي» قبل «سنتي» وقرنه ، لا ريب أنه يعني القرآن : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٤٥ : ٦) فكما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مزدوج الشخصية الرسولية من الكتاب والسنة ، كذلك الذين يخلفونه من معصومين (عليهم السلام) وسواهم ، إنما هم يروون كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) رواية صادقة حاذقة حادقة إلى الحق المرام من الثقلين.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «.. ومن خرج من بيته يلتمس بابا من العلم كتب الله له بكل قدم ثواب (ألف) شهيد من شهداء بدر» (١) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «سألت جبرئيل (عليه السلام) فقلت : العلماء أكرم عند الله أم الشهداء؟ فقال : العالم الواحد عند الله أكرم من ألف شهيد فإن اقتداء العلماء بالأنبياء ، واقتداء الشهداء بالعلماء» (٢).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» (٣).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» (٤) وعن الصادق (عليه السلام): «طلب العلم فريضة على كل حال» (٥).

ذلك ، ولأن الفقه أخص من العلم ، حيث الفقه هو التوصل بعلم حاضر إلى علم غائب ، لذلك أصبح الفقه والتفقه في الدين من ميزات العلم البارعة وكما في متواتر الحديث:

__________________

(١) المصدر ١٧٦ جامع الأخبار.

(٢) المصدر ١٧٦ عن عيون المعجزات.

(٣) المصدر ١٨٥ ـ أمالي الطوسي.

(٤) المصدر ١٩٧ ـ غوالي اللئالي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٥) المصدر ٢٠٠ ـ بصائر الدرجات.

٣٤٦

«متفقه في الدين أشد على الشيطان من ألف عابد» (١) و «لكل شيء عماد ، وعماد هذا الدين الفقه» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣).

صحيح أن (قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (٨ : ٣٩) تعم الذين يلونكم والبعيدين عنكم ، إلّا أن القدر المستطاع قبل قيام صاحب الإمر بالدولة الإسلامية العالمية ، ليس المستطاع قبله إلا قتال الذين يلونكم (٣) وكما الإنذار والدعاية الإسلامية آخذان في خطواتهما من الأقربين الملاصقين ، كذلك القتال ، فهما الحد الأدني والخطوة الأولى من الناحيتين السلبية والإيجابية الممثلة لكلمة التوحيد ، سلبا للكفر وإيجابا للإيمان.

ذلك (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) تحذروهم ـ أولاء وسواهم من الكفار ـ عن النيل منكم ، فلا بد للمؤمنين إضافة إلى واقع القتال قوة إرهابية عادلة ترهب أعداء الله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ..) (٨ : ٦٠). ثم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) في القتال والغلظة ، اتقاء عن الإفراط والتفريط ، مشيا على معتدل الجادة في سبيل الله كما أمر الله ، وبصورة جادة.

__________________

(١) المصدر ٢٤٥ غوالي اللئالي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢) المصدر ٢٤٥ بصائر الدرجات عن أبي جعفر (عليه السلام).

(٣) نور الثقلين ٢ : ٢٨٥ في تفسير القمي في الآية قال : يجب على كل قوم أن يقاتلوا ممن يليهم ممن يقرب من بلاءهم ولا يجوزوا ذلك الموضع.

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٩٣ ـ أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) انه سئل عن قتال الديلم فقال : قاتلوهم فإنهم من الذين قال الله تعالى : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وفيه ابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن غزو الديلم فقال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قال : الروم.

٣٤٧

فحين تشكّل دولة إسلامية بغياب صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فلا عليها ولا لها إلّا أن تقاتل جيرانها الأقربين من الكفار المقاتلين المفسدين ، اتقاء عن التجاوز عنهم إلى الآخرين ، حيث الكفر ملة واحدة ، فقد يجنّد جنوده دفعة واحدة وحملة فاردة لاجتثاث الدولة الإسلامية التي غاية قوتها الحفاظ على نفسها من بأس الذين يلونهم من الكفار.

ذلك ، ولأن (الَّذِينَ آمَنُوا) لا تختص بدولة إسلامية ، وهم مبعثرون في المعمورة ، فعليهم القتال الدائب قدر المستطاع بصورة متواصلة سوما للعذاب على الكفار المفسدين الخطرين عليهم ، حتى تعبّد الطريق لدولة المهدي (عليه السلام) العالمية.

