الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

وفتنتهم هما جحيمهم التي أججوها من ذي قبل : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

هذه جهنم هنا وهناك تأخذ عليهم كل المنافذ والمتجهات فلا يفلتون.

ذلك ومن أحوالهم المزرئة ضد هذه الرسالة السامية :

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)(٥٠).

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) في حرب وسواها ، من غلبة وغنيمة وسواهما «تسؤهم» ثم (وَإِنْ تُصِبْكَ) رمية «مصيبة» على أية حال (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) لصالحنا حيث قعدنا عن الحرب «من قبل» ثم «ويتولوا» عن جنابكم إلى نواديهم (وَهُمْ فَرِحُونَ)(١) رغم أن المؤمنين هم فرحون!.

ذلك بأنهم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) حاسبين السيئة شرا في كل حال ، والحسنة خيرا بأي مجال ، رغم أن الحياة سجال بين مختلف الفتن تمحيصا للمؤمنين وتقليصا للكافرين ، وهنا الجواب كلمة واحدة هي :

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٥١).

فحيث نمشي ونمضي بأمر الله إلى جبهات القتال ، إذا ف (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) قتلا لأجل مسمى فلا ضير ، بل هو خير في سبيل الله ، أم لأجل معلق على القتال فكذلك الأمر ، حيث علّق على

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٤٨ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبار السوء يقولون : إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغتهم تكذيب حديثهم وعافية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله تعالى : «أن تصبك ..».

١٢١

تحقيق أمر الله ، فهو مجتمع أمريه تكوينا وتشريعا كما الأول ، مهما اختلف محتوم عن معلق حيث هما بأمر الله و (هُوَ مَوْلانا) لا سواه (وَعَلَى اللهِ) لا سواه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بالله ، دون توكل في أيّ من الأمور على سواه.

وهنا (ما كَتَبَ اللهُ لَنا) يعم إصابة الحسنة والسيئة ، وهما لنا حسنة حيث كتب الله لنا ، فما كتب الله للمؤمن هو خير له أيّا كان ، وما يكتبه غيره مفارقا شرعة الله هو شر أيّا كان ، فهو ـ إذا ـ مما كتب الله عليه كما هو كتبه على نفسه ، ف «لنا» صالحة تختص بالصالحين و «علينا» طالحة لسائر الناس الطالحين (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

فالمؤمنون منصورون هازمين ومنهزمين ، قاتلين ومقتولين ف (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١).

ذلك ، فلا تعني (ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أن كل المحاصيل بسوء الإختيار إلى حسنه هي مما (كَتَبَ اللهُ لَنا) طالما الكتابة الربانية تحلّق عليها كلها ، إذ (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٣ : ١٤٥) فأين كتابة من كتابة؟.

هنا كتابة حسنة أو سيئة ونحن في سبيل الله وتحقيق أمر الله فهي خير لنا تكوينا إلى تشريع وتشريعا إلى تكوين ، وهناك كتابة حسنة أو سيئة وهم في سبيل الطاغوت فهي شر لهم في تكوين ، وشر لهم في تشريع ، حيث خالفوا فيها شرعة الله فهو مما كتب الله عليهم ، وهنا يبرز ناصع الحق وناصحه من قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «قال لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٤٩ ـ أخرج أحمد عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ...

١٢٢

إذا فنحن السائلون إلى الله ، المجاهدون في سبيل الله ، نعيش إحدى الحسنيين ، وأنتم السالكون إلى الطاغوت المجاهدون في سبيله تعيشون إحدى السوأتين :

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢).

إعلام عام هام في هذه الإذاعة القرآنية من قبل المؤمنين بهذه الرسالة السامية قبال الذين لا يؤمنون ، من ملحدين أو مشركين أو كتابيين أو منافقين من المسلمين ، وكل الذين في قلوبهم مرض وليست حياتهم حياة الجهاد في سبيل الله ، وهم متربصون بالسالكين إلى الله ، المجاهدين في سبيل الله ، أن تصيبهم مصيبة سيئة في هذه السبيل.

وقد «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة»(١).

«وكذلك والمرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين ، إما داعي الله فما عند الله خير ، وإما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه وحسبه» (٢).

وهكذا يؤدبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ضوء كتاب الله ، تكريسا محيصا لحياتنا في الحصول على (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(٣).

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) تفسير روح المعاني ١٠ : ١١٦ وصح من حديث أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : تكفل الله ...

(٣) المصدر أخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده : بينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالروحاء إذ هبط عليه أعرابي من سرب فقال من القوم وأين تريدون؟ قال : قوم بدوا مع النبي (صلى الله عليه ـ

١٢٣

لقد تكرر ذكر الحسنى في القرآن ثمانية عشر مرة ، المناسبة منها لما هنا تعني الحياة الحسنى ، وهي الطليقة دون اختصاص بجانب منها تحلّق على كافة الحيويات الحسنى ف (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) (١٣ : ١٨) (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) (١٨ : ٨٨) (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٩ : ٦) وإلى (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) انشقاقا للحسنى إلى اثنتين ، إنما هي الحسنى هنا ، فإما نقتل في سبيل الله أم نقتل : ف (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١).