فهنالك للمجموعة المسلمة مثلث من الجهاد في مثناه : دعائيا وحربيا ، فالضلع الأوّل (الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) لكل دولة أو دويلة أو مجموعة أو منظمة إسلامية سليمة ، والثاني أن تتعاون كافة المجموعات الإسلامية في شتى أنحاء المعمورة ، مترابطين مع بعضهم البعض ومرابطين وكما قال الله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ..) والثالث والأخير ـ وهو من حصائل ذلك الجهاد الإسلامي المتكافل وفصائله ـ هو تأسيس الدولة الإسلامية العالمية بقيادة صاحب الأمر وولي العصر حجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه ، وأما الحرب الباردة الدعائية فلا حد لها إلا كافة الدعايات الكافرة ، أن نحاربها بألسنتنا وأقلامنا.

وقيلة القائل الغائل إنها منسوخة ب (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) منسوخة بأن «كافة» هي وصف للمقاتلة المستفادة من «قاتلوا» فلتكن مقاتلة كافّة بأسهم عن المسلمين ، تكفهم عنهم وتجعلهم في أمن منهم ، فهم ـ إذا ـ (الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) يلونكم جوار المكان والحدود الجغرافية ـ أم ويلونكم جوار البأس مهما كانوا بعيدين ، وهما ليسا إلّا قتال الدفاع ، دون هجوم بدائي أيّا كان.

ولقد كانت سنة الحروب للقائد الرسولي (صلى الله عليه وآله

٣٤٨

وسلم) هكذا في خطوات ، من (أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) في العهد المكي حربا عقيدية ، تبنيا لأعضاء الدولة وأعضادها في المدينة ، وإلى حرب المشركين المدنيين ثم المكيين ثم سائر الجزيرة وإلى الشام والروم ، حيث الجمع بين كل الأعداء في حرب واحدة منذ البداية ، انسحاق لأصل الدعوة بمجموعتها الدينين ، ما لم يفعله قائد القوات الرسولية في زمنه فضلا عمن سواه!.

فلمحاربة الأعداء الأقربين ، ولا سيما الدخلاء الداخليين ، تقدم حسب كل التكتيكات الحربية ، كما وهي أقل مؤنة وأكثر معونة وأوجب دفعا للخطر الحادق الحاذق.

ثم (الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) إن كانوا أقوياء ، كان تعرّضهم لدار الإسلام أكثر وتبرزهم أخطر من البعيدين ، فهم أولى بالدفع ممن سواهم ، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاءهم عليهم أسهل ، وإبقاءهم على حالهم اشتغالا بالبعيدين يخلق لهم مجالا للاستعداد ، وعلى أية حال ف (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٣٣ : ٢١) فقد ابتدأ في كلا الغزو والدعوة بالأقربين ، مراعيا سياسة الخطوة الخطوة حتى ملك الجزيرة بكاملها ، ثم إلى غير الجزيرة من الروم وما أشبه ، سنة سارت عليها الفتوحات الإسلامية. تواجه من يلون دار الإسلام مرحليا ، فلما أسلمت الجزيرة أو كادت ، ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف طاقة خطرة بعد فتح مكة ، كانت غزوة تبوك على أكناف الروم ، ثم انساحت الجيوش الإسلامية إلى الروم وفارس إلى أن وحّدت الرقعة الإسلامية وتواصلت حدودها ببعضها البعض ، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء ، واسعة الأنحاء ، متماسكة الأطراف ، ثم لم تمزقها إلّا الحدود المختلفة المختلقة المتخلّفة بين ديار الإسلام فأصبحت دويلات فشكلت ويلات على المسلمين أجمع.

ذلك ، وترى (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) تعني الخشونة والفظاظة التي تنافي في صالح الدعوة؟ إنها غلظة رهيبة في القوات المسلحة وسائر الاستعدادات أمام المحاربين دون سائر الكفار فضلا عن المؤمنين ، فقد

٣٤٩

تعني «غلظة» منكرة ، الغلظة التي لا بد منها أمام المعاندين ، فلا تنافي اللينة في الدعوة والرحمة في الدعاية ف (لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (٢٩ : ٤٦) فحين لا تؤثر الرحمة إلا زحمة فهنالك الغلظة أمام غلظة ، حيث الرحمة أمام الظالم المعاند العامد ، إنها زحمة وقسوة على المظلوم ، فهي ـ إذا ـ غلظة أمام غلظة ، بلا هوادة ولا تميّع ولا تراجع ، إنها قوة وصلابة ومهابة (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

ذلك ، وكما أن الرأفة والرحمة في الدعوة الربانية من تقوى الله ، كذلك الغلظة في محالها من تقوى الله ، فالرأفة مكان الغلظة كما الغلظة مكان الرأفة هما خارجتان عن تقوى الله إلى الطغوى على حكم الله.

ولقد كانت الحروب الإسلامية بقيادة القائد الرسولي أو الرسالي ، مبنية على تقوى الله : (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) فلا يحب الطاغين.

ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا ، فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وأدعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم من الغنيمة شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين ، وإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم ... (١).

__________________

(١) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ، وأخرج أبو داود عن رجل من جهينة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم ـ

٣٥٠

إذا فلا تعني الغلظة معهم إلّا في ضوء التقوى ، وليست هي الوحشية والبربرية مع الأطفال والنساء والشيوخ وسائر العجّز غير المحاربين ، إنما هي الخشونة التي لا تميّع الحركة ولا تفسح مجالا لأعداء الدين أن يهاجموا المؤمنين ، فهذا الدين ـ كما هو الله ـ «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة».

ذلك ، وأحرى من الدفاع والحرب الحارة الحارقة ، الدفاع والحرب الباردة وهي الدّعائية بعد تقديم البراهين البينة الدّعائية.

وهنا خطوات أولاها وأولادها الدعوة الداخلية بمختلف واجهاتها ، كيلا ينصدم المسلمون بدعايات مضللة يحملها المتظاهرون بالإسلام ، ومن ثم سائر المهاجمين على المقدسات الإسلامية السامية.

فهؤلاء الربانيون الحافظون لحدود الله هم ثقات الإسلام وحصونه ، الذين يصدون الهجمات الهمجات المضلّلة للمسلمين.

__________________

ـ دون أنفسهم وذراريهم فيصالحونكم على صلح ، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح لكم.

وعن العرياض ابن سارية قال : نزلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلعة خيبر ومعه من معه من المسلمين وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا فأقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا محمد! لكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟ فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : يا ابن عوف أركب فرسك ثم ناد : إن الجنة لا تحل إلّا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة فاجتمعوا ثم صلى بهم ثم قال فقال : أيحسب أحدكم متكئا على أريكته ، قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ، ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء ، إنها لمثل القرآن أو أكثر وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوا الذي عليهم.

ورفع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بعد إحدى المواقع ـ إن صبية قتلوا بين الصفوف فحزن حزنا شديدا فقال بعضهم : ما يحزنك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم صبية للمشركين ، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال ما يعني : إن هؤلاء خير منكم ، إنهم على الفطرة ، أو لستم أبناء المشركين ، فإياكم وقتل الأولاد إياكم وقتل الأولاد.

٣٥١

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ)(١٢٥).

رجعة في نهاية السورة إلى تتمات من مواصفات المنافقين والكافرين ، أنهم (إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يتساءلون هازئين أنفسهم والمؤمنين (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) والجواب الحاسم القاصم ظهورهم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) على إيمانهم (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ببشائرها (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وريبة رجسة (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) بمزيد كفرهم (إِلَى رِجْسِهِمْ) من كفرهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) ـ : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

أجل وقضية اختلاف القلوب سعة وضيقا هي اختلاف انعكاس القرآن عليها ، فالظاهر القلب ، المنشرح الصدر ، المتحري عن الحق يزيدهم القرآن إيمانا كلما نزلت آياته البينات أو تليت عليه ، ف (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٨ : ٢).

والنجس القلب ورجسه الضال الشاك (١) ، والضيّق الصدر يزداد به ضلالا ورجسا إلى رجسه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ١٢٥).

ف (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) تعني ضلالا على ضلالهم ، حيث سمي الضلال هنا رجسا ، وهو مرض القلب ، ف «بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة ، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرطون النار» (٢) والإيمان يبدو لمظة ـ نقطة بيضاء ـ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٨٦ في تفسير العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) في (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يقول : شكا إلى شكهم.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٢٨٥ في أصول الكافي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله ـ

٣٥٢

في القلب كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة (١).