فالحسنيان بالنسبة لآحاد المجاهدين في سبيل الله أن يقتلوا أو يقتلوا ، وهما نسبة إلى المجموعة المجاهدة غالبين ومغلوبين ، فحين يؤدي المجاهدون في سبيل الله واجبهم كان انهزامهم كهزيمتهم عدوّهم على سواء.

فسواء أصابتهم سيئة أم اصابتهم حسنة في حرب وسواها ، فما داموا هم هنا وهناك في سبيل الله فهم يعيشون إحدى الحسنيين إذ (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) من حياة أو ممات ، من هزيمة أو انهزامة ، ومن مختلف ملابسات الحياة.

ذلك وقد يجمع بين الحسنيين فرادى وجماعات ، فالمناضل الذي

__________________

ـ وآله وسلم) ، قال : مالي أراكم بذة هيئتكم قليلا سلاحكم؟ قال : ننتظر إحدى الحسنيين أما أن نقتل فالجنة وإما أن نغلب فيجمعهما الله تعالى لنا ، الظفر والجنة ، قال : أين نبيكم؟ قالوا : ها هو ذا ، فقال له يا نبي الله ليست لي مصلحة آخذ مصلحي ثم ألحق ، قال : اذهب إلى أهلك فخذ مصلحتك فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر وخرج الرجل إلى أهله حتى فرغ من حاجته ثم لحق بهم ببدر فدخل في الصف معهم. فاقتتل الناس فكان فيمن استشهد فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن انتصر فمر بين ظهراني الشهداء ومعه عمر فقال : ها يا عمر انك تحب الحديث وان للشهداء سادة وأشرافا وملوكا وان هذا يا عمر منهم.

١٢٤

يقتل ثم يقتل ، والجيش الذي يهزم ويهزم ، أما ذا من جمع بين الحياتين الإيمانيتين ، هؤلاء هم من مجامع الحسنيين.

فرغم أن أعداءنا يتربصون بنا كل دوائر السوء غالبين ومغلوبين ، هنا يعبر عنهما ب «الحسنيين» فإما إحداهما أم كلاهما ، فلا نعيش نحن إلّا حياة سعيدة على أية حال ما دمنا نعيش مرضات الله تحقيقا لشرعته في حياتنا وكل حيوياتنا ، مهما أنكر ناكرون ، حيث الواقع لنا (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) مهما كان متربّص العدو إصابتنا بقتل أو شبهه وهي السوأى الوحيدة دون أية حسنى فضلا عن إحدى الحسنيين.

فذلك الإعلان مما يرتعش به العدو حيث يعرف ـ مهما كان ناكرا في نفسه ـ أننا صامدون في خط النار ، غير راجعين إلّا بإحدى الحسنيين ، فحين يعرف العدو مدى صمودنا يحسب حسابه أمامنا فيهدر وينحدر من علواءه وغلواءه إلى واقع حضيضه ، فيفقد حظه في جبهة القتال.

ذلك في ضفّة الإيمان على مدار حياة الإيمان ، وأما حياة الكفر ف : (نَحْنُ نَتَرَبَّصُبِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) هنا ، أم بعد الموت في البرزخ والأخرى (أَوْ بِأَيْدِينا) أن تقتلوا أو تغلبوا ، فنحن ـ إذا ـ منتصرون غالبين ومغلوبين ، وأنتم معذبون غالبين ومغلوبين «فتربصوا» بنا إحدى الحسنيين (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) بكم إحدى السوأتين.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)

١٢٥

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ)(٥٣).

وترى مجرد الفسوق وإن في غير مسرح الإنفاق وهو «طوعا» كيف يعمل في أن (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) ل (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) إذا فشرط

١٢٦

قبول الإنفاق هو العدالة الطليقة! أو العدالة في الإنفاق حيث (يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

هنا الفسوق محلّق على كافة الأعمال لمكان تحليق الكفر على القلوب ، حيث المورد هو المنافقون ، ومن شروط قبول العبادة الإيمان ، فحتى إذا أنفقوا هؤلاء طوعا ـ ولن يكون ـ ف (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) فكينونة الفسق ضاربة إلى أعماقكم ، فاصلة بينكم وبين الإيمان والمؤمنين ، فكيف تتقبل أية عبادة من كافر أو منافق هو أشر منه؟! وقد تبين ذلك بالآية التالية :

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ)(٥٤).