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦).

ألا يرون الحق ناصعا ناصحا تترى عليهم آياته (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ..) ومن هذه الفتنة الحروب المستجدة في كل عام مرة أو مرتين وهم فيها مخلّفون ، ومنها السورة التي تفضحهم بما في قلوبهم (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ).

فلقد كانت الفتنة الربانية تتواتر عليهم عاما مرة وعاما مرتين ، كشفا لسترهم الستير وتركا لهم للنفير ، وانتصارا للمؤمنين دونهم ، فتحسرا لهم وتكسرا حيث ينتصرون دونهم ، وما أشبه من صور الفتنة ، ومنها :

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(١٢٧).

«سورة» هي بصورة عامة تعني المسوّر باستقلال المعني ، آية مستقلة ، أم آيات مستقلات ، أم سورة مصطلحة ، أم سور مترابطات ، أم القرآن كله.

وآياتها على الترتيب : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) (٩ : ٦٨) إذ تعني عناية مستقلة تعني واجب الإيمان والجهاد ، إن في آية أم في آيات.

__________________

ـ (عليه السلام) في حديث طويل قال : إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقة فيها وبين ذلك ، قلت : قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ قال : قول الله عزّ وجلّ : «وإذا ما أنزلت سورة ... إلى رجسهم» وقال : نحن نقص عليك نبأهم بالحق انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على أخيه ولاستوت النعم فيه ولا استوى الناس وبطل التفضيل ولكن ...

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

٣٥٣

ثم (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) (٢٤ : ١) إذ تعني سورة النور برمتها.

ثم آيات عدة تجمعها سورة أم عناية واحدة مهما كانت في سورة أم سور : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..) (٢ : ٢٣).

ومن ثم القرآن كله : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ..) (١٠ : ٣٨) فإن ضمير الغائب في مثله راجع إلى القرآن كله ، فقد تعني : فأتوا بمجموعة مثل المجموعة القرآنية.

وهنا «سورة» قد تعني التي (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) ـ ضمن سائر ما عنت من السور ـ لمحة من (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) حتى يعرفكم بما يعرفكم الله بمخابئ قلوبكم (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عنها كما هم منصرفون عن سائر السور (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن القرآن جزاء بما صرفوا (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الحقّ رغم تواتر آياته وتوافر بيناته.

هؤلاء المقلوبة قلوبهم تتغير ألوانهم تغيظا على نزول القرآن ولا سيما السور التي تفضحهم ، ثم يقول بعضهم لبعض : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) بغيار لونه والقلق الظاهر على صفحة وجهه (ثُمَّ انْصَرَفُوا) لكيلا يسمعوا القرآن ولا يراهم أحد بغيار ألوانهم فيعرفوا بنفاقهم من جهتين أم واحدة.

أم هم في ثالوث من قلقهم ثالثة أنهم يستهزءون بالقرآن عند نزوله ، متخفين من أن يراهم أحد فيتساءلون خائفين ذعرين (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أم ورابع أنهم يريدون الخروج عند نزول سورة فيتساءلون (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) تخرجون ، (ثُمَّ انْصَرَفُوا) زعما منهم أنه لا يراهم من أحد ، حيث تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال بال ، فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر (ثُمَّ انْصَرَفُوا) تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة.

إلى هنا ـ والسورة تتم بعد آيتين ـ سمعنا مواصفات للمنافقين تحتل زهاء نصف وزيادة من آيات السورة ، ثم نسمع الإمام عليا أمير المؤمنين (عليه السلام) يصفهم على ضوء القرآن قائلا :