هنا ثالوث يمنع عن (أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) هو : كفرهم بالله وبرسوله ، وصلاتهم وهم كسالى ، وإنفاقهم وهم كارهون ، مهما تظاهروا أنه بطوع ورغبة ، والأخيران منطويان في الأول ، فهما له لزامان لا ينفصلان ، فكما «الإيمان لا يضر معه عمل وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل» (١) فطالح العمل لا يمحي صالح الإيمان استئصالا وإحباطا ، وصالح العمل لا يثبت بالكفار ، ضابطة ثابتة لا تستثنى.

هنا (لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) حصر لصلاتهم بحالة الكسل وحسر لها عن النشاط العبودي ، وهذه صفة الكافر بالله ، المنافق في عمله كسلانا ومرائيا : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ) (٤ :)

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٢٥ في الكافي مسندا عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه عن كتاب الإحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه : فكل عمل يجري على غير أيدي الأصفياء وحدودهم وعهودهم وشرائعهم وسننهم ومعالم دينهم مردود غير مقبول وأهل بمحل كفر وان شملتهم صفة الإيمان ألم تسمع إلى قول الله تعالى : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ويرو له «فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفع حق أولياءه وحبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.»

١٢٧

(١٤٢) والكسل يعم الجسم إلى الروح ولأن كلا يؤثر على الآخر.

ذلك فصلاة الكسلان المرائي حابطة منافقا كان أو مؤمنا ، ولكن المنافق كل أعماله حابطة قضية عدم الإيمان ، فالمؤمن بشيء يضحي في سبيله قدر إيمانه ، فهلّا نصلي نحن في نضارة الخاطر وحضارة الحال ، وربنا هو الذي دعانا وأمرنا أن نحضر معراجه ، وسمح لنا أن نكلمه بمحاويجنا ، فالتثاقل التكاسل عن الصلاة ، أو إتيانها كسلانا ، هو دليل على عدم الهمامة فيها ترجيحا لسائر المهام ، ويكأن غير الله أحب إلينا من الله؟ أو أن سائر الصلات أنفع لنا من الصلة بالله.

فلنستجوب أنفسنا في محكمة العقل والإيمان إن كان لنا إيمان ، ولنتدرج في درجات القرب والرضوان من الرحيم الرحمان حتى نصل لحد لا نرجح على حال الصلاة حالا ، ولا على أقوال الصلاة أقوالا ، ولا على أفعالها أفعالا ، وكما قال أول العابدين : «وقرة عيني الصلاة» جرب قلبك ، هل إن شوقك للقاء الله أكثر أم لسائر اللقاء ، فيا ويلاه إن كنت ترجح سائر اللقاء على لقاء الله ، وسائر الصلات على الصلاة لله.

إن أهل الله لا يصطفون على حال الصلاة حالا ، بل هم دائبون في الصلاة «خوشا آنان كه دائم در نمازند» : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٧٠ : ٢٣).

ولأنها عمود الدين وعماد اليقين ، لذلك نجدها من أجلى جلوات الشياطين ، وأسرع صرعاته ضد المصلين ، حيث يكرس كافة طاقاته بكل خيله ورجله ليصرعهم فيها ، ولكي يصرعهم في سواها ، لأن «الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وان ردت رد ما سواها».

فقد يبعد عنك شيطانك في شطر من صلاتك فيجلو لك ما غاب عنك من حصائل فكرية مهما كانت حول غوامض من الكتاب والسنة ، قضية زوال الحجاب بينك وبينها ، فيخيّل إليك الشيطان أن الصلاة هي مجال الحصول على كل ضالّة فكرية ثمينة بعد ضالتها ، فيخرجك بذلك عن الحضور أمام ربك فيها ، فيجعل صلاتك الفائضة بالصلاة فاضية خاوية عن الصلات.

١٢٨

فلو أنك تأملت في نفسك ، من أنت فعرفت أنك الفقر المجرد اللّاشيء عن أي غنى ، ثم تأملت في مقام ربك من هو ، فعرفت أنه مجرد الغنى وله كل شيء ، ثم فكرت في موقفك من صلاتك أنك على فقرك دعيت إلى معراج ربك لمصلحتك وحاجتك دون حاجته سبحانه ومصلحته ، لذبت تخجلا من ذلك الشرف العظيم ، وي إن ربي دعاني بل فرض علي أن أكلمه؟ وأنا عنه لاه مفكر في سواه.

ولكنك لما تصلي دون صلة ، فارغا قلبك عن الحضور بمحضره ، ناسيا ربك حاضرا لما سواه ، كان عليك أن تموت خجلا.

ولو لا واجب الصلاة بأمر الله لكانت صلواتنا محرمة من الكبائر ، لأنها هتك لساحة الربوبية أن نحسب لكل غاية فيما سوى الله حسابه ، ولا نحسب للصلاة لديه أي حساب!.

ذلك ولنعرف أن إتيان الصلاة حالة الكسل هو من علامات النفاق ومن أسباب عدم قبول الإنفاق ، مهما لم يصل إلى حد النفاق الرسمي الذي تتحدث عنه هذه الآية وما أشبه من آيات النفاق ، وأقل تقدير هنا أن إنفاق هؤلاء وإن أسقط واجب تكليف الإنفاق ، ولكنه لا يقبل كما يقبل سائر الإنفاق رفعا له إلى ساحة القبول حيث (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

فثالوث : الكفر بالله ، وإتيان الصلاة كسالى ، والإنفاق كارها ، هذه دركات ليست تقف لحد المرسوم منها ، فمهما نزلت هذه الآية تنديدا بالمنافقين ، فقد تشمل الموافقين الذين لهم نصيب منها ، ف (ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦) توسّع نطاق الإشراك بالله كما (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) تسلب البر عما دون ما تحبون مهما لم تكونوا كارهين ، و (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) تخرج الصلاة المأتي بها حالة الكسل عن حقل الصلاة ، بل هي منكرة من المنكرات فكيف (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ذلك فإصلاح الصلاة إصلاح لكافة العبادات ، وكافة القالات

١٢٩

والحالات والفعالات ، فإن الصلاة عمود الدين وعماد اليقين ، فتضييعها ـ إذا ـ عمود اللّادين والخروج عن اليقين.

جرّب نفسك في كافة المصارع مع الشيطان فقد تطلع قويا تصرعه فيها ، ولكنك تصرع في مصرع الصلاة أيا كنت ، اللهم إلّا من هدى الله إذ جاهد في الله حق جهاده.

ركعة من حق الصلاة تركع أمامك الشيطان ، وسجدة منها تسجده لك ، وقراءة وذكر صالحين يخرسانه ويصمانه ، فاعمل جهدك لكي تصلح صلاتك بسلاح الإيمان والاستعانة بالله.

و «صل الصلاة لوقتها الموقت لها ، ولا تعجل وقتها لفراغ ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال ، واعلم أن كل شيء من عملك تبع لصلاتك» (العهد ٢٧).

وترى (لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) تناسب (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)؟ الظاهر لا ، لمكان حصر إنفاقهم هناك في الكراهية ، وهنا بينها وبين الطواعية ، ولكنه نعم ، إذ الواقع منهم هو «كرها» في إنفاقهم وكل طاعاتهم ، و (أَنْفِقُوا طَوْعاً) ردفا ب «كرها» قد يعني الطوع المدعى أم هو واقع الطوع تحديا أنه غير واقع ، فحتى لو وقع فلا يقبل لكفرهم المحبط لأعمالهم ، وكما أن «لن يتقبل» إحالة للقبول ، تحلّق على طوع إلى كره لو اتفق طوع ، ولكنه كره على أية حال (١).

ذلك وفي طوعا أو كرها وجوه أخرى مع ما ذكر ك «طوعا» دون إلزام من الله ، أو إلزام من رؤسائكم مصلحية الحفاظ على ظاهر الإيمان ، ف «كرها» إلزاما هنا أو هناك.

فإنفاقهم على أية حال ، وبكل معاني وحالات الطوع ، هو كالكرة على سواء أنه «لن يتقبل» إحالة لقبوله (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) تقبلا من الله أو رسوله أو المؤمنين النابهين.

__________________

(١) قال ابن عباس : نزلت في جد بن قيس قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ائذن لي فى القعود وهذا مالي أعينك به.

١٣٠

وهذه نماذج من صور المنافقين المناحرة لسيرهم ، مظاهر خاوية من روح الإيمان ، خالية من التصميم ، وإنما خوف ومدارات بقلب منحرف ، وعقل خرف ، وضمير مدخول منجرف.

فمهما تكن لهؤلاء الأنكاد من طائلة الأموال والأولاد ، فليست هي بشيء بجنب الله:

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٥٥).

إذا (فَلا تُعْجِبْكَ) أيها الناظر ، والرسول هنا خارج عن الدور إلّا بمعنى إياك أعني واسمعي يا جارة ، أم تأكيد للحرمة الفطرية والعقلية لذلك الإعجاب ، وخطاب النبي بخصوصه أو بين آخرين يعني أن ذلك الإعجاب محرم على الكل ، وليس النبي لنبوته ومحتده مستثنى عن ذلك ، فإذا كان الإعجاب محرما عليه فعلى غيره أحرى ، فالنهي قد ينحو نحو المنكر المفعول فنهي عن منكر واقع ، فهو نهي عن المنكر ، أم تشريع لما لم يكن محرما أم كان محرما فطريا وعقليا ، فهذا تأكيد وذاك إنشاء للحرمة ، وهما لا يدلان على أن المخاطب به مقترف لمادة النهي ، وهكذا تكون مناهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم إلا فيما كان حلا ثم حرم ك (أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وما أشبه ، فمجرد ورود نهي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم سواه لا يدل على أنه اقترف المنهي على حرمته ، إنما هو تحذير ذو احتمالات ثلاث.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أن تحملك على عجب أو عجب كأن هذه الأموال والأولاد أعماد لحياتهم بها يعيشون ، ويكأن الله أراد فيها بهم خيرا «إنما» ليس إلا (يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) عذابا في الحصول عليها ، وعذابا في حفاظها ، وعذابا في ظالمة التصرفات وملتوياتها ، مهما كانت لهم حظوة ظاهرة ، ثم عذابا ـ من جراء الدنيا ـ في الآخرة ، ف (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٢٤) ومن ضنكها أنهم (تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) كارهين حيث