٣٥٤

وأوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحذركم أهل النفاق ، فإنهم الضالون المضلون ، والزالون المزلون ، يتلونون ألوانا ، ويفتنون افتنانا ، ويعمدونكم بكل عماد ، ويرصدونكم بكل مرصاد ، قلوبهم دوية ، وصفاحهم نقية ، يمشون الخفاء ، ويدبون الضراء ، وصفهم دوائر ، وذكرهم شفاء ، وفعلهم الداء العياء ، حسدة الرخاء ، ومؤكدو البلاء ، ومقنّطو الرجاء ، لهم بكل طريق صريع ، وإلى كل قلب شفيع ، ولكل شجو دموع ، يتقارضون الثناء ، ويتراقبون الجزاء ، إن سألوا ألحفوا ، وإن عدلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا ، قد أعدوا لكل حق باطلا ، ولكل قائم مائلا ، ولكل حيّ قاتلا ، ولكل باب مفتاحا ، ولكل ليل مصباحا ، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم ، وينفقوا به أعلاقهم ، يقولون فيشبّهون ، ويصفون فيموّهون ، قد هوّنوا الطريق ، وأضلعوا المضيق ، فهم لمّة الشيطان ، وحمة النيران ، أولئك حزب الشيطان (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (الخطبة ١٨٥).

هؤلاء المنافقون الأنكاد «زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثبور» «والله ما أرى عبدا يتقى تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه ، وإن لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإن قلب المنافق من وراء لسانه ، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه ، فإن كان خيرا أبداه ، وإن كان شرا وأراه ، وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه ، لا يدري ما ذا له وما ذا عليه» (الخطبة ١٧٤).

«رجل منافق مظهر للإيمان ، متصنع للإسلام ، لا يتأثم ولا يتحرج ، يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمدا.

وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده ، فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان ، فولوهم الأعمال ، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس ، فأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله» (الخطبة ٢٠٨).

٣٥٥

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٢٨).

«كم» هنا تعني كافة المؤمنين بمن معهم من سائر الناس المخاطبين بالقرآن ، وهنا مواصفات خمس لهذا الرسول تشجّع على إتباعه :

(رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فلو كان الرسول إلى الناس من غير الناس لكان في ترك اتباعه عذرا (١) ف (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فهو من أنفس الناس بشرا مثلهم (٢) ثم هو من أنفس الناس فإنه من أنفس وأنفس المؤمنين وكما يروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «إذا أراد الله أن يبعث نبيا نظر إلى خير أهل الأرض قبيلة فيبعث خيرها رجلا» (٣).

أجل إنه «من أنفسكم» ومن أنفسكم ، فقد نسب نفسه بسلسلة الآباء إلى نزار ثم

قال : «وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لون آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا»

فقد تعني «من أنفسكم» من جنس أنفسكم وخلقكم إنسانا كما أنتم لتكونوا إليه أسكن ، وإلى القبول منه أمكن ، ثم واعتبارا بمنطلق دعوته تعني من قبيلكم وعشيرتكم ، ومن ثم اعتبارا بصالح شخصه تعني من

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٤ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس قال : قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) يا رسول الله ما معنى «أنفسكم» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا ليس في ولأخي آبائي من لدن آدم سفاح كلها نكاح.

(٢) المصدر أخرج بن سعد عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

(٣) المصدر أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن أنس قال : خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : أنا محمد بن عبد الله ... وفيه أخرج ابن سعد والبخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه.

٣٥٦

أنفس المؤمنين وأنفسهم إيمانا ، أم هو من أرواحكم فإن للأرواح جوانب أعمقها الفطر والقلوب ، فهو قلب لكل الأرواح المؤمنة.

ذلك ، فقد يحق له (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «آدم وجميع خلق الله تستظل بظل لوائي» (١).

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ثقيل عليه ما تعبتم حيث العنت هو الوقوع في مشقة ومكروه ، فيعز عليه أن تعنتوا وتعاندوا فتحرموا الثواب وتستحقوا العقاب.

(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) على إيصال الخيرات إليكم ، حريص على أيمانكم رأفة بكم وإشفاقا عليكم.

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

وهنا «من أنفسكم» دون «منكم» هي أشد حساسية وأعمق صلة وأدل على نوعية الوشيجة التي تربطهم به ، فهو بضعة من أنفس الناس وأنفسهم لأنه من المؤمنين قبل الرسالة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) بعد هذه المواصفات الرسولية والرسالية ، وبعد كل الآيات البينات الدالة على صدقك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عنك تصديقا برسالتك أو طاعة لك فلا تأسف على توليهم (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) ربّا لا سواه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإنما هو لا سواه متكئ ومتوكل عليه : «عليه» لا سواه (تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي جعلني على عظيم عرش النبوة والرسالة الختمية العالمية.