١٣١

يفقدون أموالهم وأولادهم هنا ولا يجدونها هناك إلا عذابا ف «تزهق وهم كافرون».

فالأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عباد له شاكرين لأنعمه ، مصلحين أنفسهم وذويهم ، فمتجهين بها إلى الله ، دون أن تلهيهم عنه إلى سواه ، فإذا هم مطمئنو الضمير ساكنو الأنفس ، واثقين في ذلك المسير حاصل المصير ، كلما أنفق من أموال والأولاد في سبيل الله استروح ، وكلما أصيب احتسب ، فالسكينة النفسية على أية حال له غامرة ، وطويته بذكر الله عامرة.

وأخرى تكون نعمة ونقمة يصيب بها آخرين حيث يعلم فسادهم ودخلهم وإفسادهم ، وكسادهم عن الإيمان ودجلهم ، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحوّل حياته جحيما وضنكا.

وهذه النعمة النقمة في المنافقين أبرز ، حيث ينفقون من أموالهم ، أو يؤخذ منهم ضرائب إسلامية وهم كارهون ، والكفر ملة واحدة في ضنك المعيشة ، حيث لا أمل لأصحابه في مستقبل الحياة ، وهم في صراع دائم بين أموال وأولاد وشئونات أخرى.

وهنا (تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) تعني العذاب الأخير من الحياة الدنيا ، ف (تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) بكراهية مزدوجة ، أنهم يستدبرون هذه الثروات الركام لغيرهم ، وهم يستقبلون عذاب الأبد ، وإن كانوا ناكرين له حياتهم ، حيث يكشف لهم الغطاء عند الموت ، فبعين يرون الدنيا حسرة وحزنا على تركها ، وبأخرى يرون الأخرى خوفا على دخولها.

فقد يعني تعذيبهم بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا أن (تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) فإنه عذاب يكسح وينسي كل رياحة سلفت ، وكفاه عذابا يمر على الحياة كلها في اللحظة الأخيرة فيجعلها مرا مهما كانت حلوة.

كما ويعني أوسع من ذلك إنفاقهم على كره فإنه عذاب فوق عذاب النفاق ، حيث النفاق بنفسه عذاب يجعل الإنسان حيران في ازدواجية

١٣٢

شخصية ، دائم المراقبة على نفسه بين طرفي المخاصمة إيمانا وكفرا ، ثم الإنفاق حالة النفاق عذاب على عذاب.

وثالث هو أوسع منها تحليقا على حياة المنافق والكافر تعينه (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) إذ لا مولى له يرتكن عليه إلّا دنياه المزعزعة التي هي دوما على شرف وشفا جرف جار من الزوال والسقوط والانهيار بأعداء له يتربصون كل الدوائر لاستلاب منصبه وماله ونفسه ، والمؤمن مولاه هو الله ، مطمئنا به قلبه دون تزعزع : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)(٥٦).

(.. إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) بكل تأكيد «منكم» إيمانا صالحا دون أي فارق وفرق (وَما هُمْ مِنْكُمْ) في إيمان (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) فرقا بين القلب والقالب في إيمان ، إيمانا بألسنتهم ومظاهر أعمالهم ، وكفرا بقلوبهم ، كما و «يفرقون» فرقا بين المؤمنين بمكائد النفاق ، وذلك لأنهم «يفرقون» فرقا ، فرقين من المؤمنين فارغين من الإيمان ، يتظاهرون به ، ومن الكافرين فيسرون إليهم بالكفر : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (٢ : ١٤) ، فهم يعيشون ثالوث الفرق والفرق ، ومن فرقهم في فرقهم أنهم :

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)(٥٧).

«لو» أنهم بثالوث فرقهم وفرقهم «يجدون» ثالوثا : «ملجأ» يلجأون إليه من أعباء ظاهر الإيمان وتكاليف النفاق «أو مغارات» بمداخل الجبال يغورون فيها «أو مدّخلا» متدخّلا يتدخلون فيه بتكلف ، ف «لو يجدون» مفلتا من واقعهم المزري بسهولة : (مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ) أم بصعوبة «مدّخلا» (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) معرضين عن جو الإيمان والمؤمنين (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) : مسرعين بوجه لا يرد وجوههم شيء.

١٣٣

فهم لعناء جبناء ، متطلعين أبدا إلى مخبأ فيه يختبون ، أو مأمن إليه يأمنون ، أو مدّخل فيه يدّخلون ، مذعورين مطاردين ، ومن تخوفهم منكم حلفهم بالله (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) ثم ومنهم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) هناك بحلف إذ لا يصدّقون ، وهنا دون حلف إذ يصدّقون.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)(٥٨).

اللمز هو الاعتياب ، والهمز الاغتياب ، وقد يكون اللمز همزا إذا كان الاعتياب اغتيابا ، أو الهمز لمزا إذا كان الاغتياب اعتيابا ، وقد ينفردان كاعتياب دون اغتياب فهو لمز دون همز ، أو اغتياب دون اعتياب فهمز دون لمز ، والذين كانوا يلمزون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصدقات كانوا يعتابونه حضورا وغيابا ، فهم ـ إذا ـ هامزون لامزون ، و (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)!.

هؤلاء يلمزونك في الصدقات أخذا وإعطاء ، لماذا تأخذها : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) أم تأخذ كثيرا ثم هكذا تعطيها ونحن محرومون أم ناقصون في العطية (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) كما يهوون «رضوا» بظاهر الحال (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها) كما يهوون (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) عليك ، وهؤلاء هم ثلثا الناس (١) أو يزيدون.

وليس ذلك اللمز منهم في الصدقات رعاية لعدل ، أم حماسة

__________________

(١) في الكافي باسناده عن إسحاق بن غالب قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)؟ قال : هم أكثر من ثلثي الناس.

وفي تفسير القمي في الآية أنها نزلت لمّا جاءت الصدقات وجاء الأغنياء وظنوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسمها بينهم فلما وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفقراء تغامزوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمزوه وقالوا : نحن الذين نقوم في الحرب ونغزو معه ونقوي أمره ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا فأنزل الله الآية ، ثم فسر الله عزّ وجلّ الصدقات لمن هي وعلى من يجب فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...).

١٣٤

لحق ، أم غيرة على الدين ، إنما ذلك التطاول مغبة أهواءهم ورغباتهم الغائلة الطائلة ، وحماسة لهوساتهم الجهنمية (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) مهما كان ظلما (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) مهما كان عدلا.

ولقد اسخطوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهمزهم ولمزهم إياه في الصدقات ومن قالاتهم : «إعدل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل» (١) أم «هذه قسمة ما أريد به وجه الله» (٢).

وتلك السجية المنافقة اللعينة وهي عدم الرضى بحكم الله في تقسيم صدقة أماهيه ، إنها دركات حسب دركات الحالات والمجالات ، فحتى

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٥٠ عن أبي سعيد الخدري قال : بينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل ... فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر في نضبه فلا يرى فيه شيء ثم ينطر في رصافه فلا يرى فيه شيء ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آتيهم رجل أسود إحدى يديه ـ أو قال ـ ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدرد يخرجون على حين فرقة من الناس ، قال : فنزلت فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات ... قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشهد أن عليا حين قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : لما قسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم حنين سمعت رجلا يقول : إن هذه قسمة ما أريد بد وجه الله فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت له ذلك فقال : «رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ونزل» ومنهم من يلمزك في الصدقات.

وفي تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٩٧ قال الكلبي قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا أبا لك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا فلما ذهب قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.

١٣٥

المؤمن غير الراضي بقسم الله في تكوين أو تشريع داخل في حقل التنديد قدر السخط في ذلك قالا وحالا وأعمالا.

وترى يجوز أن يدفع لمنافق صدقة؟ طبعا لا ، فكيف (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) وإعطاءهم منها محظور؟.

إعطاءهم منها كأصل محظور ، وأما إعطاءهم خوف إفسادهم فمحبور ، وكما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) وهكذا الأمر في المؤلفة قلوبهم ، فعلّ المنافق يصبح موافقا بتلك العطية أو يترك شرّه وضرّه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩).

«لو» هنا ترج لما لم يحصل منهم أو لمّا يحصل ، فالنص يقرر أن المنافقين على نفاقهم لو رضوا ... لأصبحوا من المؤمنين بذلك الرضى فإنه قضية الإيمان ، وهنا تعني (ما آتاهُمُ اللهُ) تكوينا وتشريعا «ورسوله» تطبيقا رساليا ، إذ ليس الرسول مشاركا لله تكوينا أو تشريعا ولا نائبا عنه وهكذا (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) تقديرا «ورسوله» تقريرا (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) لا سواه.