وهكذا يجب أن يكون الداعية إلى الله ، يلقي حججه كما أمره الله ثم لا يأسف على توليهم مهما يفرح بتصديقهم.

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٤ : ٤٩٥ و ١٥ : ٤٨٣ ـ ٤٨٧ و ٢٠ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

٣٥٧

وهكذا يعيش رسول الهدى جامعا بين صلابة المواجهة لأعداء الله ، وليونته مع سائر عباد الله ، فقد حارب الأعداء طوال ثمان سنين من العهد المدني ـ باستثناء سنة أولى وأخرى أخيرة ـ حاربهم زهاء (٦٥) مرة ، ففي كل خمسين يوما كانت له حرب غير ماضية ومستقبلة ، وهو في نفس الوقت (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

٣٥٨

الفهرس

تتمة «سورة التوبة»

لقد نصركم الله في مواطن كثيرة؟............................................... ٥ ـ ١٢

«إنما المشركون نجس» لا تعني نجاسة أبدانهم................................... ١٢ ـ ١٩

مقاتلة قسم من الذين أوتوا الكتاب؟......................................... ١٩ ـ ٤٠

إظهار الرسول على الدين كله؟.............................................. ٤٠ ـ ٤٥

أكله أصوال الناس بالباطل من الاحبار والرهبان و..؟ وكنز الذهب والفضة؟ بقول فصل ٤٥ ـ ٦٠

عدة الشهور عند الله؟...................................................... ٦١ ـ ٦٦

أبعاد «النسيء»؟......................................................... ٦٦ ـ ٦٨

آية الغار وصاحباء في قول فصل وما هو بالهزل؟!.............................. ٧١ ـ ٩٨

الإستنفار العام «خفافاً وثقالاً»؟........................................... ٩٨ ـ ١٠٤

كيف «عفي الله عنك»؟ هو في قمة العصمة! كلام حول العصمة ـ الإستئذان للقعود؟ ١٠٤ ـ ١١٦

«احدى الحسنيين»؟ كبرنامج إسلامي نضالي.............................. ١١٩ ـ ١٢١

الزكوات في قول فصل ، وأنها تعم كافة الأموال............................. ١٣٣ ـ ١٨٦

«هوازن»؟............................................................ ١٨٩ ـ ١٩٦

الولاية المتقابلة بين المؤمنين والمؤمنات؟..................................... ٢١١ ـ ٢١٧

٣٥٩

هل يستغفر النبي للمشركين؟............................................ ٢٣١ ـ ٢٣٣

أين فرض الضحك القليل والبكاء الكثير؟................................. ٢٣٥ ـ ٢٣٧

حرمة الصلاة على ميتات المنافقين؟....................................... ٢٣٩ ـ ٢٤٦

من هم «الأعراب أشد كفرًا ونفاقاً ..»؟.................................. ٢٦٢ ـ ٢٦٥

من هم «السابقون الأولون ..»؟........................................ ٢٦٧ ـ ٢٧٨

أخذ الصدقات واجب بكل مرونة وليونة.................................. ٢٧٨ ـ ٢٨٣

كيف «سيرى الله عملكم»؟............................................ ٢٨٤ ـ ٢٨٦

«مرجون لأمر الله ..»؟................................................. ٢٨٦ ـ ٢٨٨

مسجد الضرار بأبعاده وخليفاته؟......................................... ٢٩١ ـ ٣٠٢

المؤمن بين قاتل وقتيل في سبيل الله «وعداً عليه حقاً في التوراة والأنجيل والقرآن ..» ٣٠٢ ـ ٣٠٩

مواصفات تسع لأهل الجنة.............................................. ٣٠٩ ـ ٣١٣

كيف استغفر إبراهيم لأبيه المشرك على حرمته؟............................ ٣١٣ ـ ٣٢٠

كيف «لقد تاب الله على النبي ..»؟..................................... ٣٢١ ـ ٣٢٢

«.. فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ...» هل هو نفر في الجهاد أو طلب العلم أم كليهما؟ ٣٣٣ ـ ٣٤٣

قتال الذين يلونكم من الكفار ..؟....................................... ٣٤٣ ـ ٣٤٨

٣٦٠