ذلك أدب نفسي أديب أريب أن يرضى العبد بقسمة الله ، رجاء أن

__________________

(١) وفيه روى أبو بكر الأصم انه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لرجل من أصحابه : ما علمك بفلان؟ فقال : ما لي به علم إلا أنك تدنيه في المجلس وتجزل له العطاء ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه منافق أدارى عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره ، فقال : لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه مؤمن أكله إلى إيمانه وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده ، وفيه قال الضحاك : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما اعطوا ويحمدون الله عليه وأما المنافقون فإن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا ، وفيه : قيل إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستعطف أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم فسخط المنافقون.

١٣٦

يزيده الله من فضله ، وعلى أية حال أن يكون لسان القال والحال (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) أعطانا قليلا أو كثيرا.

وبالتالي ـ بعد بيان هذا الأدب البارع بحق الله وحق رسوله ، يقرر أن الأمر ليس أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو رسول في البلاغ والتطبيق ، وليس له من الأمر شيء.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠).

آية وحيدة منقطعة النظير تقرر موارد الزكوة الثمانية لمرة يتيمة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) جديرة بين آي الصدقات والإنفاقات والزكوات وسائر الايتاآت أن تمحور في البحث عن أمهات مسائل الزكوة ، وقد قرنت بها الصلاة في كثير من الآيات كشريطة أصيلة للإيمان ، والخروج عن اللّاإيمان ، وفي القرآن كله نجد إيتاء المال والصدقات والإنفاقات تعني كلها «الزكوة» مهما اختلفت عنها التعبيرات.

والصدقة هي ما تجافى به الإنسان عن حقه في سبيل الله ، فهي صدقة الإيمان بالله والأخوة في الله ، صدقا في الحصول عليه ، وصدقا في إنفاقه ، وهو النية الصادقة دون من ولا أذى.

فآية الصدقات ـ هذه ـ مما تكفي برهانا ساطعا على أنها ككلّ هي الزكوات (١).

كما أن (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ..) (٩ : ١٠٣) تجعل كل الأموال المأخوذة فرضا من المسلمين صدقات هي

__________________

(١) وهي ١٤ آية كلها مدنيات. تعني كلها الزكوة بوجه عام وحتى في «فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ» (٢ : ١٩٦) بل وحتى في «وآتوا النساء صدقاتهن نحلة» (٤ : ٤) مهما كانت هي المهور الواجبة لأنها لا مقابل لها إلا العطف بالنساء فإن ما يؤتينه يقال ما يأخذنه وزيادة ، إذا فمهورهن صدقات.

١٣٧

الزكوات ، وقد نزلت في تاسع الهجرة أو عاشرها.

ولا تعني «من» هنا تبعيضا في الأموال ، أن يؤخذ البعض دون الآخر حتى ينطبق ذلك البعض على التسعة الشهيرة ، لأنها لا تؤخذ كلها ، بل بعض منها ، ثم «أموالهم» تحلّق على كل الأموال ، فهي ـ إذا ـ كلها موارد لذلك الأخذ ، ف «من» تعني بعضا من كل فرد فرد وكل صنف صنف من أموالهم ، ولو عنت بعضا من بعض لكان صحيح التعبير وفصيحه «خذ من بعض أموالهم».

ذلك ، فلو كان النص «خذ أموالهم صدقة» كان الفرض أخذ كل أموالهم دون إبقاء ، ولو كان «خذ من بعض أموالهم» كان أخذ البعض من بعض أموالهم ، ولكن النص (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) فلا يعني إلا الأخذ من بعض الجميع وهو بعض كل منها ، دون المجموع ، ولا تصلح ولا تصح عناية البعض القليل القليل من «أموالهم» وهي جمع مضاف يعني كل أموالهم.

ومهما اختصت آيات الصدقات بأنها كلها مدنيات ، ولكن آيات إيتاء المال والإنفاق والزكوة تعم العهدين ، مما يبرهن أن الزكوة فريضة مكية قبل المدينة ، بل هي من اوليات فرائضها ، كما قرنت بالصلاة وهي أولى الفرائض على الإطلاق ، مهما كان تطبيقها المطبّق بنصاباتها الخاصة في المدينة حين نزلت عليه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ..) وقد كانت في مكة فرضا غير محدد إلا بحدود الإمكانية.

وهنا تضاف إلى مكيات الزكوة التسع (١) مدنيات أربع (٢) تتحدث عن فرضها في الشرايع السابقة ، فإنها تنجر إلى شرعة الإسلام ما لم تنسخ وقد أثبتت في العهدين.

__________________

(١) هي الآيات ٧ : ١٥٦ و ٢٣ : ٤ و ٢٧ : ٣ و ٣٠ : ٣٩ و ٣١ : ٤ و ٤١ : ٧ و ٨٧ : ١٤ و ٧٣ : ٢٠ و ٩٢ : ١٨.

(٢) وهي ٢ : ٤٣ و ١٩ : ٣١ و ٥٥ و ٢١ : ٧٣.

١٣٨

ثم مكيات أخرى ثلاث تعبر عن الزكاة ب «حق معلوم» (١) و (حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)(٢) ، مما تقضي على الفرية الشهيرة على الزكاة أنها ـ فقط ـ

__________________

(١) ومهما فسر «حق معلوم» في قسم من الروايات بغير الزكاة ، فقد يعني غير الزكاة المعروضة ذات النصابات المعلومة ، لا سيما وأن آيتي «حق معلوم» مكيتان ولم تكن في مكة للزكاة نصاب ، ومما ورد في ذلك ما رواه عبد الرحمان الأنصاري قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول أن رجلا جاء إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال له : أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)؟ ما هذا الحق المعلوم؟ فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام) ، الحق المعلوم.

(٢) هو في آيتين : المعارج ٢٤ والذاريات ١٩ (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وفي الانعام ١٤٣ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ... وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ..) وتفصيلا للهوامش ١ ـ ٢ إليكم نصوص الآيات التالية :

فالزكاة فريضة مكية لشطرين من آياتها ، فالثاني آيات مدنية أربع تتحدث عن واجب الزكاة في الشرايع السابقة ك (أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (١٩ : ٣٢) ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢ : ٤٣) ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) (١٩ : ٥٥) ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٢١ : ٧٣).

والشطر الأوّل هي مكيات تسع : (.. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ..) (٧ : ١٥٦) ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٢٣ : ٤) ـ و (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٢٧ : ٣) و (٣١ : ٤) ـ (.. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٠ : ٣٩)(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٤١ : ٧) ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (٨٧ : ١٤) (.. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٧٣ : ٢٠) (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (٩٢ : ١٨).

فهذه ثلاثة عشر آية تحدث عن واجب الزكاة قبل العهد المدني.

ومن ثم آية الانعام (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ...)(١٤٣) وآية (حَقٌّ مَعْلُومٌ) في المعارج (٢٢) والذاريات (١٩) : (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

فهذه ستة عشر ، ثم آياتها المدنية أقل منها وإنما تزيد على المكية الأمر بالأخذ من أموالهم : «خُذْ مِنْ (أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٩ : ١٠٣) وقد نزلت في تاسع الهجرة أو عاشرها ، ثم بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نصابات الزكاة.

فمن ثلاثين آية حول الزكاة التي أكثرها مقرونة بالصلاة تسعة منها مكيات والباقية مدنيات!.

١٣٩

مدنية وليست مكية ، وقد اشتهرت بين الفقهاء والمفسرين ومؤلفي آيات الأحكام مما يحير العقول.

والتعبير عن كل هذه الإيتاءات بمختلف صيعها بالزكوة اكثر مما سواها من تعبيرات ، يعني أن المال الموتى في سبيل الله يزكي النفوس والأموال من البخل والخيلاء أمام الله وأمام خلق الله ، والمجتمع من الفقر والعناء ماديا ونفسيا ، ومن كافة الأخطار الموجهة إليه اقتصادية وأنفسية وسياسية أماهيه من قذارات فردية وجماعية : ف (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)!.

وفي مربع الإيتاء الإنفاق الصدقة الزكوة ، الثلاثة الأخيرة تفسر كيفية الإيتاء ، أن واجبه كونه موصوفا بصفة الإنفاق والصدقة والزكاة ، فالإيتاء الخارج عن هذه المثلث خارج عن دور الإيتاء إيمانيا.

ومختلف آيات الزكوة ـ كالحكمة الربانية الفارضة لها ـ تدل على شموليتها لكل الأموال ، دون التسعة المعروفة التي لا أصل لها إلّا ضعاف الروايات سندا ومتنا ، المخالفة للآيات وعشرات أضعافها من معتبرات الروايات التي تعني ما تعنيه الآيات.

فالروايات الحاصرة لها في التسعة هي القائلة بصيغة واحدة «عفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك» (١) وكيف يصح

__________________

(١) عفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك ـ ان صح نقله ـ لا يعني تشريعه استقلالا أو تخويلا ، ثم السنة لا تنسخ الكتاب واختصاص الزكوة بهذه التسع نسخ لعمومات وصدقات الكتاب ـ وكثير منها آبية عن تخصيص أو تفسير ـ وما يقبل أحدهما فذلك تخصيص مستهيمن لأنه تخصيص الأكثر وكذلك لتفسير الأكثر ، ثم الحديثان المتعارضان يعرضان على القرآن وهو يصدق القسم الثاني القائل بعموم الزكاة لكل الأموال فإنما العفو يعني مرحلية بيان الواجب في الزكوة كما فيما اشتبها من أحكام صعبة.

جامع أحاديث الشيعة ٨ : ٤١ بسند عن يونس عن عبد الله بن مسكان عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ

١٤٠